الإمام الخميني وفلسطين.. رؤى ثاقبة تستشرف المستقبل

2010-09-02

 

الحديث عن الإمام الخميني وفلسطين في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها أمتنا وقضيتها المركزية له أبعاد: سياسية، أمنية، ثقافية، اقتصادية، عقيدية، وإنسانية، وغيرها... إنه يحمل الكثير من الدروس والعبر لما يتضمنه من رؤى عميقة الجذور وفهمٍ للتاريخ والواقع واستشرافٍ للمستقبل.

 

الحديث عن الإمام الخميني وفلسطين في زمن الهرولة السياسية باتجاه تل أبيب وواشنطن للقبول بتسوية مذلّة على حساب فلسطين وشعبها وعلى حساب الأمة العربية والإسلامية له دلالاتٌ مهمة، فبين القائد والقضية صلةٌ روحانية، وفكرية وسياسية ووجدانية أعطاها كلَّ وقته ودفع من أجلها أيماناً باهظة وأرسى لبقائها حية في الأذهان أسُساً يصعب هدمها أو المساس بها.

 

الحديث عن الإمام وفلسطين هو حدث الأمس واليوم والغد هو بوصلة المنطقة ومعها العالم بأسره، وعلى ضوئه سوف تُزال عروش وتُرفع عروش وتُشكَّل معالم وتتبدَّل أخرى.

 

إن توقيت هذا الحديث الحدث يعطي الموضوع حيوية وحرارة وعلامات مميزة ففي وقت بدا فيه للبعض أن الهروب باتجاه سراب الوهم قد ينقذ أرضاً أو وطناً يأتي صوت الحق الذي أطلقه الإمام منذ زمن طويل ليوقظ العيون من سباتها ليضيء الطريق أمام العابرين نحو الحلم الأبهى.

 

القضية المقدسة

وفي وقت بدا فيه للبعض أن الخيار الوحيد الآن هو الدخول إلى بيت الطاعة الأمريكي الإسرائيلي وإلى التنازل عن المقدسات وعن أجزاء واسعةٍ من الأرض وعن الكرامة يأتي صوت الإمام ليحيي الضمائر والأرواح المتجمّدة ويعلن عبر المقاومة التي تسقط أسوار الاحتلال وأسوار اليأس أن الباب ما زال مفتوحاً لضوء الشمس ما زال مفتوحاً للعزّة وللشرف.. والتاريخ.

توقيت الحديث الحدث دعوة للصحوة دعوة للتأمل دعوة لوقف الانهيار دعوة لحمل السلاح والمقاومة دعوة لرفض الهزيمة.

فالإمام قرأ الصهيونية جيداً، منذ أن تفتحت عيناه على الحياة عرف أسرارها، لغتها، مضمون خطابها السياسي والفكري والاستعماري فتصدى لها بكل ما أوتي من قوة غير مكترثٍ بخطوط حمراء أو صفراء يقيناً منه بأن هذا العمل جزء من تكليف رسالي لا مناص منه.

كان الإمام يتألم كثيراً لما جرى لشعب فلسطين على أيدي الصهاينة ويعتبر أن مسؤولية إزالة هذا الظلم تقع على كاهل كل مسلم وعربي كما كان يتألم لما يجري داخل إيران نفسها من تطوّر في العلاقات السرية الصهيونية الشاهنشاهية فقد زوّدت إيران الكيان الصهيوني بالنفط منذ العام 1957، وازداد الضخ بعد انشاء خط أنابيب ايلات ـ حيفا عام 1960 ووصل في العام 67 إلى 5،5 مليون طن في العام، وحققت إسرائيل عام 66، من تصدير منتجات النفط مبلغ 16،5 مليون دولار في العام الواحد، هذا من الناحية الاقتصادية، أما من الناحية السياسية والنفسية، فكان لتزويد إسرائيل بالنفط من قبل الشاه، دور مهم جداً، منحها الاستقرار والأمان والقوة.

وعلى الصعيد التجاري، تطورت العلاقة بين طهران وتل أبيب بشكل لافت، ففي العام 65، بلغت قيمة صادرات إسرائيل إلى إيران، أكثر من 430 مليون ريال إيراني، أو ما يعادل 6 ملايين و150 ألف دولار، وفي عام 66، شهد تحوّلٌ في هذا المجال، فخلال الشهور الستة الأولى بلغ مجموع واردات إسرائيل من إيران ما قيمته 674 ألف دولار مقابل صادرات إسرائيل إلى إيران بـ4 ملايين و95 ألف دولار وارتفع الرقم خلال الأشهر الأخيرة من نفس العام إلى 7 ملايين و630 ألف دولار وفي عام 67 بلغت الصادرات الصهيونية إلى طهران ما يعادل 10 ملايين و543 ألف دولار وهكذا تطورت العلاقات التجارية شيئاً فشيئاً وقد رُسمت الخطط لتوسيع قاعدة هذا التعاون إلى الحد الأقصى لكنَّ هبوب رياح الثورة اقتلع كل هذه الأفكار والاقتراحات من جذورها.

وكما كان حال التعاون التجاري شهد التعاون الزراعي والعمراني والسياحي حدوداً قياسية بين الطرفين وقد حلَّ الصهاينة عبر هذه القنوات مشكلة البطالة لديهم مع توفير أسواق مناسبة لهم.

وفي المجال الثقافي والإعلامي سيطر الصهاينة تماماً على هذه الوسائل لخلق أجيال متعاطفة ونقل معلومات مغلوطة وتشويه التاريخ حتى الأمر كما أكدته صحيفة «كول ها عام» في 24 ـ 9 ـ 67 إن معظم الصحف الإيرانية تُجمع على حق إسرائيل في الوجود وكان ثابت بإرسال، صاحب تلفزيون طهران وعبادان اتفق مع الصهاينة على الاهتمام بكل أخبار وأنشطة الكيان الصهيوني وتسييسها بأسلوب يساعد على تقوية الروابط الثنائية وكانت تنظِّم وتُشرف على صياغة الأخبار لجنة خاصة لها علاقة وثيقة بالصهاينة ينحصرُ دورها على تزوير الحقائق وقلب المفاهيم والآراء وتجييرها لصالح الصهاينة.

وقد أنشأ الشاه أجهزته الأمنية والعسكرية على أساس التعاون والتنسيق مع الصهاينة والأمريكيين فوضع الصهاينة كل امكاناتهم لخدمة النظام وقمع الشعب فأنشئ جهاز «السافاك» في 20 آذار 1957، وتولى خبراء صهاينة ومن «السي آي إي» تدريب عناصره، وبلغت موازنته 255 مليون دولار عام 73، ارتفعت إلى 310 ملايين دولار عام 74، وقد أعلنت مجلة النيوزويك الأمريكية عام 74، بأن عدد العاملين في السافاك تراوح بين 30 إلى 60 ألفاً وإن نحو 3 ملايين إيراني عملوا بطريقة أو بأخرى كمخبرين وكان هذا الجهاز بمثابة عصا الشاه يضرب المعارضة ونتيجةً لذلك، قدَّر الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان أنَّ عدد السجناء السياسيين في إيران وصل عام 77 إلى حوالي 100 ألف شخص وإن وسائل التعذيب التي استخُدمت كانت تفوق الوصف.

وعلى الصعيد العسكري، درب الصهاينة وزودوا جيش الشاه بالسلاح وذلك بهدف الحفاظ على عرشه، والحيلولة دون أي انقلاب عسكري أو ثورة ضدَّه.

وفي الإطار السياسي، أعلن الشاه في 24 تموز 1960، إن إيران اعترفت بإسرائيل منذ 11 عاماً وسحب ممثل إيران من إسرائيل عام 51 لم يعني تغييراً في العلاقات ولكن خوف الشاه من ردود الفعل الشعبية على تطور العلاقة مع إسرائيل دفعت حاكم طهران آنذاك، إلى الاستعانة بالسرّية لمواصلة الاتصالات فكانت الصفقات والاتفاقات تعقد تحت جنح الظلام إما في صالات المطار أو في أي مكان آخر من العالم وقد لعب اليهود الإيرانيون دوراً مهماً في تنمية وتطوير العلاقات الثنائية وكان هؤلاء اليهود يتلقون المساعدات من مؤسسة «جانيت الصهيونية» وكانت منظمات شبابية يهودية تعيش في طهران تحت اسم «قورش الكبير» وهي كانت مرتبطة مباشرة بدائرة «الشباب الطلائعي في الوكالة اليهودية» في الكيان الصهيوني قامت بأعمال مشبوهة كثيرة، ومن أدوارها السيطرة على وسائل الإعلام الإيرانية.

وأبرز المنظمات الصهيونية في إيران كانت منظمة تتخذ من عبادان مركزاً لها للتجسس على منطقة الخليج والعراق وفي عام 64، تخرّج 100 يهودي إيراني من معهد خاص بالتجسس في الولايات المتحدة وأُرسلوا بعد عودتهم للعمل في بعض البلدان العربية كتجار.

 

الإمام (قده سره) ومهمة المواجهة

كل هذه الوقائع وغيرها كانت تثير قلق الإمام من الدور الصهيوني في إيران فحمل بكل قوة لمحاربة هذه الأوكار وطلب من رجال الدين منذ العام 1962 التركيز في خطبهم على فضح الممارسات الصهيونية وشرح مخاطرها والدعوة لكشف العلاقة الشاهنشاهية الصهيونية والنيل منها «ينبغي على السادة الأفاضل أن يعرفوا إلى أن المناصب الحساسة في الحكومة تدار من قبل عملاء إسرائيل وأن خطر إسرائيل على الإسلام وإيران كبير جداً»، هذا الكلام الذي أطلقه الإمام عام 63 اتبعه بسلسلة دعوات لاقت تجاوباً وأصداء شعبية واسعة وخاطب العالم: «يا شعوب العالم، اعلموا أن شعبنا ضدَّ مشروع التحالف مع إسرائيل إن ديننا يدعونا إلى عدم التوافق مع أعداء الإسلام» وأضاف في مجال آخر: «إن النظام الحاكم المتجبّر، يتعاضدُ بكل قواه مع إسرائيل وعملائها حيث سلَّمها الوسائل الإعلامية والدعائية في القُطر وترك لها مطلق الحرية في التصرف بها وفسح المجال لها للنفوذ إلى الجيش وسائر الوزارات، وقال: إن الركون إلى الصمت يعتبر تأييداً للنظام المتجبر وحذّر بأنه لن يسكت عما يجري في الخفاء والعلن «أيها الشاه، أقسم بالله أن إسرائيل لن تنفعك القرآن فقط هو الذي ينفع».

وأضاف: إن السافاك طلب عدم الخوض بثلاثة أمور: عدم التحدث عن الشاه وعن إسرائيل والقول بأن الدين في خطر فإذا لم نتحدث عن هذه الأمور الثلاثة فلا يبقى لنا ما نقوله إن جميع المشاكل التي تعاني منها ترتبط بهذه القضايا الثلاث واعتبر أن شراء الأسلحة منها أو تصدير النفط إليها حرام ومخالف للشريعة تماماً كما أن إقامة العلاقات مع إسرائيل يعتبر حراماً ومخالفاً للشريعة الإسلامية ودعا الحكومة الإيرانية إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية وأكد: «أن إسرائيل هي وليدة التفكير والتبني المشترك للدول الاستعمارية، الشرقية والغربية وهي الآن تُدعم وتُسند من قبل جميع المستعمرين في العالم ولذلك دعا إلى ثورة عارفة تشمل كل الأقطار العربية والإسلامية ودعا حركات التحرر في العالم إلى الوقوف في وجه مدّ الصهيونية ومن يؤازرُها لدرء الأذى الذي يمكن أن يصيب الجميع دون استثناء وطلب من المسلمين تحويل مناسبة الحج كل عام إلى مؤتمر عام يُدرس فيه هذا الواقع المؤلم والعمل والتعاون لتغييره عبر تنوير وتسييس الشعب.

وطبقاً لهذه القناعة، كانت علاقة الإمام بالمقاومة الفلسطينية آنذاك متينة ومتطورة فدعم العمل الفدائي وكان يرى في هذه الطلائع في الستينات والسبعينات أملاً في التحرير فأصدر الفتاوى بدعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً ودعم الانتفاضة بعد ذلك في فلسطين، وقدّم كل الدعم المادي والسياسي وتمنى في حديث له في 10 ـ 2 ـ 87، أن يواصل الشعب الفلسطيني جهاده غير مكترثٍ بكل ما يجري في كواليس السياسة وقال: «إن فلسطين اليوم تتصدى لليهود وآمل أن تستطيع سحقهم إذا تمسكت فلسطين بالمعنى الإسلامي ولم تستمع إلى كلام أولئك الذين يتخيلون أنهم يريدون الخير لها وحيا أطفال فلسطين الذين يواجهون المحتل، بالحجر والسكين والأدوات البسيطة الأخرى، معتبراً أن قلوب هؤلاء أقوى من كل الدبابات وهي التي ستنتصر في النهاية.

وهاجم بلا هوادة الذين يلهثون خلف التسوية ووصفهم بأنهم: «عملاء فاقدون للكرامة».

ولا ننسى أن الإمام، وقف وساند الشعب اللبناني في محنته، لم يفرّق بين فئة وأخرى ولا بين طائفة وطائفة وأكد أن أسباب الأزمات كلها هي إسرائيل، ودان الاعتداءات اليومية وأعلن دعمه للمقاومة بكل أشكالها واحتضن شهداءها وجرحاها ورعى الأيتام وأعاد الجسور القوية بين لبنان وإيران تماماً كما كانت عبر العصور القديمة فنشأت بين الطرفين، عرى من المحبة والوئام والتعاون مما أثار حفيظة الغرب عموماً والكيان الصهيوني على وجه الخصوص لأنه كان يعني الأبعاد العقيدية والسياسية والعسكرية التي ستنشأ، والتي ستقلب كل المعايير رأساً على عقب وها نحن اليوم نلمس هذه الايجابيات في الجنوب والبقاع الغربي حيث استطاعت المقاومة الإسلامية أن تهزم الجيش الذي لا يقهر وأن تسقط كل أوراق الخرافة الصهيونية وأن تدحر معنويات الجنود والعملاء وتفرض الانسحاب غير المشروط وتؤكد أن هذا التحالف الثنائي متناغماً مع سوريا قادر على فعل المعجزات لقد برهنت هذه المقاومة التي كانت وليدة الإرادة الإيمانية والإرادة الشعبية أن الأمة لديها مخزون هائل قادر على صياغة الواقع كما تريد وأن بندقية الحق أقوى من كل التكنولوجيا، والتحالفات المشبوهة.

برهنت هذه المقاومة أن أملاءات الصهاينة وخلفها قوى الشرّ كلها لا يمكن أن تُمرّر، ففرسان هذا الزمن، وقيادتهم غيرهم في أزمان أخرى ولذلك ليس أمام العدو إلا الانسحاب، والندم والتراجع عن كل أوهامه وأحلامه.

وإذا كان الإمام قد اتخذ كل هذه المواقف قبل الثورة فإنه بعد انتصاره سارع إلى ترجمة أقواله أفعالاً فأغلق أبواب السفارة الإسرائيلية وحوّلها إلى سفارةٍ لفلسطين وقطع كل صلة تجارية وإعلامية وثقافية بالعدو كما قطع النفط وطهّر الجيش وكل المؤسسات الأخرى من أعوان الصهاينة وفتح أبواب طهران لكل المجاهدين العرب والمسلمين معلناً ثورة مفتوحة ضد الصهيونية حتى يتم القضاء عليها وعمل على تكريس يوم للقدس أطلق عليه اسم «يوم القدس العالمي» في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك لتظلَّ القدس حية في الوجدان وقد أراد الإمام من هذا اليوم من كل عام، يوم حساب لتحديد الموقف من المتخاذلين والعملاء وليتذكر العالم مجازر الصهيونية البشعة كما أراده صرخة من أجل الحق والعدل والسلام والحرية في العالم.

اتخذ الإمام هذا القرار وهو يدرك ما ستلاقيه القدس من تآمر، ومحاولات تهويد فجعل من المدينة المقدسة مرتكز الحل ومرتكز القرار ومرتكز النضال مما يعني فتح باب الجهاد حتى التحرير الكامل وبذلك أسقط غشاوة التسوية ودعاتها وأكد أن بركان المنطقة لا يمكن أن يهدأ حتى تُرسى دعائم الحق والحقيقة وأن انفجاره آتٍ لا محالة لتصحيح المسار وتصويب التاريخ.