ثلاثة عناصر في شخصية أميرالمؤمنين (ع)

2007-08-23

أريد أن أتحدث بعض الشيء في الخطبة الأولى هذا اليوم عن مولى المتقين علي (ع).

ان ما أريد التحدث به اليوم عن هذا الرجل الفذ هو ان شخصيته وحياته وشهادته التأمت فيها ثلاثة عناصر تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها على الظاهر؛ وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلومية، والانتصار.

فقوته تكمن في ارادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكرية في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلامية والإنسانية، وتربية وإعداد شخصيات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميز في تاريخ الإنسانية. ويتمثل مظهر قوّته في اقتداره المنطقي واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدة ساعده.

ليس ثمة في شخصية أميرالمؤمنين ضعف في أي جانب من جوانبها، إلا أنه في الوقت ذاته من أبرز الشخصيات المظلومة في التاريخ، وقد كانت مظلوميته في كل جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول (ص)، وظُلم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستشهد مظلوماً، وظل من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتى الأكاذيب.

لدينا في تاريخنا الإسلامي شخصيتان أطلقت عليهما صفة ثار اللّه. نحن لا توجد لدينا في اللغة الفارسية كلمة معادلة تماماً لكلمة «الثأر» في اللغة العربية؛ فعندما يقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا هو ما يسمّى بالثأر، ولأسرته حق المطالبة بثأره. أما ما يسمّى بثار اللّه فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر ولا يوصل المعنى المطلوب. فالثأر معناه حق المطالبة بالدم؛ فإذا كان لأسرة ما ثأر، فلها حق المطالبة به.

وورد في التاريخ الإسلامي اسما شخصيتين، وليّ دمهما اللّه، وهو الذي يطلب بثأرهما؛ أحدهما الإمام الحسين (ع)، والآخر هو أبوه أميرالمؤمنين(ع): «يا ثار اللّه وابن ثاره»، أي ان الطالب بدم أبيه هو اللّه تعالى أيضاً.

أما العنصر الثالث الذي طبع حياته (ع) فهو النصر؛ حيث تغلّب في حياته على جميع التجارب العصيبة التي فرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات التي فتحها ضده أعداؤه ان تنال منه وإنما تقهقرت كلها أمامه. ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه حتى في أيام حياته. ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلامي وحده وإنما العالم كله، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتى بالإسلام، إلا انهم يؤمنون بعلي بن أبي طالب كشخصية تاريخية لامعة. وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأن اللّه يكافئه على ما لحق به من ظلم. فلابدّ وان لتلك الظلومية ولذلك الكبت والضغط والتعتيم على ضوء الشمس، وتلك التهم الشنيعة، وما واجهها به من صبر، ثواباً عند اللّه، وثوابها هو انك لا تجد على مدى التاريخ شخصية على هذه الدرجة من الاشراق ونالت كل هذا الاجماع في القبول. ولعل أفضل الكتب التي سطّرت حتى اليوم بحق أمير المؤمنين، كان أكثرها ولهاً وحبّاً هي تلك التي كتبها أشخاص غير مسلمين. وتحتفظ ذاكرتي حالياً بأسماء ثلاثة كتّاب مسيحيين كتبوا بوَلهٍ حول أميرالمؤمنين كتباً جديرة بالثناء حقاً؛ وهذا الحب نشأ منذ اليوم الأول، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الاساءة إليه والانتقاص منه، من الطغمة التي كانت تحكم الشام ومَنْ كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظاً من سيف أميرالمؤمنين ومن عدل أميرالمؤمنين. فكانت هذه القضية قد اتضحت منذ ذلك الوقت، وأنا أذكر هاهنا مثالاً واحداً على ذلك:

انتقص ذات يوم ابن عبداللّه بن عروة بن الزبير من أميرالمؤمنين(ع)، أمام أبيه عبداللّه بن عروة بن الزبير. وكان آل الزبير كلهم ضد عليّ إلا واحداً منهم وهو مصعب بن الزبير الذي كان رجلاً شجاعاً كريماً، وهو الذي دخل لاحقاً في صراع مع المختار الثقفي في الكوفة، ومن بعده مع عبدالملك بن مروان، وهو زوج سكينة؛ أي انه أول صهر للحسين(ع). كان آل الزبير ـ باستثنائه ـ كلهم خصوماً لأميرالمؤمنين(ع) أباً عن جدّ. وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ. وبعدما سمع عبداللّه ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حيادية كثيراً، إلا انها تنطوي على نقطة مهمة سجّلتها لديَّ وهي: «واللّه يا بُني، ما بنى الناس شيئاً قطّ إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه». أي انهم يحاولون عبثاً هدم اسم أميرالمؤمنين القائم اسمه على أساس الدين والإيمان، «ألم ترَ إلى عليّ كيف تظهر بنو مروان من عيبه وذمّه، واللّه لكأنهم يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح، واللّه لكأنّما يكشفون به عن الجيف».

لعل هذه الكلمة قيلت بعد حوالي ثلاثين سنة بعد شهادة أميرالمؤمنين، أي أن أميرالمؤمنين وعلى الرغم من فداحة الظلم الذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته وفي التاريخ وفي ذاكرة الإنسانية.

التيارات الضالة في زمن أمير المؤمنين (ع)

ان قضية قوّة أميرالمؤمنين إلى جانب مظلوميته التي انتهت إلى هذا الحال يمكن تلخيصهافي مايلي: لقد اصطفّت ضد علي في أيام حكومته التي استمرت أقل من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون؛ إذ ينقل عنه السنّة والشيعة انه قال: «أمرت ان أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين». وهذه التسمية هو الذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث؛ فالقاسطون بمعنى الظالمين، لأن الفعل قسط حينما يأتي مجرداً: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم. وحينما يأتي على صيغة الثلاثي المزيد على وزن افعال: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والانصاف. وعلى هذا، إذا استعملت كلمة القسط على وزن افعال، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على الضد من ذلك؛ أي بمعنى الظلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظالمين. ولكن من هم أولئك القاسطون؟

القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهرياً لمصالحها الخاصة ولم تكن تعترف بالحكومة العلوية أساساً. ولم تُجد نفعاً كل الأساليب التي انتهجها معها أميرالمؤمنين. والتفّت تلك الفئة حول محور بني أمية الذي كان معاوية بن أبي سفيان ـ والي الشام آنذاك ـ أبرز شخصية فيه، ثم يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة. شكل هذا المحور جبهة رفضت التفاهم والاتفاق مع أميرالمؤمنين. ومع ان المغيرة بن شعبة وعبداللّه بن عباس وغيرهم أشاروا على أميرالمؤمنين منذ أول حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير انه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى انه لم يحسن اتخاذ الموقف السياسي المناسب. ولكنهم هم الذين كانوا في غفلة كما برهنت الأحداث اللاحقة؛ لأن معاوية لم يأتلف مع أميرالمؤمنين رغم كل الأساليب التي اتبعها (ع) لأجل هذه الغاية. ولم يكن ذلك النهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلوية، على الرغم من تحمل السابقين لبعض هؤلاء.

كانت قد مضت أقل من ثلاثين سنة منذ أن أسلم معاوية إلى ان هبَّ لمحاربة أميرالمؤمنين. وكان هو وأذنابه قد حكموا الشام سنوات طويلة وبسطوا نفوذهم فيها وأسسوا لهم قاعدة واسعة هناك. ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيام الأولى التي كان بالإمكان ان يقال لهم فيها ـ إذا ما أظهروا الخلاف ـ انكم دخلتم الإسلام توّاً، ولا يحق لكم الخلاف. فهم كانوا قد ثبتوا لهم قدماً عند ذاك.

إذن كان هذا التيار يرفض الحكومة العلوية جملة وتفصيلاً، ويرنو إلى نمط آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلامي مرارة حكمهم. فهذا معاوية نفسه، الذي كان في عهد صراعه مع أميرالمؤمنين يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصحابة، أبدت حكومته فيما بعد أسلوباً في غاية العنف والشدّة حتى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبدالملك والحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر الثقفي الذين يعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة. ومعنى هذا ان الحكومات التي يهتزّ التاريخ لذكر جرائمها ـ كحكومة الحجاج على سبيل المثال ـ كان معاوية هو الذي أرسى أسسها وحارب أميرالمؤمنين من أجلها. فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ انهم كانوا يبتغون حكومة دنيوية محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتية؛ وهي المظاهر التي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة. وأنا طبعاً لا أريد الدخول هنا في أي بحث عقائدي أو كلامي. والأمور التي أعرضها هنا من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشيعة طبعاً، وإنّما تاريخ «ابن الأثير» و «ابن قتيبة» وما شابه ذلك. وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها وليس في اطار الاختلافات الفكرية بين الشيعة والسنّة.

الجبهة الثانية التي حاربت أميرالمؤمنين هي جبهة الناكثين. والناكث هو الناقض، والمراد به هنا ناقض البيعة. وهذه الفئة بايعت أميرالمؤمنين في البداية إلا انّها نقضت البيعة في ما بعد. وكان أفراد هذه الفئة ـ على العكس من الفئة الأولى ـ مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي. إلا ان ولاءهم واعترافهم بحكومة علي بن أبي طالب كان منوطاً بإعطائهم حصّة مقبولة فيها، والتشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليات الحكومية مع عدم التعرض لما في أيديهم من ثروات وعدم السؤال عن مصادرها. وسبق لي ان استعرضت في إحدى خطب صلاة الجمعة في مثل هذه الأيام من العام الماضي، مدى ضخامة الثروات التي خلّفها أمثال هؤلاء بعد موتهم. إذن كانت هذه الفئة ترتضي حكم أميرالمؤمنين ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وان لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك. ولهذا السبب بايع أكثرهم منذ البداية، في حين ان البعض الآخر لم يبايع؛ فسعد بن أبي وقاص لم يبايع منذ البداية، إلا ان طلحة والزبير وأكابر الصحابة وغيرهم بايعوا أميرالمؤمنين وأسلموا له القياد، بيد أنهم أدركوا بعد مضي ثلاثة أو أربعة أشهر عدم امكانية الانسجام مع هذه الحكومة التي لا تفرق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أسرها أي امتياز، ولا تقرّ بأي امتياز للسابقين في الإسلام ـ وإن كان أميرالمؤمنين نفسه أوّلهم اسلاماً ـ ولا تحابي أحداً في تطبيق الأحكام الإلهية. ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة وتسبّبوا في وقوع معركة الجمل التي كانت فتنة حقاً، واصطحبوا معهم أم المؤمنين، وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أميرالمؤمنين وأعاد الأمور إلى نصابها. وهذه هي الجبهة الثانية التي شغلت أميرالمؤمنين ردحاً من الزمن.

أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى الخارج والهارب؛ وقيل انهم سموا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السهم من القوس. وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويكثرون من التبجّح باسم الدين. وهؤلاء هم الخوارج الذين وضعوا أسسهم الفكرية على أساس فهم مغلوط فيه للدين ـ وهي ظاهرة خطيرة طبعاً ـ ولم يأخذوا الدين عن علي بن أبي طالب الذي كان مفسراً للقرآن وعالماً بالكتاب. أمّا تكتّلهم أو ما يسمى بالاصطلاح المعاصر «تحزّبهم» فكان يستلزم سياسة معينة، وكانت هذه السياسة توجه من مكان آخر. والسمة البارزة التي كانت تميّز أعضاء هذه الفئة هي انك لا تكاد تتلفظ بكلمة حتى يسارع أحدهم إلى الاتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون اثناء صلاة جماعة أميرالمؤمنين آيات معرضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه به، وكان شعارهم «لا حكم إلاّ لله»، بمعنى اننا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة اللّه!

هذه الفئة، التي كان ظاهر أمرها على هذه الشاكلة، كان تنظيمها واتجاهها السياسي يجري وفقاً لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشخصيات البارزة في حكومة الشام ـ أي عمرو بن العاص ومعاوية ـ إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص؛ فالأشعث بن قيس، كما تشير الكثير من القرائن كان رجلاً غير نزيه. واتبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكرياً. إذن فالفئة الثالثة التي جابهت أميرالمؤمنين ـ وانتصر عليها طبعاً ـ هي فئة المارقين التي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.

أشرت في خطبة لي في العام الماضي إلى أنه ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج، فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد؛ ولكن المتنسك يتصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج؛ لأن الخوارج عناصر متمرّدة تثير الأزمات، ولها وجود فاعل في الساحة، وتشنّ حرباً ضد علي، ولكن أساسها مغلوط فيه، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة.

هذه هي الفئات الثلاث التي جابهت أميرالمؤمنين.

الفارق الأساسي بين أميرالمؤمنين في عهد حكومته، وبين رسول اللّه في أيام حياته وعهد حكومته هو ان الخنادق كانت في عهد الرسول مميّزة ومفصولة تماماً؛ خندق الإيمان، وخندق الكفر. أمّا المنافقون فكثيراً ما كانت الآيات القرآنية تشير إليهم وتحذّر منهم، وتقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتضعّف من شوكتهم. أي ان كل شيء كان في النظام الإسلامي في عهد الرسول واضحاً تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة بشكل صريح؛ فطائفة على الجاهلية والكفر والطاغوت، وأخرى على الإيمان والإسلام والتوحيد. ومن الطبيعي ان كل واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضم صنوفاً شتى من الناس، لكن الصفوف كانت مميزة وواضحة كل الوضوح.

تداخل الخنادق مشكلة خطيرة

أما في عهد أميرالمؤمنين فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الذي جعل للفئة الثانية ـ أي الناكثين ـ وضعاً مقبولاً ومبرراً، وكان كل مسلم يتردد كثيراً في محاربة شخصيات من أمثال طلحة أو الزبير؛ فالزبير هو ابن عمّة الرسول وكان من الشخصيات البارزة والمقربة إليه، حتى انه بعد عهد الرسول كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعاً عن أميرالمؤمنين، ولكن الأمور بخواتيهما. نسأل اللّه ان يجعل عاقبتنا إلى خير. قد يؤثر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشك حتى في الخواص، فما بالك بالعوام.

وعلى كل الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقاً، ولابدّ ان الناس الذين صمدوا مع أميرالمؤمنين وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدر كبير من البصيرة. وقد استشهدت عدّة مرات بقول أميرالمؤمنين(ع): «لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر». فلابدّ من توفر البصيرة بالدرجة الأولى. ويستدل من هذه التداخلات على طبيعة المشاكل التي واجهت أميرالمؤمنين، وعلى الأساليب الملتوية التي اتبعها الناس الذين حاربوه.

في صدر الإسلام كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة تطرح في الساحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء وقتما كان النبي في مكّة أم في المدينة؛ فسورة البقرة ـ على سبيل المثال ـ وهي سورة مدنية، حاشدة بصور من التحديات والاشتباكات بين الرسول والمنافقين واليهود؛ حتى انها تناولت التفاصيل الجزئية واستعرضت الأساليب التي كان يتبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول نفسياً، ومنها {لا تقولوا راعنا} وما شابه ذلك. وجاءت أيضاً سورة الأعراف وهي سورة مكيّة زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصل منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}. هذه هي المحرمات الحقيقية وليست تلك التي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البَحيرة والسائبة وما شاكل ذلك. وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحة. أما في عهد أميرالمؤمنين، فقد كان أعداؤه يستغلون تلك الآيات القرآنية. وهذا ما صعّب كثيراً من مهمة أميرالمؤمنين. لقد قضى أميرالمؤمنين مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.

وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ، وهي جبهة قوية حقاً، وفيها رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبداللّه بن عباس ومحمد بن أبي بكر وميثم التمار وحجر بن عدي، وكانوا رجالاً مؤمنين ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دور مؤثر في توعية الناس الآخرين. كان من جملة المواقف الجميلة في عهد أميرالمؤمنين ـ ويُعزى جمالها طبعاً إلى الجهود الطيبة لهؤلاء الأكابر، إلا انها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرائها من عناء وعذاب ـ هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبَّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أميرالمؤمنين الإمام الحسن وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاجّات تعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام. ولهذا السبب يلاحظ ان الهجمات الأساسية لأعداء أميرالمؤمنين وجّهت صوب هذه الشخصيات؛ ضد مالك الأشتر، وضد عمار بن ياسر، وضد محمد بن أبي بكر، وضد كل من وقفوا إلى جانب أميرالمؤمنين منذ البداية وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم. ولم يتورع الأعداء عن كيل أنواع التهم لهم والسعي لاغتيالهم. ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمار في الحرب، واستشهد محمد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام. وبقي البعض الآخر منهم إلى ان استشهدوا على نحو قاس وفجيع.

هذه هي الظروف التي عاشها أميرالمؤمنين في حياته وفي عهد حكومته. ولو أردنا الخروج بنتيجة ملخّصة عنها لقلنا انها كانت حكومة قوية ولكنها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة. بمعنى انه استطاع قهر أعدائه في أيام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلوماً أن يتحول إلى شعلة وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانية. ولاشكّ في ان المرارة التي ذاقها أميرالمؤمنين خلال هذه الفترة تعتبر من أشد وأصعب المحن في التاريخ.

وصية أمير المؤمنين (ع) لابنه الحسن (ع)

واليوم وبمناسبة ذكرى استشهاد أميرالمؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، فقد خصّصت الخطبة الأولى لبيان وصيّته (عليه السلام).

إنّ للإمام وصايا عديدة أوصى بها الإمام الحسن (عليه السلام) أو الإمام الحسن والإمام الحسين (عليه السلام) معاً، أو أقواله للآخرين التي هي بمثابة وصاياه أيضاً.

إلاّ أنّ هناك وصية قصيرة للإمام (عليه السلام) أوصى بها من بعد أن جُرِح في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك أودّ تبيانها لكم. والسبب في أهمّية هذه الوصية هو أنّ الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره يسعى أن يبيّن حقيقة أفكاره وآراءه ومكنونات قلبه الى أفضل الناس وأكثرهم أمانة لديه. وأميرالمؤمنين (عليه السلام) هو أعجوبة الخليقة والشخص الثاني بعد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والمسلم المجاهد في سبيل الله (جاهد في الله حقّ جهاده) والزاهد والحاكم والسياسي من الطراز الأوّل ومنزلته في السماء أشهر ممّا هي في الأرض، ومحبّيه من ملائكة السماء أكثر من محبّيه من أهل الأرض.

إنّ مثل هذا الإنسان المرتبط بالملكوت الأعلى والعارف بكلّ المعارف الإلهية المتعالية ويمتلك كلّ هذه السجايا والخصال عندما يشعر باقتراب أجله يرى أنّ الوقت يمرّ بسرعة، فيجب عليه أن يبادر الى تبيان الأمور المهمة.

وعندما ضُرب (عليه السلام) في المسجد كان يعلم أنّ حياته مشرفة على الانتهاء فأراد أن يُوصي أولاده وأهل الكوفة وجميع المسلمين الحيارى في ذلك العصر ويصدر بياناً مقتضباً يبقى خالداً على مدى التاريخ، وقد تمّ انتخاب فقرات هذا البيان بدقّة متناهية من قبله (عليه السلام).

وقد يشعر الإنسان بعدم التجانس بين فقرات هذه الوصية عندما تكون نظرته إليها سطحية.

فتارةً يوصي بأمرٍ غايةً في الأهمّية من وجهة نظرنا يُتبعه فجأة بآخر ليس لهُ نفس المستوى من الأهمّية، ولكن نظرة علي (عليه السلام) للأمور كنظرة الله لجميع الموجودات في العالم نظرة إلهية وصائبة. والأمور الصغيرة والكبيرة تختلف في المقياس الإلهي والمقياس العَلَوي عما هي عليه في مقاييسنا نحن.

ونحن قاصرين عن الوصول الى هذا المستوى ولكن حينما نقوم بتحليل تلك العبارات ـ ولو من بعيد ـ فسنجد أنّها متناسقة كلّ التناسق ونُظِّمت بصورة دقيقة جدّاً. فلنستمع إليها بدقّة وإمعان.

ومن وصيّة له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ورده ابن ملجم (لعنه الله)، فقد دعا الحسن والحسين (عليه السلام) وأوصاهما بتلك الوصايا على الرغم مما كان يعانيه من ألم وحمّى على أثر نفوذ السم الى بدنه الطاهر. وقد تكون الآلام مانعة للإنسان الاعتيادي عن أن يقوم بتأدية واجبه إلاّ أنها لا تستطيع أن تمنع شخصاً كعليٍّ (عليه السلام) من ذلك، فأراد (عليه السلام) أن يبادر الى استغلال تلك الساعات القليلة التي أعقبت ضربته وحتى استشهاده (عليه السلام) والتي لم تتجاوز 48 ساعة لإنجاز الأعمال الضرورية وأهمّها كانت وصيّته (عليه السلام) «أوصيكما بتقوى الله» فبدأ وصيته بدون أي مقدّمة بالدعوة الى تقوى الله سبحانه وتعالي.

وكنتُ قد تحدّثت في الجمعة الأولى من شهر رمضان بشكلٍ مجمل عن مسألة التقوي.

فالتقوى تعني كلّ شيءٍ للإنسان، وهي دنيا الأمّة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لابدّ للبشرية أن تقطعهُ، فالتقوى هي كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الأوّل والأخـير وهي مقدّمة على كل شيءٍ في حيـاة الإنسان، فكأنّه (عليه السلام) يريـد أن يقول يجب عليكم يا أولادي مراقبة أنفسكم وأعمالكم ووزنها بالمعيار الإلهي الحق.

وليس كلامه (عليه السلام) في مسألة الخوف من الله، كما فُسِّرت التقوى من قبل البعض بأنّها الخوف من الله وخشيته سبحانه وتعالي. صحيح انّ الخشية والخوف من الله تعالى لها قيمة وتُعتبر من أنواع التقوى إلاّ أنّ التقوى الحقيقية تعني مراقبة الإنسان المستمرة لأعماله كي تكون منطبقة مع المصالح الإلهية التي يقدِّرها المولى سبحانه وتعالى له. وهذا أمر لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال.

وإذا حاولنا الاستغناء عن هذه الحالة فالطريق أمامنا مليء بالأخطار والوادي عميق تحت الأقدام وسننزلق بلا ريب إلاّ أنّه قد نعثر على حجرٍ أو شجر نتشبّت به لعلّه يعيننا على الصعود الى الأعلى من جديد { إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هو مبصرون }.

فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر الله ويعود الى نفسه حالاً بالمراقبة والمحاسبة. وعلي (عليه السلام) يعلم انّ الشيطان لن يتركنا أبداً فلابدّ أن تكون الفقرة الأولى من الوصية هي تقوى الله سبحانه وتعالى.

وأخذ بعد ذلك يوصي بالأمور المهمة الأخرى. فقال: «وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما»، هذه هي الفقرة الثانية وهي من مستلزمات التقوى وكلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوي، ومن جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره (عليه السلام)، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا وبالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا. فماذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض وإحياء الثروات الطبيعية؟ وهل هذه هي الدنيا التي ذمّها أميرالمؤمنين وحذّر منها؟ لا، ليس الأمر كذلك. فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات والسعي وراء الشهوات. أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية وصلاحها، فهو الآخرة بعينها وهو أمر يجب السعي إليه.

أمّا الدنيا المذمومة والتي نُهِي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير والصلاح وتسلب منه إرادته وتستهلك قواه وسعيه وهمّته وهي تعني الأنانية وحبّ الذات والسعي وراء جميع الأموال والسعي وراء اللّذات. وهذه الدنيا على قسمين فمنها المباح ومنها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حرام بل انّ ما فيه المباح أيضاً.

ولكن أهل البيت (عليه السلام) أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عندما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات والشهوات فقط. فأجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية والمعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها. انّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفاً مقدّساً. فحتّى التجارة «مثلاً» يمكن أن تُجعل في سبيل الله عندما يكون الهدف منها تحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع وليس ادخار الأموال الطائلة فقط.

إذن كانت الفقرة الثانية من وصيته (عليه السلام) هي عدم السعي وراء الدنيا بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً. وقد كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا وقد جسّدها بشكل كامل في حياته وسلوكه. فإذا ألقينا نظرةً على حياته (عليه السلام) فسنجدها تجسيداً حيّاً لكلّ ما أوصى به (عليه السلام).

الفقرة الثالثة «ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما» أي لا تأسفا على ثروةٍ أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة والرخاء ولا تأسفوا على أي شيء فانّكم من هذه الدنيا الدنية أبداً.

الأمر الرابع «وقولا للحق» أو في نسخة أخرى «وقولا الحق» ولا فرق بينهما، ومعناه لا تكتموا شيئاً عندما تعتقدون انّه حقّ فيجب عليكم إظهاره حينما تدعو الضرورة لذلك. انّ جميع المصائب حلّت بالمجتمعات عندما قام الذين يعرفون الحق بكتمانه وعدم السعي لإظهاره بل سعوا لإظهار الباطل أحياناً أو جعلوا الباطل حقّاً أحياناً أخرى. وما كان الحق ليُظلم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه.

الفقرة الخامسة: «واعملا للأجر» يعني الأجر الحقيقي والإلهي. فلا تعمل عبثاً أيّها الإنسان، انّ عمرك وعملك وحتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد والحقيقي فلا تفرّط به.

وإذا أردت أن تعمل عملاً أو تتنفّس نفساً أو تصرف قواك في شيء فليكن ذلك من أجل الحصول على أجرٍ يتناسب مع ذلك. فما هو هذا الأجر الذي يجب أن نحصل عليه؟ هل هو دراهم معدودة نحصل عليها؟ هل هو جلب رضا فلان وعلاّن من الناس؟ هل هذه الامور هي الأجر الحقيقي لضياع عمر الإنسان؟ من المؤكّد انّ الجواب على ذلك سيكون بالنفي.

أتذكّر أنّ رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول فيها: «فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها». فكما يكون الأجر أقل من ذلك فانّ الغبن سيكون من نصيبنا فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي وهو الأجر الأخروي.

الفقرة السادسة: «أو كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» الخصومة غير العداوة؛ فبغض الظالم ومعاداته غير كافية لأنّ الخصومة تعني الأخذ بتلابيب الظالم وعدم تركه.

لقد اكفهرّ وجه البشرية منذ وفاة أميرالمؤمنين (عليه السلام) وحتّى اليوم بسبب عدم إظهار الخصومة للظالمين. ولو أنّ الأيدي المؤمنة كانت تضيّق الخناق على الظالمين لما سنحت الفرصة للظلم كي ينتشر بهذا الحجم الواسع في العالم بل كان ذلك يؤدّي الى انحصاره وإسقاطه والقضاء عليه.

وما يريده أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو «كن للظالم خصماً»، فأينما يوجد ظالم يجب على الإنسان أن يضع نفسه موضع الخصومة له.

وليس من الضروري إبراز هذه الخصومة دوماً، ولكن عندما تحين الفرصة فلابدّ من إبراز تلك الخصومة والأخذ بتلابيب الظالم ولو من بعيد إذا تعذّر ذلك عن قرب. واليوم نرى انّ العالم يغطّ في مستنقع الرذيلة نتيجةً لتركه لهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام).

فأيّ ذلٍّ وامتهانٍ تعيشه البشرية اليوم وأيّ ظلم ذلك الذي تمرّ به الشعوب الإسلامية المعاصرة لابتعادها عن الإسلام.

ولو عُمل بهذا الجزء من وصيته (عليه السلام) لما وجدنا اليوم أثراً لكثيرٍ من تلك المظالم ولا المصائب المترتّبة عليها.

ويؤكّد (عليه السلام) على الأمر المهم الآخر فيقول: «وللمظلوم عوناً» يعني إذا وجدت مظلوماً فكن عوناً له، لم يقل كن مؤيّداً له بل يقول أعنه بكل ما تستطيع وكلّ ما يبلغه وسعك.

الى هنا كان الخطاب موجّهاً الى الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، طبعاً هذا لا يختصّ بهما فقط، فبالرغم من أنّ خطابه كان موجّهاً إليهما إلاّ أنّ وصيّته عامة تشمل الجميع.

العبارات التالية يقولها أميرالمؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بصورة عامة، فيقول: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي» فحتى نحن الجالسون هنا مخاطبون بهذه الوصية أيضاً. ثمّ يبدأ بالقسم الثاني من وصيته العامة، فيعود من جديد ليؤكّد على أهمية التقوى مرةً أخرى فالتقوى هي الكلام الأوّل والأخير لأميرالمؤمنين (عليه السلام).

وبعد الوصية بالتقوى مجدداً يقول (عليه السلام) «ونظم أمركم» فماذا يعني بنظم أمركم؟ هل يعني أنّ الأعمال التي تقومون بها في حياتكم اليومية يجب أن تكون منظمة ودقيقة؟ من المحتمل أن يكون هذا أحد معاني هذه العبارة، لكنّه لم يقل عليكم بنظم أموركم بل «نظم أمركم». إذن فظاهر هذه العبارة انّ هناك أمر مهم يجب أن يتحقق وفقاً لضوابط ونظم معينة، فما هو ذلك الأمر المهم؟

يُفهم أنّ لهذا الأمر المهم قاسم مشترك عند كل الناس، فيحتمل أن يكون معنى نظم الأمر هو عبارة عن إقامة الولاية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. يعني أيّها المسلمون ليكن تعاملكم مع مسألة الحكومة والنظام وفق ضوابط ونظم معينة ومحددة. لا يكن هناك انفلات في تعاملكم مع النظام. فبسبب هذا الانفلات وصلت الأمة الإسلامية الى ما وصلت إليه من انحطاط وتشتت. يُروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انّه قال ما معناه (إذا بايعت الأمة إماماً يرضى الله عنه فلا يجوز لأحدٍ مخالفته)، فلو انّ الأمة الإسلامية عملت بمضمون هذه الرواية بعد بيعتها للإمام علي (عليه السلام) لما وقعت تلك الحروب المدمرة كحرب الجمل وصفين والنهروان.

وهذا «الإخلال والانفلات» هو ما يقوم به البعض من أجل مصالحه وإرضاءً لميوله النفسية فينشر الرعب في البلاد ويثير القلاقل ويخلّ بالنظام العام ويقتل الناس الأبرياء هنا وهناك، وهذا هو البلاء العظيم الذي حذَّر منه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ونهى عنه وأمر بخلافه.

الفقرة الثالثة في القسم الثاني من هذه الوصية «وصلاح ذات بينكم» يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، ولتكن كلمتكم واحدة ولا تتفرّقوا وتختلفوا، ولتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية وحسنة. ثمّ يأتي (عليه السلام) بحديث للنبي (صلّى الله عليه وآله) دعماً لوصيّته، وهذا يكشف عن اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر؛ بل لأنّ مسألة «إصلاح ذات البين» معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يُشفع ذلك بحديثٍ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) تأكيداً على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام» ليس أفضل من كل الصلوات والصيام بل أفضل من كلّ صلاة وصيام، فأنت عندما تريد أن تقوم بأداء صلاةٍ أو صيامٍ، لا بأس، لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة وهذا الصيام، وهو السعي لإصلاح ذات البين. فعندما ترى تشتّتاً واختلافاً بين أبناء الامة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة والاختلاف، فانّ عملك هذا أفضل من عامة الصلاة والصيام.

وبعد هذه الفقرات يبدأ (عليه السلام) بوصايا أخرى قصيرة وهادفة ومؤلمة فيقول: «الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يُضيّعوا بحضرتكم» إيّاكم أن تنسوهم، أعينوهم بكل ما تستطيعون. إنّ هذا الإنسان العظيم العارف بالله وصاحب القلب العطوف ينظر الى كلّ الأمور بعين الدقّة. فليست المسألة في نظره مسألة فردية وعاطفة عادية. إنّ الذي فقد أباه هو إنسان فقد أهم حاجة في حياته وهو الاحتياج الى الأب، فيجب السعي الحثيث لملء هذا الفراغ الذي حدث في حياته، طبعاً لا يمكن ملء هذا الفراغ، لكن يجب عليك أن ترعى هذا الطفل وهذا الصبي وذاك الشاب اليتيم لكي لا يصيبهم الضياع. يجب عليك أن توفّر لهم لقمة العيش حتّى لا يذوقوا ألم الجوع والحرمان.

لا تعطوهم يوماً وتمنعوهم يوماً. لابدّ للمجتمع من الاهتمام بشؤونهم المادّية، وإيّاكم أن يصيبهم الضياع على الرغم من حضوركم واطّلاعكم. قد تكون معذوراً إذا كنت تجهل حالهم أو غائباً عنهم ولكن إيّاك أن يُضيّع يتيم أو يُهمل وأنت حاضر ومطّلع، لا ينشغل كلّ واحدٍ منكم بأموره الخاصّة وتتركوا هذا اليتيم وحيداً يصارع مشاكل الحياة.

«والله الله في جيرانكم» لا تستصغروا مسألة الجوار فأمرها مهمّ جدّاً. انّ ذلك التلاحم الاجتماعي المتماسك الذي أقامه الإسلام طبقاً للفطرة السليمة قد ضاع وللأسف في منعطفات التمدن البعيدة عن الفطرة الإنسانية التي فُطِر الناس عليها.

يوجد من الناس من يقيم في بيت سنوات طويلة وهو لا يعرف من جاره وما يجري عليه ولا يساعده في حاجاته ومشاكله وضروريات حياته. ونحن إذا عملنا بهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقام كلّ واحدٍ منّا برعاية جيرانه ليس من الناحية الاقتصادية والمالية التي هي مهمة في ذاتها بل من جميع النواحي الإنسانية، فسنرى مدى التآلف والمحبّة اللذان سيسودان العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي، وسنرى كيف يُشفى المجتمع من أمراضه الإجتماعية المزمنة التي يعاني منها. ثمّ يكمل الوصية بالجيران فيقول: «فانّهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيؤرِّثهم».

(والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم)، إيّاكم أن يسبقكم للعمل بمفاهيم القرآن من ليس له إيمان بها، فيتقدّموا عليكم وتتأخّروا عنهم لترككم العمل بتلك المفاهيم الإلهية.

وهذا عين ما وقع تماماً، فالشعوب المتقدّمة في العالم كان وصولها الى هذا المستوى من التقدم بفضل الجدّية والدقة في العمل ومتابعته والاهتمام بالوقت وبنوعية الانتاج وخصال أخرى يحبّها الله سبحانه وتعالى وليس عن طريق الفساد وشرب الخمور والظلم كما يتصوّر البعض. وقد قلتُ كراراً انّ التقدّم العلمي لم يكن ليتحقق لولا امتلاك الدول الغربية التي أوجدته لبعض تلك الخصال الحميدة، وإلاّ لكان الدمار من نصيب تلك الدول نتيجةً لظلمها وتعسّفها. انّ هذه الخصال الحميدة هي التي حفظت تلك الشعوب التي تبنّتها من الانقراض. ولكنّنا تخلّينا وللأسف عن تلك الصفات والخصال فوصلنا الى ما وصلنا إليه.

وإذا تحلّى عمّالنا وفلاّحونا وعلمائنا وأساتذتنا وطلاّبنا وباقي طبقات المجتمع بتلك السجايا والخصال الحميدة لتحوّلت البلاد الى روضةٍ يدخل فيها الجميع بالنعيم، وهذه هي طريقة العمل بمفاهيم القرآن.

وعبارة «لا يسبقكم بالعمل به غيركم» لا تعني أنّ علياً لا يريد لأحدٍ أن يعمل بالقرآن؛ بل بالعكس فلو انّ الناس جميعاً عملوا بما جاء به القرآن، لكان في ذلك مسرّة كبيرة لعلي (عليه السلام)، ولكنّه يقول لا يسبقكم بالمفاهيم القرآنية من لا يؤمن بها فيؤدّي ذلك الى تسلّطهم عليكم وتأخّركم عنهم بسبب عدم عملكم بما جاء به القرآن الكريم.

(والله الله في الصلاة فانّها عمود دينكم). (والله الله في بيت ربّكم لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنّه إنْ تُرِك لم تُناوروا)، لا تدعوا هذا البيت يخلّي، فانّ بيت الله تعالى لو أخلي وترك لا يمهلكم سبحانه وتعالي، أو لا يمكنكم العيش بعد ذلك أبداً، وقد فسّرت هذه العبارة بمعاني مختلفة.

(والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله) إيّاكم وترك الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. إنّ الأمة الإسلامية كانت الامة النموذجية في العالم طالما كانت قائمة بالجهاد في سبيل الله، ولكنّها أصيبت بالذلّ والهوان عندما تخلّت عن هذه الفريضة الإلهية. وقد ذكر الكتّاب المسيحيون في إنجيلهم عن المسيح (عليه السلام) انّه قال: «إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر» يعنون بذلك إنّنا مسالمون ولا نعرف للحرب معنى، وشعارنا الرحمة والسلام، ولايزالوا يردّدون هذا من دون حياء ويطعنون بالمسلمين لأنّهم أهل الجهاد والحرب والسيف وسفك الدماء، وقد كرّروا هذه الافتراءات الى حدٍّ أصبح معه بعض المسلمون يخجل من طرح تلك المفاهيم الإسلامية، مما حدى ببعض العلماء والكتّاب المسلمون أن ينكروا وجود موضوع الجهاد في الإسلام، بل قالوا جهادنا هو دفاع فقط.

ماذا يعني هذا الكلام الهزيل، إنّ الله سبحانه يقول جاهدوا في سبيل الله، وهؤلاء يقولون لا يوجد عندنا جهاد وإنّما هناك دفاع. الله يقول في قرآنه { إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار} و{ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } وهؤلاء يقولون انّ الجهاد في سبيل الله ليس هو الجهاد الابتدائي، وإنّما الجهاد الدفاعي فقط. إنّ هذه الأفكار نشأت على اثر الإعلام والتبليغ المسيحي الذي يكرّر دوماً انّ الحرب وسفك الدماء هو شيء قبيح ولابدّ من الصلح والسلام، وقد صدَّق المسلمون هذه الترهات فأصبحوا أذلاّء جليسي بيوتهم بعد أن كانت راية العزّة ترفرف على رؤوسهم لقيامهم بفريضة الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالي.

انّ أولئك الذين كانوا يدعون الى الصلح والسلام والرحمة ويُشينون على المسلمين جهادهم في سبيل الله قاموا بقتل وذبح المسلمين وتشريدهم في شتّى بقاع الأرض، واليوم تشاهدون ما يقوم به هؤلاء في البوسنة والهرسك وما قاموا به من عملٍ شنيع في الحرم الابراهيمي الشريف لمسجد خليل الرحمن في فلسطين المحتلة.

وانّ أولئك الذين كانوا ينتقدون المسلمين سنين طويلة بأنّهم دعاة الحرب وسفك الدماء، قاموا منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم بشنّ الحروب المدمّرة على المسلمين وارتكاب المجازر المروّعة بحقّهم، والتي لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا الوقت المحدود.

وحينما يقرأ الإنسان ما دُوِّن في التاريخ من وقائع وأحداث، فسيبكي دوماً لأجل المظالم التي ارتكبت ومن أجل حالة النفاق التي يعيشها أولئك الذين يرفعون أصواتهم بالصلح والسلام وهم يخفون خناجرهم لغرسها في صدور الأبرياء.

نعم، يجب أن يكون الجهاد في إطاره الإسلامي الذي شرَّعه الله تعالى وضمن الضوابط التي وضعت له في الشريعة، فلا يوجد في الجهاد ظلم ولا تعدٍّ على حقوق الآخرين ولا حجّة لقتل الأبرياء أو القضاء على المسلمين.

انّ الجهاد فريضة إلهية إذا أقيمت ستؤدّي الى ارتفاع رؤوس المسلمين عالياً، ولهذا أكّد عليها أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصيته المباركة.

ثمّ يقول (عليه السلام): «وعليكم بالتواصل والتباذل وإيّاكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم»، إذا اعتادت الأمة أن لا تقول للشرير انّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار والمنحرفين لتولّي زمام أمورها، وعندها لا يُستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين.

هذه هي وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتي اشتملت على عشرين فقرة تناولت أهمّ القضايا التي اختارها وبيّنها للأمة.

ثمّ تعرّض بعد ذلك لأمرٍ أساسي ومهم وهو مسألة الانتقام من قاتليه. فيقول: «يا بَني عبدالمطلب لا ألفِيَنَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِل أميرالمؤمنين، ألا لا تَقْتُلنَّ بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثَّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور». فأمير المؤمنين (عليه السلام) العارف بالله صاحب القلب الإلهي الرؤوف كان يخاف من أن يهجم الناس على ذلك الرجل الخبيث ويقطّعوه إرباً إرباً ويمثّلوا به.

مقاطع من مقتل أمير المؤمنين (ع)

كانت تلك آخر وصايا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وإنّنا مخاطبون بها، فيجب علينا أخذها والعمل بمضامينها. ولا أدري كم عدد الساعات التي عاشها أميرالمؤمنين بعد أن أنهى وصيّته.

انّ شوارع الكوفة وأزقّتها ومسجدها كانت مملوءة بكلمات وحِكَم هذا الرجل العظيم وينبوع الحكمة المتدفِّق. وتختزن ذكرياته في قلبها وأسماعها، وقد سُلبت تلك النعمة الإلهية من يد الأمة. في مثل ليلة البارحة، وهناك عبارة أخرى في نهج البلاغة قالها لولده الحسن (عليه السلام) وأودّ أن أذكرها هنا في يوم عزاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) لعلّ عيونكم تبتل بالدموع لمصاب هذا الإنسان العظيم، يقول (عليه السلام): «ملكتني عيني وأناجالس، فسنح لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلت يا رسـول الله مـاذا لقـيت مـن أمّتك مـن الأود واللّدد»، لاحظوا علياً (عليه السلام) يقف أمام رسول الله كما يقف الابن بين يدي أبيه، فهو (عليه السلام) نشأ وترعرع في حجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

كان النبي بمنزلة أبيه في كلّ أدوار حياته، والآن هو شيخ بلغ الثالثة والستّين من عمره حينما يرى رسول الله في المنام يخامره نفس إحساس الطفولة أمام النبي (صلّى الله عليه وآله)، فيشكو له كما يشكو الطفل لأبيه فيقول: «ماذا لقيت من أمّتك من الأود واللدد، فقال: ادعُ عليهم، فقلت: أبدَلني الله بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً لهم مني» يعني: يقول اللهم عجّل في منيّتي، وقد أجِيبت تلك الدعوة.

ففي مثل ليلة البارحة أحاط الأصحاب ببيت عليّ (عليه السلام) ويُروى انّ الأيتام جاءوا (وإن كنت لم أرَ هذه الرواية) وأحاطوا بالبيت وبيد كل واحدٍ منم كأس من لبن، لأنهم سمعوا بأنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان قد طلب لبناً ليشربه، وعلى الرغم من عدم ذكر هذه الحادثة في الكتب التاريخية إلاّ انّها قد تكون محتملة الصحة. لكن المسلّم به تاريخياً أن بيت عليّ أحيط بعشّاق عليّ ومحبّيه وهم يبكون وينحبون، ثمّ خرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقال للناس: إنّ حال أبي ليست على ما يرام فتفرّقوا، فتفرَّق الناس، وقد أوصى أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يُغسَّل بدنه الطاهر ويدفن ليلاً، ويبدو كأنّ هذه المسألة أصبحت سنّة عند أهل البيت (بكاء القائد) فكما غُسِّلت فاطمة وكُفِّنت ودُفِنت ليلاً، فأميرالمؤمنين أيضاً غُسِّّل وكُفِّن ودُفن ليلاً لأنّه لم يكن مُستبعد من أولئك الذين سبّوا علياً سنوات طويلة على منابر المسلمين أن يقوموا بنبش قبره (عليه السلام) إذا علموه موضعه، ويهينوا بدنه الطاهر، وقد كان أميرالمؤمنين يعرف ذلك ببعد نظره.

وعندما تناصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعيون سوى أولاد علي (عليه السلام) وبعض خواص أصحابه. وقد فكّرت في مظلومية الإمام (عليه السلام) في ذلك التشييع المظلوم والدفن البعيد عن أنظار الناس وفي بيت الإمام المظلم، وفي هذه الأيام الصعبة التي مرّت على أهل البيت، فلا أظنّ أنّها مرّت على أحد أصعب كما مرّت على زينب (عليه السلام)، فقد شاهدت أمّها وهي تدفن ليلاً، ورأت أباها يدفن ليلاً كالليلة الماضية، وكانت قد شاهدت السهام تُرْمى بها جنازة أخيها الحسن (عليه السلام)، وفي عاشوراء رأت ذلك المشهد المؤلم المهول، فنادت: «يا رسول الله صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمّل بالدماء ومقطّع الأعضاء» لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.