قدر ليلة القدر

2007-08-23

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، نحمده ونستعينه ونتوكل عليه ونؤمن به ونستغفره، ونصلّي ونسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه وحافظ سرّه ومبلّغ رسالاته بشير رحمته ونذير نقمته سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمّد ف وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين المعصومين سيّما بقية الله في الأرضين، وصلّ على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين.

أوصي جميع الأخوة والأخوات الأعزّاء المصلّين ان يغتنموا هذه الساعات والأيام والليالي الثمينة ويغترفوا من هذه البركات الموفورة من الباري تعالى في أيام شهر رمضان ولياليه للمؤمنين، وأوصيهم جميعاً ونفسي بتقوى الله، ومراقبة أقوالهم وأفعالهم، والحذر من الطرق ذات المنزلقات ومواطن شُبهة المعاصي التي لا تستطيع النفس الإنسانية اجتيازها باستقامة ويسر وثبات.

الاستغفار أهم الأعمال في شهر رمضان

هناك أمور ووسائل جعلها الله تعالى لحفظ كيان الإنسانية ولحفظ الإنسان وايصاله إلى الغاية، وعلى المؤمن أن يتعامل معها برقابة وان يستفيد منها على صعيد الحياة الفردية والاجتماعية لِتُعينه على عبور تلك المنزلقات، وأن يحسن استغلال الامكانيات التي وفّرها الله للمؤمنين لبلوغ الهدف المنشود. وحسن التصرف والحذر في امثال هذه الأمور هو ما يُسمى بالتقوى.

وكما سمعتم مرات عديدة ان أحد الغايات المهمة من صيام شهر رمضان هي ان تتكون لدينا ملكة التقوى {لعلكم تتقون}. وانا حينما أنظر إلى الأعمال التي سنّتها الشريعة المقدسة لشهر رمضان من صوم، وتلاوة كلام الله، وقراءة الأدعية والتوسل بذيل العناية الربّانية، واستغفاره تعالى، أشعر ان الاستغفار ـ بغض النظر عن الصيام الذي يعتبر أمراً واجباً في شهر رمضان ـ هو العنصر الأكثر أهمية من بين كل تلك الأعمال، إذ يجب علينا ان نطلب المغفرة منه تعالى على ما صدر منّا جهلاً أو قصوراً أو تقصيراً. وقد سبق لي وان تحدثت في العام الماضي في مثل هذه الأيام حول التوبة والاستغفار في شهر رمضان المبارك.

ولا أريد التحدث ثانية عن موضوع الاستغفار بطريقة البحث العقلي أو الروائي، وانما أريد التذكير بمناسبة قرب ليالي القدر المباركة، وهي ليال عزيزة وكريمة، بأن الخطوة الأولى في الاستغفار يا أعزائي ويا اخواني واخواتي، هي طلب المغفرة من الله والعودة إليه. التوبة معناها الأوبة إلى الله. فحيثما كان الإنسان وفي أية مرحلة من الكمال وحتى إذا كان في درجة أمير المؤمنين ‹‹(ع) يبقى أيضاً بحاجة إلى الاستغفار، فقد خاطب الله عزّ وجلّ رسوله بالقول: {واستغفر لذنبك}، و {فسبّح بحمد ربّك واستغفره}.

أمر الله في القرآن الكريم رسوله مرّات عديدة بالاستغفار، مع أنّ الرسول معصوم؛ لا يذنب ولا يعصي أمر الله، ولكنه مع هذا يأمره بالاستغفار. ولكن مِمَّ يستغفر الأولياء والأكابر؟ هذا بحد ذاته موضوع جدير أن يبحث على حدة. استغفارهم من أشياء ليست كذنوبنا؛ لأن أمثال هذه الذنوب لا تصدر عنهم. فالمقام الرفيع والقرب الإلهي قد لا يليق به احياناً ما هو مباح أو حتى ما هو مستحبّ بالنسبة لنا. لذلك فهو يستغفر من تلك الأمور استغفاراً جادّاً، لا مجرّد استغفار شكلي.

لاحظوا كيف يبدأ أمير المؤمنين(ع) دعاء كميل ـ الذي تفيد الروايات بأنّه صدر عنه انشاءاً ـ بعد ان يُقسم على الله باسمه وبقدرته وبعظمته وبصفات جلاله وجماله، ثم يقول: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم» وإلى آخر الدعاء. وهكذا أيضاً في دعاء ابي حمزة الثمالي، والأدعية الأخرى. إذا كان هذا شأن الناس الكبار، فما أحوجنا انا وأنتم للاستغفار.

ايّاكم أيّها المؤمنون وايّها الأعزاء، ويا أصحاب القلوب النقية الطاهرة ان تغترّوا وتقولوا إنّنا لم نذنب. كلا، بل اننا غرقى في القصور وفي التقصير «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك». وما هو قدر عمل الخير الذي نتصوّر أننا قد فعلناه، وما هي أهميّته وما نسبته إلى جانب نعم الله وفي مقابل حق الشكر للّه، فنحن غير قادرين على اداء حق شكره، «لا الذي أحسن استغنى عن عونك»، وهل بإمكان الإنسان الاستغناء عن فضل الله ولطفه في آنٍ من آنائه؟ نحن على الدوام بحاجة للطف الله، ولطفه يأتينا على الدوام «خيرك الينا نازل»، ونحن عاجزون عن شكره. وهذا قصور أو تقصير يستدعي في كل الأحوال طلب المغفرة.

ليلة القدر فرصة سانحة للاستغفار

ليلة القدر فرصة سانحة للاستغفار وطلب العفو من الله تعالى. فهو طالما قد فتح المجال أمامي وأمامكم لنعود إليه ونطلب منه العفو والمغفرة، فلنفعل ونرجع إلى الله وإلاّ فسيأتي يوم يقول فيه عزّ وجلّ للمجرمين: {لا يؤذن لهم فيعتذرون}. لا يأذن لنا ـ لا سمح الله ـ يوم القيامة بالاعتذار، ولا يؤذن للمجرمين بالتفوّه بكلمة واحدة للاعتذار، فليس هناك مجال للاعتذار. وما دام باب العفو مفتوحاً هنا، وما دام الاستغفار يرفع الإنسان درجة ويغسل الذنوب ويضفي على الإنسان نوراً فليُستغفر وليعتذر إليه تعالى، وطالما كانت الفرصة سانحة لاسترحام وطلب الرأفة منه بنا والعطف علينا فعلينا بالمسارعة إلى مثل هذا العمل، {فاذكروني أذكركم} أي في نفس اللحظة التي يتوجه فيها القلب إلى الله ويستحضر ذكره، يتفضل هو عليكم بلطفه ورحمته وبركته، ويمدُّ لكم يده بالبذل والعطاء. علينا أن نفعل ما يؤهلنا لأن نكون مذكورين عند الله تعالى ولا يأتي الخطاب الإلهي {انا نسيناكم}. هكذا يكون موقف يوم القيامة.

فلنغتنم هذه الفرصة التي حبانا الله اياها للتضرع والبكاء والتوسل إليه، وذرف دموع الطهارة والمحبّة من قلوبنا الدافئة على مآقينا، وإلا فسيحل يوم يقول فيه الله تعالى شأنه للمجرمين: {لا تجأروا اليوم انكم منّا لا تنصرون}. هذه الفرصة هي فرصة الحياة. وهي اليوم متاحة أمامنا للعودة إلى الله. ومن أفضل الفرص على مدار السنة هي جملة أيام، منها أيام شهر رمضان المبارك، وفي شهر رمضان ليلة القدر التي هي واحدة من ليال ثلاثة كما جاء في الرواية التي نقلها المحدّث القميّ بانهم سألوا الإمام عنالليلة التي يُرجى فيها ما يرجى، قال: احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قال: فان لم أقو على كلتيهما؟ قال: ما أيسر ليلتين في ما تطلب.

كان البعض ينظر إلى شهر رمضان من أوله إلى آخره على أنّه ليلة القدر ويؤدون فيه أعمال ليلة القدر. فلنعرف قدر هذا. الشعب الذي يصافي الله هكذا ويستجير به عن صدق واخلاص، يجيره الله بصدق ولا يصيبه سوء ولا خزي ولا فساد ولا ذلّة، ولا ينصاع لعدو، ولا يُبتلى بالخلافات الداخلية. ان ما ينزل على الشعوب من المآسي انما يأتيها من أيديها {فبما كسبت أيديكم} أي من الغفلة والذنوب والمفاسد التي يقترفونها بأيديهم. ومن يلوذ بالله يقترب خطوة من العصمة ويدنو نحو صيانة نفسه من المعاصي. فعلينا ان نعتصم بالله ونستعين به ونعمل لأجله ونسير في سبيله، ونفوّض نفوسنا إليه، ونجلي قلوبنا بذكره. وحينما تصفو القلوب وتحرر من حبّ الدنيا والتعلق بها والنوازع الماديّة ولا تكون القلوب رهينةً لها، يصبح المجتمع حينذاك مجتمعاً نورانياً ونقيّاً وطاهراً. ومثل هذا المجتمع يعمل افراده بجد ونشاط ويعمّرون دنياهم. طبعاً عدم التعلق بالدنيا لا يعني عدم اعمارها؛ اعمار الدنيا إذا كان في سبيل الله يدخل ضمن الأعمال الاخروية؛ ان ما ينتهي إلى بناء الحياة المادية هو ما أمرنا به الله وهو عمل أخروي أيضاً. وحتى هذه الأعمال أكملها وأفضلها وأحلاها هو ما يقترن بذكر الله.

اعرفوا قدر هذه الأيام، واعرفوا أهمية ليالي القدر. القرآن الكريم يصرّح {خير من ألف شهر}، هذه قيمة كبيرة. وهي الليلة التي تنزل فيها الملائكة وكذلك الروح، وهي الليلة التي وصفها الله بأنها السلام والتحية الإلهية للإنسان، وبمعنى السلم والأمن والصفاء بين الناس وبين القلوب والأرواح والأجساد والمجتمعات.

اعرفوا أهمية هذه الليلة من الناحية المعنوية، وادعوا في ليلة القدر لما فيه صالح البلد وصالح انفسكم ولما فيه خير المسلمين والبلدان الإسلامية، واطلبوا من الله الحل لمشكلات المسلمين، وادعوا لهداية جميع الناس ولأنفسكم، وادعوا لمسؤوليكم ولبلدكم ولأسلافكم، ادعوا الله لما تريدون. اعرفوا قدر هذه الساعات وهذه اللحظات. كما واني أسألكم الدعاء في ليالي القدر المباركة.

 

من كلمات الإمام الخامنئي ‏دام ظله‏