خاطب الإمام السيد علي الخامنئي الشباب الغربي للمرة الثانية بعد رسالة أولى وجهها له عقب اعتداءات جريدة شارلي أبدو الفرنسية متوجها بالنقد لكل ممارسات الغرب وتوجّهاته وسياساته تجاه شعوب المنطقة وخاصة شبابها.

وأكّد الإمام دام ظله على أن الغرب يصرّ على خلق ثقافة عدوانية ضد القيم الإسلامية. هذه الثقافة التي أتت كالسيل المزبد تريد أن تجتثّ كل شيء في طريقها صالحا كان أو غير صالح دون تمييز و هي جاءت تحمل مزيجا من العقائد والطبيعة والعمران والاجتماع والتجارب المختلفة في شتىّ الاتجاهات والفنون ...إنها خليط يحيّر العقل حيث يقف أمامها متسائلا هل أرفض تلك الحضارة برمّتها أم أخذ منها وأترك منها الباقي؟؟ ذلك أن أخذها يعني الاستسلام لها بكل ما فيها من خير وشر وان مصير الأمة الإسلامية سيكون مثله مثل مصير الأمة الغربية في تعامله وجاهليته وان يتحمل تلك الأخطار التي تهدد المجتمعات الغربية في أخلاقها وفي كل سلوكها. هذا ما ركّز عليه الإمام الخامنئي دام ظله في رسالته إذ أكّد أننا كمسلمين نرفض الثقافة العدوانية البعيدة عن القيم والتي تحاول السيطرة على العقول والأفكار مستهدفة بذلك الشباب نظرا لما يمثله هذا الفصيل الاجتماعي من قدرة على الاستيعاب والتأثر بهذه الأفكار ونظرا لأنه هو الفاعل الاجتماعي الحقيقي الأكثر حيوية وديناميكية والذي قد يؤول تأثره بهذه الأفكار الخطيرة إلى تدميره والقضاء على هويته وانتماءه الحقيقيين.

أكد الإمام دام ظله الشريف وهو يخاطب الشباب في الغرب أننا كأمّة إسلامية لسنا انعزاليين وانطوائيين وأننا لا نرفض الثقافة الغربية فقط لمجرد أننا لا نقبل بتدخلاتها وتأثيراتها على شبابنا المسلم وإنما نحن نرفض الجانب السلبي المدمر فيها وندعو بالتالي إلى استعمال العقل والاستفادة الايجابية لهذه الثقافة دون أن نترك المجال للشاذ من الأفكار والتصرفات ولو بمسمّيات متطورة وبعناوين ثقافة عصرية وأدوات تكنولوجية حديثة أن يؤثر على عقول شبابنا فنحن في هذه الحالة مطالبون بالوقوف ضدها وحماية شبابنا من تداعياتها ليس بقمع حرياته وأفكاره وإقفال جانب الاطلاع والمعرفة لديه إنما بتوجيهه بالطريقة الصحيحة لان ديننا الإسلامي الحنيف يحثنا على الانفتاح والتسلح بقيم الالتزام والأخلاق (وأعدّوا ما استطعتم من قوة ومن رباط خيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم... صدق الله العلي العظيم) فالله عزّ وجلّ سخّر لنا كل ما في هذا الكون وجعله هبة وأرشدنا إلى بعض أدوات القوة التي تجعلنا نكسب المعرفة والعلم والخبرة دونما حاجة إلى استنساخ أو تقليد ما يقدمه الغرب من بضاعة قد تكون في معظم الأحيان منتهية الصلاحية وغير قابلة للاستهلاك. ولم يتردد الإمام في القول إن الشباب في الغرب قادر أيضا على أن يستقبل هذه الثقافة الإسلامية وان يستوعبها ويتبناها أيضا.

هذه الرسالة الموجهة للشباب في الغرب كما قدمها الإمام هي خطاب موجه للعقل المتجدد المنفتح أو المفروض أن يكون كذلك حتى يتمكن من اتخاذ الخطوات اللازمة لردع سياسات حكومات الغرب الخاطئة وفي إشارة إلى المعاناة التي يعيشها الغرب اليوم في ظل الاعتداءات الإرهابية على أراضيه انطلق الإمام دام ظله برسالته ليجعل موضوعها أمرا عالميا بامتياز. فقد أشار إلى أنها معاناة متكررة في كل بلاد العالم تقريبا وهو بهذه الطريقة حاول توحيد الإحساس بحجم المأساة بين ما تعيشه شعوب منطقة الشرق الأوسط وبين ما تعيشه شعوب أوروبا وقد تعيشه أكثر أن لم تسعى لتغيير الأمور وتحصين مجتمعاتها من خطر الإرهاب. أكد الإمام الخامنئي على أن هذا التعميم الهدف منه هو إبراز القيم الإسلامية الحقيقية التي نؤمن بها والتي تحتم علينا أن نتضامن مع شعوب العالم المتضررة من هذا الخطر وهو بذلك يدحض قصر النظر لدى أنظمة الغرب في تعاطيهم مع الشعوب الأخرى التي تعاني هي أيضا ومنذ سنوات من هذا الإرهاب بكل أشكاله.

طبعا الإمام دام ظله يفسر هذا الوضع رابطا إياه بسياسات الحكومات الغربية التي كانت ولا تزال سياسات خاطئة بحكم أنها كانت ولا تزال سياسات تدخل في شؤون دول المنطقة ومحاولة للسيطرة على ثرواتها وأراضيها حتى لو كلف الأمر إنشاء منظمات وجماعات إرهابية ترعى هذا المشروع وتسهل الطريق للوصول إليه ولو على حساب شعوب المنطقة. ولان الغرب هو دوما ولا يزال يطمس الحقائق و يخفي الوقائع عن شعوبه فقد أراد الإمام أن يكشف الواقع كما هو و هو يخاطب شباب هذا الغرب الذي من المفترض انه متحرر عقليا و فكريا وعنده قدرة على استيعاب الأمور بالشكل الأفضل فكشف الإمام زيف المعلومات والأخبار التي يروجها هذا الغرب مركزا على معاناة شعوب المنطقة ضحية الإرهاب منذ سنوات. وانه بناء على ذلك تتكرر المأساة لدى شعوب الغرب أيضا الذي ذاق جزء بسيط مما عاشته وتعيشه شعوب المنطقة من إرهاب مدمر.

خاطب الإمام عقول الشباب في الغرب وهو يدرك أن هذه العقول قادرة على التحرك واستيعاب أن الخطر القادم إلى أوروبا ليس خطرا عاديا ولا مؤقتا إنما هو خطر مدمر وهو نتيجة لسياسات حكومات بلدانهم في مكان آخر. طبعا لا يهمل نقطة مهمة وهي الدور الأمريكي في الموضوع كقوة استكبار عالمية تعمل جاهدة على تحطيم الشعوب والسيطرة على ثرواتها بكل الطرق والوسائل حتى لو لزم الأمر صنع آلة قتل رهيبة مثل داعش وأخواتها كما فعلت سابقا مع القاعدة لتدمير قدرات دول المنطقة وتهديدها وإخضاعها للهيمنة الاستكبار من خلال تشريد شعوبها والتنكيل ولقتل وسرقة الثروات وحتى التاريخ والهوية وهي تعتمد في ذلك على صورة مشوهة للإسلام جاهزة لتلصق بها كل هذه البشاعة والإجرام لتؤكد على أنها هي صورة الإسلام وقيمه وهي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن أخلاقيات هذا الدين وأسسه و مبادئه.

ويؤكد قائد الثورة الإسلامية كاشفا الحكومات الغربية وسياساتها الداعمة للإرهاب الذي يرتد اليوم عليها ويدفع ثمنه شعوبها وشبابها ويؤكد على السياسة الازدواجية التي يتعامل بها هذا الغرب مع العالم الإسلامي ومع قضاياه المحقة كالقضية الفلسطينية التي لا يتردد أبدا في دعم إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل على الأرض ضد الشعب الفلسطيني ولا يعير اهتماما للنداءات والمطالبات المحقة لهذا الشعب بضرورة كف يد العدوان والقتل والغطرسة الإسرائيلية عنه.

لقد عمل الإمام من خلال هذه الرسالة المهمة إلى إبراز ماهية الإسلام الحقيقي معتمدا لغة حضارية منفتحة سمحة تعتمد على مقارعة الواقع في شرح متطلباتها وتخاطب عقول الشباب الغربي بلغة العقل والقلب معا.

وذلك من خلال إبراز الواقع كما هو بكل مرارته وصوره البشعة وإقناع العقل الغربي بها والتنبيه لها وبين التعاطف الإنساني مع المحن التي يعيشها هذا الغرب اليوم كرد فعل على هذه الوقائع البشعة.

المهم التأكيد أن الإمام دام ظله من خلال موقعه كولي أمر المسلمين في العالم نقل من خلال هذه الرسالة للشباب في الغرب المعاناة في العالم الإسلامي وحجم التآمر الذي تعيشه شعوب المنطقة على جميع المستويات من خطر الإرهاب والفوضى و انعدام الأمن. مركزا على أن ما يحصل في فلسطين اليوم هو جزء لا يتجزأ من هذا الإرهاب وعليه يجب العمل على استئصال سبل الظلم والهيمنة على هذا الشعب كبداية حقيقية لمكافحة الإرهاب. ولعل ابرز ما قدمه الإمام في رسالته الموجهة للشباب في الغرب هو توعية هذا الشباب إلى ضرورة مراجعة هويته وإعادة قراءة الذات لاسيما فيما يتعلق بالقيم الإنسانية وهذه نقطة الالتقاء الأساسية بين الإسلام والغرب بمعنى آخر التعايش على مبدأ الاحترام للقيم الإنسانية ومراعاتها.

كما انه اعتبر أن مفتاح فهم حقيقة الغطرسة والاستكبار العالمي الذي تمارسه الحكومات الغربية لا سيما أمريكا الداعم الأساسي للكيان الصهيوني في المنطقة مرتبط بضرورة وعي الشباب الغربي لحقيقة ما يحصل وإدراكه للوقائع ولفكرة التغيير الجذري لهذه السياسات التي لم ولن تجلب له إلا الماسي والحروب على أراضيه التي لم تعد آمنة أمام هذا التيار الإرهابي المتدفق.

هذه الرسالة الموقعة من الإمام القائد السيد علي الخامنئي دام ظله الشريف هي رسالة واقعية صادقة مدركة لحقائق الأمور وخاصة الواقع الذي تعيشه المنطقة والذي ارتد ويرتد اليوم على المجتمعات الغربية برمتها.

وختاماً، اعتقد جازمة أن هذه الرسالة بما تحمل من دلالات شكّلت بحد ذاتها أجوبة للعديد من التساؤلات التي أصبحت مطروحة في الأروقة الغربية اليوم خاصة بعد العمليات الإرهابية الأخيرة في قلب العاصمة باريس. وهي اليوم رسالة ستشكل منعطفا مهما وضروريا في تاريخ شعوب المنطقة والعالم لأنها باختصار قدمت دعوة صريحة للشباب الغربي لضرورة إعادة النظر والوعي لكل ما يحصل ....هذه الرسالة هي حجة دامغة على العارفين والمتجاهلين بان هذه الارتدادات العنيفة التي حصلت وقد تحصل أن لم تعي شعوب هذه الدول خطورتها وضرورة التصدي لها وبان الحلول لا يمكن أن تكون حلولا أمنية عدوانية ضد المسلمين والدين الإسلامي وإنما لابد أن تكون حلول واعية منفتحة على إعادة صياغة وفهم واستيعاب حقيقي لقيم الإسلام السليمة والمتسامحة المتعايشة مع الغرب منذ سنين. وعليهم أن يفهموا أن الحلول بأيديهم لان لديهم عقول بإمكانها أن تعي حقيقة ما يحصل وتنتبه للخطر و منابعه.

 

الأكاديمية التونسية الدكتورة سهام بنت محمد بن عزوز

المصدر: وكالة مهر للأنباء