مقابلة مع العلامة المرحوم سماحة آية اللَّه الشيخ محمد مهدي الآصفي..
المصدر: مجلة بقية الله الأعظم - العدد 195
ذي القعدة 1428هـ / ديسمبر 2007م
بسم الله الرحمن الرحيم
«أول ما يضيع من الإسلام الحُكم وآخره الصلاة»... هذا قول تفضل به رسول الإسلام العظيم محمد بن عبد الله (ص)، ولا أدري إن كنا ندركه جيداً أم لا، لأنه سواء أدركنا وعملنا على تدارك الخطر أو لم ندرك ولم نعمل، فقد أدركه بعض المتربصين بالإسلام وعملوا على تحقيقه، فوجّهوا فوهات مدافعهم الثقافية والإعلامية لتشويه فكرة حاكمية الفقيه الجامع للشرائط ولتشويه صورة الولي الفقيه وسلطته بعناوين شتى من السموم التي تبثّها الوسائل الإعلامية والمؤلفات الثقافية المشبوهة على اختلافها.
ويُعتبر الإمام الخميني (قده) الأول في عصرنا هذا الذي سعى إلى تجسيد هذه النظرية وإخراجها إلى الحيّز العملي. وقد أثمر سعيه إقامة الحكومة الإسلامية في إيران. لذلك، فإننا نرى أن من عايشه بقلب صاف وبصيرة نافذة، قد عاين جمال هذه النظرية الأصيلة ومدى محاكاتها للمفهوم الأصيل للحرية، في حين يحتاج اليوم من لم يعايش ذلك الزمن من شرائح الشباب الواسعة، إلى تثبيت جذور النظرية في النفوس بشكل مبسّط، وإعادة ربطها بواقعها المتجسّد. لا تخفى علينا هنا أهمية شخص الإمام القائد الخامنئي (دام نوره)، بما يمثله من ولي فقيه وقائد وقدوة لكل شاب، في تجسيد النظرية بشكل عملي وفي تثبيتها في النفوس.
وحول الموضوع، كان لنا لقاء مع شخصية عايشت بدايات الثورة الإسلامية في إيران. ولعل الحقيقة الواضحة التي تتلمسها عند لقائك بهذا النمط من الشخصيات، وبالرغم من اختلاف جيلك عن جيلها بمسافات هي أن هذا النمط من الشخصيات يمثل كنوزاً لا بد من الاستفادة منها واحترامها والحفاظ عليها كمنابع للمعرفة. نتكلم هنا عن سماحة آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي الأستاذ في الحوزة العلمية لمدينة قم المقدسة والمؤلف للعديد من الكتب القيمة، والذي كان لنا معه هذا اللقاء.
* هل مسألة ولاية الفقيه شأن عقائدي أم فقهي؟
كلاهما.. فهي تتصل بالجانب العقائدي لأنها امتداد ونيابة عن الإمام الحجّة (عج)، وإمامة الإمام الحجة (عج) هي مسألة عقائدية، وكذلك إمامة أئمة أهل البيت (ع) هي مسألة عقائدية، وتدخل في أصول المذهب. وولاية الفقيه بهذا الاعتبار شأن عقائدي. وبالاعتبار الثاني، من حيث السلطة والصلاحيات التي يمتلكها الولي الفقيه فهي مسألة فقهية. طريقة انتخاب الولي الفقيه وسعة وضيق دائرة صلاحياته القانونية والفقهية هي مسألة فقهية. وعلى العموم، فإن هذه المسألة تتصل بالجانب العقائدي من جهة والفقهي من أخرى.
* نود أن تحدّثنا عن أدلة ولاية الفقيه العقلية، العقلائية والشرعية؟
إذا تحدّثت عن ولاية الفقيه، فسوف لن تكون في حديثي هنا صفة فنّية تتطلّب الاختصاص الفقهي. سوف لن أدخل في الأدلة النقلية، بل سوف أكتفي هنا في هذا الجانب بهذه الكلمة: إن الأدلة الشرعية على ولاية الفقيه كثيرة جداً، وقد وردت بصيغ وتعبيرات مختلفة. لو أننا جمعنا هذه الصيغ وهذه الأحاديث والنصوص في محل واحد واستقرأناها كلها، لخرجنا بنتيجة قطعية حسب رأيي وهي أن ولاية الفقيه ونيابة الفقيه عن الإمام المهدي (عج) أمر مفروغ منه في ثقافة أهل البيت (ع).
أما بالنسبة إلى الدليل العقلي: فالمسألة ليست عقلية بقدر ما هي عقلائية. وهناك فرق بين الدليل العقلي والدليل العقلائي. بمعنى أن ما تتطلبه سيرة العقلاء وحياتهم وتستقر عليه، هو حجة ما لم يرفضه الشرع، أي لو لم يرد دليل على رفضه، وعدم وجود دليل شرعي على رفض سيرة عقلائية هو دليل حجيتها. وأذكر الآن دليلاً ملفّقاً من الحالة العقلائية أو السيرة العقلائية والحالة الشرعية، وهو دليل ينتظم في عدة نقاط.
النقطة الأولى: أن الله عز وجل يريد النظام، فالنظام والسيادة والحاكمية ضرورات من ضرورات حياة الإنسان، ومن دون وجود نظام وسيادة (هنا أقصد بها السلطة) لا تستقيم حياة الناس، على وجه الأرض. ولا يمكن لأحد أن يشكّك في هذه الحقيقة. وهذه هي النقطة الأولى التي أسميها ب«السيرة العقلائية».
النقطة الثانية، هي نقطة شرعية وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يمكن لأحد أن يشكّك في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ضرورات الدين. والأمر بالمعروف هو المطالبة بتحقيق وتطبيق حدود الله وأحكامه وشريعته. والنهي عن المنكر يعني المطالبة والعمل لدفع الظلم والفساد والنهي كذلك عن الظلم والفساد والمخالفات الشرعية.
والذي ينتج من هاتين النقطتين هو السعي لإقامة حكومة إسلامية. فلا بد إذاً من وجود وقيام حكومة تنظّم حياة الناس، ولا بد من وجود قانون يحكم الناس. وبطبيعة الحال، فإن هذا النظام لو لم يكن نظاماً إسلامياً، لا بد من أن يقع في مخالفات شرعية وفي الظلم والفساد بالضرورة. فإذا كان الأمر كذلك لا بد أن نسعى بموجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى تطبيق الأحكام الشرعية، ولا يتم ذلك إلا بإقامة حكومة الإسلام: دولة ملتزمة بأحكام الله تعالى، ودولة تطبق الأحكام الإلهية. لأننا لا نستطيع أن ننفي من جهة ضرورة وجود الدولة، ولا نستطيع من جهة أخرى أن نتقبل منكراً في المجتمع، أو حكماً إسلامياً لا يقع موضع التطبيق...
ونضيف إلى ذلك ضرورة ثالثة: إن النظريات الفقهية في الشرع مختلفة ومتعددة، والقدر المتيقّن منها هو ولاية الفقيه. وأقصد بالقدر المتيقّن أن كل من يؤمن بضرورة قيام حكم إسلامي ويسعى لإقامة ذلك الحكم، يقول بشرعية ولاية الفقيه وحاكميته وليس العكس، أي أنه ليس كل من يقول بولاية الفقيه يقول بشرعية الدولة إذا كان لا يترأسها فقيه، وهذا ما قصدته بالقدر المتيقن. يعني في مسألة الحكومة الإسلامية عندنا نظريات متعددة من الواحد إلى العشرة فرضاً. وهذه المذاهب جميعها تؤمن بمشروعية الحكومة التي يتزعمها ويتصدى لها الفقيه وليس العكس. فليس كل من يقول بولاية الفقيه يتقبل الحكومة الإسلامية التي لا يتزعمها ولا يتصدى لها الفقيه. إذاً، فإن كل الفقهاء الذين يؤمنون بوجود الحكومة الإسلامية، يؤمنون بشرعية هذه الحكومة إذا تصدى لها الفقيه وتزعمها، وليس العكس.
وبضميمة هذه الأجزاء الثلاثة إلى بعضها البعض: الأصل الأول عقلائي والثاني شرعي والثالث عقلي (فأصل «القدر المتيقن» هو أصل عقلي، وكل العقلاء يقولون بتقديم الأصل العقلي عندما يتردد الأمر بين ما يتفق عليه الجميع وما يختلفون عليه. فالعقل هنا يلزم بأخذ ما اتفق عليه الجميع). إذاً، بضم هذه الأصول الثلاثة إلى بعضها، نحصل على نتيجة شرعية ولاية الفقيه.
* بالنسبة لمواصفات الولي الفقيه، ما هي؟ وهل تنطبق على سماحة الإمام الخامنئي؟
المواصفات ثلاث: الصفة الأولى، الفقاهة: فلا بد أن يكون الولي الفقيه فقيهاً ولا يكون غير فقيه. وهنا لا يفوتني ذكر إجماع الفقهاء عند الشيعة والسنّة على ضرورة الفقاهة في ولي الأمر. والذي ينقل هذا الإجماع من أهل الشيعة هو العلامة الحلّي في «التذكرة» وعند أهل السنة جمع من الفقهاء منهم صاحب «شرح المقاصد في صفات الإمام». ويذكر فقهاء السنة أن الإمام، وهو الولي الفقيه لا بد وأن يكون فقيهاً.
الصفة الثانية، العدالة: فلا بد أن يكون الولي الفقيه عادلاً أي ملتزماً بحدود الله تعالى، ملتزماً بالحلال والحرام، وهو ما نعبّر عنه بالتقوى، بمعنى الالتزام الدقيق بحدود الله تعالى. فإذا ما التزم الإنسان بحدود الله تعالى في حياته وتحول هذا الالتزام إلى ملكة راسخة، عندئذ يصلح ليكون إماماً للمسلمين.
الصفة الثالثة، الكفاءة: فلا بد أن يكون الولي الفقيه كفؤاً قادراً، وعنده الكفاءات والإمكانات القادرة على القيادة والإدارة والتوجيه والتسديد. فولي أمر المسلمين أو إمام المسلمين، يتولى شأناً من أصعب الشؤون، فهو يتولى إدارة وقيادة الأمة بأكملها. فإذا ما كان ضعيفاً عاجزاً بالضرورة، فهو لا يستطيع أن يتولى قيادة الأمة. لذلك، لا بد أن يمتلك الكفاءات القيادية التي تمكنه من إدارة هذه الأمة الواسعة على وجه الأرض في الحرب والسلم، وتشخيص الأعداء وتشخيص الأصدقاء، وألا يكون متسرّعاً في القرارات، وأن يكون منفتحاً على الناس، وأن يستمع إلى مشاكلهم، وأن يحرص على أمنهم وأمن المجتمع، وألا يكون مهزوماً نفسياً، وأن يكون قادراً على مواجهة التحديات الصعبة التي تواجهه. على العموم، ما نعبّر عنه بالكفاءات القيادية.
وسألتم هل أن هذه المؤهلات موجودة في ولي أمر المسلمين سماحة السيد الخامنئي؟ أقول نعم، هذه الخصال موجودة في الإمام الخامنئي وهو بحق رجل فقيه ومتمكن من الاجتهاد والاستنباط والفقه أوّلاً، ورجل ملتزم بحدود الله تعالى وأحكامه. وتاريخه تاريخ مشرق وصفحة حياته صفحة ناصعة ثانياً. وبالنسبة للكفاءة، ثالثاً، فهو منذ قيام الثورة إلى اليوم في وسط المعركة، وقد أنضجته التجارب واكتسب منها خبرة واسعة، وكان له حضور كذلك قبل قيام الثورة في أوساط الجهاد والمعارضة والعمل الإسلامي وحمل رسالة الإسلام. وبعد قيام الثورة الإسلامية وانتصارها، كان مع الإمام (قده) في كل مراحل العمل، حتى تولى أمر القيادة بعد الإمام رحمة الله عليه. نسأل الله تعالى أن يطيل عمره وأن يجعل في عمره خيراً وبركة كثيرة.
* كيف ترون دائرة صلاحية الولي الفقيه؟
أعتقد أن دائرة صلاحية الولي الفقيه دائرة واسعة، وهي أوسع من الدائرة الفعلية للدولة الحديثة المعاصرة، أو صلاحيات الدولة الحديثة المعاصرة بأجهزتها الثلاثة: القوة التقنينيّة والقوة التنفيذية والقوة القضائية. هذه الثلاثة مختزلة في الإسلام في ولي الأمر يوزّعها، أي يوزع هذه المهام، فيعطي القوة التقنينية لمجلس الأمة أو «مجلس الشورى الإسلامي» ويعطي القوة القضائية للقضاء والتنفيذية لرئيس الجمهورية والوزارات التي تتبع رئاسة الجمهورية. هذه ثلاث صلاحيات يعطيها الإسلام لولي الأمر، ولا يعني ذلك أن ولي الأمر يمارس بنفسه هذه الأعمال جميعها، فهذا أمر خارج عن حدود إمكانية إنسان، وإنما يوزعها على هذه الأجهزة. الناس مثلاً ينتخبون نوابهم في مجلس الشورى وهو يقرّ للمجلس صلاحية التقنين.
* هل يعني هذا أن دائرة صلاحية ولي الأمر هي دون التشريع وفوق ما كان يقال من انحصارها بالولاية على الصغار والأمور الحسبية الضيّقة وما شاكل؟
أنا أتكلم بأوسع من هذا، أقول بأن صلاحيات الدولة الحديثة هي ثلاثة: التقنين والقضاء والتنفيذ. والمقصود بالتنفيذ هنا، كل الأمور وليس فقط الولاية على الصغار والأيتام وتحصيل الأموال التي يغيب عنها أصحابها. كلا، بل صلاحيات الدولة الحديثة كلها من قبيل: الشؤون الخارجية والأمن والشرطة والتعليم والتربية والصحة والدفاع والانضباط والزراعة والطرق والريّ والتعليم الجامعي الخ... لا تحدّدوا، فهذا كله داخل في الدائرة التنفيذية. والدائرة التنفيذية للدولة الحديثة، تحتوي على مئات النقاط التي ذكرت بعضها الآن، والولي الفقيه له الصلاحيات الثلاث التقنين والقضاء والتنفيذ، ويعطي كل واحدة من هذه الصلاحيات إلى طرف.
* حسناً، هنا في نفس هذه النقطة كيف ترون إيجابية أن يكون للولي هذه الدائرة الواسعة من الصلاحية؟
إن الإيجابية تنبثق من ضرورات الحياة الإدارية والسياسية. فلا يمكن إدارة الحياة الإنسانية اليوم بكل تعقيداتها، ولا يمكن أن تستقيم حكومة، إلا إذا كانت تمتلك هذه الصلاحيات الواسعة.
* ننتقل إلى مسألة أخرى... كيف ترون إلى العلاقة بين الولاية والمرجعية؟
المرجعية تعني الفتيا والولاية هي التصدي للشؤون السياسية والإدارية. ولكن المرجعية وهي التصدي للفتيا تتعهّد اليوم في بلاد المسلمين بطرف من الشؤون السياسية والإدارية في المجتمع، وهذا يعني أن المرجعية تتصدى اليوم ليس فقط لشؤون الفتيا، وإنما لطرف وجانب من شؤون الحكم... وفي الوضع السياسي والإداري والاقتصادي للناس، يتدخل المرجع ويعطي رأيه وحكمه. وأما ولاية الأمر، فمعناها التصدي لشؤون المسلمين في الحرب والسلم والشؤون الإدارية والسياسية. والشؤون السياسية موجودة ضمن النقاط الثلاث التي شرحتها.
تعليقات الزوار