محاضرة للسيد حسن نصر الله ألقاها في الليلة الثالثة من محرم الحرام سنة 1420هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، وشفيع ذنوبنا، وحبيب قلوبنا، أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين والطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع الشهداء، والمجاهدين في سبيل الله، منذ آدم إلى قيام يوم الدين.

السلام عليك يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، وأناخت برحلك؛ عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار.  

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

السادة العلماء، إخواني وأخواتي، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

 

فضل الشهادة والشهداء

يقول أبو عبد الله الحسين (ع): "إني لا أرى الموت إلا السعادة والحياة مع الظالمين إلا برما". وفي دعاء الافتتاح يقول الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: "وقتلاً في سبيلك فوفق لنا". نحن نبقى ثلاثين ليلة في شهر رمضان، نقرأ دعاء الافتتاح، وفي كل ليلة نقول كما علمنا الإمام سلام الله عليه وعجل الله تعالى فرجه الشريف: "وقتلاً في سبيلك فوفق لنا".

كان رسول الله وآل بيته الأطهار، يعلّمون المسلمين والاتباع أن يتمنوا الشهادة، أن يطلبوا الشهادة من الله سبحانه وتعالى، أن يوفقهم الله عز وجل للشهادة. كان بعض الأصحاب يأتون على الرسول وإلى الأئمة، يطلبون منهم الدعاء لهم لتحقيق بعض أمور الدنيا؛ كأن يرزقه الله ولداً أو مالاً، أو أن يوفقه لقضاء الدين أو غير ذلك من أمور الدنيا، بينما كان بعض يأتي ليطلب من رسول الله أن يدعو له بالشهادة!

هذا التعلق بالشهادة لم يكن المقصود به فقط شخص النبي أو الأئمة (ع)، بل كان المطلوب تربية الأمة على هذه الروح، وعلى هذه الفكرة، وعلى هذا المضمون. وهذا التعلق من المؤكد أنه ليس بدون سبب، أي أنه من غير المعقول أن يرى الإمام الحسين (ع) الموت سعادة من دون سبب، لأنه ليس هناك من يريد أن يقتل من دون سبب أو يسعى للتضحية من دون سبب.

رسول الله (ص) لأنه أهل المعرفة التامة والكاملة ــ انطلاقاً من هذه المعرفة ومن هذه الحقيقة الإيمانية المطلقة ــ يطلب هذا ويعلّم أهل بيته، ويعلّم أصحابه، ويعلّم الأجيال إلى قيام الساعة أن يطلبوا هذا. هذا طبعاً ناشئ من فكرة الشهادة، فضل الشهادة، فضل الشهداء في الدنيا وفي الآخرة، وهذا ما سنصل إليه بعد قليل. لكن نريد أن نقف هنا بالتحديد، لنرى أولاً ما هي قيمة هذه الشهادة عند الله، وما هي قيمتها عند الرسول وأهل البيت، ثم ما هو فضلها، والشهداء ما هو فضلهم.

هذه القضية التي اسمها الشهادة، أو القتل في سبيل الله، أو أن يذهب أمرؤ ليجاهد ويُقتل في سبيل الله؛ هذا الموضوع ما هو حجمه، وما هي قيمته، حتى تم التأكيد علبه بهذا المستوى؟

 

آيات في فضل الشهادة

الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في فضل الشهداء وفضل الشهادة كثيرة أقرأها بدون شرح، لأن الفكرة مكتملة، وخصوصاً أن الآيات هي نص الهي قطعي، لكي لا يقول أحد ان هذه الرواية ثابتة وغير ثابتة السند أو المضمون، فهذا القرآن نص إلهي قطعي الصدور، ليس فيه نقاش، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء... }(1). وهؤلاء الشهداء الذين قتلوا في بدر وأحد وفي كربلاء، أيها الناس أيتها الأجيال، هؤلاء ليسوا أمواتاً، هؤلاء أحياء {عند ربهم يرزقون}؛ يعني هم الآن أحياء وليس بعد حين، هم أحياء يرزقون بأشكال الرزق المختلفة {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون}(2) لأنهم وصلوا وشاهدوا وعاينوا، وصلوا إلى هذه الحياة وهذا الرزق {يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}(3).

وفي آية أخرى قريبة من هذا المضمون {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء}(4). يا ناس هؤلاء ليسوا أمواتاً بل أحياء، المشكلة هي مشكلتكم {ولكن لا تشعرون}(5)، انتم لا تشعرون بهم، انتم لا تحسون بهم، ولكن هم الأحياء، بل هم الأحياء الحقيقيون في هذا الوجود.

وفي آية أخرى {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم} أي مجاهد {من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا}(6) أي صاروا (شهداء)، فماذا أعطيهم؟ {لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم}(7).

عندما نأتي للأحاديث نجد في الأحاديث أن الله يغفر لهم ذنوبهم، والقرآن يقول ذلك، {لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم}؛ هؤلاء الشهداء، الصابرون المجاهدون، في نهاية المطاف {لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم} واغفر ذنوبهم وسيئاتهم بالكامل {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب}(8). من الذي يستطيع أن يثيب عبده احسن من الله سبحانه وتعالى؟

وفي آية {من يقاتل في سبيل الله}(9) الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة {فيُقتل} ــ شهيداًــ {أو يغلِب}(10) المجاهد الذي لم يحصل على شرف الشهادة ــ وهذا الموضوع سأعود له بعد ذلك ــ {فسوف نؤتيه عظيماً}(11) الله العظيم هو الذي يصف الأجر الذي سيعطيه لهؤلاء الشهداء بأنه أجر عظيم، فتصوروا ماذا يمكن أن يكون هذا الأجر، {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة}(12).

 

أحاديث في فضل الشهادة

بعد أن عرضنا الآيات المباركة التي تتحدث عن أجر الشهيد وفضل الشهادة، ننتقل لعرض الأحاديث التي تحدثت حول هذا الموضوع، يقول رسول الله (ص): "ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا، وأن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى"(13).

أي أن أي نفس تموت وهي عند الله في خير يعرض عليها العودة إلى الدنيا، ولها الدنيا وما فيها، ليس ضيعة أو بلداً أو دولة أو قارة وغيرها، وليس أرضاً فقط.. وليس الكواكب والنظام الشمسي والأنظمة الشمسية التي اكتشفوها من جيد، ولكن الدنيا وما فيها؛ هذه النفس ترفض أن تعود إلى الدنيا لأنها في خير عند الله سبحانه وتعالى، لأن الدنيا لا تساوي شيئاً، وعندما يذهب أحدنا إلى بقية العالم، يكتشف بالعيان، بالمشاهدة كم أن هذه الدنيا التي نحن فيها صغيرة وجيفة ولا قيمة لها ولا أهمية لها، ولا تساوي "عفطة عنز" كما قال علي بن أبي طالب (ع)، وأنها جيفة، كما كان يقول رسول الله (ص)، فترفض هذه النفس العودة إلى الأرض إلا الشهيد. لماذا الشهيد؟ هل لأن هذا الشاب خسر الدنيا ويريد أن يحصل على شيء منها؟ لا..

يقول: إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة.. عندما يرى هناك مقام الشهداء، منازل الشهداء، فضل الشهداء، اجر الشهداء، يتمنى أن يعود إلى الدنيا مرة أخرى ليقتل في سبيل الله ليزداد هناك مقاماً وأجراً ودرجة وعظمة، هذا المضمون موجود في أكثر من حديث.

نأتي لأحاديث أخرى،الإمام الباقر (ع) يقول: "كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله ــ أي بالشهادة، حيث تمحى كل سيئاته وذنوبه ــ إلا الدَّين". هذا حق الناس؛ حقوقه، معاصيه، ذنوبه يسامحه الله بها ويجزيه خيراً، أما الدين فهذا حق الناس، وهذا يبقى.

"كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدين، فإنه لا كفارة له إلا أداؤه أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق"(14).

هذا الموضوع، نحن نعاني منه في لبنان بالنسبة لشهدائنا، ما من شهيد يسقط إلا وعليه ديون، صاحب البيت الذي يستأجر منه، أو للمدرسة أو محلات البقالة، وهذا موضوع بحاجة إلى تعاون اجتماعي عام، المؤسسات الاجتماعية ترعى هذا الجانب، لكن هذا يحتاج إلى أن يساعد في ذلك صاحب الحق أيضاً، ومعاونة الناس حتى يكون لهذا الشهيد إن شاء الله فضل، ولا يكون أمامه أي عائق.

رسول الله (ص) يقول: "من لقي العدو فصبر ــ ثبت ــ حتى يقتل ــ فهو شهيد ــ أو يغلب ــ يمكن أن يغلب ثم يرجع حياً على قيد الحياة، الاثنان لهم أجر ــ لم يفتن في قبره"(15). يعني يعفى الشهيد ويعفى المجاهد الذي قضى حياته في الجهاد، وفي الصبر، وفي الثبات، من فتنة القبر، وعذاب القبر، وحساب القبر، وما شاكل. الرسول (ص) يقول أيضاً:

"ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"(16). وبعد أقول رواية أخرى لكي أكمل الموضوع، رسول الله (ص) يقول: "للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه، مغفور له كل ذنب، الثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان: مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة: يكسى من كسوة الجنة، والرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة، أيهم يأخذ معه، والخامسة: أن يرى منزلته، والسادسة: يقال لروحه اسرحي في الجنة حيث شئت، والسابعة: أن ينظر في وجه الله. وأنها لراحة لكل نبي وشهيد"(17).

إذن، إذا كان للشهادة هذه القيمة عند الله وهذا الفضل عند الله سبحانه وتعالى، كما تقدم في الآيات وفي الروايات، فمن الطبيعي أن يتعلق بها رسول الله وأهل بيته، والمسلمون الأوائل، والأصحاب والأتباع والأوفياء الصادقون والعباد الصالحون، ويجب أن نتعلق بها نحن أيضاً، ونبحث عنها، لأنها هي الوسيلة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى؛ أفضل الموت القتل في سبيل الله، وأقصر الطرق إلى الله الشهادة، الإمام الصادق (ع) يقول: "بإنفاق المهج يصل العبد إلى بر حبيبه وقربه". والحبيب هنا هو الله سبحانه وتعالى.

 

روح الشهادة

شيء ثالث كذلك نصل إليه، ما هو المطلوب منا؟ المطلوب منا أيها الأخوة والأخوات رجالاً ونساءً، أن نحمل روح الشهادة، روح الاستشهاد، أن نكون طلاب شهادة، أن نكون عشاق شهادة. أن نقضي شهداء، أو لا نقضي شهداء؛ هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، لكن نحن مطلوب منا أن نمشي في هذا الدرب، مطلوب منا أن نحمل هذه الروح، مطلوب منا أن تمتلئ قلوبنا بهذا الحب. لقد كان الحسين (ع) طالب شهادة، وكانت زينب (ع) طالبة شهادة، وكان الحسين (ع) عاشق شهادة، وكانت زينب (ع) عاشقة شهادة، لا شك في ذلك الأمر، الأنبياء والرسل كلهم كانوا طلاب شهادة، لكن أين يموت الإنسان، وكيف يموت الإنسان؟ هذه مسائل بيده الله سبحانه وتعالى، هو الذي يختار ويشاء على ضوء المصالح، مصالح العباد، ومصالح الدين، ومصالح الناس التي يشخصها هو سبحانه وتعالى. ولذلك حثنا أئمتنا (ع) ورسول الله أيضاً على السير في هذا الاتجاه وهو طلب الشهادة. يقول رسول الله (ص): "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"(18)، ويقول (ص): "من سأل الله القتل في سبيل الله صادقاً من قلبه أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه"(19).

وهذين الحديثين هما بشارة لنا جميعاً، لأنه قد يطلب أحد منا الشهادة، ولكن لعوامل كثيرة لا ينالها، فالله سبحانه وتعالى يحبه ويحب لقاءه. إخواننا الجرحى الذين فقدوا بعض أعضائهم، أو أصابهم شلل تام بحيث لم يعودوا قادرين على متابعة العمل الجهادي، هؤلاء هل حرموا الشهادة؟ هؤلاء نقول لهم ما قاله رسول الله (ص): "من جرح في سبيل الله، يوم القيامة ريحه كريح المسك ولونه لون الزعفران، عليه طابع الشهداء ــ هؤلاء الجرحى، المجاهدون الذين لم يستشهدوا ــ ومن سأل الله الشهادة مخلصاً ــ هؤلاء المجاهدون القاعدون في مواجهة العدو الذين يدخلون إلى المنطقة المحتلة، ويبقون لأيام وليالي تحت القصف، هؤلاء طلاب الشهادة بصدق، وان الله سبحانه وتعالى قدر لهم أن يبقوا على قيد الحياة ــ أعطاه الله أجر شهيد وأن مات على فراشه"(20).

 

الجهاد طريق الشهادة

نخرج بنتيجة، تقول: المطلوب أن نكون طلاب شهادة، وأن نحمل روح الاستشهاد، وأن نكون عشاق شهادة. كيف يصبح الموت عندنا شهادة؟ كيف يمكن أن نأنس بالموت كالإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي كان آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، كيف؟ هذا الموضوع في الحقيقة بحاجة إلى عمل تربوي طويل، ولكن غير صعب، وسوف أشرح الموضوع باختصار، ولكن قبل ذلك أحب أن أقول لكم كمقدمة أساسية، أو كمدخل أساسي: الشهادة هي حصيلة الجهاد، والتضحية والفداء، والعطاء، والجهد، الشهادة هي ثمرة الجهاد، هي نتيجة، ومحصلة الجهاد. قتال في سبيل الله وقتل؛ أي قتل يأتي على أثر قتال، إذن الجهاد هو الذي يوصل للشهادة. بالتالي كيف نصير طلاب شهادة وعشاق شهادة؟ ونملك روح الاستشهاد، أو بالأحرى نقول: كيف نكون مجاهدين؟ لأننا من خلال الجهاد نصل إلى الشهادة. يقول علي (ع): "إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه"(21). من هذا الباب يعرجون إلى الشهادة ومن ثم إلى لقاء الله سبحانه وتعالى. هنا لا بد من إيضاح أمر مهم وهو، أن ليس كل الناس الذين يذهبون إلى القتال يحملون روح الشهادة. في كثير من الحروب التي تحدث في العالم، لا يحمل المقاتلون روح الشهادة، بل يحملون روح البقاء على قيد الحياة والعودة بسلام، وكل واحد منهم يعتبر أنه إذا كان هنا من أحد سيقتل، فليس أنا، وأن هناك واحداً آخر غيري، ليس كل من مضى إلى جبهة قتال يمضي بروح استشهاد، ولذلك نجد في كثير من الأوقات من يهرب من الحرب، أو يستسلم أو يخون، لأنه لا يحمل روح الشهادة والثبات والصبر. ثم هناك من يذهب إلى القتال لأنه مجبر لسبب أو بآخر، أما لأنه يخاف من أن يسجن، أو يهدم بيته أو تفرض عليه عقوبات شتى، مثل كثير من دول العالم. إذاً ليس بمجرد أن يذهب الناس إلى القتال، هذا يعطيهم عنوان روح الشهادة أو روح الاستشهاد.

أما عندنا فالذين يذهبون إلى القتال إنما يذهبون بوعي وإيمان وإخلاص وإرادة واختيار وعزم وشوق، وهؤلاء هم الذين يحملون روح الاستشهاد، هذه الروح التي تستبطن حب لقاء الله سبحانه وتعالى، لأن الذي يستشهد إلى أين يذهب؟ إنه ذاهب إلى الله، يعني ذاهب إلى الآخرة، يعني ذاهب إلى الجنة، يعني ذاهب إلى وعد الله، فإذا كان يحب هذا اللقاء ويعشقه، فسوف تدب فيه هذه الروح بقوة. انظروا الإمام عليًّ (ع) حيث يقول: "وهيجوا إلى الجهاد فولهوا"(22)؛ يعني عندما قال لهم نريد أن نقاتل في سبيل الله، قاموا بوله، والوله ليس حباً عادياً، هو أعلى درجات الحب.

في محل آخر، يقول الإمام علي (ع) لجماعته تفضلوا على القتال، يقول: "من الرائح إلى الله"؟ يعني إلى القتال، إلى عند الله "من الرائح إلى الله" ولكن كيف؟ رغماً عنه لا، من أجل أن يأخذ الغنائم؟ لا، على قاعدة كتب عليكم القتال، وهو كره لكم؟ لا، إذن كيف؟ "كالظمآن يرد الماء"(23). تصوروا أن أحداً أصابه عطش شديد، ثم قدموا له الماء، أو حصل على الماء؟ كيف يهجم على الماء بالتأكيد سوف يهجم عليه بحب وبشوق، بوله، بلذة، بشغف. علي (ع) هكذا يصف الرائحين إلى الله، إلى القتل في سبيل الله عز وجل.

 

عوامل لابدّ منها

 

من هنا الوصول إلى هذا الأمر يتطلب جهداً خاصاً على أكثر من صعيد:

أولاً: على الصعيد الإيماني والعقائدي، يجب على كل واحد منا أن يعمل على نفسه على أهله على أولاده على جيرانه، على أناسه، على ضيعته، على مدينته، على شعبه، وعلى أمته، لأن الكل يجب أن تكون عنده هذه الروح، ليعمل كل واحد منا على أن يكون لديه بالدرجة الأولى إيمان بالله عز وجل، وهذا هو مفتاح القضية؛ لأن الشهادة هي طريق إلى الله. إذا آمن بالله، وبوعده وبصدق وعده، وبكرمه، وجوده، حينئذٍ يكون قد بدأ يتحضر ليسمو إلى هذا المستوى. ويجب أن يكون عنده إيمان باليوم الآخر، نعم، هناك حياة أخرى، عالم خالد أزلي وأبدي وقبر وبرزخ، وحساب وعقاب، وميزان وثواب، وجنة ونار، وخلود في الجنة وخلود في النار. يجب أن يكون عنده هذا الإيمان ويؤمن بما جاء به رسل الله، وكتب الله عز وجل، إذا أصبح عند أحدنا هذا الإيمان، وهذا اليقين وهذه المعرفة، وهذا الفهم، سوف يتعلق بالآخرة ويرجوها ويسعى إليها وإلى لقاء الله سبحانه وتعالى.

من لا يؤمن بوجود الله، كيف يحبه؟ وهل يحب الإنسان عدماً أو معدوماً؟ من لا يؤمن بالله عز وجل، كيف يسعى إلى لقائه؟ كيف يشتاق إليه؟ كيف ينفق مهجته من أجل الحب والقرب من الله سبحانه وتعالى؟ أولاً يجب أن نحصل على هذا الإيمان وهذا ليس صعباً.

هناك رواية تؤكد هذا المعنى؛ الرواية تقول: إن رسول الله (ص) صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد، وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله (ص): كيف أصبحت يا فلان؟ فقال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فعجب رسول الله من قوله وقال له: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول اله (ص): هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان. ثم قال له: الزم ما أنت عليه. فقال الشباب: أدع لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله (ص) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (ص) فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر(24). ما الذي أوصل هذا الشاب لأن يطلب الشهادة؟ بالتأكيد هذا الإيمان وهذا اليقين وهذا النور الذي في قلبه. إذن طلب الشهادة حصيلة تربوية، والمطلوب أن نصل لهذا الإيمان.

الثانياً: ــ وهو عامل تربوي أيضاً ــ عدم التعلق بالدنيا؛ نقدر أن نربي أنفسنا على أن لا نحب الدنيا وزخارفها ومباهجها وألقابها وسمعتها ومالها وجاهها وإلى آخره... الذي يتعلق بالدنيا لا يمكن أن يكون طالب شهادة، الذي يحب الدنيا لا يحب الآخرة، الذي يحب متع الدنيا لا يحب لقاء الله سبحانه وتعالى، لأنه لا يجتمع حبّان متناقضان في مكان واحد وفي قلب إنسان، إذ يجب أن نربي أنفسنا وأهلينا على الزهد في الدنيا وزخارفها، والتعلق بالآخرة؛ لأنه هو الذي يوصلنا إلى روح الشهادة وروح الاستشهاد.

ترى على مر الزمان أناساً تخلفوا عن الجهاد مع الأنبياء، ومع الأئمة، والسبب أنهم طلبوا الدنيا، الحسين (ع) لماذا تركه الناس؟ أليس طلباً للدنيا وحباً للدنيا وخوفاً على بيوتهم، وعلى أولادهم، وعلى أموالهم، أو طمعاً ببعض المال والحطام والمناصب، التي وعدهم بها يزيد وعبيد الله بن زياد؟ هذا نص قرآني واضح {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}(25) الذي يغتر بالحياة الدنيا ويتخلى عن الحياة الآخرة، لا يخرج إلى الجهاد ولا يصل إلى مقام الشهادة، {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}(26). والله سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة}(27)، طلاب الشهادة هم الذين يبيعون دنياهم ويشترون بها الآخرة، بينما طلاب الدنيا لا يبيعون دنياهم. وطلاب الدنيا نوعان: نوع تركوا الآخرة من أجل دنياهم هم، ونوع تركوا الآخرة من أجل دنيا غيرهم، فلم يحصلوا على شيء من حطام الدنيا وخسروا الآخرة. إذن الأمر الثاني هو أن نربي أنفسنا على الزهد في الدنيا؛ لا يمكن لأحد أن يحب الدنيا، ويكون طالباً للشهادة.

ثالثاً: العامل الثالث تعزيز الروح الجهادية، والتربية الجهادية، وتقوية مجموعة القيم الإنسانية في الإنسان، إذ يجب أن نربي أنفسنا على رفض الظلم، ورفض الذل، ورفض الهوان وعدم الاستكانة وعدم الخضوع، لأن هذه كلها مفاهيم جهادية وأنفاس جهادية، وهذه نحتاجها؛ تصوروا أحداً لا يبالي، أنه ظلم أو لم يظلم، شعبه مظلوم أو غير مظلوم، بلده ذليل أو غير ذليل، أمته مسحوقة أو غير مسحوقة. الظلم وعدم الظلم العز وعدم العز، الكرامة والهوان بالنسبة له معانٍ لا تعني له شيئاً على الإطلاق. هل هذا ينطلق للجهاد؟ لا.

هذه قيم نحتاج إلى تكريسها في أنفسنا وفي مجتمعنا، أن نرفض الظلم والذل والهوان ونكريس مجموعة من القيم الإنسانية الراقية، الكرامة، الحرية، الشرف العرض، الرفعة لشعبنا لأمتنا وديننا أن لا نستعبد لأحد من طواغيت ومستكبري هذا العالم. ولذلك عندما نأتي للروايات نجدها تقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد، من قتل دون أهله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد، من قتل دون حقه فهو شهيد، من قتل دون جاره فهو شهيد"(28). يعني على كل منا أن يدافع عن جيرانه عندما يتعرضون لاعتداء بالنهب أو بالقتل، فعليه أن يحمل السلاح ويدافع عن جيرانه ولا يقول: لا علاقة لي بالأمر، لأن النبي أوصى بالجار حتى كاد أن يورثه، عندما يقول: لا علاقة لي بالأمر فكأنه يقول ليس عندي غيرة، ليس عندي قيمة إنسانية، وليس عندي أخلاق.

إذن عندما تكون هذه القيم الإنسانية حية وفاعلة في نفوسنا، سننطلق للجهاد وتكون خاتمتنا الشهادة. فالأمور التي ذكرناها سابقاً وتحدثت عنها الروايات والأحاديث كلها الأمور، الميت من أجلها من شهداء الآخر، لأن هذه من مصاديق القتل في سبيل الله والقتال في سبيل الله. إذا كان هناك أحدُ لا يعني له العرض شيئاً، فيترك المحتلين يغتصبون الأعراض، وينتهكون الأعراض وهو يتفرج، فذلك لأن الدنيا قد أثرت فيه، وموضوع العرض والشرف والكرامة ليس له قيمة عنده، وإلا عندما يوضع مع هذا الإيمان، مع هذا التعلق بالآخرة، يصنع حركة جهاد توصل إلى الشهادة.

وهناك ملاحظتان أود التطرق إليهما: الملاحظة الأولى: لا يتصورنّ أحد عندما أقول أنه يجب أن يكون عند كل منا إيمان بالله واليوم الآخر، وإيمان بالرسول وبوعد الله، وبما جاء به الوحي، وتعلق بالآخرة وزهد في الدنيا، وقيم إنسانية كالشرف والكرامة والشهامة والشجاعة إلى آخره، لا يتصورن أحد أن هذا أمر صعب أو أنني أحاول تصعيب الأمور. لا، ليس بهذه الصعوبة، هذا الوضع يستطيع أن يصل إليه أي إنسان، فابن الخمس عشرة سنة، يستطيع أن يصل إليه وحتى الذي سنّه أقل من الخمس عشرة يستطيع أن يصل له.

سماحة السيد القائد يقول: يمكن لشاب مجاهد في الجبهات أن يصل إلى مقامات معنوية عالية ويختم له بالوصال ولقاء الله وهو ابن الثماني عشرة سنة، قبل أن يصل بعض العارفين السالكين بعشرات السنين.. هذا الموضوع ممكن وقد حدث.

هؤلاء الشباب وصلوا إلى مستوى الشهادة، وإلى مقام الشهادة. هؤلاء الشباب هنا في لبنان، من يركب سيارته المليئة بالمتفجرات، من يذهب إلى الموت، وصلوا إلى مستوى الشهادة وإلى مقام الشهادة. الموت له هيبة، الموت له رهبة، الموت له وضع خاص؛ ولكن كيف يقتحم الإنسان على الموت بسيارة مليئة بالمتفجرات، ووجهه يمتلئ بشراً وهو يبتسم إن لم يكن قد وصل إلى مقام؟! ليس مقام كأني أرى الجنة، بل على مقام إني أرى الجنة.. هؤلاء شهداء المقاومة الإسلامية وصلوا إلى هذا المقام وهم بأعمار السبع عشرة والثماني عشرة سنة والعشرين والخمس والعشرين إلى آخره...

مسألة الإيمان بالله تعالى لا تحتاج إلى عمر، بل إلى صفاء وقليل من التوجه، لأن الإنسان بفطرته مشدود إلى الله، قال: {ألست بربكم قالوا بلى}(29)؛ عندما يخاطب ذرية آدم، قالوا: بلى، نحن ذرية آدم بكل ما في وجودنا وكياننا وبدننا أنت ربنا.

بقليل من التوجه، وقليل من إزالة الحجب وقليل من إزالة هذه الغشاوة والوسخ الذي يحيط بقلوبنا وعقولنا، سوف نكتشف. "متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك"؟! ألم يقل هذا أبو عبد الله الحسين (ع) في دعاء عرفة؟ هل يحتاج الله إلى دليل؟ وهل هناك شيء أوضح من الله سبحانه وتعالى؟!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ــ آل عمران: 169.

2ــ آل عمران: 170.

3ــ آل عمران: 171.

4ــ البقرة: 154.

5ــ البقرة: 154.

6ــ آل عمران: 195.

7ــ آل عمران: 195.

8ــ آل عمران: 195.

9ــ النساء: 74.

10ــ النساء: 74.

11ــ النساء: 74.

12ــ محمد: 4ــ6.

13ــ كنز العمال، خ 10542.

14ــ تفسير نور الثقلين، ج1، ص517.

15ــ كنز العمال، ج4، ص313، ح10662.

16ــ بحار الأنوار، ج8 ص34.

17ــ وسائل الشيعة، ج11، كتاب الجهاد، ص10، ح20.

18ــ كنز العمال، ج4، ص421، ح11211.

19ــ كنز العمال، ج4، ص421، ح11212.

20ــ كنز العمال، ج4، ص408، ح11144.

21ــ نهج البلاغة، الخطبة 27.

22ــ نهج البلاغة، الخطبة 121.

23ــ نهج البلاغة، الخطبة 124.

24ــ الكافي، ج2، ص53.

25ــ التوبة: 38.

26ــ التوبة: 38.

27ــ النساء: 74.

28ــ انظر كنز العمال، ج4، ص418 ــ 420.

29ــ الأعراف: 172.