العلامة الشيخ عفيف النابلسي

 حينما قال الإمام الخميني الراحل: «عندما لا يكون للقوى الكبرى قاعدة فلن تستطيع الوقوف على قدميها»، فإنّه كان يدرك خطورة أتباع وذيول هذه القوى وتأثيرهم السلبي على الوحدة والاستقرار والتقدم. معظم شعوب المنطقة تعاني من الفتن والحروب الطائفية والعرقية، بسبب هذه القواعد الموجودة التي تجعل أيدي المستكبرين طويلة على ما في منطقتنا من خيرات وثروات. القواعد هي أنظمة وملوك وأمراء وزعماء ورؤساء ووزراء وجنرالات ورجال دين وأصحاب مال وتجارات وعلاقات يلتزمون بأوامر القوى الكبرى وتوجيهاتها، بحيث لا تحتاج إلى شن حرب هنا أو هناك إلا لضرورة قصوى. المنطقة تخضع، والثروات تُسرق، بهؤلاء الذين يحاذرون إقلاق أسيادهم. لذلك نبّه الإمام من أن يصبح للاستكبار موطأ قدم في إيران، لأنّ النتيجة ستكون دماراً وخراباً وصراعات ودماء وحكومة مؤيدة من الخارج تقوم بسرقة الثروات وتفقير الشعب، كما حال حكومة الشاه تماماً. ويا ليت شعوبنا تقتدي بالشعب الإيراني فلا تسمح أن تكون بلدانهم مشرّعة للمتكبرين والسراق الدوليين، ولا تسمح لأحد بالتلاعب بعقول أبنائها وعواطفهم فلا يجدون غير الحروب طريقاً لحل الخلافات بينهم.

 عندما نقول إيران نموذجاً، فإننا لا نبالغ بل نتحدث عن حقيقة ناصعة في الصبر والثبات وتحدّي الأعداء. فمنذ وفاة الإمام الخميني عام 1989، لم تتوقف جبهة الاستكبار عن التشكيك في قدرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الصمود. أما إرادة السوء والإضرار فقد ارتفعت وتيرتها بصورة سريعة حتى فُرضت العقوبات الاقتصادية التي كان يراهن عليها لسقوط النظام الذي أرسى دعائمه الإمام الخميني العظيم.

 وخلال أكثر من عقدين من الزمن أي منذ لحظة وفاة الإمام وأحابيل الاستكبار ودعايته ومخططاته ترمي إلى إعادة السيطرة على هذا البلد الحيوي، لكن القيادة الواعية والشجاعة المتمثلة بالإمام الخامنئي، واليقظة والعزيمة التي تمتع بهما الشعب الإيراني جعلت من مؤامرات الأعداء فاشلة.

 منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية كانت توجيهات الإمام الخميني تستند إلى المفاهيم الإلهية الإسلامية أي الاعتماد على الله في كل شيء، وبناء الهوية الإسلامية المستقلة، والعمل بكل الطاقات والإمكانات لبناء بلد قوي غير خاضع لهيمنة المستكبرين. لقد طوّر الأعداء وسائل متعددة للتغلغل في صفوف الشعب الإيراني وخلق الدعايات الكاذبة، وشن حروب عسكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية متواصلة لإرهاب الشعب وإرهاقه. لكن الشعب بقي في موقع الصمود ولم يُخلِ الساحات واعتمد على قوة الإرادة الإلهية لتحقيق العزة والانتصار.

 إنّه ليس من السهل على أي بلد يتعرّض لكل ما تعرّضت له الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يصمد. هناك الكثير من البلدان التي لم تستمرّ إلا سنوات قليلة ولم تستطع تحمّل العقوبات والمضايقات والحملات العسكرية والسياسية والإعلامية، لكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت بحق نموذجاً رائداً في الصمود والمقاومة والتقدم. إنّ إيران لم تخضع لمنطق الاستكبار واستطاعت بتوفيق من الله أن تتقدم في الكثير من المجالات العلمية والعسكرية والثقافية وأن تصبح من البلدان الأولى على صعيد المنطقة. واليوم على الرغم من مخططات استنزافها وجرّها إلى معارك متفرقة في العراق وسورية ولبنان واليمن إلا أنها بحمد الله تواجه كل التحديات بثبات واقتدار.

 لقد أرسى الإمام الخميني دعائم دولة ديمقراطية في وقت كان العالم العربي والقسم الأكبر من آسيا وأفريقيا يرزحان تحت الاستبداد. رسم سلوكيات النظام وغاياته حتى جعل من الممكن لأي فرد بسيط انتقاد أكبر مسؤول في الدولة بكل حرية، وجعل للجماهير القدرة على التحكم في مصيرها ومصير البلاد والإشراف على العمل السياسي، ووجّه القوى العلمائية لتبقى مندمجة وموحدة مع القوى الشعبية لإلغاء كافة صنوف التمييز والإكراه والاستبداد والطبقية والاحتكار.

 في ذكرى رحيل الإمام، كم تحتاج شعوب المنطقة للعودة إلى أطروحته التي قدمت الإسلام بفهم جديد: عودة إلى الذات الأصيلة والانطلاق منها إلى بناء سلام إنساني شامل؟!