حميد أنصاري

 

المقدمة

لا يخفى على المطّلعين على تاريخ ثورة الإمام الخميني(ره) أنّ أهم الأسس الفكرية والآراء السياسية للإمام الخميني عبارة عن ثلاثة أسس هي: (عدم الفصل بين الدين والسياسة)، (لزوم السعي من أجل إقامة الحكومة الإسلامية) و (أصل ولاية الفقيه على أنّه السبيل الوحيد لمشروعية الحكومة في عصر الغيبة).

 

وقد اعتمدت ثورة الإمام في جميع مراحلها هذه الأسس الثلاث. كما أنَّ جهود الإمام لتحقيق هذه الأسس لا تقتصر على الثورة في عامي 62 و 1963، بل إنَّ الاعتقاد والاهتمام بهذه الأسس يظهر جلياً في مؤلفه السياسي الأول كتاب (كشف الأسرار) عام 1322 هـ ش، وفي بيانه السياسي الأوّل عام 1323 هـ ش.

 

كما كانت أكثر جهود الإمام الخميني في توعية الناس في جميع مراحل جهاده السياسي تصبّ في إحياء وإثبات أحقية الأسس المتقدمة، وتوجيه أنظار المجتمع الإسلامي نحوها؛ إذ أنَّ الإمام مضافاً إلى بحوث كتاب (ولاية الفقيه) وفصل من (كتاب (البيع) والمسائل المذكورة في كتابي (تحرير الوسيلة) و (توضيح المسائل) لم يترك بيان هذه الأسس المتقدمة في خطاباته وبياناته ومقابلاته إلاّ فيما ندر.

 

وبشكل عام فإنَّ الإمام الخميني من خلال بيان وهذه الأسس بشكل مستمر وإحيائها في صميم معتقدات وقناعات الشعب الدينية قد تمكّن من بلوغ أهداف جهاده السياسي في إسقاط النظام الملكي في إيران وإقامة النظام الإسلامي.

 

بعد انتصار الثورة عمد الإمام الخميني بوصفه (ولي المجتمع الإسلامي وقائده) على قيادة هذا النظام الفتي وهدايته في أحلك الظروف ولمدة 11 سنة، معتمداً هذه الأسس ومستنداً إلى القوى الشعبية الكبيرة التي تؤمن بكل وجودها بهذه الأسس، وقد جرّبت صدق تأثيرها وإعجازها من الناحية العملية. إنّ ثبات النظام الإسلامي وبقاءه أمام كل هذه الحوادث والمؤامرات يعود بالدرجة الأولى إلى إيمان غالبية المجتمع الإسلامي بهذه الأسس.

 

كما أنَّ الإمام الخميني لم ينهج إشاعة هذه الأسس وتعميقها في المعتقدات الدينية كأسلوب يحصل من خلاله على المكاسب السياسية، بل إنّه قد أثبت صحة هذه الأسس وصدقها بوصفه عالماً إسلامياً له آراؤه في الفلسفة والعرفان والتفسير والمعارف الدينية الأخرى، وبوصفه فقيهاً ومجتهداً بصيراً بالكتاب والسنّة، وكان يرى من الواجب عليه إشاعتها من أجل إحياء الدين وتنقيته من التحريفات والافتراءات.

 

وعلى هذا الأساس فإنَّ الآيديولوجية السياسية للإمام الخميني المتميزة بالكامل عن سائر الآيديولوجيات السياسية المعاصرة سواءً في أركانها أو أجزائها، تقوم على أسس لُمست أحقّيّتها في ميدان العمل والتجربة الواقعية وكذلك من الناحية النظرية وفي مقام إثبات مشروعيتها وأحقّيّتها فقد تمّ إحياؤها ـ في الحقيقة ـ على لسان شخص يعترف العدو والصديق بأنَّه (محيي الشريعة) و (المجدد الكبير للدين والإيمان به) ولا يمكن التشكيك به في مجال المعرفة الدقيقة ومجال اختصاصه بالإسلام وأبعاده وزواياه.

 

ورغم الجهود المستمرة التي بذلت طوال تاريخ الإسلام من أجل صيانة هذه الأسس وإحياءها من قبل المصلحين المسلمين الكبار، ورغم أنَّ دوافع أكثر الثورات الشيعية وجهاد العلماء كانت من أجل تحقيق هذه الأهداف وهذه الأسس، لكن يمكننا القول بلا مبالغة إنَّ الإمام الخميني هو أوّل شخص منذ المراحل الاُولى من صدر الإسلام وفِّق على إشاعة هذه الأسس والأهداف المتقدمة مستوى واسع من العالم الإسلامي وأن يُقيم على أساسها حكومة شعبية ودينية قوية، ولعب دوراً في قيادة النظام الإسلامي قرابة إحدى عشرة سنة.

 

إنَّ ردود الفعل المستمرة والمعادية لأقوى دول العالم ودراسة مخططات الإطاحة بهذا النظام وفرض الحرب الطويلة وأنواع الضغوط العالمية إلى الآن لم تحقق نجاحاً في مواجهة أصالة الآراء السياسية للإمام الخميني والنظام الذي أرسى قواعده.

 

والآن وبعد مضي ست عشرة سنة على انتصار الثورة الإسلامية واستقرار النظام المنبثق عنها نشاهد في الآونة الأخيرة تحركات جديدة تشكك بأسس الثورة البنّاءة، وإن كان الجناح المعارض لإشاعة وتعميم هذه الأسس قد نشط منذ أمد بعيد، وفي الوقت الذي استعرض فيه الإمام الخميني رؤاه وأهدافه السياسية وتحدث عن الوحدة التي لا تقبل فصل الدين عن السياسة وعن أصالة نظام ولاية الفقيه في عصر الغيبة مستدلاً بآيات القرآن وسنة النبي وأئمة الدين التي لا يتطرق إليها الشك على لزوم الجهاد والسعي من أجل إقامة الحكومة الدينية، وبذلك فجّر أمواج الصحوة في المجتمع الإسلامي في إيران ومنذ ذلك الحين نشط التيار المخالف ابتداءً من الأطياف غير المتجانسة من الأفكار المتحجرة في الحوزات العلمية إلى اليساريين والشيوعيين الذين لا يعتقدون أساساً بالدين وثقافة الثورة وآيديولوجيتها، وابتداءً من الأحزاب السياسية الوطنية إلى العلمانيين المتمذهبين والعناصر والفئات التي تحاول الوصول إلى السلطة، والتي فقدت توازنها أمام التقدم السريع للثورة وإنجاح الأسس المتقدمة فرفعت راية الاعتراض.

 

فسعى كل واحد منهم وبشكل يتناسب مع معداته وإمكاناته، من خلال الكتابة في الصحف آنذاك ونشر الكراسات والكتب وإقامة المسيرات السياسية إلى الاعتراض والتشكيك بأصالة ومشروعية هذه الأسس على الأخص (أصل ولاية الفقيه) الذي يستبطن في الحقيقة الأصليين الآخرين. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها في مرحلة تدوين الدستور والمصادقة عليه، إلاّ أنّها لم تتمكن من الحيلولة دون دعم الشعب وإدخال هذا الأصل في الدستور.

 

وعلى صعيد العداء العالمي أيضاً واستناداً إلى إعلام الأبواق العالمية فقد خُصص الجزء الأكبر من جهود العدو الهدامة والمستمرة لتشويه هذه الأسس. فقد سعت عشرات القنوات الإذاعية والتلفازية طيلة هذه السنوات الستة عشرة إلى تخطئة فهم الإمام الخميني للإسلام والحكومة الدينية، محاولةً منها إلى زعزعة الذهنية العالمية تجاه النظام السياسي الذي يتوخّاه الإمام الخميني.

 

كان الإمام الخميني يرى أنَّ الإسلام هو عين السياسة، وأنّ اشتراك المسلمين في تحديد مصيرهم السياسي والاجتماعي تكليف إلهي. كانت أمواج هذه الأفكار الهادرة تدكّ أسس النظام اللاديني المسيطر على البلدان الإسلامية كنظام الشاه في إيران، وتهدد مصالح الغرب الواسعة فيها. ولذا ظهرت ـ على حدّ تعبير الإمام الخميني ـ كتلة من المؤيدين للإسلام الأمريكي في مواجهة الثورة الإسلامية. وقد تقبلت المملكة السعودية وبقية الأنظمة العربية الرجعية ضمن اشتراكها في مشروع محاصرة الثورة مسؤوليةً خاصة في مجال الإعلام، وتمَّ التأكيد على فصل الدين عن السياسة بالكامل، وعلى تحريف مفاهيم الإسلام الثورية.

 

ولو أجريت إحصائية عن عدد برامج الإذاعة والتلفاز والكتب والمواضيع المنشورة طيلة السنوات الستة عشرة المنصرمة للحيلولة دون انتشار أفكار الإمام الثورية في العالم، لتعرفنا عندها على حجم الأموال الطائلة المبذولة للحيلولة دون اعتناق الأفكار العامة للإمام والثورة الإسلامية. وقد أوصل تيار الإسلام الأمريكي الوضع إلى مستوى تكفير الإمام وأنصار الثورة الإسلامية وألّفوا في هذا المجال كتباً ومواضيع كثيرة.

 

وفي هذا المقال لا نتوخى بيان مدى نجاح الجبهة العالمية ـ المخالفة لأهداف الإمام الخميني السياسية ـ في إطفاء لهيب حركة اعتناق الإسلام. بل إنَّ ما نتوخاه هو تسليط الضوء على الجهود الجديدة والكتابات والآراء في داخل البلاد التي تدعو إلى إعادة النظر والتي لا تعني ـ مع غضّ النظر عن الدوافع والميول الفردية ـ سوى إلى مهاجمة دعائم الثورة والأسس التي تتكفل بقاء الثورة والنظام الإسلامي على قيد الحياة. ومن هنا ينبغي القول حقاً بأنّ أجراس الإنذار قد قُرعت مرة أخرى.

 

وفي هذه البرهة أيضاً يجب على أنصار الإمام الخميني الواعين والمؤمنين بأحقية طريقه وكلامه، والأوفياء له وللثورة والمضحين على طريقه ومن أجل تحقيق أهدافه المقدسة، والذين لا يعيرون أهمية لترهات مدّعي الفهم، والذين يفخرون بانتسابهم إلى حزب الله، والذين لا يسألون الثورة أجراً، يجب عليهم أن يهبّوا للدفاع عن حياض أسس الثورة.

 

وإذا فُتح الباب أمام إلقاء الشبهات والمطالبة بإعادة النظر في أسس الثورة فلا يبعد أن تتمهد الأرضية لاضمحلال الثورة بالتدريج، فإنّ الانحراف أوّل ما يبدأ من جذوة صغيرة وبالتدريج يتحول إلى نار شاملة من الدعوة إلى التغيير والتحريف وتسوية الأسس والقيم، خصوصاً وأنّ العدو ماكر للغاية ويتربّص الدوائر، وينتظر سماع همسة وتهيئ الأوضاع.

 

وإذا طرحت اليوم مسائل التشكيك بالأسس المقدّسة التي يُعدُّ إحياؤها إحياءً للإسلام وثورته العالمية، وإذا فُتح باب إعادة النظر في أسس الثورة البنّاءة بحجة تنوير الأفكار ومطارحة الآراء والشعارات الجذّابة، فسيشكك غداً في أصل الثورة والدين وواقعه.

 

أيُّ تنوير، وأيُّ أفكار؟ فإننا لم ننسَ الحقائق المرّة بعد ثورة الدستور والنهضة الوطنية والندوات العامرة بمثل هذه الشعارات، وكيف صار دعاة التوعية والتفكير الجديد أبطال التيار الذي أبعد المجاهدين الحقيقيين وعلماء الدين المتصدين، وأبعدوا الدين عن ساحة الحياة الاجتماعية. ومن خلال كتاباتهم وتفلسفهم والدعوة إلى اعادة النظر مهدوا الطريق أمام الاجتياح الغربي الشامل، وأغلب الذين شككوا في أسس النهضة ومشروعيتها بحجة تعميق مباحث النهضة وتنوير الأفكار، انهمكوا في خدمة أركان النظام الاستبدادي عندما سيطر المستبدّون، أو أنّهم ـ على الأقل ـ شدّوا الأحزمة وحطّوا رحالهم في البلدان الغربية.

 

ورغم أنّه لا يمكن قياس الثورة الإسلامية مع ثورات التاريخ المعاصر من جهة الماهية والأساليب ونوعية القيادة ومستوى التوعية أو صمود الشعب إلاّ أنّ تحذيرات القرآن الكريم قد علّمتنا أنّه إذا حصلت غفلة عند الواعين من المؤمنين فسيغدو من الممكن الانحراف والردة إلى الماضي الأسود حتى بالنسبة إلى أكثر الثورات أصالة.

 

ومع الأسف فمنذ مدة بدأ عزف هذا النوع من الألحان التي أشرنا لها، والآن لا تهمّنا ماهية دوافع المتحدّثين أو الكتّاب الذين يستهدفون أسس الثورة من خلال تشكيكهم، وهل هم يقدمون على ذلك عن وعي أو أنّهم يجهلون العواقب السيئة لكلامهم؟ أو ما هي نوعية ارتباطهم بالثورة؟ وهل هم من زمرة المعتزلين والنادمين أو أنّهم لم ينسجموا منذ البداية مع أسس الثورة؟ إنّما المهم هو النتائج السلبية والآثار الهدّامة لمثل هذه الكلمات المزوّقة التي تستهدف أولاً حرمة الأسس، وتوحي بإمكان الخدش بمباني الثورة.

 

وعندما تتسع رقعة التشكيك بأصالة القيم والأسس وتنتشر في المجتمع على أنّها تحول وانتماء جديد، سيجد العدو أنّ الطريق معبّد أمام هجومه الشامل.

 

طبعاً إنّ نقاط الضعف والمشاكل الطبيعية والمصطنعة الموجودة والتي حالت دون وصول الثورة الإسلامية إلى جميع أهدافها بالإضافة إلى العامل الزمني الذي ينتهي بالتدريج إلى تقاعس العناصر ذات الاُفق الضيق تمهّد الأرضية أمام العدو ليوسع نطاق التشكيك وتوظيفه أكثر من السابق.

 

إنّ إشاعة فصل الدين عن السياسة والحكم بحجة الحفاظ على قداسة الدين، والتشكيك في أصالة النظام السياسي المنبثق عن الدين ومشروعيته، والتشكيك في دائرة الاختيارات التي حددها الإمام الخميني للولي الفقيه الحاكم في المجتمع الإسلامي على ضوء آيات القرآن وسنة النبي والأحكام الفقهية والتي جاءت في نصّ الدستور، ومعاهدة الشعب للثورة الإسلامية، وإشاعة ضرورة عزل علماء الدين عن الخوض في الأمور السياسية والتنفيذية بذريعة الحفاظ على قدسيتهم ما هي إلا همهمات يمكن مشاهدة آثارها البارزة في طيات مواضيع وحوارات بعض الصحف والمنشورات والاجتماعات.

 

وبالنسبة إلى الذين جعلوا من العلمانية الغربية كعبة آمالهم الفلسفية والسياسية ولم يهضموا أبداً مباني وأهداف الإمام والثورة ولم يؤمنوا بها، وفي السابق ختموا أفواههم بالسكوت تحيّناً للفرصة وأخذوا حالياً ببث مكنوناتهم الذهنية بمختلف العناوين لا نترقّب منهم سوى بث بذور الشك واليأس من الثورة. ولكن العجيب من الذين كانوا يدّعون الثورية ونصرة الإمام والذين هم مدينون في شخصهم ووجودهم الاجتماعي لهذه الدعوى وهذه النصرة، كيف يدعمون تيار إعادة النظر في أسس وأركان ومنجزات الثورة من خلال سكوتهم بل وحتى مجارات هذا التيار من خلال تسليمه ما بأيديهم من إمكانات بحجة حرية الكلمة ومطارحة الأفكار؟!.

 

وكأنّ هؤلاء لا تهمهم تبعات هذا التيار والحقائق المرة التي سمعناها وقرأناها مراراً في تاريخنا الماضي. فلو شُكك اليوم بأهلية الدين ونطاق دخالته ففي الغد سينكر أصل الدين، وإذا قيل حالياً بأنّ الدين مقولة تنحصر بحدود الآخرة والأمور الفردية والعبادية والروحية ففي المستقبل سيتم إنكار أصل وجود هذه الحدود والحاجة إليها، وإذا اُشيع اليوم أمر استقلال الإنسان في مجال الطبيعة وحقه ومقدرته على اتخاذ القرار في جميع شؤونه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغناه عن الوحي والأحكام الإلهية في هذا الخصوص، ففي المستقبل سوف لا يبقى أثر للدين والإيمان به في جميع المجالات، ولو شكك اليوم في ضرورة تواجد الدين والأفكار الدينية على صعيد الحكومة فغداً ستنكر أحقية النظام المنبثق عن الدين، ولو خضعت اليوم آراء مؤسس الثورة والنظام الإسلامي ومواد الدستور بشأن سلطات وحدود سيطرة الولي الفقيه إلى التساؤل والتشكيك، ففي المستقبل سينكر أصلها وأساسها. ولابدّ من القول ـ ومع الأسف الشديد ـ إنّ همسات هذه التساؤلات تقرع الأسماع حالياً.

 

نشاهد حالياً أنّ العلمانيين ـ المتلونين بصبغة دينية ـ الذين وجدوا أنفسهم محجّمين في الساحة السياسية قد وظّفوا أقلام التشكيك في المباحث الفلسفية والفكرية والثقافية. وإذا كان تشكيكهم وخلافهم في الأمس يقتصر على إنجازات الثورة الثانية ومواجهة النظام الإسلامي لأمريكا ومشروعية ثمان سنوات من الدفاع المقدّس، وضرورة إصدار الحكم على سلمان رشدي بالارتداد والمواقف السياسية الأخرى للنظام الإسلامي، فإنّ هذا التشكيك قد طال اليوم الأسس والمباني.

 

إنّ الفوضى الفكرية والثقافية التي تعم مثل هذا الجو تضع فرصة ذهبية بيد الثقافة المعادية، وعندما تُنتهك حرمة التشكيك بالأسس تبدأ الثقافة التي انهزمت سابقاً أمام انتعاش وحيوية واستحكام القيم وأسس الثورة والتي اندحرت في أغلب المواطن والتي اتخذت لنفسها وضعاً دفاعياً بالانتعاش فتنبري، وسيظهر ذلك الجو من الفوضى الفكرية المفعمة بالتشكيك والميل إلى إعادة النظر والاعتقاد بنسبية القيم والأسس التي هي النقطة التي تجمع الحاقدين على الثورة، فيشرع كل من لم يجد مدوحة في هذه السنوات الستة عشرة بعد الانتصار لبث ما في ضميره أمام صلابة القيم التي تحكم المجتمع الثوري، ببث عقده وسيشكل ويتفلسف ليثبت أنّ مواقفه المعارضة كانت على حق وأنّ الثورة قد أنحرفت في تلك القضية وذلك الموقف.

 

وبذلك يسعى ـ وفي مثل هذا الجوّ ـ إلى التشكيك بجميع إنجازات وقيم الثورة من جهة، ومن جهة أخرى يغتنم الفرصة جميع الذين لم يقرّوا الأسس الاعتقادية والسياسية للثورة أو الذين انحرفوا عنها في منتصف الطريق، فيشيعون العقائد والأسس المناهضة لأسس الثورة الفكرية، والذي يُضحّى به هو أحقية الثورة والقيم المنبثقة عنها، ولا يجني ثمار ذلك غير العدو.

 

ونحن وإن كنا لا نقول بأنّ مثل هذا الجو موجود فعلاً إلا أنّنا لو افتقدنا الحنكة الثورية وتأثّرنا بالضغوط النفسية التي يقوم بها الذين يتمنون حدوث مثل هذا الجو، أو أننا إذا مهّدنا الطريق أمام بث سموم الأفكار الأخرى من خلال نظريات خاطئة من قبيل (حرية الكلمة والكتابة) و (سعة الصدر) و (مطارحة الأفكار والآراء)، فلا يمكننا أن نضمن عدم حدوث مثل هذا الجو المسموم وتلك الظروف التي يتمناها الأعداء المترصدون.

 

فعندما حذّر قائد الثورة الإسلامية العظيم بعد وفاة الإمام من إقامة أعداء الثورة تياراً ثقافياً شاملاً، لو كنا قد أخذنا هذا التحذير بجدّية وكنا قد لمسنا قرب الخطر ـ كما لو أنّ شخصاً أخبرنا بهجوم العدو عسكرياً فنهب للدفاع عن أنفسنا بشكل مناسب ونستطلع مواطن ضعفنا وقوتنا ونقاط ضعف العدو وقوته، فكذلك بالنسبة إلى الجبهة الثقافية لو أنّنا أعددنا أنفسنا ـ لما تجرأ اليوم شخص على الاستهزاء بقيم وإنجازات الثورة بحرية، بل ويشككون حتى بأسس الثورة ويقومون بنشر أفكار العدو وفلسفته الدخيلة. والعجيب إنّهم يتظلمون وتعلوا أصواتهم على عدم إعطائهم جميع الإمكانات والأبواق وأنّ الظروف ليست آمنة بالنسبة لهم بشكل تام ليكتبوا ويقولوا ما شاءوا!!.

 

إنّ المفكّر الحقيقي والمخلص لثقافة أمته وثورتها ليس الذي يسلك طريق المعارضة غير آبهٍ بالتبعات، إذا رأى فراغاً ووجد فرصة فيعرض على أمته بضاعة التحول الفكري، باحثاً عن القيم الفلسفية والفكرية من خلال ضربه لقيمه وثقافته الوطنية ومدحه عناصر الثقافة المستوردة ويغدو بوقاً لعقيدة وفكر يتربع صاحبه في الغرب منتظراً انحراف المجتمع الثوري عن أسسه.

 

المفكر الحقيقي هو الذي يعتبر من التاريخ الماضي والذي يتعرّف على عدوه بشكل كامل ويتعرّف على مقاصده وأساليبه الهجومية والثغرات التي يمكنه التغلغل منها ثانية، والذي يعتز بالقيم والأسس التي مكّنت مواطنيه من الاستمرار في حياتهم أمام هجوم العدو الشامل، والذي يكون سبّاقاً إلى سدّ طريق زحف العدو، لا أن ينسجم مع العدو ويمهّد له طريق العودة، ومن هنا يمتاز المفكّر المخلص عن المفكر الخائن.

 

وفي ختام هذا الموضوع نذكر بعض توجيهات مؤسس الثورة الإسلامية في بيان أسس الثورة الثابتة، والتي ثبات أصل النظام الإسلامي وبقاؤه رهن الحفاظ على قداستها:

 

«إنّ شعار فصل الدين عن السياسة من دعايات الاستعمار الذي يحاول صدّ الشعوب المسلمة عن حقها في تقرير مصيرها، في حين أنّ أحكام الإسلام المقدسة قد بحثت الأمور السياسية والاجتماعية أكثر من الأمور العبادية، كما أنّ مواقف نبي الإسلام من أوضاع المسلمين الداخلية والخارجية تدلّ على أنّ إحدى المهام الكبيرة لشخص الرسول الأكرم(ص) هو جهادهُ السياسي، كما أنّ استشهاد أمير المؤمنين(ع) وكذلك الحسين(ع) وإلقاء الأئمة(ع) في السجون وتعذيبهم ونفيهم وسمّهم كلّه كان بسبب جهاد الشيعة السياسي ضد الظالمين. وباختصار: إنّ الجهاد والنشاط السياسي هو جزء مهم من الواجبات الدينية»(1).

 

«إنّ القرآن الكريم ـ الذي هو بين أيدي المسلمين والذي لم تنقص منه كلمة، ولم يزد عليه أو ينقص حتى حرف واحد من بداية الإسلام وإلى يومنا هذا ـ عندما تتدبّرونه تجدون أنّ الدعوة لم تكن لحث الناس على الجلوس في بيوتهم وتلاوة القرآن والانقطاع إلى الله... بل إنّ الدعوة كانت دعوة للاجتماع والسياسة وإدارة البلاد، وفي الوقت الذي تعدّ فيه هذه الأمور كلها من العبادات، بحيث إنّ العبادة لم تكن منفصلة عن السياسة والمصالح الاجتماعية»(2).

 

«لو أمكنكم استيعاب مفهوم الدين في ثقافتنا الإسلامية لرأيتم بوضوح أنّه لا يوجد أدنى تضاد بين القيادة الدينية والقيادة السياسية، بل كما أنّ الجهاد السياسي يشكّل جزءً من الواجبات الدينية والمذهبية فكذلك قيادة وهداية الجهاد السياسي يشكّل جزءً من واجبات القائد الديني»(3).

 

«إنّ الإسلام في الوقت الذي دعا فيه الإنسان إلى عبادة الله وبيَّن له كيفية العبادة، علّمه كيف يعيش وكيف ينظم علاقاته بسائر أفراد البشر، بل وحتى كيف يقيم المجتمع الإسلامي ارتباطاته بالمجتمعات الأخرى، وليس هناك تحرك أو عمل يصدر عن الفرد أو المجتمع إلاّ وللشرع الإسلامي فيه حكم. ومن هنا كان من الطبيعي أن يكون مفهوم القيادة الدينية والمذهبية هو قيادة علماء الدين في جميع الشؤون الاجتماعية إذ أنّ الإسلام قد تكفّل بهداية المجتمع في جميع الشؤون والأبعاد»(4).

 

«إنّ الإسلام ليس بالشيء الذي يفكّر بطرف واحد من الحقيقة بل له حكم في جميع أطراف القضايا. فجميع القضايا المتعلقة بالدنيا والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وجميع القضايا المتعلقة بالطرف الآخر من الحقيقة والتي يجهلها أهل الدنيا لها حكم في الإسلام، والأديان التوحيدية جاءت لتوضيح كلا طرفيها ولتحكم بشأنها، لا أن تحكم بشأن طرف وتهمل الطرف الآخر بل إنّها تنظر إلى الطرفين وخاصة الإسلام الذي يؤكدّ على هذا المعنى أكثر من جميع الأديان الأخرى»(5).

 

«إنّ الله تعالى أقام ـ إلى جانب تنزيل القوانين أي أحكام الشرع ـ حكومة وسلطة تنفيذية وإدارية، وكان الرسول الأكرم(ص) على رأس السلطة التنفيذية والإدارية للمجتمع المسلم، فبالإضافة إلى إبلاغ الوحي وبيان العقائد والأحكام وأنظمة الإسلام كان يقوم بتطبيق الأحكام وإجراء النظم الإسلامية ليقيم الدولة الإسلامية، ولم يكتفِ فقط ببيان القانون الجزائي وإنّما قام بتنفيذه أيضاً... وبعد الرسول الأكرم(ص) فإنَّ للخليفة هذه المسؤولية والصلاحية، فإنّ الرسول الأكرم(ص) عندما عيَّن الخليفة لم يعيّنه لبيان العقائد والأحكام فقط، وإنّما عيّنه كذلك لإجراء الأحكام وتنفيذ القوانين. كانت المهمة هي إجراء الأحكام وإقرار النظم الإسلامية، وهذا هو الذي جعل تعيين الخليفة على هذا الجانب من الأهمية والذي لولاه لما كان النبي الأكرم(ص) «قد بلغ رسالته»(6).

 

«يجب على الفقهاء مجتمعين أو منفردين أن يقيموا الحدود ويحافظوا على الثغور والنظام، وأن يقيموا الحكومة الشرعية، ولو أمكن ذلك لشخص فإنّه يجب عليه عينياً، وإلاّ فهو واجب كفائي، وفي حالة عدم الإمكان لا تسقط الولاية»(7).

 

«إذا قام شخص كفوء وتوفرت فيه هاتان الصفتان (العلم والعدالة) وأقام حكومة فإنّه سيحصل على تلك الولاية الثابتة للرسول الأكرم(ص) في أمر إدارة المجتمع، وعلى جميع الناس أن يطيعوه، وأنَّ توهم كون صلاحيات الرسول الأكرم(ص) بشأن الحكومة كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين(ع) أو أنّ صلاحيات أمير المؤمنين(ع) أكثر من الفقيه توهم باطل وخاطئ. طبعاً إنّ فضائل الرسول الأكرم(ص) أكثر من جميع العالمين، وبعده فإنّ فضائل أمير المؤمنين(ع) أكثر من الجميع، إلاّ أنّ كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد من الصلاحيات الحكومية»(8).

 

«إنّ الحكومة التي هي فرع عن ولاية رسول الله(ص) المطلقة ما هي إلاّ واحدة من أحكام الإسلام الأولية وهي مقدمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصيام والحج»(9).

 

«لا تسلكوا طريقاً مخالفاً لطريق الشعب والإسلام، ولا تتصوروا أنّ المشروع الذي وضعه الإسلام يؤدي إلى القضاء على الإسلام، فإنّ هذا التصوّر لا يصدر إلاّ عن جاهل. لا تقولوا بأننا نؤمن بولاية الفقيه، إلاّ أنّ ولاية الفقيه تؤدي إلى ضياع الإسلام! فإنّ هذا يعني تكذيب الأئمة والإسلام، وأنتم تقولون ذلك من حيث لا تشعرون»(10).

 

«يقال: دعوا علماء الدين يحافظوا على قدسيتهم، إنّ معنى ما يقال في قدسية علماء الدين هو أن ينحصر عملهم بالمسجد والمحراب ويتركوا السياسة للامبراطور. وهذا بحث في أنّ المسجد لعالم الدين والسياسة لقيصر إنّ الإسلام ونبي الإسلام وأولياءه رغم قداستهم مارسوا هذه الأمور مع المحافظة على القدسية والربانية، فكانوا يعيدون المنحرفين عن السلوك الإنساني، وكانوا يحافظون على سياسة الدولة، ولا منافاة بينه وبين القداسة... إنّ هذا المنطق يقول: حافظوا على قدسيتكم ولا شأن لكم بالحكم وأحداث الدولة السياسية، فمعنى ذلك أنّهم يقولون: إنّ رسول الإسلام(ص) وأمير المؤمنين(ع) لم يحافظا على قداستهما؟!...

 

إنّ الذي يقول: دعوا عالم الدين يحافظ على قداسته، يقول إنّ أمير المؤمنين لم يكن ذا قداسة لأنّه تورط في أمور الدولة... فيتّضح أنّ هذا القائل لا يريد الحفاظ على قدسيتنا وإنّما يحاول بدهائه أن يستغفلنا ويبعدنا، ليأتي أسياده ويستلمون زمام السلطة. لابدّ من ملاحظة هذه الأمور بدقة، دقّقوا في الخطب التي يلقيها هؤلاء، فإنّ لديهم إشكالات واهية يحاولون من خلالها إغفال دولتكم وشعبكم»(11).

 

«إنّ مسألة ولاية الفقيه ليست مسألة أبدعها مجلس صيانة الدستور، وإنّما هي مسألة وضعها الله تبارك وتعالى وهي عين ولاية رسول الله»(12).

 

«إنّ المسألة هي مسألة الحكومة والسياسة، إنّ الحكومة هي عِدل السياسة بتمام معناها، وقد أمر الله تبارك وتعالى النبي أن يعطي مقاليد هذه الحكومة لأمير المؤمنين. كما أنّه قد كانت لرسول الله نفسه سياسة، ولا يمكن إقامة حكومة بلا سياسة، وقد ثبتت هذه السياسة وهذه الحكومة الذائبة في السياسة لأمير المؤمنين في يوم غدير خم»(13).

 

«عيّن الرسول الأكرم قبيل وفاته الخليفة والخلفاء إلى زمان الغيبة، وهؤلاء الخلفاء عيّنوا إمام الأمة، وبشكل عام لم يتركوا هذه الأمة وشأنها حائرة وإنّما عيّنوا لها إماماً وقائداً، وقد تصدّى أئمة الهدى لهذا المنصب في حياتهم، وبعدهم نصّوا على تعيين الفقهاء المتدينين الذين يعرفون الإسلام والزاهدين والمعرضين عن الدنيا وبهارجها، والمخلصين لهذا الشعب والذين يعتبرون أفراد الشعب مثل أبنائهم، فقد عمد الأئمة على تعيين هؤلاء للدفاع عن هذه الأمة»(14).

 

المصادر:

 

__________

1 ـ (أهداف الثورة الإسلامية) مختارات من آراء الإمام الخميني وأفكاره، ص 121، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام.

2 ـ م. ن، ص 119.

3 ـ م. ن، ص 119.

4 ـ م. ن، ص 118.

5 ـ م. ن، ص 118.

6 ـ م. ن، ص 125.

7 ـ م. ن، ص 151.

8 ـ م. ن، ص 149.

9 ـ م. ن، ص 152.

10 ـ صحيفة النور: ج 9 ص 170.

11 ـ صحيفة النور: ج 9 ص 182.

12 ـ صحيفة النور: ج 10 ص 27.

13 ـ صحيفة النور: ج 20 ص 28.

14 ـ صحيفة النور: ج 10 ص 174.