بالسند المتّصل إلى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أبان، عن حكيم، قال: «سألت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ عَنْ أَدْنَى الإِلْحَادِ، فَقَاَل: الكِبْرُ أَدْنَاهُ»([1]).

 

الشرح:

الكبر عبارة عن حالة نفسية تجعل الإنسان يترفع ويتعالى على الآخرين. ومن إماراته تلك الأعمال التي تصدر عن الإنسان، والآثار التي تبدو منه بحيث يقال عنه أنه متكبر. وهذه الصفة هي غير العُجب، بل هي كما سبق قوله، صفة رذيلة وخبيثة، تنجم عن العجب، لأن العجب هو الإعجاب بالذات، والكبر هو التعالي والتعاظم على الناس. فعندما يتوهم الإنسان أي فيه صفة من صفات الكمال، تنتابه حالة، هي مزيج من السرور والتدلّل والتغنّج وغيرها. هذه هي صفة «العُجب» ولكونه يرى الآخرين لا يملكون تلك الصفة التي يتوهمها في نفسه، ينتابه شعور آخر هو تصور التفوق والتقدم، وهذا يؤدي إلى التعاظم والترفع، وهذه هي صفة «الكِبَر».

إن كل هذه الحالات تكون في القلب وفي الباطن، وتظهر آثارها على الظاهر، في الملامح وفي الأفعال وفي الأقوال. وبهذا يصبح الإنسان مغروراً وإذا ازداد أصبح معجبا بنفسه، وعندما يطفح إعجابه بنفسه يتعاظم ويترفع ويتكبر.

واعلم أن الصفات النفسانية، سواء أكانت من صفات النقص والرذيلة أم من صفات الكمال والفضيلة، فإنها دقيقه ومبهمة جدّاً. ولهذا فإن التمييز بينها والتعرّف عليها يكون في غاية الصعوبة، ولربما يقع الكثير من الاختلاف بين العلماء الأعلام عند تحديدها، أو أنه يصعب وضع تعريف لهذه الصفة الوحدانية من دون أن تصيبها منقصة. لذلك فمن الخير ترك هذه الأمور للوجدان نفسه، ونحرر أنفسنا من اصطناع لمفاهيم حتى لا نتخلف عن الهدف المقصود والمنشود.

فلا بد أن نعرف أن للكبر درجات تشبه الدرجات التي ذكرناها في العجب. ويضاف عليها درجات أخرى ذات صلة بالعجب أعرضنا عن ذكرها هناك لعدم أهميتها، ولكننا نتعرض إليها هنا لكونها مهمة فنقول:

أما الدرجات التي ورد شبيهها في العجب فهي أيضاً ست:

1 ـ الكبر بسبب الإيمان والعقائد الحقّة. ويقابله الكبر بسبب الكفر والعقائد الباطلة.

2 ـ الكبر بسبب الملكات الفاضلة والصفات الحميدة. ويقابله الكبر بسبب الأخلاق الرذيلة والملكات القبيحة.

3 ـ الكبر بسبب العبادات والصالحات من الأعمال. ويقابله الكبر بسبب المعاصي والسيئات من الأعمال.

وكل درجة من هذه يمكن أن تكون وليدة مثيلتها من الدرجات العجب. وقد تكون وليدة سبب آخر سوف تأتي الإشارة إليه فيما بعد. أما الذي نحن بصدده هنا على وجه الخصوص فهو الكبر بسبب أمور خارجية، مثل الحسب والنسب والمال والجاه والرئاسة وغيرها. ولسوف نشير إن شاء الله خلال الفصول اللاحقة إلى بعض مفاسد هذه الرذيلة وعلاجها قدر الإمكان، سائلين الله تعالى التوفيق لحصول تأثير ذلك فينا وفي الآخرين.

 

فصل: في بيان درجات الكبر

اعلم أن للكبر، من منظور آخر، درجات:

الأولى: التكبر على الله تعالى.

الثانية: التكبر على الأنبياء والرسل والأولياء صلوات الله عليهم.

الثالثة: التكبر على أوامر الله تعالى، وهذا يرجع إلى التكبر على الله.

الرابعة: التكبر على عباد الله تعالى، وهذا أيضا يراه أهل المعرفة راجعا إلى التكبر على الله.

أما التكبر على الله فهو أقبحها وأشدها هلكة ويأتي على رأس درجات الكبر، وتراه في أهل الكفر والجحود ومدّعي الألوهية، وقد تراه أحيانا في بعض أهل الدين ولا يناسب ذكره هنا. وهذا هو منتهى الجهل وعدم معرفة «الممكن» حدود نفسه وعدم معرفة مقام «واجب الوجود».

وأما التكبر على الأنبيء والأولياء، فكثيرا ما كان يحصل في زمان الأنبياء قال تعالى على لسانهم:

{... أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا...}([2]).

وقال تعالى على لسان آخرين منهم: ـ

{... لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}([3]).

وفي صدر الإٍسلام وقع الكثير من التكبر على أولياء الله، وفي هذا الزمان أيضاً نجد نماذج منه في بعض المحسوبين على الإسلام.

وأما التكبر على أوامر الله فيظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحج بحجة أنه لا يستسيغ مناسكه من إحرام وغيره. أو يترك الصلاة لأن السجود لا يليق بمقامه، بل قد يظهر ذلك أحيانا عند أهل النسك والعبادة وأهل العلم والتدين، كأن يترك الآذان تكبرا، أو لا يتقبل مقولة الحق إذا جاءت ممن هو قريب له أو دونه منزلة.

فقد يسمع الإنسان قولاً من زميل له فيردّه بشدة ويطعن في قائله، ولكنه إذا سمع ذلك الق ول نفسه، من كبير في الدين أو الدنيا، قَبِلَهُ([4]). بل قد يكون جادا في ردّ الأول وجادّاً أيضا في قبول الثاني. إن شخصا هذا شأنه لا يكون من طلاب الحق، بل يكون تكبره قد أخفى عنه الحق، وأعماه تملّقه لذاك الكبير وأصمّه. ومثل هذا التكبر يتصف به أيضا من يترك تدريس علم أو كتاب باعتباره لا يليق به، أو يرفض تدريس أشخاص لا مركزية لهم، أو لأن عددهم قليل، أو يترك صلاة الجماعة في مسجد صغير ولا يقتنع بعدد من المأمومين حتى وإن علم أن في مثل تلك الجماعة رضا الحق تعالى. وقد تصبح هذه الحال من الدقة بحيث أن صاحبها لا يدرك أن عمله هذا يرجع إلى الكبر، إلاّ إذا تدارك الأمر بإصلاح نفسه وتخلّص من مكائد هذه الحال.

أما التكبر على عباد الله فأقبحه التكبّر على العماء بالله، ومفاسده أكثر من كل شيء وأهم. ومن هذا التكبر رفض مجالسة الفقراء، والتقدم في المجالس والمحافل، وفي المشي، وفي السلوك. وهذا النوع من التكبر رائج وشائع بين مختلف الطبقات، ابتداء من الأشراف والأعيان والعلماء والمحدّثين والأغنياء حتى الفقراء والمعوزين، إلاّ من حفظة الله من ذلك.

إن التمييز بين التواضع والتملّق، والتكبر والإباء يصبح أحياناً على درجة كبيرة من الصعوبة، فلابُدَّ للإنسان أن يتعوذ بالله ليهديه إلى طريق الهداية، وإذا تصدّى الإنسان لإصلاح نفسه وتحرك نحو المقصود، فإن الله تعالى سوف يشمله برحمته الواسعة وييسّر له سبيل الهداية.

 

فصل: في الأسباب الأساسية للتكبر

للكبر أسباب عديدة ترجع كلها إلى توهم الإنسان الكمال في نفسه، مما يبعث على العُجب الممزوج بحب الذات، فيحجب كمال الآخرين ويراهم أدنى منه ويترفع عليهم قلبياً أو ظاهرياً. فمثلاً، قد يحصل ب ين علماء العرفان أن يتصور أحدهم نفسه من أهل العرفان والشهود ومن أصحاب القلوب والسوابق الحسنى، فيترفع على الآخرين ويتعاظم عليهم. ويرى أن الحكماء والفلاسفة سطحيون، وأن الفقهاء والمحدّثين لا يتجاوزون الظاهر في نظراتهم، وأن سائر الناس كالبهائم. وينظر إلى عباد الله بعين التحقير والازدراء. ويذهب هذا المسكين ينمق الحديث

عن الفناء في الله والبقاء بالله، ويدق طبل التحقق. مع أن المعارف الإلهية تقضي حسن الظن بالكائنات، فلو أنه كان قد تذوق حلاوة المعرفة بالله لما تكبّر على مظاهر جمال الله وجلاله بحيث أنه في مقام العلم والبيان يصرح خلاف حاله، ولكن الحقيقة هي أن هذه المعارف لم تدخل قلبه، بل إن هذا المسكين لم يبلغ حتى مقام الإنسان ولكنه يتشدق بالعرفان، ومن دون أن يكون له حظ من العرفان يتحدث عن مقام التحقق.

إن من بين الحكماء أيضاً أناساً، يرون أنهم بما يملكون ن براهين ومن علم بالحقائق، وبكونهم من أهل اليقين بالله وملائكته وكتبه ورسله، ينظرون إلى سائر الناس يعين التحقير، ولا يعتبرون علوم الآخرين، علوما، ويرون عباد الله جميعا ناقصي علم وإيمان، فيتكبرون عليهم في الباطن، ويعاملونهم في الظاهر بكبرياء وغرور، مع أن العلم بمقام الربوبية، وفقر الممكن (المخلوق)، يقضيان بخلاف ذلك. والحكيم من تحلّى بملكة التواضع بوساطة العلم بالمبدأ والمعاد.

لقد وهب الله لقمان الحكمة بنص من القرآن الكريم ومن جملة وصايا ذلك العظيم لإبنه، كما ورد في القرآن الكريم:

{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.

ونجد في الذين يدّعون الإِرشاد والتصوف وتهذيب الباطن، أشخاصا يعاملون الناس بالتكبر ويسيؤون الظن بالعلماء والفقهاء وأتباعهم، ويطعنون بالعلماء والح كماء، ويرون الناس، عدا أنفسهم ومن يلوذ بهم، من أهل الهلاك. وبما أنهم صفر اليدين من العلوم، يصفون العلوم بأنها أشواك الطريق، ويرون أصحابها شياطين طريق السالك، مع أن كل ما يزعمونه لأنفسهم من مقام يقتضي خلاف ذلك كله. إن من يدعي أنه هادي الخلائق ومرشد الضالّين يجب أن يكون هو بنفسه منزّها عن المهلكات والمُوبقات، زاهداً في الدنيا، غارقاً في جمال الله، لا يتكبر على حلقه ولا يسيء الظن بهم.

كذلك نجد أحيانا بين الفقهاء وعلماء الفقه والحديث وطلاّبهما من ينظر إلى سائر الناس بعين الإحتقار ويتكبّر عليهم، ويرى نفسه جديرا بكل إكرام وإعظام، ويعتقد إن من المفروض على الناس أن يطيعوا أمره إطاعة عمياء، وأنه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، وما من أحد يستحق الجنة، في رأيه، إلاّ هو مع أفراد معدودون مثله وكلما جاء ذكر طائفة مقترنا بأيعلم من العلوم طعن فيهم، من دون أن يعترف بأي علم سوى علمه القليل الذي يتمتع به ويرى أن تلك العلوم تافهة وغير نافعة ومدعاة للهلاك، فيرفض العلماء وسائر العلوم جهلا وسفها، ويُظهر كأن تديّنه هو الذي يحتم عليه أن يحتقرهم ويستهين بهم مع أن العلم والدين منزّهان عن أمثال هذه الأطوار والأخلاق. إن الشريعة المطهرة تحرم التصريح بقول من دون علم. وتوجب الحفاظ على كرامة المسلم. أما هذا المسكين الذي لا معرفة له بالدين ولا بالعلم، فيعمل على خلاف قول الله ورسوله، ثم يقول إن ذلك من صلب الدين، مع أن سيرة السلف والخلف من العلماء العظام تكون مغايرة لهذا. إن كل علم من العلوم الشرعية يقضي بأن يتصف العلماء بالتواضع، وأن يقتلعوا جذور التكبر من قلوبهم. ولا يوجد علم يدعو إلى التكبر ويرفض التواضع. وعليه، سوف نبيّن العلة في كون علم هؤلاء الأشخاص يخالف عملهم.

إن الكبر منتشر بين علم اء سائر العلوم الأخرى أيضا، في الطب والرياضيات والطبيعة، وكذلك أصحاب الصناعات الهامة، كالكهرباء والميكانيك وغيرهما. إنهم أيضا لا يقيمون وزناً للعلوم الأخرى مهما تكن، ويحتقرون أصحابها، وكل منهم يحسب أن ما عنده وجده هو العلم، وما عند غيره ليس بعلم، فيتكبر على الناس في باطنه وظاهره، مع أن ما عنده من علم لا يستدعي مثل هذا التكبر. وهناك من غير أهل العلم، مثل أهل النسك والعبادة، من يتكبّر أيضا على الناس ويتعالى عليهم، ولا يعتبر الناس حتى العلماء من أهل النجاة، كلها جرى حديث عن العلم قال: ما فائدة علم بلا عمل؟ العمل هو الأصل. إنهم يهتمون بما يقومون به من عمل وطاعة، وينظرون بعين الاحتقار إلى جميع الطبقات، مع أن المرء إذا كان من أهل الإخلاص والعبادة ينبغي لعمله أن يصلحه. فالصلاة تنهى

عن الفحشاء والمنكر، وهي معراج المؤمن، ولكن هذا الذي أمضى خمسين سنةفي الصلاة وأداء الواجبات والمستحبات مصاب برذيلة الكبر التي هي من الإلحاد، وبالعُجب الذي هو أكبر من الفحشاء، وبالتقرب من الشيطان وخلقه.

إن الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء ولا تحافظ على القلب، بل لكثرتها تبعث على ضياع القلب، إن مثل هذه الطاعة ليست بصلاة. إن صلاتك التي تحافظ عليها كثيرا وتحرص على إقامتها، إذا كانت تقربك من الشيطان وخصيصته من الكبر، فهي ليست بصلاة، لأن الصلاة لا تستدعي ذلك.

كل هذه الأمور تحصل من العلم والعمل. أما الذي يحصل من غير ذلك فيرجع أيضا إلى تصور المرء بأنه يمتلك إحدى الكمالات وأن غيره يفتقر إليها. فهذا الذي يملك الحسب والنسب يتكبّر على من لا يملكهما. وقد يتكبر صاحب الجمال على فاقده، وطالبه، أو إذا كان كثير الأتباع والأنصار أو ذا قبيلة كبيرة أو له تلامذة كثيرون، وأمثال ذلك، فإنه يتعالى ويكتبّر على الذي ليس له مثل ذلك.

وبناء على ذلك، فإن سبب الكبر إنّما هو تصور وجود كمال موهوم، والابتهاج بذلك والعُجب به، ورؤية الآخرين خلواً منه. وقد يحدث أحيانا أن صاحب الأخلاق الفاسدة والأعمال القبيحة يتكبّر على غيره، ظانّاً أن ما فيه، ضرب من الكمال. وعلى الرغم من أن المتكبر قد يمتنع أحيانا لسبب ما من إظهار التكبر علانية، ولا يفصح عن أي أثر لذلك، إلا أن هذه الشجرة الخبيثة تمد جذورها في قلبه ولا بُدَّ أن يتبين أثر ذلك منه إذا خرج عن طوره الطبيعي، كأن يستولي عليه الغضب فيفلت منه الزمام، وإذا به تظهر عليه إمارات الكبرياء والتعاظم، ويباهي الآخرين بما عنده من علم أو عمل أو أي شيء آخر ويفاخرهم به.

وفي أحيان أخرى قد لا يهتم بإخفاء تكبره على من حوله، كما لو كان العنان قد أفلت من يده فتظهر آثار الكبر في أعماله وحركاته وسكناته، كأن يتقدم في المجالس ويسبق الآخرين في الدخول والخروج، ولا يسمح للفقراء بحضر مجالسه، ولا يحضر مجالسهم، ويحيط نفسه بهالة من الحرمة، ويظهر التعالي في مشيته وفي نظرته وفي حديثه مع الناس.

يقول أحد المحققين، والذي أخذنا منه الكثير من أصول هذا البحث

وترجمناه: «إن أدنى درجة الكِبر في العالِم هي أن يدير وجهه عن الناس كأنه يعرض عنهم، وفي العابد هي أن يعبس في وجوه الناس ويقطب جبينه، وكأنه يتجنبهم أو أنه غاضب عليهم، غافلا من أن الورع ليس في تقطيب الجبين، ولا في عبوس ملامح الوجه، ولا في البعد عن الناس والإعراض عنهم، ولا في ليّ الجِيد، وطأطأة الرأس، ولملمة الأذيال، بل الورع يكون في القلب» لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هاهنا التقوى» وأشار إلى صدره.

وقد يظهر الكبر على اللسان بتبيان المفاخرة والمباهاة وتزكية الذات. فهذا العابد، وهو في مقام التفاخر، يقول: إنني قمت بكذا عمل. فينتقص بهذا من الآخرين عن طريق إضفاء الأهمية على أ عماله. وأحيانا لا يصرح بذلك، ولكنه قد يتفوه بما يوحي بأنه يزكّي ذاته. والعالم يقول للآخرين: ما أدراك أنت؟ إنني طالعت الكتاب الفلاني مرات عديدة، وأمضيت سنوات لدى المجامع العلمية، ورأيت عددا من أساطين العلم وأساتذته، لقد أجهدت نفسي كثيرا، صنّفت وألّفت الكتب الكثيرة، وما إلى ذلك. وعلى كل حال. ينبغي أن نتعوذ بالله من شرَّ النفس ومكائدها.

 

فصل: في مفاسد الكبر

اعلم أن لهذه الصفة القبيحة بحد ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخض عنها مفاسد أخرى كثيرة. إن هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظاهرية والباطنية والاستمتاع من الحظوظ الدنيوية والأُخروية. إنها تبعث في النفوس الحِقد والعداوة، وتحط من قدر الإنسان في أعين الخلق وتجعله تافهاً، وتحمل الناس على أن يعاملوه بالمثل تحقيراً له واستهانة به.

جاء في «الكافي» عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

 (مِنً عَبدٍ إلاَّ وَفِي رَأْسِهِ حِكَمَة وَمَلِكٌ يُمْسِكِهَا، فَإِذَا تَكَبَّرَ قَالَ لَهُ: اتّضعْ وَضَعَكَ اللهُ، فَلا يَزَالُ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَصْغَرُ النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ. وَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. ثُمَّ قَالَ: انْتَعِشْ الله، فَلا يَزَالُ أَصْغَرُ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَرْفَعُ النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ) ([5]). أيها فيا أيها العزيز ما يحتوي عليه رأسك من الدماغ، تحتويه رؤوس الآخرين أيضاً، إذا كنت متواضعا، احترمك الناس قهرا واعتبروك كبيرا، وإذا تكبرت على الناس لم تنل منهم شيئا من الاحترام. بل إذا استطاعوا أن يذلوك لأذلوك ولم يكترثوا بك. وإن لم يستطيعوا إذلالك، لكنت وضيعا في قلوبهم، وذليلا في أعينهم، ولا مقام لك عندهم. افتح قلوب الناس بالتواضع فإذا أقبلت عليك القلوب ظهرت آثارها عليك وإن أدبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك.

فإذا فرضنا أنك كنت من المبتغين للاحترام والمقام الرفيع، لكان اللازم عليك أن تسلك الطريق الذي يفضي بك إلى الاحترام والسمو، وهو مجاراة الناس والتواضع لهم. إن التكبر ينتج ما هو على خلاف طلبك وقصدك. إنك لا تكسب من وراء التكبر، نتيجة دنيوية مجديه، بل ستحصد من ورائه نتيجة معكوسة. ويضاف إلى ذلك أن مثل هذا الخلق يوجب الذل في الآخرة والمسكنة في ذلك العالم. فكما إنك احتقرت الناس في هذا العالم، وترفعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة والاحتشام، كذلك تكون صورة هذا التكبر في الآخرة، الهوان كما ورد في الحديث الشريف من كتاب أصول الكافي:

بإسناده، عن داود بن فرقد، عن أخيه، قال: «سَمِعْتُ أبا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يقول: إِنَّ المُتَكَبِّرينَ يُجْعَلُنَ في صُوَرِ الذَّرِّ يَتَوَطّاهُمُ النّاسُ حَتّى يَفْرَغَ اللهُ مِنَ الحِسابِ» ([6]).

وجاء في وصايا الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه:

«إِيّاكُمْ وَالعَظَمَةَ وَالكِبْر، فإنَّ الكبرَ رِداءُ الله عَزَّ وجَلَّ فَمَنْ نازَعَ اللهَ رِداءَهُ قَصَمَهُ اللهُ وَأَذَلَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»([7]).

ولا أعرف بأن الله تعالى إذا أذل شخصاً ماذا يصنع به؟ وبماذا يبتليه؟ لأن أمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا كثيراً، فإن الذل في الدنيا يغاير الذل في الآخرة، كما أن نعم الآخرة وعذابها، لا تتناسب مع هذا العالم، إن نعمها تفوق تصورنا، وإن عذابها لا يخطر على بالنا. إن كرامتها أسمى من تصورنا، والذل فيها يختلف عن الذل والهوان الذي نعرفه، وتكون عاقبة المتكبر النار ففي الحديث «الكبرُ مَطايَا النّارِ» ([8]) فلا يرى الجنة من كان في قلبه كبراً. كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم «لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» ([9]). وقد حدث الإمام الباقر والإمام الصادق ـ عليهما السلام ـ أيضاً بهذا المضمون. وفي حديث الكافي الشريف أن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«العِزُّ رِدَاءُ اللهِ، والكِبْرُ إِزَارُهُ، فَمَنْ تَناوَلَ شِيْئاً مِنْهُ أَكبَّهُ اللهُ في جَهنَّمَ» ([10]).

وما أدراك ما جهنم التي أعدها الله للمتكبرين. فهي غير جهنم التي أُعدَّت لسائر الناس. يكفي ن نورد هنا الحديث الذي سبق أن ذكرناه:

عن محمّد بن يعقوب، عن عَليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبن أبي عمير، عن أبن بكير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إِنَّ في جَهَنَّمَ لَوادياً لِلْمُتَكَبِّرِينَ يُقالُ لَهُ» سقَرُ «شكى إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ شِدَّةَ حَرِّه وِسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فتَنَفَّسَ فَأَحْرَقَ جَهَنَّمَ» ([11]). والحديث في غاية الاعتبار (من حيث السند) بل هو كالصحيح.

أعوذ بالله من مكان رغم كونه دار عذاب، تشكو حرارته، فتتنفس فتحترق جهنم من جرّاء تنفسها. إننا لا نستطيع أن ندرك شدة حرارة نار الآخرة في هذا العالم، إذ أن أسباب شدة العذاب وضعفه تختلف مع أسباب شدة العذاب الدنيوي وخفتها من جهات عديدة:

فمن جهة، تتبع قوة الإدراك وضعفه؛ إذ كلما كان المدرك أقوى والإدراك أتم وأنقى كان إدارك الألم والعذاب أكثر.

ومن جهة أخرى، تعتمد على اختلاف المواد التي يقوم بها الحس في تقبّل الحرارة، لأن المواد تختلف من حيث تقبل الحرارة. فالذهب والحديد، مثلاً، يتقبلان الحرارة أكثر من الرصاص والقصدير. وهذان يتقبلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان أكثر من الجلد واللحم.

كما أن لمستوى ارتباط قوة الإدراك بالموضع المقابل للحرارة أثراً في شدة وضعف العذاب. فمثلاً المخ الذي يكون تقبله للحرارة. أقل من العظام، يكون تأثره أشد، لأن قوة الإدراك فيه أكبر. وأن للحرارة نفسها من حيث كمالها ونقصانها، دوراً في الشدة والضعف فالحرارة التي تصل إلى مائة درجة تؤلم أكثر من الحرارة التي تصل إلى درجة خمسين.

كما أن لمدى ارتباط المادة الحرارية الفاعلة بالمادة المتقبلة لها سبباً في تخفيف أو تشديد العذاب. فمثلا، إذا كانت النار قريبة من اليد كان الاحتراق أخف مما إذا لتصقت النار باليد.

جميع هذه الأٍسباب الخمسة المذكورة تكون في هذه الدنيا في منتهى النقص وفي الآخرة في منتهى كمال القوة والتمامية. إن جميع إدراكاتنا في هذا العالم ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ولا تناسبه. إن أعيننا لا ترى اليوم الملائكة ولا جهنم، وآذاننا لا تسمع الأصوات العجيبة والغريبة التي تصدر من البرزخ وأصحابه ومن القيامة وأهلها، وحواسنا لا تحس بالحرارة هناك، كل ذلك لأنها ناقصة جميعاً. إن الآيات والأخبار الواردة عن أهل البيت صلوات الله عليهم مشحونة بذكر هذا الأمر، تلويحاً وتصريحاً. إن جسم الإنسان في هذا العالم لا يتحمل الحرارة، إذ لو بقى ساعة واحدة في النار الباردة من الدنيا لاستحال إلى رماد. ولكن الله القادر يجعل هذا الجسم يوم القيامة قابلا للبقاء في نار جهنم ـ التي شهد جبرائيل بأنه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنم التي طول الواحد منها سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدة حرارتها ـ من دون أن يذوب. فقابلية جسم الإنسان للحرارة يوم القيامة لا تقاس بقابليته لها في دار الدنيا.

أما ارتباط النفس بالجسد في هذت الدنيا فضعيف وناقص، ففي هذا العالمُ يستعصي على النفس أن تظهر فيه بكامل قواها، أما الآخرة فهي عالم ظهور النفس. إن نسبة النفس إلى الجسد نسبة الفاعلية والخلاقية، كما هو ثابت في محله، وهي أتم مراتب النسبة والارتباط.

ونار هذه الدنيا نار باردة ذاوية وعرضية ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة. أما نار جهنم، فنار خالصة لا تشوبها شائبة، وجوهر حي قائم بذاته ذو إرادة يحرق أهله بإدراك وإرادة، ويشدد الضغط عليهم بقدر الإمكان. ولقد سمعت الصادق المصدق الأمين جبرائيل، وهو يصفها. والقرآن والأخبار مليئة بوصفها. أما ارتباط نار جهنم والتصاقها بالجسم فلا شبيه له في هذا العال، ولو تجمّعت جميع نيران العالم وأحاطت بإنسان لما أحاطت بغير سطح جسمه. أما نار جهنم، فتحيط بالظاهر والباطن وبالحواس المدركة وما يتعلق بها. إنها نار تحرق القلب والروح والقوى، وتتحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالم.

فيتبيّن مما ذكر أن هذا العالم لا تتوافر في وسائل العذاب بأي شكل من الأشكال، فلا مواده ـ العالم ـ جديرة بالتقبل، ولا مصادره الحرارية تامة الفاعلية، ولا الإدراك تام. إن النار التي تستطيع أن تحرق جهنم بنَفَسٍ منها، لا يمكن أن نتصورها ولا أن ندركها، إلاّ إذا كنا ـ لا سمح الله ـ من المتكبرين، انتقلنا من هذا العالم إلى الآخرة قبل أن نطهّر أنفسنا من هذا الخُلق القبيح، حيث نراها رأي العين {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}([12]).

 

فصل: في بيان بعض عوامل التكبر

 

اعلم إن من عوامل التكبر، فضلاً عمّا سبق ذكره من الأسباب، هو صغر العقل، وضعف القابلية، والضعة، وقلة الصبر. فالإنسان لضيق أُفقه ما أن يجد في نفسه خصلة مميّزه حتى يتصور لها مقاماً ومركزاً خاصاً. ولكنه لو نظر بعين العدل والإِنصاف إلى كل أمر يتقنه وكل خصلة يتميز بها، لأدرك أن ما تصوره كمالاً يفتخر به ويتكبر بسببه، إمّا أنه ليس كمالاً أصلاً، وإمّا أنه إذا كان كمالاً فإنه لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين، وأنه كمن صفع وجهه ليحسب الناس احمرار وجهه نتيجة النشاط والحيوية. كما قيل: «اِسْتَسْمَنَ ذا وَرَمٍ» ([13]). فعلى سبيل المثال أن العارف الذي ينظر من خلال عرفانه إلى الناس جميعاً بعين الازدراء متكبّرا، أو يقول عنهم أنهم قشريون وسطحيون. ترى أنه لا يملك شيئاً من المعارف الإلهية، سوى حفنة من المفاهيم التي لا تعدو جميعا من أن تكون حُجُباً تغطي الحقائق، أو مطبات في الطريق، ومجموعة من المصطلحات ذات البريق الخادع مما لا علاقة لها بالمعارف الإلهية، وبعيدة كل البعد عن معرفة الله وعن العلم بأسمائه وصفاته؟ إن المعرفة صفة القلب. وكاتب هذه السطور يعتقد أن جميع هذه العلوم هي علوم عملية، لا مجرد معرفة نظرية وحياكة مصطلحات. لقد رأينا خلال هذا العمر القصير والمعرفة القليلة ضمن من يسمون بالعرفاء والعلماء في سائر العلوم، أشخاصا ـ أقسم بالعرفان والعلم ـ إنهم لم يتأثروا قلبيا بهذه الاصطلاحات، بل كان لها تأثير معكوس عليهم.

أيها العزيز! إن العرفان بالله، كما تعلم، يحيل القلب إلى محل تتجلى فيه أسماء الله وصفاته وينزل فيه السلطان الحقيقي الذي يمحو آثار التلوث ويطرد التعيّن:

{... إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}([14]). إنه يجعل القلب أحدياً أحمدياً، فلماذا صار قلبك والهاً بجمالك، وزاد في تلونك، وضاعف في تعيناتك وإضافاتك وأبعدك عن الحق تعالى وتجليات أسمائه، وجعل قلبك موطناً للشيطان فتنظر عباد الله، وأصحاب أبواب الحق، ومظاهر جمال المحبوب، نظرة تحقير وازدراء؟ إنك تتكبر على الله، وتتفرعن في حضرة ذات الله وأسمائه وصفاته.

يا طالب المفاهيم، ويا مضيّع الحقائق! تمهل، أنظر إلى ما لديك من المعارف فما الأثر الذي تراه من الحق وصفاته في نفسك؟ ولعل علم الموسيقى والإِيقاع أدق من علمك، واصطلاحات العلوم الأخرى كالفلك والميكانيك وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، تساوي اصطلاحات علمك ودقته تماماً، فكما أن تلك العلوم ليس لها عرفان بالله، فكذلك علمك الذي حجبته الاصطلاحات وسجف المفاهيم والاعتبارات، لا يرجى منه تغير في نفس ولا حال، ([15]) بل إن تلك العلوم لدى منطق العلوم الطبيعية والرياضية أفضل مما هو لديك من العلم، لأن تلك العلوم تنتج شيئاً، وليس لعلمك ناتج، أو أن ناتجة معكوس. فالمهندس ينال نتيجة هندسته والصائغ نتيجة صنعته، أمّا أنت فقد قصرت يدك عن النتائج الدنيوية، ولم تصل إلى نتائج عرفانك. فحجابك أثقل وأسمك، وما أن يدور الكلام عن الأحديّة حتى يغشاك ظلام غير متناه، وما أن تسمع عن حضرة أسماء الله وصفاته حتى تتصور كثرة غير متناهية. إذاً لم تعثر على الطريق إلى الحقائق والمعارف من هذه الاصطلاحات، بل صارت مدعاة للتفاخر والتكبر على العلماء الحقيقيين. إن المعارف التي تزيد من كدر القلب ليست بمعارف، والويل لمعارف تجعل عاقبة صاحبها وارثاً للشيطان!

إن الكبر من أخلاق الشيطان الخاصة. فقد تكبّر على أبيك آدم، فطرد من حضرة الله، وأنت أيضاً مطرود لأنك تتكبر على كل الآدميين من أبناء آدم. ومن هنا أيضاً يجب أن تفهم حال سائر العلوم الأخرى. إن الحكيم إذا كان حكيما وعرف نسبته إلى الخلق وإلى الحق، خرج الكبرياء من قلبه واستقام أمره. ولكن هذا المسكين الذي يركض وراء المصطلحات والمفاهيم يظن أنها هي الحكمة، وأنها هي التي تصنع العالم والحكيم، فمرة يرى نفسه متصفة بالصفات الواجبة، فيقول: «الحكمةُ هِيَ التَشَبُّهُ بِالإِله([16]ِ)» ومرة يحسب نفسه في زمرة الأنبياء والمرسلين، فيقرأ: {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}([17])، وأحيانا يقرأ: «الحِكْمَةُ ضالَةُ المُؤْمِنِ» ([18]). {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}([19])، ولكن ما أجهله بالحكمة وما أبعده عنها وعن خيراتها؟!

يقول الحكيم المتألّه وفيلسوف الإسلام الكبير، المحقق الداماد([20])، رضوان الله عليه: «الحكيم من كان جسده كالرداء له، متى ما شاء خلعه». فانظر إلى ما يقوله هو وما نقوله نحن! وما أدركه هو من الحكمة وما أدركنا نحن منها! إذاً، فأنت الذي تتباهى ببضعة اصطلاحات ومفاهيم وتتكبر على الناس، إنما ذلك دليل ضيق نفسك وقلة صبرك وعدم أهليتك!.

إن من يرى نفسه مرشد الخلائق وهاديهم، ويجلس على كرسي التصوف والتوجيه، يكون أسوأ حالا من المسعف والمتصوف، وأكثر دلالاً منهما. إنه سرق المصطلحات منهما وأسبغ بعض المظاهر على بضاعته في السوق، وصرف قلوب الناس عن الله ووجّهها نحو نفسه ودفع بذلك الإنسان الطيّب النقي السريرة، على إساءة الظن بالعلماء وعامة الناس. ولكن يعطي أسواقهم شيئاً من الرواج، يطعمون الناس، عن وعي أو بدون وعي، بعضا من مصطلحاتهم الجذّابة، ظانّين أن ألفاظاً مثل «مجذوب علي» أو «محبوب علي» سوف تمنحهم حقا حالاً من الانجذاب والحب!.

نتيجة هذه الأسماء التي يستعملها الدراوشة والمدعون للعرفان. أنت يا طالب الدنيا وسارق المفاهيم، إن عملك هذا كما تظنه لا يدعو إلى الفخر والتكبر! إن المسكين لقلة صبره وصغر عقله ينخدع حتى بنفسه، فيرى لنفسه مقاما، وقد امتزج فيه حب النفس وحب الدنيا مع المفاهيم المسروقة والإضافات والاعتبارات، فأصبح مولوداً مشوهاً، إذ نشأ عن تجمعها مزيج عجيب وخليط غريب. وعلى الرغم من كل هذه العيوب يحسب نفسه مرشد الخلائق وهادي الأمة إلى النجاة، ومالك سر الشريعة! بل قد تتجاوز وقاحته الحدود، فيرى نفسه في مقام الولاية الكلية. وهذا ناشئ أيضاً من صغر العقل وضيق القلب والصدر وقلة الاستعداد والأهلية.

وأنت أيضاً يا طالب علوم الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية، لا تملك من علمك أكثر من حفنة من الاصطلاحات الخاصة بالأصول والحديث، فإذا لم يضف إليك علمك هذا الذي كله عمل، شيئاً ولم يستطع إصلاحك، بل أنتج المفاسد الأخلاقية والعملية، فإن عملك أحط من عمل علماء العلوم الأخرى وأتفه بل أقل عمل كل العوام. إن هذه المفاهيم العرضية والمعاني الحرفية والدخول في منازعات لا طائل وراءها ولا علاقة لمعظمها بدن الله بالعلوم حتى تسميها بالثمرة العلمية، أن هذه المفاهيم لا تستوجب كل هذا الابتهاج والتكبر. والله يشهد وكفى بالله شهيدا أنه لو كانت هذه هي نتيجة العلم، دون أن تستطيع هدايتك، ودون أن تبعد عنك المفاسد الأخلاقية والسلوكية، فإن أحط الأعمال خير من عملك لأن تلك نتائجها عاجلة ومفاسدها الدنيوية والأخروية اقل. وأنت أيها المسكين لا تنال سوى الوزر والوبال، ولا تحصد غير المفاسد الأخلاقية والأعمال القبيحة. وعليه، فإن عملك من حيث الاعتبار العلمي ليس فيه ما يدعو إلى التكبر، بل كل ما في الأمر إنك أفقك العلمي، ما أن تضع اصطلاحاً فوق اصطلاح حتى تحسب نفسك عالما وسائر الناس جهلاء وتفترش أجنحة الملائكة تحت أقدامك وكأنها تطير بك، وتضيّق على الناس في المجالس وفي الطرقات. وتقدح بالعلم وعلمائه وتحتقر نظرائك في النوع.

ولكن الأحطَّ من هذا والأحقر مكانة هو ذلك الذي يتكبّر ويتباهى بالأمور الخارجية، مثل المال، والجاه، والخدم، والحشم والقبيلة. فهذا المسكين بعيد عن الخلق البشري والأدب الإنساني فارغ اليد من كل العلوم والمعارف. ولكن بما أن ملابسه من أجود الأصواف، وأباه فلان ابن فلان، فهو يتكبّر على الناس. فما أضيق عقله وأشد ظلام قلبه! إنه يقتنع من كل الكمالات باللباس الجميل، ومن كل جمال بالقبعة والرداء! يرتضي المسكين مقام الحيوانية ويقبل بحظها، ويقتنع من جميع المقامات السامية الإنسانية بالصورة الخالية من كل شكل ومضمون، والفارغة من الحقيقة، ظانّاً نفسه بهذا أنه ذو مقام. وفي الواقع إنه على درجة من الضعة ومن عدم اللياقة، بحيث أنه إذا شاهد أحداً أعلى منه مرتبة واحدة دنيوية تخضّع له كما يتخضّع العبد لسيده. لا شك أن من لا همّ له سوى الدنيا، لا يكون إلاّ عبداً للدنيا ولأهلها. وأن يغدو ذليلا لدى من يتزلف ويستذل لديهم.

وعلى كل حال، يعتبر ضيق أُفق الفكر وانحطاط القابلية من هم عوامل الكِبرٍ، لذلك فمن يتصف بهذا يتأثر بالأمور التي ليست من الكمال، أو ليست من الكمالِ اللائق، تأثراً شديداً يدفع به إلى العُجْب والكبر. وكلما كثر حبه للنفس وللدنيا، ازداد تأثرا بهذه الأمور.

 

فصل: في بيان معالجة الكبر

بعد ما عرفت مفاسد الكبر، حاول أن تعالج نفسك مشمّراً عن ساعد الجد للبحث عن العلاج، واشحذ همّتك لتطهير القلب من هذا الدرن، وأزل الغبار والأتربة عن مرآته. فإذا كنت ممن قويت نفوسهم، واتسعت صدورهم، ولم يتجذر حب الدنيا في قلبك، ولم يبهرك زبرجها وزخرفها، وكانت عين إنصافك مفتوحة، فإن الفصل السابق خير علاج علمي لك. وإذا لم تكن قد دخلت هذه المرحلة، ففكّر قليلا في حالك، فلعل قلبك يصحو.

فيا أيها الإنسان الذي لم تكن شيئاً في أول أمرك، وكنت كامنا دهور العدم والآباد غير المتناهية، ما هو الأقل من العدم واللاشيء على صفحة الوجود؟ ثم لمّا شاءتْ مشيئة الله أن يظهرك، إلى عالم الوجود فمن جرّاء قلة قابليتك الناقصة وتفاهتك وضعتك وعدم أهليتك لتقبل الفيض، أخرجك من هيولى العالم ـ المادة الأولى ـ التي لا تكون سوى القوة المحضة والضعف الصرف، إلى صورة الجسمية والعنصرية، التي هي أخسّ الموجودات وأحطّ الكائنات، ومن هناك أخرجك نطفة لو مسّتها يدك لاستقذرتها وتطهّرت منها، ووضعك في منزل ضيق رجس هو خصيتي الأب، وأخرجك من مجرى البول في حالة مزرية قبيحة، وأدخلك في رحم الأم من مكان تنفر من ذكر أسمه. وحوّلك هناك إلى علقة ومضغة، وغذّاك بغذاء يزعجك سماع أسمه ويخجلك. ولكن بما أن الجميع هذا هو حالهم وتلك هي بليتهم، زال الخجل «والبَلِيَّةُ إِذا عَمَّتْ طابَتْ».

في كل هذه التطورات كنت أرذل الموجودات وأذلها وأحطها، عاريا عن إدراك ظاهري وباطني، بريئا من كل الكمالات. ثم شملتك رحمته وجعلك قابلا للحياة، فظهرت فيك الحياة رغم كونك في أشد حالات النقص، بحيث أنك كنت أحط من الدودة في أمور حياتك، فزادت برحمته تدريجيا قابليتك على إدارة شؤون حياتك، إلى أن أصبحت جديرا بالظهور في محيط الدنيا، أظهرك في هذه الدنيا من خلال أشد المجاري ضعة، وفي أوطأ الحالات، وأنت أضعف في الكمالات وشؤون الحياة، وأدنى من جميع مواليد الحيوانات الأخرى. وبعد أن منحك بقدرته قواك الظاهرية والباطنية، ما زلت ضعيفاً وتافهاً بحيث أن أيّاً من قواك ليست تحت تصرفك، فلست بقادر على المحافظة على صحتك، ولا على قواك ولا على حياتك، ولست بقادر على الاحتفاظ بشبابك وجمالك. وإذا ما هاجمتك آفة أو انتابك مرض فلست بقادر على دفعهما عنك. وعلى العموم، ليس تحت تصرفك شيء من ذلك. لو جعت يوما لتنازلت حتى لأكل الجيفة، ولو غلبك العطش لما امتنعت عن شرب أي ماء آسن. وهكذا أنت في شؤونك الأخرى عبد ذليل مسكين لا قدرة لك على شيء. ول وقارنت حظك من الوجود ومن الكمالات بما لسائر الموجودات، لوجدت أن ك وكل الكرة الأرضية، بل وكل المنظومة الشمسية، لا قيمة لكم مقابل هذا العالم الجسماني الذي هو أدني العوالم وأصغرها.

أيها العزيز! إنك لم تر سوى نفسك، والذي رأيته لم تضعه موضع الاعتبار والمقارنة. حاول أن تنظر إلى نفسك وما تملك من شؤون الحياة وزخارف الدنيا وقارنها بمدينتك. وقارن مدينتك بوطنك، ووطنك بسائر الدول في الدنيا التي لم تسمع بأكثر من واحدة بالمائة منها، وقارن كل الدول بالكرة الأرضية، والأرض بالمنظومة الشمسية، وبالكرات الواسعة التي تعيش على فتات أشعة الشمس المنيرة، وقارن كل المنظومة الشمسية الخارجة عن محيط فكري وفكرك، بالمنظومات الشمسية الأخرى التي تعد شمسنا وجميع سياراتها، واحدة من سيارات إحدى تلك المنظومات التي لا يمكن أن تقارن شمسنا معها، والتي يقال أن ما اكتشف منها حتى الآن يبلغ عدة ملايين من المجّرات، وأن في هذه المجرة القريبة الصغيرة عدة ملايين من المنظومات الشمسية التي تكبر أصغر شمسها على شمسنا ملايين المرات وتسطع نور أكثر. هذه كلها من العوالم الجسمانية التي لا يعرفها إلاّ خالقها، وإن ما اكتشفت منها لا يبلغ الجزء الضئيل منها. وكل عوالم الأجسام هذه لا تكون شيئاً بالقياس إلى عالم ما وراء الطبيعة، فهناك عوالم لا يمكن للعقل البشري أن يتخيلها.

هذه شؤون حياتك وحياتي وهذه حظوظنا ونصيبنا من عالم الوجود. وعندما تشاء إرادة الله أن تتوفاك وتنقلك من هذه الدنيا، فإنه يأمر جميع قواك بالاتجاه نحو الضعف وجميع حواسك بالتوقف عن العمل، فتختل أجهزة وجودك، ويذهب سمعك وبصرك وتضمحل قواك وقدراتك، فتصبر قطعة جماد تزكم بعد أيام رائحتك العفنة، أنوف الناس وتؤذي مشامّهم، ويهربون من صورتك وهيئتك، وما أن تمضي عليك أيام أخر حتى تهترأ أعضاؤك وتتفسخ. هذه هي أحوال جسمك، أما أحوال أموالك وثروتك فأمرها معروف.

أما عالم برزخك: فإنك إن انتقلت من هذه الدنيا ـ لا سمح الله ـ قبل أن تصلحه فالله يعلم كيف تكون صورتك، وكيف تكون أحوالك، إذ أن قوى الإدراك في هذا العالم عاجزة عن أن تسمع أو ترى أو تشم شيئاً من ذلك العالم. إن ما تسمعه عن ظلمة القبر ووحشته وضيقه إنما تقيسه على ما في هذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق، مع أن هذا القياس وهذه المقارنة باطلة. نسأل الله أن ينجينا مما أعددنا لأنفسنا بأنفسنا!.

إن عذاب القبر أنموذج من عذاب الآخرة والمستفاد من بعض الأحاديث أن أيدينا تقصر عن الوصول إلى شفاعة الشفعاء في القبر([21])، فيا له من عذاب! إن نشأة الآخرة أشد وأفظع من جميع الحالات السابقة. إنه يوم تبرز فيه الحقائق، وتنكشف فيه السرائر، وتتجسد فيه الأعمال والأخلاق. يوم تصفيه الحساب، يوم الذلة في المواقف. تلك هي أحوال يوم القيامة!.

أما حال جهنم التي تكون بعد يوم القيامة فأمرها معلوم أيضاً. إنك تسمع أخباراً عن جهنم! إن النار ليست وحدها عذاب جهنم. فلو أن باباً منها انفتحت على عينيك وعلى هذا العالم لهلك أهلها خوفا. وكذلك لو انفتحت باب أخرى على أذنيك، وأخرى على خياشيمك، لو أن أيّاً منها فتح على أهل هذا العالم لهلكوا جميعا من شدة العذاب.

يقول أحد علماء الآخرة: مثلما أن حرارة جهنم أشد ما تكون، كذلك برودتها أشد ما تكون. والله تعالى قادر على أن يجمع الحرارة والبرودة([22]). هكذا هي نهاية حالك.

إذاً، فالذي أوله عدم غير متناه، وهو منذ أن يضع قدمه في الوجود تكون جميع تطوراته قبيحة وغير جميلة، وكل حالاته مخجلة، وكل من دنياه وبرزخه وآخرته أفجع من الأخرى، بم يتكبر؟ بأي جمال أو كمال يتباهى؟ إن من كان جهله أكبر وعقله أصغر كان تكبره أكثر ومن كان علمه أكثر وروحه أكبر وصدره أوسع، كان تواضعه أكثر.

النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الإلهي، وكانت روحه من العظمة بحيث أنها بمفردها غلبت نفسيات كل البشر، إن هذا النبي قد وضع جميع العادات الجاهلية والأديان تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم دائرة النبوة بشخصه الكريم، وكان هو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أي شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراما، وإذا دخل مجلسا لم يتصدر ويتناول الطعام جالسا على الأرض قائلا: إنني عبد، أكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد([23]).

لقد نقل عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب أن يركب الحمار من دون سرج، وأن يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبي، وفي سيرته أن ه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام، ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، يحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم([24]). هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنه فضلا عن مقامه المعنوي كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهرية.

وهكذا قد اقتدى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ كانت سيرته من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم([25]).

فيا أيها العزيز! إذا كان التكبر بالكمال المعنوي، فقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أرفع شأناً، وإذا كان بالرئاسة والسلطان، فقد كانت لهما الرئاسة الحقة. ومع ذلك، كانا أشد الناس تواضعا. فاعلم، أن التواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجهل وانعدام المعرفة، فامسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط، وأتصف بصفات الأنبياء، واترك صفات الشيطان، ولا تنازع الله في ردائه ـ الكبرياء ـ فمن ينازع الحق في ردائه فهو مغلوب ومقهور بغضبه، ويُكَبُّ على وجهه في النار.

وإذا عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العملي، أمر يسير مع شيء من المثابرة، وإنه طريق لو اتصفت بهمة الرجال وحرية الفكر وعلو النظر، فلن تصادفك أية مخاطر. فإن الأسلوب الوحيد على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولإتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما. إنه لا يوجد سبيل أفضل لقمع النفس من الاتصاف بصفة التواضع ومن السير وفق مسيرة المتواضعين فحيثما تكن درجة التكبر عندك، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل، أعمل قليل بخلاف هوى نفسك، فإن مع الإلتفات إلى الملاحظات العلمية تجاه التكبر، والانتباه إلى النتائج المطلوبة. إذا رغبت بأن تتصدر المجلس متقدما على أقرانك، فخالفها وأعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت نفسك تأنف من مجالسة الفقراء والمساكين، فمرِّغ أنفها في التراب وجالسهم، وآكلهم، ورافقهم في السفر، ومازحهم وقد تجادلك نفسك فتقول لك: إن لك مقاماً ومنزلة، وإن عليك أن تحافظ على مقامك من أجل ترويج الشريعة والعمل في سبيلها، فمجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك من القلوب، وإن المزاح مع مَنْ هو دونك، يقلل من عظمتك، وجلوسك في ذيل المجلس يحط من هيبتك، فلا تقدر أن تؤدي واجبك الشرعي على خير وجه!! اعلم، أن هذه كلها من مكائد الشيطان والنفس الأمارة. لقد كان مقام رسول الله صلى عليه وآله وسلم في الدنيا من حيث الرئاسة والمركز أرفع منك، ومع ذلك كانت سيرته هي التي قرأت عنها وسمعت بها.

لقد عاصرت شخصيا من العلماء من كانت لهم الرئاسة والمرجعية الدينية كاملة في دولة واحدة، بل ولكل الشيعة في العالم وكانت سيرتهم تلي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

منهم، الأستاذ المعظم والفقيه المكرم الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي([26]) حيث كانت له رئاسة الشيعة ومرجعيتهم من 1340هـ([27]) حتى 1355هـ([28]). كان سيرته عجيبة، كان يرافق الخدم في السفر، ويؤاكلهم، ويفترش الأرض، ويمازح صغار الطلبة. وخلال أيام مرضه في أواخر حياته، كان يخرج بعد المغرب يتمشى في الشارع وقد لفّ رأسه بقطعة قماش بسيطة متنعلاً حذاءاً بسيطاً من دون أي اهتمام بالمظهر، وكان هذا يزيد من وقعة في القلوب، من دون أن تصاب هيبته بأي اهتزاز أو وهن.

وكان هناك آخرون من علماء قم ممن لم يلتفتوا أبدا إلى هذه التقيدات التي يحيكها لك الشيطان. كانوا يشترون حاجياتهم من السوق بأنفسهم، ويحملون الماء من مخازن المياه إلى بيوتهم، ويشتغلون في منازلهم.

وكان صدر المجلس وذيله سواء عندهم. وكانوا على درجة من التواضع بحيث تبعث على التعجب ومع ذلك كله كان مقامهم محفوظا بل كانت منزلتهم تسمو في قلوب اناس أكثر فأكثر.

وعلى أي حال، إن صفة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وصفة علي بن أبي طالب عليه السلام لا تقلل من قدر الإنسان إذا اتصف بها. ولكن لا بُدَّ من ينتبه الإنسان إلى مكائد النفس في هذه الحالات، لأنها كثيرا ما تكون قد أعدت لك فخّاً آخر لتوقعك فيه. فقد يجلس ـ أحدهم من يريد التخلص من الكبيرـ في ذيل المجلس بهيئة من يريد أن يقول أن مقامه أرفع من مقامات الحاضرين، ولكنه لتواضعه جلس حيث. وإذا التبس على الناس الأمر وقدّموا عليه من يشك في أفضليته عليه، فإنه ـ من يهرب من صفة التكبر ـ يقدم على نفسه من لا يشك في تأخره عنه لكي يزيل ذلك الالتباس بالإيحاء بأن تأخيره في الدخول على المجالس وتقديم الآخرين على نفسه يكون من باب التواضع. هذه ومئات الأمثلة الأخرى من هذا القبيل هي من مكائد النفس التي تريد للإنسان التكبر والرياء.

فلا بُدَّ من المجاهدة الخالصة الصادقة وبها يمكن إصلاح النفس. إن جميع الصفات النفسانية قابلة للإصلاح، إلاّ أن الأمر في البداية يتطلب بعض العناء، ولكن ما أن يضع قدمه على طريق الإصلاح حتى يسهل عليه الأمر. إنما المهم هو أن يشرع في التفكير في تطهير نفسه وإصلاحها، والاستيقاظ من النوم.

إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية هي «اليقظة» وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة من سكر الطبيعة، والإدراك بأن الإنسان مسافر، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زاد وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي هذه الطريق الضيقة، على الصراط الذي هو أحدَّ من السيف وأدق من الشعرة([29])، هي همّة الرجال وعزمهم. والنور الذي ينير ظلام هذا الطريق، هو نور الإيمان والخصال الحميدة. فإذا تقاعس الإنسان ووهنت همته أخفق في العبور، وانكب على وجهه في النار، وساوى تراب الذل، وانقلب في هاوية الهلاك. فمن لم يستطع اجتياز هذا الصراط لا يستطيع اجتياز صراط يوم القيامة أيضاً.

فيا أيها العزيز، أشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجهل، وانج بنفسك من هذه الورطة المهلكة! كان إمام المتقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: «تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ»([30])! وما زادٌ ينفعك سوى الكمالات النفسانية، وتقوى القلب، والأعمال الصالحة، وصفاء الباطن، وخلوص النية من كل عيب وغش.

فإذا كنت من أهل الإيمان الناقص والصوري، فعليك أن تطهّر نفسك من هذا الغش حتى تنضم إلى زمرة السعداء والصالحين. والغش يزول بنار التوبة والندم، وبإدخال النفس في أتون العذاب واللوم، وصهرها في حرارة الندامة والعودة إلى الله. عليك أن تعمل في هذا العالم، وإلاّ فإن {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}([31]). سوف تذيب قلبك. والله أعلم كم قرن من قرون الآخرة يستغرق إصلاحك هذا!! إن التطهر في هذه الدنيا سهل يسير، فالتغّيرات والتصورات سريعة الوقوع فيها، أما في العالم الآخر فالتغيير يكون بشكل آخر، فزوال صفة من صفات النفس قد يستغرق قرونا عديدة.

إذاً، أيها الأخ، ما دمت في مقتبل عمرك، وزهرة شبابك، وأوج قوتك، وحرية إرادتك، سارع لإصلاح نفسك، ولا تلق بالاً لهذا الجاه والمقام، وطأ على هذه الاعتبارات بقدميك إنك إنسان، فأبعد نفسك عن صفات الشيطان، فلعلّ الشيطان يهتم بهذه الصفة اهتماماً كبيراً لكونها صفة من صفاته. وهي التي أدت إلى طرده من حضرة الله، ولذلك فهو يريد أن يوقع الإنسان، عارفاً أو عاميّاً عالماً أو جاهلا، في مثل هذه الرذيلة، حتى إذا ما لقيك يوم القيامة شَمَتَ بك قائلاً: «ويا أبن آدم، ألم يخبرك الأنبياء بأن أتكبر على أبيك قد طردني من حضرة الحق. لقد نزلت عليّ لعنة الله لأني احتقرت مقام آدم واستعظمت مقامي، فلماذا أوقعتك نفسك في هذه الرذيلة» ؟.

وعندئذ تصبح، أيها المسكين!موضع شماتة أرذل مخلوقات الله وأحطها، فضلاً عن عذابك وابتلاءاتك وندامتك وحسرتك مما يعجز الكلام عن وصفه. إن الشيطان لم يكن قد تكبّر على الله، بل على أدم وهو من مخلوقات الحق، فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}([32]). فاستعظم نفسه واستحقر آدم. وأنت تستصغر بني آدم وتستكبر بنفسك عليهم، فأنت أيضاً تعصي أوامر الله. لقد قال لك تعالى: كن متواضعاً مع عباد الله، ولكنك تتكبر وتتعالى عليهم. فلماذا، تلعن الشيطان وحده؟ أشرك نفسك الخبيثة معه في اللعن أيضاً، مثلما أنت شريكه في هذه الرذيلة. إنك من مظاهر الشيطان، بل إنك تجسّد الشيطان. ولربما كانت صورتك في البرزخ وفي يوم القيامة صورة شيطانية. فإن المقياس في صورة الإنسان في الآخرة الملكات الحاصلة للنفس. فليس هناك ما يمنع من أن تكون على صورة شيطان، أو على صورة نملة صغيرة، إن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا.

 

فصل: قد يكون الحسد سببا للتكبر

اعلم أن من الممكن أحياناً أن يتكبّر فاقد الكمال على واجد الكمال، كأن يتكبر الفقير على الغني والجاهل على العالم. ولا بُدَّ أن نعرف أنه مثلما كان العُجب أحيانا مدخلا للتكبر، فإن الحسد قد يصبح أيضاً مدخلاً إليه. فالإنسان الذي يفتقر إلى كمال موجود في غيره، يندفع إلى أن يحسده، ثم يصير سبباً لكي يتكبر عليه ويسعى جهده لإذلالهِ وإهانته.

روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال «الكِبَرُ قَدْ يَكونُ فِي شِرارِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ... » ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي بَعضِ طُرقِ المَدِيَنِة وَسَوْدَاءَ تَلقطِ السرقين، فَقِيلَ لَهَا: تَنَحِّي عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ الطَرِيقَ لَمَعرض. فَهَمَّ بِهَا بَعْضُ القَوْمِ أنْ يَتَنَاوَلها، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وَسَلَّم: «دَعُوهَا فإِنَّهَا جَبَّارة» ([33]).

وقد تظهر هذه الصفة في بعض أهل العلم، مبرراً أن التواضع أمام الأغنياء غير محمود، وتقول له نفسه الأمارة بالسوء إن التواضع للأغنياء منقصة للإيمان. إن المسكين لا يميّز بين التواضع لغني من أجل غناه والتواضع لغير ذلك. فمرة يتواضع الإنسان مدفوعا برذيلة حب الدنيا والانجذاب نحو طلب الجاه والمقام. فليس هذا من خلق التواضع في شيء، بل إنه المداهنة والملق وأنه من الرذائل النفسانية، وصاحبها لا ي تواضع للفقراء، إلاّ إذا طمع فيهم بشيء أو أراد منهم شيئاً.

ومرة أخرى يكون طبع التواضع في الإنسان داعية له إلى احترام الناس والتواضع لهم. فقراء كانوا أم أغنياء، مرموقين كانوا أم مغمورين. فهذا تواضعه خالص من غير شائبة، وروحه طاهرة مطهرة، لم يجتذب قلبه الجاه والمقام. إنه تواضع محمود للفقراء ومحمود للأغنياء، فلا بُدَّ من احترام كل إنسان بما هو خليق به. أما تحقيرك لأهل الجاه والغنى والتكبر عليهم فلا يعني أنك لست متملقا، بل يعني أنك حسود، وتكون في الوقت نفسه على خطأ. ولهذا إذا رأيتهم يحترمونك على غير انتظار وتوقع، تتواضع لهم وتخفض لهم جناحك.

وعلى كل حال، إن مكائد النفس وأحابيلها من الدقة المتناهية بحيث أن المرء لا يسعه إلاّ أن يستعيذ بالله منها.

وَالحَمْدُ لله أوّلاً وآخِراً.

([1]) " أصول الكافي " المجلد الثاني ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب الكبر ـ ح 1.

 ([2]) سورة المؤمنون، آية: 47.

 ([3]) سورة الزخرف، آية: 31.

 ([4]) لا يخفى أن لترك القبول ناحيتان: إحديهما تكبر على أوامر الله. وثانيهما تكبر على عباد الله تعالى. (منه عُفي عنه).

 ([5]) " أصول الكافي " المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر ح 16.

 ([6]) " أصول الكافي " المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر ح 11.

 ([7]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 9.

 ([8]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 14.

 ([9]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 6.

 ([10]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 2.

 ([11]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 6.

 ([12]) سورة النحل، آية: 28.

 ([13]) فوائد الأدب في تاج العروس (ج1 9 ص249) في مادة (سمن).

 ([14]) النمل: 34.

 ([15]) إشارة الى الشطر الثاني من هذا البيت:

" العلم الرسمي هو الاشتغال بالقيل والقال       فلم تحصل منه على كيفية ولا حال ".

كشكول البهائي, ج1 ص209.

 ([16]) الأسفار الأربعة, ج1 ص23.

 ([17]) النمل: 34.

 ([18]) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ـ 80 ـ (الشيخ صبحي الصالح).

 ([19]) البقرة: 269.

 ([20]) مير محمد باقر بن شمس الدين محمد المعروف بالداماد (ـ1041هـ. ق) ولد في اصفهان ودفن في النجف, من علماء الإمامية الأفذاذ وفيلسوف تحرير جمع المعقول والمنقول تفرّد في حل العديد من المعضلات الفقهية والحديثية, وان رواج فلسفة أبي علي " ابن سينا " والاشراقيين في القرن الحادي عشر وتهيئة الارضية الملائمة لظهور الحكمة المتعالية لملا صدرا (تلميذ المير داماد) مديونة لجهود هذا الفيلسوف الكبير. من تأليفاته : القبسات, التقديسات, سدرة المنتهى حاشية على كتاب من لا يحضره الفقيه اختار لنفسه في أشعاره اسم " اشراق ".

 ([21]) إشارة للحديث : " قلت لأبي عبد الله " ع " : " أني سمعتك وانت تقول كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم " قال " ع " : " صدقت كلهم والله في الجنة, قال : قلت: جعلت فداك أن الذنوب كثير, كبار, فقال " ع " : أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي ولكني والله أتخوف عليكم في البرزع, قلت وما البرزخ؟ قال : القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة.

فروع الكافي, ج3 ص242 : كتاب الجنائر, باب ما ينطق به موضع القبر " الحديث 3.

 ([22]) الفتوحات المكية, ج1 فصل 1 الباب 61.

 ([23]) في روايات متعددة أشير إلى خُلق وسلوك رسول الله " ص " بعضها وردت في هذا الكتاب. عن أنس بن مالك قال : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله " ص " وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته " ".

" وعن ابن عباس قال : كان رسول الله " ص " يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك ويقول " ص " : أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس ا لعبد " كتاب مكرام الأخلاق, ص12 الفصل الثاني.

 ([24]) كان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبها ويطحن مع الخادم إذا اعيى... ويخدم في مهنه أهله ويقطع اللحم, وإذا جلس على طعام جلس مُحقّراً... يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار.. يجالس الفقراء والسماكين ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده.

بحار الأنوار, ج16 ص226 " تاريخ نبينا " ص " , باب مكارم أخلاقه " الحديث: 34.

 ([25]) كشف الغمة في معرفة الأئمة ج1 ص162ـ172 " في وصف زهده في الدنيا ".

 ([26]) آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1376ـ1355هـ. ق) من الفقهاء الكبار ومراجع التقليد لدى الشيعة في القرن الرابع عشر الهجري فهو وبعد أن أنهى دراسة المقدمات سافر إلى النجف وسامراء ودرس هناك على أيدي كبار العلماء كالميرزا الشيرازي الكبير والميرزا محمد تقي الشيرازي والآخوند الخراساني والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد الاصفهاني القشاركي. عاد إلى آراك عام 1332هـ. ق, وفي عام 1340 قدم إلى قم وبعد إلحاح أعينان الناس عليه آنذاك وبعد الاستخارة ألقى برحله في مدينة قم وأسس فيها الحوزة العلمية, وقد تربى في حوزة درسه علماء كبار في مقدمتهم الإمام الخميني (ره) من آثاره: درر الفوائد في الأصول, الصلوة في الفقه, النكاح, الرضاع, والمواريث.

 ([27]) 1920م (المترجم).

 ([28]) 1935م (المترجم).

 ([29]) كما جاء في الحديث النبوي (ص) : " الصراط ادق من الشعر واحدّ من السيف وأظلم من الليل " علم اليقين, ج2 ص969. " المقصد الرابع في معنى الصراط " وبنفس هذا المعنى جاء في الرواية المروية عن الإمام الصادق " ع " في آمالي الصدوق, ص177 " المجلس " 33 الحديث 4 وكذلك في بحار الأنوار, ج8 ص65 " كتاب العدل والمعاد " الباب 22.

 ([30]) 1935م (المترجم).

([31]) الهمزة: 6، 7.

 ([32]) الأعراف: 12.

 ([33]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، ح 2)