الحَديث السَابع: الغضب

بالسند المَصل إِلى محمدّ بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، عن محمدّ بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد قال: قال أبو عبدالله عليه السّلام: «الغَضبُ مِفْتاحُ كُِل شَر» ([1]).

الشرح:

قال المحقق الكبير أحمد بن محمد، المعروف بابن مسكويه، في كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق القيم الذي يقل نظيره في حسن التنظيم والبيان منصه([2]):

«والغضب بالحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة، أججت نار الغضب وأضرمتها، فاحتّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرباً يسوء منه حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف مليء حريقاً وأضرم ناراً فاختنق فيها اللهيب والدخان وعلا منه الأجيج والصوت المسمى وحي النار، فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه، ويصير كل ما تدنيه منه للإطفاء سبباً لزيادته ومادة لقوته. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك الحال سبباً للزيادة في الغضب ومادّة للّهيب والتأجج وليس يرجى له في تلك الحال حيلة».

ثم يقول([3]) «وأما سقراطيس([4]) قال أني للسفينة إذا عصفت بها الرياح وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي فيها الجبال، أرجى مني للغضبان الملتهب، وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون ويخلصونها بضروب الحيل فأما النفس إذا استشاطت غصباً فليس يرجى لها حيلة البتة وذلكن كل ما رُقي به الغضب من التضرع والموعظة والخضوع يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعاراً» انتهى.

فصل: في بيان فوائد القوة الغضبية

اعلم أن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن بها عمارة الدنيا والآخرة، وبها يتم الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري والنظام العائلي، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد هجمات الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما استطاع، أن يصل إلى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائداً على تحقق ما تقدم. بل إن التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الأخلاق المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليها الكثير من المفاسد والمعايب، كالخوف، والضعف، والتراخي، والتكاسل، والطمع، وقلة الصبر، وعدم الثبات في المواقف التي تتطلب الثبات، والخمود، والخنوع، وتحمل الظلم، وقبول الرذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة...

إن الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ([5]).

إن القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية والعقلية، لا يكون إلاّ في ظل القوة الغضب ية الشريفة. وعلى ذلك، فإن الذين يظنون أن قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها يعد من الكمالات والمعارج النفسية إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال ومقام الاعتدال. هؤلاء المساكين لا يعلمون أن الله تبارك وتعالى لم يخلق هذه الغريزة الشريفة في جميع أصناف الحيوانات عبثً، وأنه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة المُلكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات. إن الجهاد ضد أعداء الدين، وحفظ النظام العائلي للإنسان، والدفاع عن النفس والمال والعِرض، وعن سائر القوانين الإِلهية، والجهاد مع النفس وهي ألد أعداء الإِنسان، لا يكون كل ذلك إلاّ بهذه الغريزة الشريفة. إن منع الاعتداءات والذب عن الحدود والثغور، ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع، ويجري تحت لواء هذه الغريزة. لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها. وهناك معالجات علمية وعملية لإيقاضها وتحريكها: مثل الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة، والذهاب إلى ميادين الحرب، والجهاد ضد أعداء الله. فقد نُقل عن بعض المتفلسفين أنه كان يرتاد الأماكن المخوفة ويلبث فيها قليلاً ويلقى بنفسه في المخاطر العظيمة، ويركب البحر في أوج تلاطم أمواجه، وذلك لكي يخلص نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل.

وعلى أي حال، فإن غريزة الغضب موجودة لدى كل إنسان ومودعة في باطنه، ولكنها في بعضهم خامدة منكمشة، كالنار تحت الرماد. فالواجب على من يلحظ في نفسه حال الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج الحالة بضدها، ويخرج نفسه مما هي فيه إلى حال من الاعتدال. وهذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعدّ من الملكات الفاضلة والصفات الحسنة، مما سوف ترد الإِشارة إليه.

فصل: في بيان ذم الإفراط في الغضب

إذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من الصفات المذمومة التي تؤدي إل ى كثير من المفاسد التي ذكرنا بعضها، كذلك هي حال الإِفراط وتجاوز حد الاعتدال، فهي أيضاً تعدّ من الصفات المذمومة التي تقود إلى مفاسد كثيرة. ويكفي لتبيان مفاسد هذه الحال ذكر هذا الحديث الشريف الوارد في الكافي. عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال، قال رسول اللّه صلّى اللّه عل يه وآله وسلم «الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ» ([6]).

فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن دين اللّه، وإطفاء نور الإيمان، بحيث أن ظلام الغضب وناره تحرق الحقائق الحقّة. بل قد يصل الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الأبدي، ثم ينتبه على نفسه بعد فوات الأوان وحين لا ينفع الندم ويمكن أن تكون نار الغضب، جمرة الشيطان، التي وردت في كلام الإمام الباقر عليه السلام «إنَّ هَا الغَضَب جَمْرَةٌ مِن َ الشَّيْطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ» ([7]) صورتها في ذلك العالم، صورة نار الغضب الإلهي.

كما ورد عنه عيه السلام في حديث شريف رواه صاحب «الكافي» :

«مَكْتُوبٌ فِي الَوْراةِ فيما ناجَى اللهُ عزّ وجلّ مُوسى: يا مُوسى أَمْسِكْ غَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أكُفَّ عَنْكَ غَضَبِي» ([8]).

ولا شك في أنه ليست هناك نار أشد من نار غضب اللّه عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قَالَ الحَواريّون لِعيسى عليه السّلام: أَيُّ الأَشْياءِ أَ شَدّ؟ قٌالَ أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالُوا بِمَ نَتقي غَضَبُ اللّهِ؟ قالَ بَأْن لا تَغْضِبُوا» ([9]).

وهكذا يتضح أن غضب الله من أصعب الأمور وأشدها، وأن نار غضبه أشد إحراقً، وصورة الغضب للإنسان في هذه الدنيا هي صورة نار غضب الله في العالم الآخر. وكما أن الغضب يظهر من القلب، فلعل نار الغضب الإلهي الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الأخرى، تنبعث من باطن القلب، وتسري إلى الظاهر، وتخرج ألسنة نيرانها المؤلمة من الأعضاء الظاهرية مثل العين والإذن واللسان وغيرها بل إن هذه الأعضاء تكون أبوابا تنفتح على جهنم، فتحيط نار جهنم بالأعمال والآثار الجسمية التي في ظاهر جسد الإنسان، لتتجه إلى باطنه، فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين جهنمين: أحدهما يبرز من باطن القلب ويدخل ألسنة لهيبها بواسطة أم الدماغ إلى عالم الجسم. وثانيهما صورة قبائح الأعمال وتجسم الأفعال، حيث تتصاعد نيرانها من الظاهر إلى الباطن، والله سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا الضغط؟ وهذا العذاب؟ إنه غير الاحتراق وغير الانصهار. أتظن أن إحاطة جهنم تشبه هذه الإحاطات التي تتصوره؟ إن الإحاطة هنا إنما تكون بظاهر السطح فقط. أما الإحاطة هناك فتكون بالظاهر وبالباطن، بالسطوح وبالأعماق. وإذا أصبحت صورة الغضب عند الإنسان صفة راسخة لا سمح الله ـ وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ ـ كانت المصيبة أعظم، وأصبح للإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع، السباع التي لا شبيه لها في الدنيا. وذلك لأن سَبُعية الإنسان، وهو في حالة الغضب، لا يمكن مقارنتها بسبعية أي حيوان آخر من الحيوانات. وكما أن الإنسان في حالة كماله أعجوبة الدهر ولن تجد له نظيراً، كذلك في حال نقصه واتصافه بالرذائل وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة، لقد وصفهم الله بقوله: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ([10]). ووصف قلوبهم فقال: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ([11]).

هذا الذي مرّ بك كان جانباً من مفاسد نار الغضب الحارقة، إذا لم يستتبع الغضب معاص أخرى، بل بقى ناراً داخلية مظلمة تتعقدّ في الباطن وتنجس وتختنق فتطفئ نور الإيمان، كالنار المشتعلة التي يخالطها الدخان الأسود الذي يغشى النور فيطفئه. ولكن ذلك أمر بعيد، بل قد يكون من الأمور المستحيلة أن يكون الإِنسان في حال غضب شديد مستعرة ناره، ثم يمتنع عن إرتكاب معاص وموبقات مهلكة أخرى. فكثيراً ما يؤدي الغضب المستعر، وهذه الجمرة الشيطانية الملعونة، في مدة دقيقة واحدة إلى إلقاء الإِنسان في هاوية الهلاك والعدم، كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات ـ والعياذ بالله ـ أو يقتل نفساً بريئة مظلومة، أو يهتك الحرمات، فيخسر الدنيا والآخرة، كما جاء في الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث له: كان أبي يقول: «أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغََبِ؟ إِنَّ الَجَُ لَيََْبَ فَيَُْلَ النََّْ الَّتي حَرَّمَ اللهُ وَيَقِْفُ المُحَْنَةَ» ([12]).

لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم النفس، أن يكون على حذر كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعله يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى إياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقها؟ وكم هو ظلوم جهول؟ لأنه لم يَصُنْ أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرءً هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي.

ثم إن عليه إن يفكر في المفاسد العملية والأخلاقية التي تتولد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا، وبالعذاب والعقاب في الآخرة.

أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة هذا القبح وهذه المفسدة واضح للجميع، نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذل وقادته إلى أرض الهلاك الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره في شرح الحديث الخامس. وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب.

وأما مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوه بما فيه الارتداد أو سب الأنبياء والأولياء ـ والعياذ بالله ـ وهتك الحرمات الإِلهية، وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بها الإنسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت.

لذلك يمكن أن توصف هذه السجية بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. ويقابلها كظم الغيض وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات. كما جاء في حديث (الكافي) عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال سمعت أبي يقول:

«أتى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌ، فَقالَ: إنّي أسْكُنُ البادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوامِعَ الكَلامِ فَقالَ: آمُرُكَ أَنْ لاَ تَغْضَبَ. فَأعادَ عَلَيْهِ الأعْرَابِيُّ المَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِه. فَقالَ: لا أَسْأَلُ عَنْ شيْء بَعْدَ هذَا. ما أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ إِلاّ بِالْخَيْرِ. قالَ: وَكانَ أَبي يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَضَبِ؟ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتي حَرَّم اللهُ وَيَقْذِفُ المُحْصَنَةَ» ([13]).

بعد أن يدرك الإنسان، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتم على نفسه أن يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، مهما لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه. وهذا أمرٌ ممكن تماماً بشيءٍ من مخالفة النفس والعمل ضد هواها، وبقليل م ن النصح والإرشاد والتدبر في عواقب الأمور. وهذه وسيلة يمكن بها إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس، وإبدالها بجميع الصفات الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بها القلب.

فصل: في بيان علاج الغضب إن للغضب المشتعل

إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً أيضاً.

أما علاجه العملي فهو أن يتفكر الإِنسان في تلك الأمور التي ذكرت، ويعدّ هذا من العلاج العملي أيضاً.

أما العلاج العملي فأهمّه صرف النفس عن الغضب عند أول ظهوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً فشيئاً ويشتّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو أن يغير من وضعه. فإذا كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر.

على كل حال، يسهل كبح جماح الغضب في بداية ظهوره. ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان:

الأولى: هي أن يهدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: هي أن يؤدي إلى المعالجة الجذرية للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيّرت حاله تغيراً كُلياً واتجهت نحو الاعتدال. وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إِنَّ هَذَا الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ عَيْناهُ وَانْتَفخَتْ أوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفِْهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ فَإنَّ رِ جْزَ الشَّيْطانِ يَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ» ([14]).

وبإسناده، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: «إِنَّ الرَّجَ لَيَغْبُ فَما يرضى أبداً حَّى يَدْخُلَ النّار فَأَيُّما رَجُلٍ غَضَ عَلى قَوْمٍ وَهُوَ قائٌِ فَْيَجِْسْ مِنْ فَوْرِه ذلَِ فَإنَُّ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطانِ وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلَْدْنُ مِنْهُ فَلَْمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّت، سَكََتْ» ([15]).

يستفاد من هذا الحديث الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب. الأول عام، وهو الجلوس من القيام، أي تغيير وضعية الإِنسان، ففي حديث آخر أنه إذا كان جالساً عند الغضب فليقم واقفاً.

وقد نقل عن الطرق ا لعامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يغضب، يجلس، إذا كان واقفً، ويستلقي على قفاه إذا كان جالساً، وبذلك يسكن غضبه.

والعلاج العملي الآخر علاج خاص بالأرحام، وهو أن يمسّه فيسكن غضبه.

هذه معالجات يقوم بها الغاضب لنفسه. أما إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة. ولكن إذا اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإن النصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعباً، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، وذلك لأن الغاضب إنما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممن يغضب عليه، أو يرى أنه، على الأقل، يتساوى معه في القوة. أما مع الذين يرى أنهم أقوى منه، فلا يُظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. وعليه فإن العلاج في حالات الانفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة. نعوذ بالله منه.

فصل: في بيان أن معالجة الغضب باقتلاع جذوره

من أهم سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وهي أمور عديدة، وسوف نتناول بعضاً منها مما يتناسب وهذا الكتاب.

من تلك الأسباب حبّ الذات، ويتفرّع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ والتسلط. وهذه كلها تتسبب في إشعال نار الغضب، إذ أن من كانت فيه هذه الأنواع من الحب، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا اتفق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس بأن هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه وتمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام

وسائر تفرعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إن الإِنسان البسيط غير المتكلف يتحمل المنغصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أما إذا اقتلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية.

ومن الأسباب الأخرى لإثارة الغضب هو أن الإِنسان قد يظن الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلة معرفته. فيحسب الغضب من الفضائل ويراه بعض الجهال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بد وأن نعرف بأن الشجاعة غير الغضب، وأن أسبابها ومباد ئها وآثارها وخواصّها تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها. أما الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلة الإِيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، وحب الدنيا والاهتمام بها، والتخوف من فقدان اللذائذ البشرية. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في الأصحاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في الشبان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية كان أسرع إلى الغضب ممن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر.

هذا من حيث مبادئ الشجاعة والغضب وما يوجبهما، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان أيضاً. فالغاضب، وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث أنه لو أعطى مرآة، لخجل من صورته التي يراها فيها.

إن بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الأمور، بل يغضبون حتى على

الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتى الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف رغباتهم. ويغضبون أحياناً على القلم والكتاب والأواني فيمزقونها أو يحطمونها. أما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً. فأعماله لا تكون إلاّ عن رويّة ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محله، ويحلم في محله، لا تهزّه التوافه ولا تغضبه. وإذا غضب غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممن؟ وكيف يعفو ومتى وممن؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ول ا بالأعمال القبيحة، ويزن كل أعماله بميزان العقل والشرع والعدل والإِنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك.

فعلى الإِنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، يعدّ من الكمالات النفسية. والخلق الآخر الذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس. إلاّ أن حجاب الجهل وعدم المعرفة وحب الدنيا وحب الذات، يعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في المسكنة والعذاب.

وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولعل أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله.

 

([1]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 3.

([2]) تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 193 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.

([3]) تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 195 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.

([4]) في كتاب (الأربعون حديثا) وأما بقراط... وفي كتاب تهذيب الأخلاق وأما سقراطيس... (المترجم).

([5]) سورة الفتح، آية: 29.

([6]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 1.

([7]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 12.

([8]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 7.

([9]) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، ص289.

([10]) سورة الفرقان، آية: 44.

([11]) سورة البقرة، آية 74.

([12]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 4.

([13]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 4.

([14]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح: 12.

([15]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح: 2.