الغزو الثقافي في العهد البهلوي البائد وقبله

نقرأ في التأريخ ـ وليس كلّ ما في التأريخ صحيحاً على وجه تام ـ إنَّ المدارس كانت موجودة في القرنين الرابع والخامس، وكان هناك من يتعلم في هذه المدارس. طبيعي أنَّ الأنظمة الديكتاتورية مثل النظام الغزنوي والسلجوقي وأشباههما، لم تكن تدع فرصة للناس كي تتنفس، وإذا كانوا قد أسسوا المدرسة النظامية على سبيل المثال، فإن ذلك لا يعني أن باب الدراسة وتحصيل المعارف كان مفتوحاً للجميع دون استثناء.

وفي كل الأحوال، لا يعنينا أن نحكم على ما جرى في تلك العصور، ولكن لكم أن تعودوا إلى التأريخ (التأريخ عنصر ينبغي أن نتعلمه، فإذا أردنا أن نتلمس موقعنا في الوقت الحاضر، ونعرف أين نحن الآن، علينا أن نحيط بالتاريخ، نعرفه ونعيه، الإحاطة بالتأريخ، بإدراكه ومعرفته ووعيه، أمر مهم) الذي تلا الغزو المغولي، لتدركوا جيداً، أنَّ الفرصة لم تكن مؤاتية للإنسان المستعد لتحصيل العلم في هذا البلد، بقدر ما هي مؤاتية الآن. كانت العصور التي مرّت عصور جهل وعدم اكتراث بالمعارف والعلوم؛ كانت تلك عصر الملوك المستبدين، السافكين للدماء، الذين تركوا الشعب وأهملوه من دون أن يهتموا به. قدر ذرّة([1]).

نحن بلد عاش تخلفاً مريعاً عن مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم وما شهده العالم من تطوّر. وقد نزل بهذا البلد من قبل السلاطين خلال القرنين الماضيين ظلماً فادحاً فقد تركونا نتخلف عن القافلة، ولم يدعوا العلم والثقافة والمعارف تنفذ إلى البلد بشكل سليم.

فناصر الدين شاه القاجاري على سبيل المثال، كان يبغض اسم القانون ويتنفر منه، وكان يكره للإنسان أن يغادر إلى الخارج ثم يعود، وينفر من تدفق المعارف والمعلومات من الخارج. وكل ما حصل إنهم بادروا لأيام قلائل لممارسة بعض الأعمال بدوافع طارئة، بيد أنهم تراجعوا عنها حينما قدّروا بأنها يمكن أن تعود عليها بالضرر، وبذلك أبقونا بمنأى عن المعارف والعلوم.

وحين آل الأمر إلى أسرة بهلوي، ازداد الحال سوءاً، إذ جرّت هذه الأسرة الشعب إلى الشهوات، وسلطت عليه تلك التيارات الفاسدة من الثقافة الغربية، وعملت على إشاعتها بدلاً من الضروب المفيدة في تلك الثقافة.

حينما ذهبنا إلى أوروبا وأخذنا منهم العلم، عدنا إلى بلدنا بمواصفات جديدة حيث أضحت شخصيتنا شخصية شهوية.. بلا وجدان وضمير.. فاقدة للإرادة، تاركة للدين. فما هي يا ترى المنافع التي تعود على الناس من هذا العلم؟ ومن الحالات الأُخرى إن بعضهم ذهب إلى أوروبا وأفاد من علومها فعلاً، ولكنهم عندما عادوا لم ينفعوا بلدهم بشيء، بل بقيت البلاد على حالها. هذه أيضاً من سيئات ذلك العهد. وهي من سيئات السلاطين الذين مسكوا زمام البلد لقرنين على الأقل، ولم يكونوا يفهمون شيئاً، سوى مصالحهم الذاتية الخاصة.

لقد وقف الشعب في مكانه دون أن يتقدم في العلوم، مع جميع ما يتحلى به من ذكاء وخلفية في العلم والثقافة، بدءاً من عهد فتح علي شاه ومحمد علي شاه وناصر الدين شاه وانتهاءاً بالمجرمين الكبيرين رضا خان وولده محمد رضا، حتى سبقه الآخرون في مضمار التقدم سواء كانوا من منافسيه وأعدائه أو من الشعوب الأخرى التي قطعت شوط التقدم مرقاة بعد أخرى([2]).

إذا اطلعتم على تأريخ أواخر العهد القاجاري لرأيتم كثرة المسيحيين الذين جاؤوا من أوروبا إلى إيران بهدف التنصير. وقد كان مثلهم كمثل اللص المبتدئ، فلم يوفقوا، لأنهم لم يحسنوا اختيار المنطقة التي يمكن للمسيحية أن تروج فيها.

طبيعي لا نستطيع أن نقول أن أصحاب الرساميل والشركات العالمية والناهبين الدوليين، كانوا يعتقدون حقاً بالسيّد المسيح؛ فمن أين لهم أن يعرفوا السيّد المسيح؟ بل كان أول سعيهم حينما يحطون في محيط اجتماعي يظهر المجتمع فيه عقله بثقافته الوطنية ويدافع عن حيثيته، أن يستأصلوا تلك الثقافة. تماماً كما تفعل عدة من الجنود حينما تهجم على قلعة محصنة، فهي تتعرض أولاً لقواعد القلعة، فتنهار الجدران بعد ذلك تلقائياً. فهم يفعلون كلّ ما يقود إلى إضعاف جدران القلعة، ويمكن أن يبادروا إلى تنويم أهل القلعة (استغفالهم).

ومما يذكره سعدي أن عدداً من اللصوص أرادوا أن يغيروا على جماعة، وقد كانوا نياماً. فان أول من هجم عليهم من الأعداء شخص من الجماعة (مندس بين الصفوف) حتى إذا ما كتف أيديهم وشدّ أعينهم، جاء العدو الخارجي لانتهاب أموالهم([3]).

الذي أعتقده أن العصر القاجاري هو أحلك العصور التي مرّت على تأريخ إيران. لقد توجهت باللعنة مراراً إلى ملوك القاجار. فقد عاصرت إيران في عهدهم مدّ التقدم العلمي، وكان ذلك العصر عصر استثمار العلوم والثقافة والإفادة منهما، بيد أنهم لم ينهضوا بما كان عليهم أن ينهضوا به، ولم يفعلوا ما ينبغي أن يفعلوه، فوقعت إيران في مثل مأزقها الراهن!

شخصياً لا أؤمن بأولئك ولا أحمل لهم من التقدير قيد ذرّة بَيْدَ إني أقول أنهم كانوا ضعفاء راكدين يسعون للذة وملأ البطون، ولا همّ لهم سوى ملاذهم والنساء وما يرتبط بمعيشتهم الخاصة، كانوا أهل دنيا، ولم يكونوا يتوفرون على وعي وإدراك كافيين للقضايا بحيث يميّزوا بين النافع والضار؛ بين ما هو شرّ وما هو خير.

فقد كان همّ ناصر الدين شاه ـ مثلاً ـ هو أن يحكم ويرتع في اللذة، وكان حكمه ولذته يصرفاه عن حال الشعب وما يعانيه. طبيعي أن الضعف والإهمال هما من أكبر الذنوب التي يمكن أن يتصف بها قائد مسؤول عن البلد.

وحين آل الأمر على أُسرة بهلوي، فقد ارتكبوا من الفعال ما هو أسوأ بكثير مما ارتكب في العهد القاجاري. فأسرة بهلوي ضربت على قواعد الثقافة الذاتية الخاصة للشعب وزلزلت اركانها، وأنشبت أظافر التخريب فيها، حتى حلت الثقافة المستوردة بدلاً من الثقافة الخاصة، ونفذت في أغلب مرافق حياتنا وشؤونها([4]).

كان شعبنا ملتزماً على طوال قرون الحضارة الإسلامية، برعاية الآداب في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل. وهذا لا يعني عدم وقوع حالات من الخطأ والمعصية؛ فالخطأ موجود في كلّ العصور وفي مختلف المجالات، وسيبقى أفراد البشر عرضه للخطأ أبداً. ولكن ثمَّ فرق بين الخطأ، وبين أن يتحوّل الخطأ إلى عرف عام في المجتمع وعلى صعيد الشعب.

لقد كانت مجالس الإشراف وبلاطات الملوك والأمراء ومن يقع على شاكلتهم، هي وحدها التي تشهد مجالس اللذة والطرب والفحشاء، حيث تمضي الليالي الحمراء حتى الصباح بهذه الخطايا.

لقد سعى الأوروبيون ـ الذين لا تغلق باراتهم طوال الليل والنهار ـ أن يدفعوا مجتمعنا صوب هذه العادات المشؤومة الفاسدة. حينما تعودون إلى تاريخ أوروبا، تجدونه متكظاً دوماً وبجميع عهوده وسنيه وأشواط تمدنه بالفساد. وقد أرادوا أن يدفعوا بهذا النهج إلى البلد، ففعلوا كلّ ما بمقدورهم أن يفعلوه([5]).

بدأ الهجوم الثقافي على شعبنا بشكل محدّد الملامح منذ عصر رضا خان. طبيعي أن مقدمات هذا العمل كانت توافرت قبل ذلك، حيث فعل المثقفون التابعون (المتغربون) الكثير على هذا الصعيد.

لا أدري إذا كان جيل الثورة، قد أطلع جيداً على تأريخ بلدنا خلال الفترة ما قبل 150 ـ 200 سنة أم لا؟ كل الذي أخشاه أن لا يكون الشاب الثوري على إطلاع بالعهد الذي قلبنا صفحته، وما كانت عليه إيران في ذلك الوقت، ونحن نعيش يوميات الحركة العظيمة الراهنة. على الشعب الإيراني أن يقرأ الحقبة التاريخية ما قبل 150ـ200 سنة الأخيرة؛ في الفترة الممتدة إلى أواسط العهد القاجاري وحروب إيران وروسيا وما تلاها، ليتبينوا طبيعة الحوادث التي مرّت على البلد.

واحدة من هذه الوقائع تمثل بإيجاد التيار الثقافي التابع. نحن لا نستطيع أن نقول أنه لم يوجد لدينا مثقفون طوال تأريخ إيران، بلى، كانت في جميع الأزمنة والإعصار ثلة من المثقفين تستبق عصرها في التفكير وتتحرك على هذا الهدي. ولكن حينما أراد الغرب أن يتحكم بإيران عن طريق العلم والتكنولوجيا ويرسخ وجوده عن هذا السبيل، نفذ عن طريق التيار الثقافي، وأخذه من عناصر عملية أمثال ميرزا ملكم خان وتقي زادة، رأس جسر لنفوذهم.

لقد ولد التيار الثقافي في إيران مريضاً، وأضحى تابعاً مرتبطاً بالخارج منذ العصر القاجاري فما بعد. والذي يؤسى له، أنَّ عدداً من المثقفين السليمين المخلصين، ضاعوا بين هؤلاء. هذا التيار كان تابعاً منذ البداية، فبعض رموزه كان مرتبطاً بروسيا أمثال ميرزا فتح علي آخوند زادة، وبعضهم كان تابعاً لأوروبا كميرزا ملكم خان وأمثاله.

كانت هذه المقدمات موجودة من قبل في إيران، ولكن لم تكن لها آثار واضحة. إلى أن حصل التحوّل على عهد رضا خان، فالرمز المهم الذي تحرك خطوة كبيرة على صعيد خدمة الثقافة الغربية،أو في الحقيقة خدمة سلطة الغرب والاستعمار الانكليزي، هو رضا خان.

لكم أن تلاحظوا الآن مقدار الفضيحة التي تنطوي عليها ممارسة ملك قام باستبدال الزي الوطني لشعبه مرَّة واحدة دفعةً! إذا ذهبتم إلى أقصى نقاط الدنيا، كالهند مثلاً تجدون أن الشعوب لها زيَّها الوطني وهي تفتخر به، ولا تشعر بالخجل أو العار منه. ولكن هؤلاء غيّروا الزي الوطني ومنعوه مرة واحدة، لماذا؟ زعموا أن الإنسان لا يكون عالماً مع هذا الزي! في حين نجد أن أبرز العلماء الإيرانيين، الذي لا زالت آثاره تدرس في أوروبا، عاش بهذه الثقافة وأمضى حياته بهذا الزي.

 

ترى ما هو تأثير الزي؟ وما هو الكلام الذي يجافي المنطق ويبعث على السخرية؟

لقد استبدلوا الزي الوطني ومنعوا ارتداء الحجاب. وقالوا إنّ المرأة لا تستطيع أن تتحوّل إلى عالمة مع الحجاب (العباءة) ولا يمكن أن يكون لها مشاركة في الفعاليات الاجتماعية! أتوجه إلى هؤلاء بسؤال: إلى أي مدى استطعن النساء أن يشاركن في الفعاليات الاجتماعية بمنع الحجاب وتحريم العباءة؟

هل سمح عهد رضاخان وابنه للمرأة أن تشارك في الفعاليات الاجتماعية؟ في عهد حرم الرجل من ممارسة الفعالية الاجتماعية كما حرمت من ذلك المرأة أيضاً.

لقد استطاعت المرأة في إيران أن تلج ميدان العمل الاجتماعي وتحوّل البلد بإرادته القوية، حيث جرّت الرجل إلى الساحة وراءها، حينما ارتدت الحجاب ووضعت العباءة على رأسها ـ ثم ما تأثير الزي والحجاب في عدم فعالية المرأة أو الرجل؟ المهم هو القلب الذي ينطوي عليه هذا الرجل وتلك المرأة.. والمهم هو كيف يفكراً؟ وما هو قدر إيمانهما، وما هي طبيعة الروحية التي ينطوي كل منهما عليها، وطبيعة الدافع الذي يسوقهما لممارسة الفعالية الاجتماعية والنشاط العلمي؟

لقد وضع رضاخان ـ هذا الطاغية الأمي المتجبر ـ نفسه أُلعوبة بيد الأعداء. فغيّر الزي الوطني واستبدل الكثير من الآداب والسنن السائدة بين الشعب، ومنع مزاولة الفعل الديني، وزوى بالدين جانباً.

مارس جميع هذه الفعال بالقوة ـ كما تعلمون جميعاً ـ وتحوّل إلى شخصية محبوبة لدى الغرب، لم يكن محبوباً من قبل الرأي العام في الغرب، أو أبناء الشعوب الغربية، وإنما أضحى محبوباً من قبل السلطويين والساسة الغربيين.

من هذا الموقع انطلق الغزو الثقافي ضدّ الإسلام والشعب الإيراني، واكتسب أشكالاً مختلفة. وقد اتخذ الغزو أبعاداً خطيرة في السنوات الأخيرة في عهد أسرة بهلوي البغيضة، وبالتحديد في الفترة بين 20ـ 30 سنة الأخيرة، مما لا يسعنا الآن توضيحه. وإنما يعنينا أن نشير إلى أن الثورة الإسلامية جاءت لتكون بمثابة ضربة محكمة في صدر العدو، اصنطرته للتراجع، ومن ثم أذنت بتوقف عجلة الغزو.

شاهدتم أوائل الثورة التحوّل المفاجئ الذي حلّ بالشعب، حيث شهدنا تغييرات أساسية في أخلاقيات الناس، حصلت في غضون مدة قصيرة من الانتصار.. تضاءل الطمع وتجلّت روح الإغضاء والعفو والتجاوز.. كما اتسعت روح التعاون.. حصلت انعطافه كبيرة صوب الدين.. ازدادت القناعة وقتل الإسراف.. أخذ شبابنا يفكرون بالفعالية والعمل.. كثير من الذين اعتادوا الحياة في المدن قفلوا عائدين إلى القرى، وكان لسان حالهم: لنذهب إلى القرى ونعمل وننتج.. قلّت الأعمال الكاذبة التي كانت تنشب كالعشب الضار في الحياة الاقتصادية للناس.

لقد ارتبط هذا التحوّل الثقافي بالسنين الأولى من عمر الثورة، بمعنى أنه اقترن مع توقف جهود العدو عن الاستمرار بغرس الثقافة والأخلاقيات الفاسدة. شهدنا في تلك المدّة نوعاً من التوجه الخاص نحو الإسلام.. صوب الثقافة والأخلاق والآداب، حتى نبضت في ضمائر شعبنا مجدداً الخُلقيات الإسلامية.علينا أن نقول أن هذا التوجّه لم يتسم بالعمق، فتعميق هذا الاتجاه لم يكن ممكناً إلاّ بالعمل المثابر خلال عدّة سنوات، وهذا ما لم يحصل مع الأسف، حيث لم تُتح الفرصة المناسبة لذلك،ثم إنَّ العدو كان قد بدأ هجومه من جديد وتدريجياً([6]).

الذي يبعث على الأسى والأسف، إنَّ القلوب في العهد السابق لم تكن تتوجع وتعيش همّ الاستقلال والحاكمية الوطنية لهذا البلد. فالجميع يذكر بأنَّ السنوات الأخيرة من نظام الطاغوت؛ من نظام العهد البهلوي كانت عهد نسيان الأمة.. عهد إغفال شعب إيران.. عهد إهمال عناصر الخصوصية والمقومات الوطنية لثقافتنا. كلّ شيء كان يؤخذ من الخارج في ذلك العهد، ويستعار من وراء الحدود، وقد وصل احتقار ما يتصل بدائرة الخصوصية والذاتية على الحد الذي لم تكن تجرؤ إلاّ القلة في اظهار ميلها للثقافة الذاتية الخاصة.

هذه هي مع الأسف خصوصية العهد البهلوي، وكنّا كلما تركنا أوائل الهد البهلوي وتقدمنا معه إلى الأمام، وجدنا حركة الابتذال والنزوع عن الخصوصية الذاتية (عن الهوية والأصالة) تزداد أكثر فأكثر. لكم أن تتأمّلوا على سبيل المثال السنوات الأخيرة من العهد البهلوي وما آلت إليه الفنون الوسطى في المجتمع، فموسيقى البلد مثلاً اختلطت بالموسيقى الغربية، بل ابتلعتها الأخيرة وحلّت محلّها.

أنظروا إلى المسألة من موقع آخر.. فنحن شعب له آدابه وعاداته الخاصة في المعاشرة والسلام، وفي طراز المعيشة والزي؛ نحن شعب عريق جداً لنا ما يميزنا في آداب العشرة والعادات الوطنية، فلماذا إذاً حذفوا صيغة التحية السائدة بيننا، واستبدلوها بصيغة وافدة؟ ولماذا استبدلوا أطعمتنا الوطنية واستبعدوها لتحل محلّها الأطعمة الأجنبية؟ وماذا نُبذ زيُّنا الوطني ليحل الزي الأجنبي محلّه([7])؟.

صرنا في العهد البهلوي والعهد القاجاري ضحية النهب والهجوم الشديد، فقد استفاد الآخرون من غفلتنا، ومن غفلة حكّام هذا البلد، وعلى أثر "عصر النهضة" (الأوروبي) شاعَ بين بعض شعوب الدنيا ضرب من الحركة والنشاط فهجموا علينا بثقافة جديدة؛ وبطاقة جديدة، وقد أفادوا من غفلتنا وانتهزوا السبات العميق الذي نفطُّ فيه، فمزقوا الأرضية التي تقوّم وجودنا، وأخفوا عناصر أصالتنا، وشوّهوا الكثير من الأمور.

كان فعلهم معنا يشبه حال إنسان مبتدئ حين يدخل إلى بناية فنية، إذ تراه يخرّب الأبواب والجدران، ويعبث باللوحات الفنية، وينال بأذاه التماثيل المنحوتة. ثم عمدوا بعد ذلك إلى احتلال نسق جديد، كان من وضعهم وطبقاً لإرادتهم، ولم تكن لنا يد فيه.

نحن نعرف أن من سنّة الغالب حين يفتح بلداً معيناً،أن يحل في ذلك البلد نظامه (ونسقه المدني والحضاري) بيد أنَّ المفارقة الدقيقة تكمن في أن أولئك تعاملوا معنا كمواطنين من الدرجة الثانية؛ وبالتالي اختاروا لنا نظاماً ونسقاً (مدنياً وحضارياً) مغايراً وأدنى رتبة محن النظام الذي اختاروه لأنفسهم وطبقوه في بلادهم. هذا هو الذي وقع في إيران، فقد دخل الأوروبيون إلى البلد، وجاؤوا معهم بالنسق والنظم الأوروبية، مع الأخذ بنظر الاعتبار المفارقة المشار إليها آنفاً. وقد اخذ عدد من الناس وخدعوا بهم، مثل الجيل الأول للمثقفين كملكم خان وإضرابه ممّن استلهموا المعنى الثقافي واستمدوه من أولئك. اصطف هذا النفر معهم، وقلبوا نسيج البلد رأساً على عقب مستفيدين من غفلة الناس، وفساد الحكّام.. تعاملوا مع إيران وكأنها بلد خالي الوفاض من أي شيء ـ من الفكر والحضارة ـ ودفعوا المجتمع للتشكيك بماضيه والغفلة عن تاريخه.

لقد أقاموا نسقهم في هذا البلد، ولكن النسق الذي يتعاطى ـ مع مجتمعنا ـ بوصف أبنائه مواطنين من الدرجة الثانية؛ تماماً كما يفعل السيد مع مملوكه حين يروم أن يبني له داراً على طراز داره، فهو يهمل راحة المملوك ولا يأخذ بنظر الاعتبار سوى ما يحقق له راحته.

لقد حلّت بالبلد خسارة نتيجة ذلك النهج، وفي العهد البهلوي ـ خصوصاً في السنين الأربعين الأخيرة ـ وإن لم تكن معالم هذا النهج واضحة كما كانت في العهد القاجاري، إلاّ أنها كانت أمضى وأخطر وأشد([8]).

من أكبر الفجائع التي تحل على شعب من الشعوب، هو أن ينسى جزءاً من ثقافته وتنسلخ عن ذاكرته بمرور الزمان قطعه من حضارته؛ بحيث لا يعد يذكر ويستحضرها أبداً... وهذا ما فعله الغربيون معنا مع الأسف. لنأخذ اللغة كمثال، تراهم استجلبوا من الخارج طريقة معينة في الأداء اللفظي وأقحموا في الكتابة طريقة أجنبية في الأفعال ولجّت لغتنا بمعانٍ غير مناسبة أصلاً، في حين أنَّ لنا لغتنا الخاصة، وإلاّ هل تعد الفارسية لغة ضئيلة مع كل ما تنطوي عليه من عراقة وسعة؟

إنَّ في اللغة الفارسية خصيصة قليلاً ما تكون للّغات الأخرى في العالم، وهذه الخصيصة تتمثل بالتركيب. لذلك يمكن بفضل خاصية قابلية الفارسية للتركيب، أن تولد ملايين الألفاظ والمفردات للتعبير عن المفاهيم الجديدة، شرط أن يتوافر لهذه الملهمة الذوق السليم والإطلاع الكافي على اللغة. وهذه الخصوصية للفارسية لا تتوفر حتى لبعض اللغات الممتدة عالمياً كالعربية مثلاً.

لغة بهذه السعة، استجلبوا لها ـ من الخارج ـ تعابير وأفعال مساعدة مثل قولهم: اذهبُ لأعمل هذا العمل! أو كحال الطبيب عندما يريد أن يسأل المريض: هل تناولت الدواء؟ تراه يقول له: هل "أخذت الدواء؟ أو أن يقول: هل "أخذ" المريض الدواء "يؤخذ أم يُتناول؟

أو كمثل الذي يريد الاغتسال فيقال له: أذهب "وخذ" حماماً؟ يا ترى هل "يؤخذ" الحمام أم يتم فيه الاغتسال؟ هذه الصيغ بأجمعها هي مظاهر لداء الاستلاب وفقدان الذات.. لقد حصل هذا مع اللغة، ومع الزيّ، وحصل قبل ذلك مع الآداب والعادات والتقاليد الوطنية التي تنطوي على قيمة.

من الآداب التي اعتاد عليها شعبنا منذ القديم، توقير الكبار وذوي الشيبة، فقد كان له هذا الأدب، وكان جزءاً من تقاليده في السابق، وهو إلى ذلك جزء من أصول الآداب الإسلامية "وقروا كباركم" وفي البيت الإسلامي ليكون الجد أو الجدة كالشمعة التي تجذب الفراشات إلى نورها أما الآداب الغربية فلا تؤمن كثيراً بمكانة الجدّ والجدّة، والجيل الذي ينظر إلى الوراء، لا يدخل في الآدمية كما يزعمون. وإذا كان الغربيون يراعون بعض  ملامح الاحترام، فهذه ممارسة ظاهرية، فهم لا يحسبون للكبار حساباً، فيما نحن على العكس منهم تماماً، إذ نحسب لهذه القضية حساباً مهماً.

لقد غرسوا في نفوسنا بالقوة ثقافة مغرضة، وحين نقول: فرضوا هذه الثقافة بالقوة، فإنّ ما نعيته بذلك غير المعنى الأولي المتبادر للقوة.

القوة تتجلى تارة في سلوك إنسان يحمل الرشاش ويأمرك أن تفعل شيئاً معيناً. وقد تظهر صورة أخرى، وذلك من خلال إحاطة الإنسان بجو ونسق واحد وتكرار هذا النسق، فما تمارسه وسائل الاتصال الجمعي في المجتمع هو شيء من هذا القبيل، إذ تراها تبادر لبث مفهوم أو مصطلح معين وتعمد إلى تكراره، حتى يستقر في الوعي دون شعور، ويجري على الألسن تلقائياً. وهذا في الواقع ما فعلوه معنا، خلال خمسين سنة!

حين نعود إلى الأول في ذلك العهد ـ رضا خان ـ نجده إنساناً يفتقر إلى الوعي والإدراك والمعرفة، فهو لم يكن الإنسان الذي يقدِّر الشعر أو يعرف له قيمة، أو يدرك النكات الطريفة، كما لم يكن يفهم قيمة الخط الجميل ولا أهمية الأعراف والسنن.

لم يكن رضا خان إلاّ جندياً بلدياً جاهلاً، لا يعرف غير العتو والشدّة، وهذه الحالة لم يكن يستخدمها ضدَّ العدو، بل كان يستثمرها ضدَّ الداخل (الشعب)، وذلك على خلاف ما ينص عليه القرآن في مضمونه القائل: رحماء بينهم أشداء على الأعداء، إذ كان شديداً على شعبه، رحيماً بالأعداء رفيقاً بهم وصولاً لهم، ـ مثلاً ـ صديقاً لمصطفى كمال حتى اتخذه مرشداً له. لقد أهمل الشخصيات الإيرانية التي تنطوي على الوعي والشعور ولها ثقافة وعلم فكري، وزوى بها جانباً دون أن يعتني بها، في حين اعتنى بمصطفى كمال!

 

لقد استصغر النظام السابق طبقة الأدباء وأهل الثقافة([9]).

كان العلماء (الروحانيون) هم العنصر الأساسي في حركة الجهاد خلال الخمسة عشر عاماً التي انتهت بانتصار الثورة، كما كان لهم الدور نفسه في تأسيس النظام الإسلامي المقدّس، وحمل راية الإسلام خفاقة في العالم، وكانوا طلية المقاومة الحماسية لشعب إيران في مواجهة مختلف ضروب الهجوم المعادي. وكان العلماء قبل ذلك، وعلى مدى قرون العامل الأساسي في حفظ المعارف الإسلامية والإيمان العميق الصادق لشعب إيران بالإسلام المنقذ ولهم الدور الطليعي في نمو الفكر الديني في كل مكان.

لقد كان العلماء (الروحانيون) المجاهدون الملتزمون في قلب حركة المقاومة ضدّ النظام لأمريكا، وقد استطاعوا أن يجذبوا إلى ساحة الجهاد والمقاومة مختلف فئات الناس، حتى أعطوا حركة الجهاد طابعها الشعبي العام. وحين نعود إلى الحوادث الكبرى التي مرَّت بها إيران وشهدت حضوراً جماهيرياً مكثفاً وعاماً، نجد أن السبب وراء ذلك الحضور يتمثل بمشاركة العلماء في هذه الحوادث ووقوفهم في طليعة الصفوف.

أدرك الاستعمار الإنكليزي  هذه الحقيقة؛ وعلى خلفية هذا الإدراك رأي أن تدمير الكيان العلمائي هو المقدمة الضرورية التي تمهّد الطريق لاستمرار الحضور الاستعماري في إيران. وبدأ على هذا الأساس مخططه لضرب العلماء وحذفهم من الساحة بدءاً من سنة (1313هـ.ش) بواسطة عميلهم رضا خان، حيث شهدت تلك السنوات فجائع مؤلمة نزلت بساحة العلماء ونالت من مركز الحوزات العلمية وموقعها، لم يكن لها سابقة في تاريخ إيران قبل ذلك.

والذي يبعث على الأسف إنه لم يتم ـ حتى الآن ـ شرح وبيان مفصل لفجائع تلك السنوات، وما تحمل فيها العلماء وطلاب العلوم الدينية من عناء ومشاق في خط مقاومتهم لحكومة رضا خان وجبروته،ولم يُدوّن بشكل كامل بعدُ تاريخ تلك الحقبة من المواجهة والظلامة التي تحملها العلماء وطالب العلوم في أواخر سني عهد رضا خان، لتكون بين متناول الوعي الشعبي العام.

والمطلوب في هذا المجال، أن توثّق الأحداث من شهادات المشاركين في الحدث ـ وتعدادهم بحمد الله لا يزال كثيراً ـ إذ تبادر المؤسسات المسؤولية أو الأشخاص المعنيون لتسجيل تلك الشهادات وجمعها.

إنّ الاستقلال الذي يحظى به الروحانيون وعلماء الدين ـ على مستوى المعتقد والسلوك ـ وعدم نفوذ القوى الداخلية والخارجية واختراقها لصفوفهم، هي التي جعلت الحكام المتجبرين المغرورين، يعجزون دائماً في إزاحة هذه المجموعة الربانية عن طريقهم، ليخلو لهم الجو إلى سبيل الخيانة والفساد. وإذا قدَّر لجماعة من المعممين الأذلاء وعدّة من علماء البلاط أن يجلسوا على موائد الظلمة طمعاً بحطام الدنيا الزائل، ويؤيدوا أولئك الظلاّم وشباب العلوم الدينية ظلّوا يعيشون حياتهم في إطار المناعة، وفي دائرة التقوى والنزاهة، واحتفظوا بإرادة التحدي والمواجهة الصادقة المقتدرة، فأمّنوا بذلك دوام عقيدة الناس الراسخ بعلماء الشيعة، في قلب كلّ فرد من أبناء المجتمع.

لهذا السبب بالذات أضحى المجتمع العلمائي عرضة لسهام الخصوم المسمومة، وغرضاً للأعداء بمختلف ألوانهم من مستعمرين وأجانب، وعُباد الأجنبي في الداخل، فأضحى العلماء العدو الأول لهؤلاء جميعاً.

كان امتحاناً صعباً هو ذلك الذي مرَّ به علماء الدين، حيث كانوا في العهد البهلوي، وطوال خمسين سنة من تأثير السياسات الخارجية على إيران، كانوا عرضة للعداء والدعاية المضادّة، وللخطط التي استهدفتهم في عهد رضا خان والنصف الأول من عهد محمد رضا، تلك الخطط التي كانت تكشف عن ماهية استعمارية. وقد خرج المجتمع العلمائي من ذلك الامتحان الصعب، مرفوع الرأس ـ بحمد الله ـ.

وفي مدة السنين الخمسة عشرة من  عمر المقاومة ـ بين انتفاضة خرداد حتى انتصار الثورة ـ كانت الحوزة العلمية في مدينة قم والحوزات العلمية الأخرى والعلماء المعروفون، المركز الأصيل للجهاد، وبالتالي كانوا الهدف الأساسي للحملات الوحشية المعادية. بيد أنَّ الهجوم الشرس ذاك لم يفض ـ بإرادة الله ـ إلى تنكب العلماء عن طيّ طريقهم الذي يبعث على الافتخار والنهوض بواجبهم الإسلامي الذي لا يقبل التخلف، بل والأكثر أضحى الفكر الإسلامي في ذلك العهد أكثر تفتحاً ونصاعة ـ بعد أن صقلته المحنة ـ وأضحى فقه القرآن أكثر غني وعطاءً، وأضحت الشخصية العلمائية المجاهدة أكثر تجربة ونضجاً، مما قاد إلى تهيئة الأرضية المناسبة لتأسيس الحكومة الإسلامية([10]).

كان المحيط الجامعي قبل الثورة، ينظر إلى الحوزويين على أنهم جماعة مهذارة، جاهلة ولها توقعات كثيرة. شخصياً لي تجربة لقاء مباشرة مع الكثير من هؤلاء، فحينما يجلس الجامعي، مع أحد طلبة العلوم الدينية، ويتحدث الطالب الحوزوي بكلام مختصر دقيق، ترى الجامعي، يبهت، ويقول: من المدهش أن يكون مثلك بين الحوزويين، في حين أن هذا الطالب ليس أكثر من حوزوي، وقد كانت النظرة السائدة بين المؤسسات العلمية في البلد لا تتعدى هذا المستوى. في حين إذا كان في البلد مركز علمي حقيقي أصيل يعني فعلاً بالبحث والتحقيق. ويمارس العلم من أجل العلم دون أن يكون له طمع ـ مثل ـ الأجر والنفع المادي. فإنَّ مصداقه يتمثل بالحوزات العلمية.

قد استبدل التيار الجامعي والثقافي الحداثي عوامل التقي والزهد والإضاء عن الدنيا التي كانت وما تزال موجودة ـ بحمد الله. في أوساط العلماء وفي أجواء طلبة العلوم الدينية وخارجها ـ بدعاية تزعم ـ أن لا هم للمعمّم إلاّ أن يعيش بالمجان. حتى صارت هذه الدعاية كالضمير الذي ترتبط دلالته بمرجعه المعلوم الذي يعود إليه: فإذا ما ذكرت مسألة العيش المجان (أي أن يعيش الإنسان على حساب أتعاب الآخرين وكدّهم من دون أن يقدّم شيئاً) فإن ذاك ينصرف تلقائياً إلى العلماء والحوزويين.

لقد مرّت هذه الدعاية، ولم يكن الهدف منها العلماء والحوزويين، فلا خصوصية لهؤلاء، وإنما كان الهدف منها هو الدين نفسه([11]).

 

تأسيس الجامعات بهدف نبذ الدين وإعداد العناصر التابعة

الأُخوة، الأخوات، الشعب العزيز، مُنذ سنوات متمادية والسعي الحثيث قائم على إبعاد مجتمعنا عن العلم، في حين لم يكن الأمر كذلك في السباق، طبيعي لا أقصد أن جميع أبناء مجتمعنا كانوا من العلماء في الماضي البعيد، كانت الأمية سائدة بين الكثير، العلم ضئيل، ولكن الشوق إلى العلم في محيط أهل العلم، كان متزايداً؛ إذ كانوا يطلبون العلم للعلم. والذي حصل أنهم جهدوا لسنوات طويلة كي يستبدلوا هذه الثقافة في أوساط مجتمعنا، حيث تحول العلم إلى وسيلة، وأضحى العلم يُطلب لملء البطن، وهذا المسار قلل من قيمة العلم([12]).

لقد أرسلوا قواعد بناء المؤسسة الجامعية على نبذ العقيدة منذُ البداية، بحيث كانت مجاميع الشباب التي تذهب لأجل الدراسة في العهد الأول. هدفاً للدعاية التي يمارسها الأوروبيون ضدّ الإسلام. فطلائع الجيل الأول الذي انفتح على الثقافة الغربية وتربي من خلالها وفي أجوائها، كان في الغالب غريباً عن الدين، بل كان يعيش حال العناد ضدّ الدين. والذي ساعد في ذلك ضعف النفوس، وافتقار الساحة إلى التبليغ الديني القوي المتسق مع عصره.

لقد مضت قواعد المؤسسة الجامعية، على أساس عدم الإيمان بالدين، وأرادوا للجامعة كمركز لتربية العلماء طبقاً لموازين التقدم العلمي المعاصر، أن تكون ضدَّ الدين في قواعدها الأولى. وهكذا ولدت الجامعة، وهي مشروع غير ديني، بل مناهض للدين. ثم تابعوا هذا النهج غير الديني والمناهض للدين سنوات، بقوة ودقة. وبذلك لم يضعف الدين في الجامعات وحسب، بل تحولت إلى مراكز لمناهضة الدين.

طبيعي لم يكن الهدف من مناهضة الدين، هو عنوان الدين نفسه، بل كان الهدف هو الهيمنة على البلاد الإسلامية. فمن أجل تحقيق هذا الهدف كانوا مضطرين أن يبادروا إلى تربية جيل لا إيمان له بالدين، لكي يأخذ على عاتقه مهمة إدارة البلد وبنائه في المستقبل.

والذي ينبغي أن نتعرف به ـ مع الأسف ـ إن النجاح كان حليفهم إلى درجة كبيرة([13]).

أشيدت الجامعة على أساس سيّء. طبيعي كان لنا من رصيد الإيمان الإسلامي والوجدان الوطني بين الشعب، ما يكفي لكي يبقى عدد من الأساتذة الجامعيين وطلاب الجامعة، أصحّاء معافين، وهذا ما كان.

لذلك لا يمكن أبداً أن نضع جميع خريجي الجامعة في دائرة الناس البعيدين عن الدين وأهداف الدين ومصالح البلد. أما أولئك الذين أرادوا لهم أن يصلوا من بين الوسط الجامعي، على مواقع السلطة، فقد احتضنوهم بسهولة. وعليه يمكن القول إن رجال السياسة الذين انتخبوا من الصف الجامعي ـ وهم مجموعة اضطلعت بالمواقع والأعمال المؤثرة في جميع أرجاء البلد ـ كانوا جيلاً بعيداً عن الدين بشكل تام.

فالجيل الذي رُبّى في عهد رضا خان، وفي أوائل عصر نفوذ العلم الجديد والثقافة الأوروبية إلى إيران، هو جيل يفتقر إلى العقيدة والإيمان في الغالب. ولكن المسار تغيّر بعد ذلك إذ تعرّف عدد كبير إلى الدين والمسائل الدينية، ثم استيقظت العواطف وتفتحت في القلوب وانبثق فكر جديد.. ظهر إلى الوجود المثقفون المتدينون.. وترسخت مواقع العلماء النافذين في المحيط الجامعي من أمثال الشهيد مفتح، الشهيد مطهري. الشهيد بهشتي والشخصيات البارزة الأخرى، وأضحت مؤثرة في ذلك الوسط.

ومن التحولات التي طرأت. إن البعض الشخصيات الجامعية انفتحت على دنيا الإسلام وتعرفت على مسائل الدين، وجاءت النتيجة على خلاف ما أراد أولئك ـ المؤسسون الأوائل لمشروع الجامعة في إيران ـ.

أما حجر الأساس. فقد كان وضع على الصورة التي ذكرناها([14]).

كانت الجامعة في السابق، هي المحيط الذي يشهد غياب الثقافة الإسلامية بالكامل، أو على الأقل كان رديفاً لأسوأ الأماكن التي تفتقر إلى الثقافة الإسلامية، وتسجّل غيابها الكامل فيها. وفي الواقع كان النظام السابق والأجهزة الثقافية التابعة له، تقتفي نهجاً معيناً أريد للجامعات أن تنهض به. ولم تكن الأهداف السياسية بعيدة عن ذلك، بل كانت تكمن خلف المشهد([15]).

لم يكن الهدف الأول لتأسيس الجامعات، هو تعليم الشباب، بل كان الهدف هو بناء الشباب وإعدادهم بالشكل الذي يدفع الجهاز أسرع ما يمكن للارتباط بالأقطاب الاستعمارية والاستكبارية العالمية. بمعنى أن الإعداد كان يتم بما يؤدي إلى ترسيخ حالة العبودية والتبعية؛ فالشخص العزيز (المرموق) ـ في معيارهم ـ هو الذي يتفوق على غيره بالعبودية والاستسلام!

لم يكن الهدف إذاً، هو الفكر الحر المستقل، كما لم يكن إيجاد الإنسان الفاعل البنّاء. ومردّ ذلك أنّ أساس عمل الحكومات كان الارتباط ـ بالخارج ـ والتبعية له.. من الذي جاء بالنظام البهلوي إلى السلطة؟ من الذي أتى برضا خان إلى واجهة السلطة؟ وحين وصل هؤلاء إلى السلطة ـ الشاه الأب والشاه الابن وأتباعهما ـ كان همّهم أن يتحركوا بالطريقة التي تحقق منافع الأسياد الذين جاؤوا بهم إلى السلطة ومنحوهم هذه المواقع، فقد كانوا يعرفون إن قطع العلاقات مع أولئك (الأسياد) يعني افتقادهم لفرصة بقائهم في مواقعهم.

أنظروا الآن على ما يجري في منطقة الخليج الفارسي! فالأنظمة الحاكمة في تلك الدول تحس أن حياتها وموتها، وقارورة عمرها، بيد أمريكا. السعودية تعيش هذا الإحساس بشكل معين، والكويت تعيشه بشكل آخر، وبقية الدول تعيشه بشكل ثالث، ولكن المهم أن هذا الإحساس هو عنصر مشترك فيما بينهم. نظام بهلوي كان مثل هؤلاء تماماً؛ يعيش هاجسهم.

كان الاتجاه الذي تقوم عليه الحكومة ـ وتتحرك ـ وهو اتجاه التبعية والارتباط بالخارج وإظهار الطاعة والتسليم الذليل.

وقد أرادوا للطالب الجامعي أن يكون على هذا المنوال، وإذا كانوا يحرصون على الأستاذ الجامعي، فقد كانوا يريدونه أستاذاً من هذا النوع، إلاّ أن يزوي بنفسه في زاية مهملة، ويعتزلهم بحيث لا يقترب من دائرتهم، كي يعش حياة حيوانية([16])!

من الأمور الواضحة أنَّ الجامعة في طرازاها الحالي، ولدت وهي مفصولة عن الدين، بمعنى أنهم أرسوا قواعد البناء الجامعي على نحو ينتهي بولادة مؤسسة بعيدة عن الدين. وهذا الكلام لا شأن له بما قد ـ يقال من أنَّ فلان شخص، من مؤسسي الجامعة كان متديناً أم غير متدين، لأنَّ الأصل الذي أشيدت الجامعة على أساسه هو أن تكون مؤسسة بعيدة عن الدين؛ بل ومناهضة له، تماماً كما حصل مع تيار المثقفين في بلادنا، إذ وُلد المسار الذي يحتضن النخبة المثقفة في طليعتها الأولى، على أساس غير ديني.

وإنما الذي حصل هو أنَّ الدين اخترق مجالس الجامعة ونفذ إلى محيط المثقفين، كما نفذ إلى بقية المجالات والبيئات الإنسانية. فمن خصائص الدين إنه لا ينتظر إذن أحد حتى ينفذ في مجال معين، ولم يقتصر نفوذ الدين إلى الجامعة والمثقفين وحدهما، بل نفذ إلى جميع الأمكنة.

ولكن ذلك لا يغيّر من القضية شيئاً، إذ ظلّ الأصل الذي أنشئت الجامعة على أساسه، إنها ولدت بعيدة عن الدين منفصلة عنه، بل مناهضة له. وهذا البناء يجب أن يتغيّر، وعلينا أن لا نسمح للأوضاع السابقة أن تكرّر مرة أخرى.

طبيعي أن العدو لن يجلس ساكتاً عاطلاً عن العمل([17]).

_______________________

 ([1]) خطاب السيد القائد في لقائه لمجموعة من الحوزويين والجامعيين. 28/9/1369.

([2]) حديث السيد القائد في لقائه مع مسؤولي محافظة جهار محال وبختياري، في شهر كرد، 16/7/1371.

([3]) حديث السيد القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجامعي.

([4]) حديث السيد القائد في لقائه مع شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.

([5]) حديث القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي ورؤساء مناطق التربية والتعليم. 21/5/1371.

([6]) حديث القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي ورؤساء مناطق التربية والتعليم، 21/5/1371.

([7]) حديث السيد القائد في لقائه شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.

([8]) حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من أُدباء الحوزة الفنية التابعة لمؤسسة الإعلام الإسلامي 12/7/1372.

([9]) من حديث القائد في لقائه مع شعراء وأدباء فناني تبريز. 5/5/1372.

([10]) من بيان القائد في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني. 10/3/1369.

([11]) حديث السيد القائد في لقائه مع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية. 20/9/1370.

([12]) حديث القائد في لقائه مع مجموعة من أبناء الشعب بمناسبة يوم العامل ويوم المعلم، 9/2/1371.

([13]) حديث السيد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين. 28/9/1369.

([14]) حديث السيد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين. 28/9/1369.

([15]) حديث القائد في لقائه بأعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية. 20/9/1370.

([16]) حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين، 28/9/1369.

 ([17]) حديث القائد في لقائه مع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.

 

من كتاب: الثورة الإسلامية والغزو الثقافي

كلمات الإمام الخامنئي

مركز الإمام الخميني الثقافي