المقالة الرابعة: 

تعقيباً على البحوث السابقة رأينا أن نشرح جملة من الأمور التي تقدمت الإشارة إليها، فقد تقدم الحديث عن الولاية ومعناها القرآني وموارد استفادة هذا المعنى من القرآن، وتقدم أيضاً الحديث عن أبعاد الولاية وجوانبها، ولكن هناك جملة من المسائل المتفرعة عن الولاية، وهي بلحاظ نفسها مسائل متأصلة ولها استقلاليتها وأهميتها البالغة؛ حيث تعين الخطة والمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المجتمع المسلم. فهنا عدة مسائل مترتبة، فقد أثبتنا فيما تقدم أن القرآن الكريم يجعل حفظ العلاقات والروابط الداخلية، ورفض التبعيات الخارجية للمجتمع المسلم متوقفاً على وجود قدرة مركزية في هذا المجتمع، حتى تقود جميع الأنشطة والفعاليات والواجهات والأجنحة والأوضاع الاجتماعية.

ويسمي القرآن هذه القوة المركزية بالولي أي الحاكم والقائد، والذي تستلهم منه كل القوى خط سيرها وحركتها، وترجع إليه كل الأعمال، وهو الذي يدير المجتمع ويقوده في جانب الفكر والسلوك. فمن يكون هذا الولي؟ لنا إجابة مختصرة حول هذا التساؤل.

فلو قيل لنا نريد معرفة الولي، فهل نستطيع تعريفه لهم؟ وطبيعي أننا عرضنا الاجابة في ما سبق من بحوث وأنتم تعرفون هذه الاجابة؛ إذ هي ليست من الأمور الغامضة، ولكننا نريد تحليل المسألة بشكل منطقي وبصورة طبيعية، والقرآن يجيب بكلمة واحدة {الله ولي الذين آمنوا}[1] الله هو الولي الواقعي للمجتمع، وليس ثمة غير الله يكون حاكماً في المجتمع المسلم. وهذه الاجابة تبينها عقيدتنا في التوحيد وتجعلها النبوة من الأمور المسلّمة الواضحة، ولنرَ هل تثبت لنا الولاية هذه المسألة، ولابد أن تكون الاجابة واحدة لأنه أصول أي مدرسة فكرية وأي عقيدة كونية. ولابد أن لا تتناقض النتائج المستفادة من أصولها المتعددة، ولا يصح أن يستنتج نتيجة ما من أصل من أصول العقيدة ثم يستنتج ما يضاده من أصول أخرى.

وللأسف فإن صورة الإسلام التي تعيش في أذهان وقلوب بعض المسلمين الأغرار البسطاء وساذجي التفكير فيها المتناقضات.

ونعود إلى أصل الموضوع فنقول: إن لله تعالى وحده حق الأمر والنهي والقيادة وتنفيذ الأوامر وتعيين خطة السير للمجتمع، وله وحده حق الحاكمية والتدخل في كل جزئيات الحياة الإنسانية {الله ولي الذين آمنوا}، وقد قمت بمراجعة جميع الآيات التي ترتبط بالموضوع تقريباً وبشكل إجمالي، ولاحظت أن من المسلّمات القرآنية أن الله هو ولي المجتمع الإسلامي وأنه ليس للمؤمنين ولي سوى الله، ويجب أن يكون هو الحاكم في كل الأمور. وأجد من الضروري أن أذكّر هنا بعض من يمكن أن تختلط عليه عناصر هذه المسألة، أن الكلام هنا ليس عن السلطة التكوينية لله رب العالمين فهي في مكانها معلومة ومصونة، فإن الله هو الذي ينظم حركة السماوات والأرض بإرادته القاهرة، إنما الكلام عن القوانين الحياتية للإنسان، والروابط الفردية والاجتماعية، فإن هذه يجب أن تستلهم من الله سبحانه، والله لا غير هو الحاكم في المجتمع الإسلامي.

ولو طرح هذا السؤال ما تعني مقولة أن الله هو الحاكم؟ والله المتعال لا يلتقي الناس وجهاً لوجه حتى يأمرهم وينهاهم، والناس في حاجة إلى إنسان يحكمهم وتفوض إليه مقاليد الأمور، ولا أريد بذلك أن أنفي القيادة الجماعية، بل أريد القول بأن مقاليد الأمور والحاكمية لابد أن تكون بيد إنسان واحد، ولا يكفي وجود القانون لوحده في دفع الفوضى الاجتماعية حتى وإن كان هذا القانون إلهياً ما لم يوجد ولي أو قائد أو مجموعة قيادية حاكمة تشرف على تنفيذ القوانين في المجتمع.

لكن من هو هذا الإنسان، وكيف يكون، وما هي صفاته؟ ومن هي المجموعة التي يقدر لها قيادة المجتمع البشري؟

وللإجابة على هذا التساؤل قدمت عدة إجابات، كما أنه تعددت الإجابات التاريخية أيضاً، فهناك فئة تقول أن الملك لمن غلب، وهذا هو منطق حكومة الغاب، وثمة فئة تقول أن الملك والحاكمية لمن يتصف بصفة التدبير الدقيق. وفئة ثالثة تقول أن من يوليه الناس ويقبلونه فهو الحاكم. وفئة رابعة تقول أن الحاكم من يملك الذهب والفضة أو العشيرة والاتباع، وهناك من يبرز مقولات مخالفة لهذه.

وأما الإجابة الدينية الإسلامية فهي {إنما وليكم الله ورسوله}، فزمام الأمور الاجتماعية والأمر والنهي وإدارة الأمور جميعاً من ناحية عملية بيد الرسول. وحين يكون الرسول بين ظهراني المسلمين لا معنى لوجود حاكم آخر غيره، والذي يستلم كل القدرات والحاكميات هو الرسول، ولكن عندما ينتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وهو يموت كسائر البشر، فماذا تكون الإجابة؟ {والذين آمنوا}، من هم هؤلاء، فهل أن كل من آمن بالله ورسوله يكون ولياً وحاكماً على المجتمع المسلم؟ وهذا يستلزم أن يكون هناك حاكمين بعدد المؤمنين، والآية تريد أن تضع علامة على إنسان معين لدى المقنن والمشرّع الإسلامي، كما أنها تذكر علة انتخابه وتعيينه حاكماً، حتى تحدد لنا المقياس والضابط في الولاية والحاكمية؛ فالآية تقول {الذين آمنوا} بصدق وبشهادة العمل والسلوك، وهذا هو الشرط الأول الإيمان الواقعي الخالص.

والشرط الثاني {الذين يقيمون الصلاة}، فلا يؤدونها فقط. وفرق بين إقامة الصلاة وأداءها، وإقامة الصلاة في المجتمع هي إحياء روح الصلاة وانعاشها في المجتمع، وعندئذ يتحول المجتمع إلى مجتمع يقيم الصلاة. وتعلمون أن المجتمع الذي يصلي هو المجتمع الذي يكتنف كل أنحائه وزواياه ذكر الله ويتموج في كل أجزاءه ذكر الله بصورة مهيبة، وفي المجتمع الذي يتموج في خلاياه ذكر الله لا تقع فيه أي جناية أو فاجعة أو خيانة، ولا تمس فيه قيم الإنسان أدنى مساس.

واتجاه هذا المجتمع الذي يتحرك في كل وجوده ذكر الله اتجاه إلهي، ولا يقوم الناس بأعمالهم إلا من أجل الله وفي سبيله وطلباً لمرضاته، والابتعاد عن ذكر الله هو عامل كل أنواع الإذلال والظلم والاعتداء على النفس وعلى الآخرين.

وقائد المجتمع الذاكر لله مثل علي(ع) لا يظلم، بل يحارب الظلم، والرعية فيه مثل أبي ذر الغفاري الذي لم يخضع للظلم ولم يعش تحت كنفه رغم أنه منفي ومبعد عن وطنه، ورغم أنه كان قد تعرض للضرب والإيذاء، ورغم أنه مهدد.. لم يبتعد عن طريق الله ولم ينسه، وهذا المجتمع الذي يذكر الله ويقيم الصلاة هو المجتمع المرضي الذي يتوجه إلى الله.

الشرط الثالث {ويؤتون الزكاة}، يقسّمون الثروة بصورة عادلة ويدفعون الزكاة وينفقون في سبيل الله.

ويضاف إلى هذا الشرط {وهم راكعون} أي في حالة الركوع يدفعون الزكاة، وهذه إشارة إلى ظاهرة واحدة وحالة معينة وقصة فريدة خاصة. وقد قال بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى {وهم راكعون} أنهم في حالة ركوع في كل شئونهم وأوضاعهم وأفعالهم، فلا تكون هذه الفقرة من الآية إشارة إلى مورد خاص.

أما علماء العربية والمختصون بدراسة الأوضاع اللغوية فيردّون هذا الاحتمال ويقولون أن فقرة {وهم راكعون} حال من قوله تعالى {ويؤتون الزكاة}، فهم يدفعون الزكاة في حالة الركوع. والذي يخطر في ذهني وأحتمله أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق، لأن خاتم أمير المؤمنين(ع) الذي دفعه إلى السائل وهو راكع لم يكن يشمله مصطلح الزكاة، وإنما أنفقه في سبيل الله كما ينفق أي مال غير زكوي، ولأنه أنفقه في سبيل الله سمي زكاة، وتريد الآية الإشارة إلى رجل مؤمن له حب كبير للمساواة وله تعلق قلبي عظيم بالعدالة والإنفاق، وهو يتألم عندما يشاهد فقر الفقير وعوز المحتاج، ولم يستطع أن يصبر حتى يتم صلاته، فثمة جاذبية شديدة للإنفاق في نفس هذا الرجل لم تمهله إلى أن يتم صلاته، وهو متفاعل مع التكليف والتحمل، فقد شاهد فقيراً وشاهد مظهر الفقر الذي لا يحب أن يراه الله، وهو لا يحب أن يرى مظهر الفقر ولم يكن عنده ثروة غير خاتمة، فنزعه وهو في صلاته وأعطاه للسائل. إذن هذه الفقرة تشير إلى عمل ومورد خاص ومحدد في التأريخ قام به أمير المؤمنين ونزلت الآية.

وكما تلاحظون فإن الآية تشير إلى علي بن أبي طالب وتضعه ولياً للأمر، وليس هذا التعيين كالتعيينات التي يقوم بها الأقوياء ذوو البطش والمكر في التأريخ وطواغيت التأريخ وفراعنته، وكما فعل معاوية عندما أراد أن يعين خليفة له حيث قال: خليفتي فيكم ابني فهو الذي يجلس في هذا المقام، والله سبحانه لا يعين لنبيه خليفة بهذا الشكل، وإنما الملاك في الحاكمية هو الإيمان الكامل بالله وإقامة الصلاة في المجتمع وحب الإنفاق وإيتاء الزكاة بالشكل العفوي الذي فعله علي(ع)، وبتعيين الله علياً(ع) بهذا الشكل نفهم الملاك في الخلافة والإمامة وفلسفة ذلك.

وبناءً على هذا، يكون ولي الأمر في الإسلام هو من يعينه الله سبحانه لا غير، ونحن نعرف أن الأصل والأساس الذي نعتمده هنا هو أن طبيعة الخلقة تتنافى مع حاكمية الإنسان على الآخرين، ومن له حق التصرف والحاكمية هو الله سبحانه، ولأن لله حق الحاكمية فهو قادر على تعيين ولي وحاكم على ضوء علمه بالمصالح البشرية ويمنح حق الحاكمية لمن يريد، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأفعال الله معللة بالحكمة وليست خالية من المصالح الراجعة إلى العباد، وليس الله ديكتاتوراً ولا طاغوتاً ولا مستبداً ولا محتكراً للسلطة حتى يفعل ما يفعل من غير حكمة أو مصلحة، بل أن أعمال الله سبحانه تنسجم مع المصالح الإنسانية، ولأن تعيينه لمن يريد منسجم مع مصالح الناس، فعلينا الخضوع والتسليم لمن يعينه.

فهو يعين النبي والإمام، ويحدد الشروط لمن يخلف الأئمة الهداة المعصومين كقائد في المجتمع الإسلامي، فالله هو الذي يعين الولي، وهو الولي ونبيه ولي أيضاً والأئمة أولياء للأمر، وقد عين الأئمة الاثني عشر أهل بيت النبي وذريته، ثم يأتي من بعدهم من يعين بمعايير وضوابط محددة.

وطبيعي أن هذه آية واحدة ذكرتها لكم، وهناك آيات أخرى في القرآن ذكرنا بعضها في هذه المقالة، وعليكم أن تراجعوا القرآن الكريم للحصول عليها، ولدينا آيات كثيرة حول هذا الموضوع، والأساس الذي يعتمده الإسلام في هذا المجال هو منع وقوع الحاكمية بيد من يقود الناس إلى جهنم.

وقد حدثنا التأريخ عن هذا الأمر، وقد شاهدنا ما الذي فعلوه بالمجتمع الإسلامي بعد صدر الإسلام، والذي حلّ في ذلك المجتمع هو ضياع قدر الرجال الكبار وعظمتهم، وقد استبدل ذلك المجتمع مقاييسه الإيمانية الرفيعة بمقاييس تافهة، ولم يستطع الناس آنذاك أن يعرفوا الناصح والمشفق والمصلح لهم، وكم قد بذلوا من جهود حتى أضلوا الناس إلى هذا الحد، فالاعلام المسموم للسلطات الجائرة أثّر على المجتمع المسلم بشكل رهيب حتى تغير الأفق العلمي للناس، وقد اضطربت رؤيتهم فكانوا يصيّرون السواد بياضاً والبياض سواداً. ومن يراجع تاريخ القرن الأول والثاني الهجريين يصاب بالألم والحسرة لما يشاهده من فجائع ومظالم يرتكبها الجهاز الحاكم مع سكوت المسلمين وعدم اهتمامهم لما يجري، ويعجب الإنسان من هؤلاء الذين لم يصبروا في زمان عثمان على ما وقع من حوادث، فحاصروا عثمان وخلعوه من الخلافة بشكل فجيع، هؤلاء هم الذين يرون الاسراف في إنفاق ومصارف الخليفة العباسي في (حفلة زواج)؛ ففي تلك الحفلة أُنفق ما يكفي لسد حاجة قطاع كبير من المجتمع الإسلامي، فهم يرون هذا الوضع ولا ينبسون ببنت شفة، يشاهدون كيف يصرف مال المسلمين في موارد شخصية وهم لا يحركون ساكناً، فهذا المال ملك لآلاف المسلمين، وها هو ينفق لشخص واحد، ولا أقول يصرفه لرفاهه وسعادته المادية بل لو صرفه لصلاته وصيامه، فهل يجوز له هذا العمل؟ والناس يرون أن هذه الأعمال تقع في المجتمع الإسلامي وهم غافلون غير مبدين لأدنى اهتمام. ولعلي ذكرت لكم في مناسبة ما قصة جعفر البرمكي وهو الوزير المقرب والمحبوب لدى هارون الرشيد بشكل كبير، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة عندما أراد هارون أن يزوجه، غيّر سنة الناس بنثر الحلوى والزهور على رأسي العروسين بسنة أخرى ونثر على رأسيهما شيء آخر، مما أثار استغراب الضيوف وهم أشراف القوم ومترفيهم. وما كان من هؤلاء إلا أن تراكضوا فجمعوا ما وصلت إليه أيديهم.

فما الذي شاهدوه؟ لقد رأوا علباً صغيرة بقدر الإصبع مصنوعة من الذهب الخالص، وعندما تفتح العلبة تستخرج منها ورقة رقيقة، ثم تفتح هذه الورقة لتصير هي نفسها ورقة كبيرة لكنها عندما تطوى تتحول إلى ورقة صغيرة جدا،ً وقد كتب فيها صدر الأمر بأن تكون مالكاً للمقاطعة الكذائية، أو ذلك القسم من البلاد ملك لك.

والله يعلم كم من اسناد الملكية قد طوى بذلك الشكل الغريب ليوضع في تلك العلب الذهبية، وأما الذين أخذوا هذه العلب، فالخليفة لا يعرف من هم، ولنفرض أن سند أملاك الأرض الكذائية قد وقع في يد طفل، أو سكير قاتل، أو إنسان تافه حقير، وهؤلاء الذين لا يعرفهم الخليفة سوف لن يحرمهم مما حصلوا عليه، فكل منهم سوف يملك الإقطاعيات الواسعة، وبهذا العمل كم من الحقوق سوف يضيع، وكم سيذهب هدراً من الثروات، وما أكثر الحرمان الذي سيصيب كثيراً من الناس. لم يكن كل هذا محطاً لتفكير هؤلاء وليس مهماً عندهم، في مثل هذا الترف والإسراف يعيش أحد العلويين وهو يحيى في جبال طبرستان وهو يقاوم الظالمين، وكان ليحيى رداء واحد يلبسه عندما يصلي ثم يعطيه لزوجته لتصلي فيه، كانت ذرية النبي تقاوم الظالمين وهم في مثل هذه الحالة من الفقر، وكان الناس يعيشون هذه الأوضاع ولا تثير اهتمامهم، لست أريد انتقاد هارون أو أشكوه أو أعاتبه، فإنه إذا لم يقم بمثل هذه الأعمال فليس بهارون.

والطبقة التي ينتمي إليها هارون حين تكون هي الحاكمة. فستقع هذه الأعمال والمآسي فلا عجب ولا عتاب مع هؤلاء، ولكن اللوم يقع على عامة الناس الذين نسوا التاريخ المشرق لصدر الإسلام ونقائه وخلوصه وفقدوا ذلك الوعي والتيقظ، والفهم الراجح الذي كان صفة بارزة من صفات مسلمي صدر الإسلام، ولهذا فلا يشعرون بالأهمية لما يقع، ولا يحسون بمسؤولية التغيير عند مشاهدة الظلم والمآسي، ولا يتألمون لما يقع. لماذا وصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟ كان ذلك نتيجة الاعلام المزيف الوضيع، وهذا نتاج طبيعي لعمل المؤسسات التبليغية بين صفوف الناس، وهكذا عملت هذه الأيادي التبليغية سنوات متعددة متطاولة في أقطار المجتمع المسلم والبلاد الإسلامية، فهم يؤثرون على فكر الإنسان وروحه وشخصيته حتى وصل الأمر إلى الوضع الفعلي للمسلمين.

وبهذا تدركون أهمية اتصاف الحاكم في المجتمع الإسلامي بشروط معينة، وضرورة تعيينه من قبل الله سبحانه. ويقول القرآن في آية أخرى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[2]، فمن هم أولي الأمر الذين يلزمون الناس بأوامرهم؟ يتخيل السطحيون من المسلمين أن صاحب الأمر كل من يستطيع أن يصدر أمراً ولو استخدم القوة، ونحن نجيب بالنفي لذلك؛ فليس مثل هذا ولياً لأمر المسلمين، وإذا كان الأمر بهذا الشكل، وإذا كان القرآن يقصد هذا المعنى فالذي يترتب على ذلك هو أن يكون اللص وقاطع الطريق الذي يعيش في ذلك الجبل أو القرية من أولي الأمر، لأنه يتصرف في منطقته كيف يشاء، ويجب أن يطاع حينئذ لأنه من أولي الأمر. والله سبحانه هو الذي يصدر أمراً بتعيين أولي الأمر حسب عقيدة الشيعة، وهذا ما تريده الشيعة، فالحاكم هو ذلك الفرد الذي يشكل جزءً من المجتمع المسلم لكنه معين من قبل الله سبحانه، وهو صاحب الولاية الكبرى، وهل يصلح مثل هارون الرشيد لمنصب ولاية الأمر وهو الذي كان في ذلك الوضع المنحط، ومع إسرافه وتصرفاته غير المسئولة، ومع طبيعته الدموية القاسية حيث قتل جعفر البرمكي ومجموعة من عشيرته في يوم واحد شر قتلة، وهذا ما فعله أيضاً بكثير من المؤمنين إلى غير ذلك من جرائمه، ويقول القاضي والمفتي في ذلك العصر أن هارون هو ولي الأمر، والمواجهة الحادة مع الإمام الكاظم(ع) كانت نتيجة لهذا الفهم، فهم يسألون الإمام لماذا تضع نفسك في مواجهة مع ولي أمر زمانك وهم يقصدون بذلك هارون. نظرية الشيعة في هذا المجال نظرية دقيقة، وهم يستنبطون ضرورة التعيين الإلهي للإمام وولي الأمر من القرآن الكريم، ويستنبطون الملاكات والضوابط التي يضعها القرآن الكريم تحت نظر المسلمين حتى لا يخدعوا وحتى لا يقولوا نضع علياً(ع) فوق رؤوسنا وتحت أحداق عيوننا، وكذلك يفعلون مع من يخلف علياً وإن كان هارون، وقد قال المنصور العباسي نحن نرضى بخلافة الحسن(ع) ولكنه باع الخلافة بالمال ولهذا فليس له الحق في الخلافة، ونحن أخذنا الخلافة بالقوة من أولئك الذين باعهم الحسن هذه الخلافة، فهي لنا يظهر على هؤلاء المخدوعين أنهم يقبلون خلافة علي(ع) ويرتضون المنصور العباسي خليفة لعلي ونائباً عنه، ولا يشاهدون أي تباين فكري أو سلوكي بين الاثنين. ولكن الشيعة يرفضون هذا المنطق الأعوج ويخطئونه، ويقولون مع قبول حكومة علي(ع) يجب الالتزام بمعايير وضوابط الحاكمية والولاية، وعلي(ع) إنما انتخب خليفة لاجتماع هذه الملاكات في شخصيته، وإذا كان ثمة من لم تجتمع في ذاته هذه الضوابط أو كان يتصف بما يضادها فليس له حق التولي والحاكمية على المسلمين، وليس لأحد الحق في الأخذ منه والقبول بولايته.

هذا هو أول الأمور التي تظهر من مسألة الولاية. وطبيعي أننا أشرنا إلى الأمر الثاني وذكرنا الآية التي تحدده، فلو سأل سائل عن الدليل على أن ولاية الأمر تحت الاختيار والاصطفاء الإلهي، فسيكون الجواب أن هذا نتيجة طبيعية للفهم الذي أوجده الإسلام؛ فإن الرؤية الكونية الإسلامية حددت هذا بوضوح، وأن كل شيء في الكون أنما يخلق ويوجد بقدرة الله ومشيئته ويستحيل أن يخرج عن قدرته.

{وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}[3]، وما دامت كل الظواهر الكونية بيده فله الحاكمية التكوينية على كل شيء، كذلك يكون الأمر في الحاكمية التشريعية والتقنينية إذ لا فصل بينهما. ولنلتفت إلى هذه الآيات {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا}[4]، إن الله يأمركم لأنه سميع بصير، يسمع نداءات حاجاتكم الداخلية والباطنية، وبصير بحياتكم فيعطيكم ويهبكم ما تحتاجون إليه.

وهذه الآية تتحدث عن الإمامة أولاً وتأمر بإعطائها لأهلها، وهي تهيأ المناخ للآية الثانية. وعليّ أن أذكر هنا أن الأمانة لا تعني فقط أن ترد عليّ ما وضعته بيدك كأمانة ووديعة، بل أن أهم نماذج الأمانة، الأمانة الإلهية المودعة بين الناس، وعلى المسلم أن يضعها في مكانها الطبيعي وبيد أهلها، وطاعة الإنسان لله ميثاق الله مع عباده، فعلى الإنسان أن يفي بما عاهد عليه الله، وعليه أن يضع أمانته في مكانها في الواقع، وكما هي عند الله فهو يطيع الله ويطيع من أمر الله بطاعته. هذا هو أهم مصاديق الأمانة، وفي الآية الأخرى يقول القرآن {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[5]، وهنا يبرز وجه الاختلاف بين النظرية الإسلامية وبين النظريات الأخرى.

والنظرية الإسلامية لا تقول سوف يأتي يوم لا يحتاج الناس فيه إلى حكومة وسلطة، في حين نرى أن بعض المدارس الفكرية ترى أن المجتمع سوف يصل إلى درجة المثالية. ومن سمات هذا المجتمع وخصائصه أنه لا يحتاج إلى حكومة وسلطة، وهذا أمر لم يتبناه الإسلام والمقنن الإسلامي، وقد قال الخوارج بدعوى الحكومة الإلهية أن علياً ليس له الحق في أن يكون حاكماً ويجب قتاله إذ لا حكم إلا لله.

وقد قال علي جواباً على ذلك(كلمة حق يراد بها باطل)[6]. نعم كلام الخوارج حق فالله هو الحاكم الواقعي وبيده التقنين وهو مصدر الوجود والحياة وبيده كل جزئيات الأمور، لكن هؤلاء لا يقولون لا حكم إلا لله وهم يريدون بذلك(لا إمرة إلا لله)، والحكومة والقانون بيد الله.

ولكن من هو منفذ القانون؟ فهل تقولون أن غير الله لا يستطيع تنفيذ القانون ثم يقول لابد للناس من أمير فالمجتمع يحتاج إلى قائد وحاكم، ولا يكفي وجود القانون بل لابد من وجود شخص ينفذ هذا القانون ويشرف على تنفيذه كاملاً.

وهذا هو مفاد قوله تعالى {وأولي الأمر منكم}، ولو استفيد أن المراد مطلق من يكون له سلطة ونفوذ وقوة، فيجب طاعة كل من يصدر أمراً، عندئذ ماذا نقول بشأن ما يقع كثيراً من وجود آمرين يصدران أوامر متعارضة، فهل كون كل منهما ولياً للأمر؟! وكثيراً ما يشاهد أيضاً أن هناك من يأمر بما يخالف العقل، والعقل المفكر لا يخضع أو يمتثل مثل هذا الأمر بل ينفيه، وهنا يبرز الاختلاف الأساسي بين المنهج الذي نفكر على ضوئه وبين منهج آخر؛ فنحن نقول هناك ضوابط تحدد أولي الأمر والقادة، أما غيرنا فلا يشترطون ذلك عملياً ولا يعملون به. {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}[7] أي أحسن عاقبة ومستقبلاً.

انظروا كيف يلفت القرآن أنظار الناس وعقولهم نحو العواقب الحسنة والقيادات الصالحة، ونحو العواقب الوخيمة والقيادات غير الصالحة.

ثم تذم الآية اللاحقة كل من يتخلف عن هذا القانون الشامل {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} فيرجعون إليه لرفع النزاع وفض الخصومة، ويستلهمون منه الرأي، ويتلقون منه الأمر، ويعيشون وفق نظريته ورؤيته، وهذا ما ينافي الإيمان.

{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}. الضلال هنا بعيد ومستقبلي، وأنا أحتمل أن الشيطان هنا هو الطاغوت لا غير، فهؤلاء يريدون الرجوع إلى الطاغوت غافلين عن أن هذا الشيطان والطاغوت يريد أن يضلهم عن الطريق المستقيم ويقودهم في متاهات الغواية والضياع، ويبعدهم عن الاستقامة فيصعب عليهم الرجوع إليها إلا مع الجهد الكبير.

والأمر الآخر الذي يترتب على الولاية الإلهية هو أن هذه الولاية وتحملها من قبل المؤمنين مرتبط بالنظرة الكونية الإسلامية، ومن الطبيعي أن تقول أن الله يجب طاعته فهو ولي الأمر.

هذه هي فلسفتنا الطبيعية ونظرتنا الكونية لأن كل شيء لله، وتوضّح هذا الأمر الآية الكريمة {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}[8].

 

خلاصة المقالة الرابعة

تطرح حول الولاية مع سعتها وشمولها كما عرضها القرآن مسائل متعددة قد تكون هذه المسائل أصولاً مستقلة في معرفة الأسس والأهداف الإسلامية.

ويمكن فهم بعض هذه المسائل مع التدبر البالغ في الآيات القرآنية:

1 ـ الولي في المجتمع الإسلامي هو القوة التي تقود وتدبر كل الفعاليات والنشاطات الفكرية والعملية، والولي هو الله ومن يعينه الله باسمه أو أوصافه {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} .

{الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[9].

{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً}.

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم إن، كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}.

{من يطع الرسول فقد أطاع الله}.

{ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}[10].

{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}

2 ـ الولاية الإلهية وقبولها من قبل المؤمنين تنشأ من فلسفة الإسلام وأسس نظريته الكونية، وحينئذ يكون الولاء لله ولأوليائه أمراً طبيعياً.

{وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}

{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم}

{قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم}

{ولا تكونن من المشركين}[11].

أسئلة المقالة الرابعة

1 ـ حدد المعنى الذي تحدثنا عنه للولاية في ما تقدم من مقالات؟

2 ـ الله هو الحاكم المطلق، ماذا يعني حصر الولاية به، ولماذا كان الأمر كذلك وكيف تتحقق حاكمية الله؟

3 ـ هل للإنسان الحكم والتسلط على أخيه الإنسان بحسب طبيعة الخلقة؟ ومع الإجابة بالنفي كيف نفهم ولاية النبي والأئمة والفقهاء؟

4 ـ ما هو جواب القرآن عن السؤال التالي: من هو الحاكم والولي على المجتمع المسلم؟

5 ـ من هم أولو الأمر الذين عنتهم الآية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}؟

6 ـ ما هو أهم مصداق للأمانة الواردة في الآية 58 من سورة النساء؟

7 ـ وضّح (المقالة الرابعة) مستنداً إلى الآيات 58ـ60 من سورة النساء؟

___________________________

 [1] ـ سورة البقرة، الآية: 257.

[2] ـ سورة النساء، الآية: 59.

[3]  سورة الأنعام، الآية: 13.

[4] ـ سورة النساء، الآية: 59.

[5]  سورة النساء، الآية: 59.

[6] ـ نهج البلاغة، الخطبة الأربعون.

[7] ـ سورة النساء، الآية: 59.

[8] ـ سورة النساء، الآية: 60.

[9] ـ سورة الأنعام، الآية: 13.

[10]  سورة المائدة، الآية: 55.

[11]  سورة النساء، الآية: 80.

 

من كتاب: الإمام الولاية ــ الإمام الخامنئي دام ظله