بسندي المتَّصل إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَليِّ بْنِ إِبْراهِيمَ، عَنْ أبيه، عَنِ النَّوْفَلي، عَن السَّكُوني، عَنْ أبي عَبد الله عليه السلام قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم: «مَن كانَ في قَلْبه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ عَصَبَيَّةٍ، بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرابِ الجَاهِليَّةِ»[1].

 

 الشرح:

الخردل، نبات معروف له خواص كثيرة، ويصنع منه الشمع، والعصبيّ: هو الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم. وعُصبة المرء أقرباؤه من جهة الأب، لأنهم يحيطون به فيقوى بهم، والتعصب بمعنى الحماية والدفاع.

يقول الفقير إلى الله: العصبية واحدة من السجايا الباطنية النفسانية. ومن آثارها الدفاع عن الأقرباء، وجميع المرتبطين به وحمايتهم، بما في ذلك الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي، وكذلك الارتباط بالوطن وترابه، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلّمه، أو بأستاذه، أو بتلمذته وما إلى ذلك. والعصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وتكون سبباً في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل. وهي بذاتها مذمومة حتى وإن كانت في سبيل الحق، أو من أجل أمر ديني، من غير أن يكون مستهدفاً لإظهار الحقيقة، بل يكون من أجل تفوقه أو تفوق مسلكه ومسلك عصبته، أما إظهار الحق والحقيقة وإثبات الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها، فإما أنه ليس من التعصب، وإما أنه ليس تعصباً مذموماً.

إن المقياس في الاختلاف يتمثل في الأغراض والأهداف وخطوات النفس والشيطان أو خطوات الحق والرحمن. وبعبارة أخرى، إن المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّتِهِ ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحق ودحض الباطل، فهو تعصب محمود ودفاع عن الحق والحقيقة. ويعدّ من أفضل الكمالات الإنسانية، ومن خلق الأنبياء والأولياء. وعلامته المميزة هو أن يميل الإنسان إلى حيث يميل الحق فيدافع

عنه، حتى وإن لم يكن هذا الحق إلى جانب من يحبّ، بل حتى لو كان الحق إلى جانب أعدائه. إن شخصاً هذا شأنه يكون من جملة حماة الحقيقة، ومن زمرة المدافعين عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة، ومن الأعضاء الصالحين في المجتمع، ومن المصلحين لمفاسده.

أما إذا تحرّك بدافع قوميته وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة، سجية العصبية الجاهلية. وأصبح عضواً فاسداً في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح، وصار في زمرة أعراب الجاهلية، وهم فئة من أعراب البوادي قبل الإسلام ممن كانوا يعيشون في ظلام الجهل، وقد قويت فيهم هذه النزعة القبيحة، والسجية البشعة بل إن هذه الصفة توجد في معظم أهل البوادي ـ عدى من اهتدى بنور الهداية كما ورد في الحديث الشريف عن الأمام أمير المؤمنين عليه السلام: أن الله سبحانه يعذب طوائف ستة بأمور ستة:

أَهْلَ البَوَادِي بِالعَصَبِيَّةِ وَأَهْـلَ الْقُرَى بِالْكِبَرِ وَالأُّمَرَاءِ بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ، وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ وَأَهْلِ الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ.

 

فصل: في بيان مفاسد العصبية

يستفاد من الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة والطهارة أن العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم أخلاق الشيطان.

جاء في الكافي بسنده الصحيح، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «مَنْ تَعَصًّبَ أوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خُلِعَ رِبْقُ الإيمان مِنْ عُنُقِه»[2]. أي أن المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد رضي بعمل المتعصب، يصبح شريكاً له في العقاب. كما جاء في الحديث الشريف: «ومن رضي بعمل قوم حشر معهم. أما إذا لم يرض به واستنكره فلن يكون منهم».

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «مَنْ تَعَصَّبَ عَصَّبَهُ اللهُ بِعصابَةٍ مِنَ النّارِ»[3].

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لَمْ َيْدُخِل الجَنَّةَ حَمِيَّةَ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَذلِكَ حينَ أسْلَم غَضَباً للنَّبِيِّ»[4].

وقد وردت قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب بعبارات مختلفة، وهي خارجة عن نطاق بحثنا هذا. وعلى كل حال، فمن المعلوم أن الإيمان، وهو الفوز الإِلهي ومن الخِلَعِ الغيبية لله جل جلاله، الذي يفيض بها على المخلصين من عباده، والخاصّة في محفل انسه، يتنافى مع مثل هذه السجية الممقوتة التي تدوس الحق والحقيقة، وتطأ بأقدام الجهل على الصدق والاستقامة.

ولا شك في أن القلب إذا غطّاه صدأ حب الذات والأرحام والتعصب القومي الجاهلي، فلن يكون فيه مكان لنور الإِيمان، ولا موضع للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى. إن ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجليات نور الإيمان والمعرفة، ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية وتكون ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل والشرع، دون أن يهز موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن الطريق المستقيم. إن الإِنسان الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف ولي نعمته، ويضحي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقي. ومن الواضح أن مثل هذا الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية، وانه بريء منها، ولا يتجه قلبه إلاّ إلى حيث الحقائق ولا تغشي عينيه أستار العصبية الجاهلية السميكة وأنه يطأ بقدميه في سبيل إعلاء كلمة الحق والإِعلان عن الحقيقة على كل العلاقات والارتباطات، ويفدى بجميع الأقرباء والأحبة والعادات على أعتاب ولي النعم المطلق. وإذا تعارضت العصبية الإِسلامية عنده مع العصبية الجاهلية، قدَّم الإسلام وحب الحقيقة.

إن الإنسان العارف بالحقائق يعلم أن جميع العصبيات والارتباطات والعلاقات ليست سوى أمور عرضية زائلة، إلا تلك العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي أمر ذاتي غير قابل للزوال، وهو أوثق من كل ارتباط، وأقوى من كل حسب وأسمى من كل نسب.

في حديث شريف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «كُلَّ حَسَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ حَسَبي وَنَسَبي»[5]. وذلك لأن حسب رسول الله ص لّى الله عليه وآله وسلم روحاني وباق، وبعيد عن جميع العصبيّات الجاهلية، وهذا الحسب والنسب الروحانيين في ذلك العالم، يكون ظهوره أكثر وكماله أوضح فإن نسبه علاقة إلهية لا تظهر على كمال حقيقتها إلاّ في ذلك العالم. إن هذه العلائق الجسمانية المُلكية القائمة على العادات البشرية إنما تتقطع بأتفه الأسباب، وليس لأي منها في ذلك العالم نفع ولا قيمة، إلاّ تلك العلائق التي تتوثق في نظام ملكوتي الهي وتحت ظل ميزان القواعد الشرعية والعقلية التي لا انفصام لها.

 

فصل: في بيان الصورة الملكوتيّة للعصبية

سبق في شرح بعض الأحاديث القول بأن المعيار في الصور الملكوتية والبرزخية وفي يوم القيامة هو الملكات وقوتها، وإن ذلك العالم هو محل ظهور سلطان النفس الذي لا يعصي له الجسم أمراً. فقد يحشر الإِنسان في ذلك العالم على صورة حيوان أو شيطان. وقد مرّ بنا في الحديث في بداية المقال: «مَنْ كَان فِي قَلْبِهِ حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ عَصَبِية بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الجَاهِلِيَّةِ». ولعله إشارة إلى ذلك الموضع الذي ذكرناه.

إن الإنسان الذي فيه هذه الرذيلة، لعله عندما ينتقل إلى العالم الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير إيمان بالله تعالى ولا بالنبوة والرسالة، ويرى أنه في الصورة التي يحشر بها أولئك الأعراب، ولا يعلم بأنه كان في الدنيا يعتنق العقيدة الحقة من الإيمان بالله وبرسوله وأنه من أمة الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلم. كما جاء في الحديث عن أهل جهنم ينسون اسم رسول الله، ولا يستطيعون أن يعرفوا أنفسهم، إلاّ بعد أن يشاء الحق سبحانه أن يُنجيهم. وبما أن هذه السجية من سجايا الشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعل أعراب الجاهلية وأصحاب العصبية يحشرون يوم القيامة على هيئة الشياطين.

في الكافي في الصحيح، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إِنَّ المَلائكَة كانُوا يَحْسَبُونَ أنَّ إِبْليسَ منْهُمْ وَكانَ في عِلْم اللهِ أنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ فَاسْتَخْرَجَ ما فِي نَفْسِهِ بالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ. فقال خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ»[6].

فاعلم أيها العزيز أن هذه الخصلة الخبيثة، من الشيطان، وإنها من مغالطات ذلك الملعون ومعاييره الباطلة. انه يغالط عن طريق هذا الحجاب السميك الذي يخفي عن النظر كل الحقائق، بل يظهر رذائل النفس كلّها محاسن، وجميع محاسن الآخرين رذائل، من الواضع أنه كيف يكون مصير الإِنسان الذي يرى جميع الأشياء على غير حقيقتها وواقعيتها.

وفضلا عن كون هذه الرذيلة هي نفسها تكون سبب هلاك الإنسان، فإنها كذلك منشأ الكثير من المفاسد الأخلاقية والأعمال القبيحة التي لا يتسع المجال لذكرها.

وعليه، إذا عرف الإِنسان العاقل أن هذه المفاسد ناشئة من تلك السجية الفاسدة، وأذعن للشهادة الصادقة المصدقة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته عليهم السلام بأن هذه الرذيلة تجر الإنسان إلى الهلاك وتدخله النار، فما عليه إلاّ أن يتصدى لعلاج نفسه من هذه السجية، وأن يطهر قلبه حتى من حبة خردل منها، حتى يكون طاهراً عند الانتقال من هذه الدنيا إلى العالم الآخر عند اقتراب أجله، فينتقل بنفس صافية. إن على الإنسان أن يدرك أن الفرصة محدودة والوقت قصير جدا، لأنه لا يعلم متى يحين موعد رحيله.

أيتها النفس الخبيثة لكاتب هذه السطور، لعل الأجل المقدر قد حان وأنت منهمكة في الكتابة، فينقلك بكل رذائلك إلى العالم الذي لا عودة منه.

ويا أيها العزيز يا من تقرأ هذه الوريقات، خذ العبرة من حال هذا الكاتب الذي يرزح الآن أو مستقبلاً تحت الثرى، وهو في العالم الآخر مبتلى بأعماله وأخلاقه البشعة. لقد ضيّع الفرصة الثمينة التي كانت عنده بالبطالة والأهواء، فأتلف ذلك الرأسمال الإلهي وأباده. فانتبه إلى نفسك لأنك ستكون يوماً مثلي دون أن تعلم متى يكون ذلك. فلعلك الآن وأنت مشغول بالقراءة، إذا تباطأت ذهبت الفرصة من يدك. يا أخي، لا تؤجل هذه الأمور لأنها لا تحتمل التأجيل، فكم من إنسان سليمٍ وقويٍ فاجأه الموت في لحظة وأخرجه من هذه الدنيا إلى العالم الآخر ولا نعلم عن مصيره شيئا. إذاً، لا تضيّع الفرصة، بل اغتنم اللحظة الواحدة، لأن القضية عظيمة الأهمية، والرحلة شديدة الخطورة. فإذا قصّر الإنسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، يكون السيف قد سبق العذل، ولن تستطيع إصلاح فساد النفس، ولا يكون نصيبك سوى الحسرة والندم والذل.

إن أولياء الله لم يخلدوا إلى الراحة أبداً، وكانوا دائمي الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. إن حالات علي بن الحسين عليه السلام، الإمام المعصوم، تثير الحيرة. وأنين أمير المؤمنين علي عليه السلام، الولي المطلق، تبعث على الدهشة. ما الذي جرى لنكون على هذا القدر من الغفلة؟ من الذي جعلنا نطمئن؟ انه لا يغرينا أحد بتأجيل عمل اليوم إلى الغد إلا الشيطان. انه يريد أن يزيد من أعداد أنصاره وأعوانه، وأن يجعلنا نتخلّق بأخلاقه حتى نحشر مع أتباعه. إن ذلك الملعون هو الذي يسعى دائماً إلى تهوين أمور الآخرة في أعيننا، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشافعين يريد أن ينسينا ذكر الله وطاعته. ولكن يا للأسف! فهذه كلها أمنيات باطلة، وهي من أحابيل مكر ذلك الملعون وحيله. إن رحمة الله تحيط بك الآن، رحمته في صحتك وسلامتك وحياتك وأمنك وهدايتك وعقلك وفرصتك وإرشادك إلى إصلاح نفسك وأن آلاف الرحمة الإلهية المختلفة تحيط بك من جميع الجهات، ولكنك لا تنتفع بها، بل تطيع أوامر الشيطان. فإذا لم تستطع أن تستفيد من رحمات هذ الدنيا، فاعلم أنه لن تنالك في العالم الآخر رحمات الله اللامتناهية بل تحرم من شفاعة الشافعين. إن مظهر شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو الاهتداء بهداهم، وفي ذلك العالم هو الشفاعة لأنها باطن الهداية. فإذا حرمت الهداية هنا، حرمت الشفاعة هناك. وعلى قدر اهتدائك تكون

لك الشفاعة. إن شفاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). مثل رحمة الله المطلقة تنال من هو جدير بها.

فإذا انتزع الشيطان ـ لا سمح الله ـ وسائل الإيمان من يدك، فلن تكون جديراً بالرحمة والشفاعة. نعم، رحمة الله واسعة في الدارين. فإذا كنت تطلب الرحمة، فلماذا لا تستفيد من فيوضات الرحمة المتتالية في هذه الدنيا، وهي بذور الرحمات الأخرى؟ إن هذا العدد الكبير من الأنبياء والأولياء دعوك إلى مائدة ضيافة الله ونعمه، ولكنك رفضتها وهجرتها بوسوسة من الخنّاس، وبإيحاء من الشيطان، وضحّيت بمحكمات كتاب الله، والمتواترات من أحاديث الأنبياء والأولياء، وببديهات عقول العقلاء، وببراهين الحكماء الدامغة، على مذبح نزعات الشيطان والأهواء النفسية. الويل لي ولك من هذه الغفلة والعمى والصمم والجهل!.

 

فصل: في عصبيات أهل العلم

من جملة عصبيات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق أن صدرت منه أو من معلمه أو شيخه، دون النظر إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. ولا شك أن مثل هذا التعصب أقبح من كثير من العصبيات الأخرى وأجدر بالذم من جوانب عديدة. فمن جانب المتعصب نفسه نرى أن أهل العلم ينبغي أن يكونوا هم المربين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوة والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق. فإذا اتصف العالم ـ لا قدر الله ـ بالعصبية الجاهلية أو بالصفات الرذيلة الشيطانية، كانت الحجة عليه أتم وعقابه أشد. إن من يعرف نفسه على أنه، وشمع محفل العرفان، والهادي إلى السعادة ومعرف طرق الآخرة، ثم لا يعمل ـ لا سمح الله ـ بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرياء والنفاق، ويحسب من علماء السوء، ويكون عالماً بلا عمل. وهذا عقابه أكبر وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[7].

إذاً، من أهم التزامات أهل العلم هو أن يحافظوا على هذه الأمور وهذه المقامات، وأن يطهروا أنفسهم كل التطهير من هذه المفاسد، لكي يصلحوا بهذا أنفسهم والمجتمع، وتكون مواعظهم مؤثرة، وتقع نصائحهم موقعها من القلوب. إن فساد العالِم يؤدي إلى فساد الأمة. ومن البديهي أن الفساد الذي يتسبب في مفاسد أخرى والخطيئة التي تزيد خطايا أخرى وتعظمها تكون أعظم عند وليّ النِعم من الفساد الجزئي الذي لا يتعدّى إلى غيره.

ومن ناحية أخ رى في قباحة هذه السجيّة لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذا أن هذه العصبية خيانة للعلم وتجاهل لحقه إذ أن من يتحمل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة وأرتكب الظلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى.

والناحية الثانية من جرّاء هذه السجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التعصّب في المباحث العلميّة مع العلم بأن أهل العلم من الودائع الإلهية الواجب احترامهم. بينما يكون هتكهم هتكاً لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدي العصبية التي لا تكون في محلها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!.

وهناك جانب آخر هو جانب المتعصب له، أي الأستاذ وشيخ الإنسان. وهذا يوجب العقوق، وذلك لأن المشايخ العظام والأساطين الكرام ـ نضّر الله وجوههم ـ يميلون إلى جانب الحق، ويهربون من الباطل، ويسخطون على من يتذرع بالتعصب لقتل الحق وترويج الباطل. ولا شك في أن العقوق الروحي أشد من العقوق الجسمي، وحق الأبوة الروحية أسمى من حق الأبوة الجسمية.

إذاً، يتحتّم على أهل العلم ـ زادهم الله شرفاً وعظمة ـ أن يتبرءوا من المفاسد الأخلاقية والعلمية، وأن يزينوا أنفسهم بحلية الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة، وأن لا ينزلوا عن المركز الشريف الذي أنعم الله تعالى به عليهم، إذ أن مدى الخسران في ذلك لا يعلمه إلا الله. والسلام.

ـــــــــــــــــــ

[1] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 3.

[2] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 2.

[3] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 4.

[4] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، ح 5.

[5] وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب الثامن من أبواب مقدمات وآداب النكاح، ح 5.

[6] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية ح 6.

[7] سورة الجمعة، آية 5.