نص الوصية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

انّ الثورة الإسلامية المجيدة، التي تمثل ثمرة جهاد الملايين من الشرفاء والآلاف من الشهداء الخالدين والمعوقين الأعزاء _ الشهداء الأحياء _ والأمل لملايين المسلمين والمستضعفين في العالم، تقف على درجة من الأهمية تفوق قدرة القلم والبيان.

 

وإني روح الله الموسوي الخميني، الآمل _ رغم كل خطاياي _ بكرم الله العظيم تعالى، والمتزود للطريق المحفوفة بالمخاطر بذلك الأمل بكرم الكريم المطلق لي، واثق الرجاء _ بصفتي أحد طلبة العلوم الدينية البسطاء _ وكسائر إخواني في الإيمان بهذه الثورة ودوام منجزاتها وتحقق المزيد من أهدافها، أعرض بعض الأمور كوصية للجيل الحاضر والأجيال القادمة العزيزة _ وان كانت مكررة _ سائلاً الله الرحمن أن يمنّ عليّ بإخلاص النيّة في ذلك.

 

* الثورة الإسلامية هدية الغيب

 

1 _ كلنا يعلم ان هذه الثورة المجيدة، إنما تمكنت من قطع أيادي المستغلين والظالمين الدوليين عن ايران العزيزة وتحقيق الانتصار بالتأييد الإلهي الغيبي، فلولا قدرة الله القادرة لما أمكن لستة وثلاثين مليوناً أن ينهضوا ومن أدنى البلاد الى أقصاها، صفاً واحداً وبنهج واحد ونداء "الله أكبر" ليقدّموا تلك التضحيات الاعجازية المحيّرة ويزيحوا كابوس جميع القوى الداخلية والخارجية ويتسلموا هم مقاليد الأمور في بلادهم. فالإعلام المعادي للإسلام وعلمائه _ وخاصة في القرن الأخير _ وما لا يحصى من أساليب التفرقة التي مارسها الكتّاب والخطباء من خلال الصحف والمجالس الخطابية والمحافل المضادة للإسلام وللوطنية _ رغم لبوسها الوطني _ وذلك السيل من الأدب المبتذل وما أُعدّ من مراكز اللهو والفحشاء والقمار والمسكرات والمخدرات بهدف جرّ الشبّان _ الذين يمثلون الساعد الفاعل للمجتمع _ نحو الفساد وتحييدهم أمام الممارسات الخيانية للملك الفاسد وأبيه الأهوج والحكومات والمجالس البرلمانية المسيّرة المفروضة على الشعب من قبل سفارات الدول الكبرى، بدلاً من تسخير جهودهم لتحقيق الرقي والتقدم لوطنهم العزيز. وأسوأ من ذلك كله حال الجماعات والمدارس الثانوية والمراكز التعليمية الأخرى المستأمنة على مقدرات البلاد، فهي مليئة بالمعلمين والأساتذة العملاء الفكريين للغرب أو الشرق والمعارضين تماماً للإسلام والثقافة الإسلامية _ بل حتى الثقافة القومية الصحيحة وذلك باسم القومية والميول القومية _ وإن كان بينهم بعض الملتزمين المخلصين، إلا انهم لم يكونوا ذوي تأثير يُذكر نتيجة قلّة عددهم وتراكم الضغوط عليهم، مما حدّ من إمكانية قيامهم بأي عمل إيجابي، مضافاً الى ما كان يجري من العمل على إزواء الروحانيين وعزلهم، ودفع العديد منهم نحو الانحراف الفكري نتيجة الإعلام؛ كلها مع عشرات الأمور الأخرى كانت تحول دون تحقيق الثورة للنصر المؤزر هذا.

 

لذا وجب أن لا يُشك أبداً في أن الثورة الإسلامية في ايران تختلف عن جميع الثورات الأخرى من حيث النشأة، ومن حيث أسلوب المواجهة، ومن حيث الدوافع التي فجرت الثورة والنهضة، ولا ريب أبداً في أنها هدية إلهية غيبية تلطف بها المنّان على هذا الشعب المنكوب المظلوم.

 

* الحكومة الإسلامية وسعادة الدارين

 

2 _ إنّ (الإسلام والحكومة الإسلامية) ظاهرة إلهيّة يؤدي العمل بها الى تحقيق السعادة للمسلمين في الدنيا والآخرة وعلى الوجه الأكمل، كما أنّ العمل بها سيؤدي الى إلغاء كافة أنواع الظلم والنهب والفساد والتعدّي وإيصال الإنسان الى الكمال المطلوب له.

 

و(الإسلام) عقيدة تشتمل _ وخلافاً للعقائد الإلحادية الأخرى _ على جميع ما يُصلح الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، كما أنّها تلعب دور النظارة على جميع ذلك، فهي لا تغفل أيّة قضية _ مهما صغرت _ مما له صلة في تربية الإنسان والمجتمع وتحقيق التقدم المادي والمعنوي لهما، كذا فإنها تُشخص العوائق والمشكلات التي تعترض طريق التكامل الاجتماعي والفردي وتعمل على رفعها.

 

والآن، وحيث أُقيمت الجمهورية الإسلامية بتوفيق الله وتأييده وبقدرة الشعب المتدين، ولمّا كان ما تطرحه هذه الحكومة الإسلامية هو الإسلام وأحكامه السامية، فإن على الشعب الإيراني المجيد أن يسعى لتحقيق محتوى الإسلام وعلى جميع الصُعُد والعمل على حفظه وحراسته، فإن حفظ الإسلام يتصدر جميع الواجبات، وجميع الأنبياء العظام _ من آدم (ع) حتى خاتم النبيين (ص) _ قد قدموا في هذا السبيل أجلّ المساعي وأسمى التضحيات، لم يصرفهم عن أداء هذه الفريضة الجليلة أيّ مانع. وهكذا كان الحال مع أصحابهم الملتزمين وأئمة الإسلام (عليهم السلام) بعدهم؛ فقد بذل أولئك جهوداً مضنية بلغت حد التضحية بالأنفس من أجل حفظ الإسلام.

 

واليوم وبالإعلان رسمياً عن قيام الجمهورية الإسلامية واستقرار هذه الأمانة الإلهية في إيران وتحقق النتائج العظيمة خلال مدة قصيرة، فإن من الواجب على الشعب الإيراني خصوصاً، والمسلمين عموماً، استفراغ الجهد في حفظها والسعي لإيجاد عوامل بقائها وإزالة الموانع والعوائق من طريقها. والمؤمل أن يسطع سنا نورها على جميع الدول الإسلامية ويتحقق الانسجام بين جميع الدول والشعوب على هذا الأمر المصيري فيكفّوا _ والى الأبد _ أيدي القوى الكبرى والمستغلين ومجرمي التاريخ عن المظلومين والمضطهدين.

 

إنّي _ واذ أعيش اللحظات الأخيرة من عمري _ أستعرض للجيل الحاضر هاهنا _ وأداءً مني للتكليف _ شطراً من الأمور التي تساهم في حفظ هذه الوديعة الإلهية واستمرار بقائها، وشرطراً من الموانع والأخطار التي تتهددها، سائلاً الله رب العالمين التوفيق والتأييد للجميع.

 

* سرُ النصر يكمن في الدافع الإلهي ووحدة الكلمة

 

ألف: لاشك أن السر واحد في بقاء الثورة الإسلامية وانتصارها، والشعب يدرك والأجيال القادمة ستقرأ في التاريخ، أنّ سرّ النصر يعتمد على ركنين أساسيين هما: الدافع الإلهي والهدف السامي في إقامة الحكومة الإسلامية من جهة، واتحاد كلمة الجماهير في جميع أنحاء البلاد من أجل ذلك الدافع والهدف من جهة أخرى.

 

لذا فإني أوصي جميع الأجيال _ الحاضرة منها والآتية _ أن يحرصوا _ إذا رغبوا في إقامة الإسلام وحكومة الله، وقطع أيدي المستعمرين والمستغلين المحليين منهم والأجانب عن بلدهم _ بعدم التفريط بهذا الدافع الإلهي الذي أوصى به الله تعالى في القرآن الكريم. وليعلموا أنّ ما يقابل هذا الدافع _ الذي يمثل سرّ النصر والبقاء _ هو نسيان الهدف والوقوع في التفرّق والاختلاف، فليس عبثاً تركيز الأبواق الإعلامية في جميع أنحاء العالم واتباعهم المحليّين كل جهدهم على نشر الشائعات والأكاذيب بهدف زرع الشقاق، وإنفاقها مليارات الدولارات في سبيل ذلك، وليس عبثاً أيضاً تلك الحركة الدؤوبة لأعداء الجمهورية الإسلامية في المنطقة ومشاركة بعض القادة والمسؤولين في حكومات بعض الدول الإسلامية _ وهو الأمر المؤسف _ ممن لا يفكرون الا بمنافعهم الشخصية وممن استسلموا لأمريكا بالكامل، مع العديد من المتلبسين بلباس علماء الدين في تلك التحركات.

 

عليه فإنّ الأمر المهم الآن وفي المستقبل _ والذي ينبغي للشعب الإيراني وسائر المسلمين في العالم أدراكه _ هو السعي لإفشال المخططات الإعلامية الهدامة المفرقة. لذا فإني أوصي المسلمين عموماً والإيرانيين خصوصاً _ لا سيما في عصرنا الحاضر _ بالتصدي لهذه المؤامرات وتقوية حالة الانسجام والوحدة لديهم بكل الطرق الممكنة ليزرعوا بذلك اليأس في قلوب الكفار والمنافقين.

 

* مؤامرة القرن الكبرى

 

باء _ من المؤامرات الخطيرة التي ظهرت بوضوح في القرن الأخير _ خصوصاً في العقود الأخيرة منه وبالأخص بعد انتصار الثورة الإسلامية _ الحركة الإعلامية الواسعة النطاق وذات الأبعاد المختلفة الهادفة لإشاعة اليأس والقنوط من الإسلام في أوساط الشعوب، خاصة الشعب الإيراني المضحي، فتارة يصرّح هؤلاء بسذاجة بأنّ أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمائة عام لا يمكنها إدارة الدول في العصر الحاضر، أو أن الإسلام دين رجعي يعارض كل معطيات التقدم والتمدن، أو أنه لا يمكن للدول في العصر الحاضر اعتزال الحضارة العالمية القائمة ومظاهرها، الى غير ذلك من أمثال هذه الدعايات البلهاء.

 

وتارة أخرى يعمدون _ بخبث وشيطنة _ الى التظاهر بالدفاع عن قدسية الإسلام، فيقولون: بأنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهية تهتمُّ بالمعنويات وتهذيب النفوس، وتحذر من طلب المقامات الدنيوية، وتدعو الى ترك الدنيا والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله، وتبعده عن الدنيا، وأن الحكومة والسياسة وإدارة الأمور تتعارض كلها مع ذلك الهدف وتلك الغاية المعنوية السامية، وهي أمور يُراد بها بناء الدنيا، الأمر المغاير لسيرة جميع الأنبياء العظام.

 

ومما يؤسف له فإنّ الجهد الإعلامي المبذول بالاتجاه الثاني ترك أثره على بعض علماء الدين والمتدينين الجاهلين بالإسلام، الى حد جعلهم يعتبرون التدخل في الحكومة والسياسة معصية وفسقاً، ولعل البعض لازال الى الآن يرى الأمر كذلك، وهي الطامة الكبرى التي ابتلي بها الإسلام.

 

وللرد على الفريق الأول لابد من القول بأنهم اما أن يكونوا جاهلين بالحكومة والقانون والسياسة، أو أنهم يتجاهلون ذلك مغرضين، فتطبيق القوانين على أساس القسط والعدل، والوقوف بوجه الظالمين والحكومات الجائرة، وبسط العدالة الفردية والاجتماعية، ومحاربة الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، وتحقيق الحرية على أساس العقل والعدل، والسعي للاستقلال والاكتفاء الذاتي، وقطع الطريق على الاستعمار والاستغلال والاستبعاد، وإقامة الحدود وإيقاع القصاص والتعزيزات طبقاً لميزان العدل للحيلولة دون فساد المجتمع وانهياره، وسياسة المجتمع وهدايته بموازين العقل والعدل والإنصاف ومئات القضايا من هذا القبيل لا تصبح قديمة بمرور الزمان عليها، وهي قاعدة سارية المفعول على مدى التاريخ البشري والحياة الاجتماعية.

 

إنّ هذا الادعاء بمثابة القول بضرورة تغيير القواعد العلمية والرياضية وإحلال قواعد أخرى محلها في العصر الحاضر، فإذا كان من الواجب تطبيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم والنهب والقتل في مستهل الحياة البشرية، فهل سيصبح هذا النهج بالياً اليوم لأننا في قرن الذرة؟

 

أمّا ادعاء معارضة الإسلام للتقدم _ كما كان يدعي محمد رضا البهلوي المخلوع حينما كان يقول: (إنّ علماء الدين يريدون استخدام الدواب للسفر في هذا العصر) _ فإن هذا لا يعدو مجرد تهمة سخيفة لا أكثر.

 

فإذا كان المراد من مظاهر المدنية والتقدم هو الاختراعات والابتكارات والصناعات المتطورة، التي تساهم في تقدم البشر ونمو حضاراتهم، فإن الإسلام وسائر الأديان التوحيدية الأخرى لا ولن تعارض ذلك أبداً، فالإسلام والقرآن المجيد يؤكدان على ضرورة العلم والصناعة.

 

أما إذا كان المراد من التقدم والمدنية ذلك المعنى المطروح من قبل بعض ممتهني الثقافة القائلين بالاباحية في جميع المنكرات والفواحش _ حتى الشذوذ الجنسي وما شابه _ فإن جميع الأديان السماوية وجميع العلماء والعقلاء يعارضون ذلك، وإن كان المأسورون للغرب أو الشرق يروجون لذلك من منطلق تقليدهم الأعمى.

 

أما الفريق الثاني، والذين يؤدون دوراً مخرباً بقولهم بفصل الإسلام عن الحكومة والسياسة، فلابد من إلفات نظر هؤلاء الجهلة بأن ما ورد من الأحكام المتعلقة بالحكومة والسياسة في القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) يفوق كثيراً ما ورد من الأحكام في سائر المجالات، بل إنّ كثيراً من أحكام الإسلام العبادية هي أحكام عبادية _ سياسية، والغفلة عن ذلك هي التي جرت كل هذه المصائب. لقد أقام رسول الله (ص) حكومة كسائر حكومات العالم، ولكن بدافع بسط العدالة الاجتماعية، وكذلك فقد حكم الخلفاء المسلمون الأوائل بلدان مترامية الأطراف، وكذا كانت حكومة علي بن أبي طالب (ع) باعتمادها على ذلك الدافع وبشكل أوسع وأشمل وهي أمور من واضحات التاريخ. ثم توالت الحكومات باسم الإسلام، واليوم أيضاً فإن ادعياء الحكومة الإسلامية سيراً على خطى الإسلام والرسول الأكرم (ص) كثيرون للغاية.

 

وأكتفي أنا في هذه الوصية بالإشارة فقط، آملاً أن يتولى الكتّاب وعلماء الاجتماع والمؤرخون إخراج المسلمين من هذه الاشتباهات.

 

* حكومة الحق من أسمى العبادات

 

أما ما قيل من أن مهمة الأنبياء (عليهم السلام) تقتصر على المعنويات، وانهم والأولياء العظام كانوا يجتنبون الحكومة وكل ما يتعلق بالدنيا، وانّ علينا أن نقتفي خطاهم، فهو خطأ يبعث على الأسف حقاً ويؤدي الى تدمير الشعوب الإسلامية وفتح الطريق أمام المستعمرين والمستغلين.

 

إن المرفوض في نهج الأنبياء (عليهم السلام) والذي حذروا منه إنما هو الحكومات الشيطانية الظالمة المستبدة التي تقوم لأجل التسلط ولدوافع دنيوية منحرفة، ولجمع المال والثروة والسعي للتسلط والتجبر، وبالنتيجة الدنيا التي تسبب غفلة الإنسان عن الله تعالى.

 

أما حكومة الحق المُقامة لأجل المستضعفين والوقوف بوجه الظلم والجور، وإقامة العدالة الاجتماعية كالحكومة التي أقامها سليمان بن داود ونبيّ الإسلام العظيم (ص) وما سعى إليه أوصياؤه العظام، فإنها من أجل الواجبات، والسعي إليها من أسمى العبادات، كما إن السياسة الصحيحة التي مارستها تلك الحكومات هي من أوجب الأمور.

 

على الشعب الإيراني اليقظ الواعي السعي لإجهاض هذه المؤامرات بالرؤية الإسلامية، وعلى الخطباء والكتّاب المتدينين أن ينهضوا لمؤازرة الشعب في قطع أيدي الشياطين المتآمرين.

 

* خطر الشائعات والنقد الهدام

 

جيم _ ومن نفس سنخ هذه المؤامرات _ بل لعله الأكثر إيذاءً _ الشائعات التي تنطلق على نطاق واسع ليشمل كافة أنحاء البلاد ويشتدّ في غير العاصمة من المدن الأخرى، من القول بأنّ الجمهورية الإسلامية أيضاً لم تفعل للناس شيئاً، وان الناس مساكين قدموا التضحيات بشوق ولهفة من أجل التحرر من نظام طاغوتي ظالم، ثُمّ أصبحوا ضحية نظام أسوأ، فالمستكبرون أصبحوا أشدُّ استكباراً والمستضعفون أشد استضعافاً، وأن السجون مليئة بالشبّان _ الذين يمثلون الأمل والمستقبل للبلاد _ وأساليب التعذيب تنوعت واشتدّت عما كانت عليه في النظام السابق، وان عدداً من الناس يُعدم كل يوم باسم الإسلام. وياليت ان اسم الإسلام لم يطلق على هذه الجمهورية، فهذا العهد أسوأ من عهد رضاخان[1] وابنه، فالناس يتخبطون في العذاب والمشقة ويعانون من غلاء الأسعار المضني، وان المسؤولين يقودون البلاد نحو نظام شيوعي، فأموال الناس تُصادَر والشعب يُسلب الحرية في كل المجالات … وكثيراً من أشباه تلك الأمور التي يبدو انها تُنفذ ضمن خطة مدروسة والدليل على وجود خطة وراء الأمر، هو أن الألسن تتناقل كل مدة أمراً واحداً بالتحديد في كل زاوية وجانب وفي كل محلة ومنطقة وفي سيارات النقل الخاص والعام، بل حتى في التجمعات الصغيرة المحدودة، الحديث واحد دوماً، وإذا استهلك طُرح أمر آخر بدلاً منه.

 

ومع بالغ الأسف فإن بعض علماء الدين الجاهلين بالحيل الشيطانية يظنون أن الحق في ذلك، وما أن يتصل بهم شخص أو شخصان من أدوات المؤامرة حتى يعتقدوا أنّ أساس القضية هو هذا.

 

إنّ العديد ممن يسمعون هذه الأمور ويصدقون بها لا اطلاع لديهم على وضع الدنيا ووضع الثورات في العالم وأحداث مرحلة ما بعد الثورة ومشكلاتها الجسيمة التي لا محيص عنها. وهم لا يمتلكون الاطلاع الصحيح على التحولات التي تقع لتنتهي لصالح الإسلام، فيستمعون لأمثال هذه الأمور ثم يقتنعون بها دون تحليل ويلتحقون بأدوات المؤامرة عن غفلة أو عمد.

 

إنني أوصي بعدم المسارعة في الانتقاد اللاذع والسب والشتم قبل مطالعة الوضع العالمي الراهن، ومقارنة الثورة الإسلامية في إيران مع سائر الثورات والإطلاع على أوضاع الدول والشعوب أثناء الثورة وما بعدها، ودراسة ما كان يجري على الناس خلال تلك الفترات، والأخذ في الحسبان مشكلات هذه الدول المنكوبة بنكبة الطاغوت رضاخان وابنه _ الأسوأ منه _ وما تركاه من تركةٍ ثقيلة لهذه الحكومة بدءاً بالتبعية المدمرة، وانتهاءً بأوضاع الوزارات والادارات والاقتصاد والجيش، ومراكز الفساد ومحال بيع الخمور، والانحلال السائد في جميع شؤون الحياة وأوضاع التربية والتعليم وأوضاع المدارس الثانوية والجامعات، وأوضاع دور السينما ودور البغاء، ووضع الشبّان والنساء وعلماء الدين والمتدينين وطالبي الحرية الملتزمين والنساء العفيفات المظلومات والمساجد في عهد الطاغوت، والتحقيق في ملفات المحكومين بالإعدام والسجن، ودراسة أوضاع السجون وأسلوب المسؤولين في ادارة تلك المرافق، ودراسة أحوال أصحاب رؤوس الأموال والإقطاعيين الكبار والمحتكرين والمستغلين، ودراسة أوضاع المحاكم العدلية ومحاكم الثورة، ومقارنة وضعها بوضع مثيلاتها في العهد البائد، ثم التحقيق حول أوضاع نواب مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء الحكومة والمحافظين وسائر الموظفين الذين مارسوا صلاحياتهم خلال فترة ما بعد الثورة، ومقارنة ذلك بما مضى، والتحقيق في طريقة عمل جهاز الحكومة والجهاد من أجل البناء[2] في القرى المحرومة من كل الإمكانات بما في ذلك الماء الصالح للشرب أو المستوصفات ومقارنة ذلك في العهدين، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفترة المتاحة لكل منهما، وما ترتب من نتائج على مسألة الحرب المفروضة، من قبيل الملايين من المشردين والآلاف من عوائل الشهداء والمعاقين، مضافاً الى ملايين النازحين من الأفغان والعراقيين، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الحصار الاقتصادي والمؤامرات المتوالية من قبل أمريكا وعملائها الأجانب والمحليين. هذا علاوة على فقدان الاعداد اللازمة من المبلغين العارفين بالأمور وقضاة الشرع وأمثالهم، والمحاولات المتواصلة من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين _ بل حتى الأصدقاء الجهلة _ لخلق الفوضى، الى عشرات الأمور الأخرى.

 

فلترحموا هذا الإسلام الغريب الذي عاد بعد مئات السنين من ظلم الجبابرة وجهل الشعوب، طفلاً حديث العهد بالمشي، ووليداً محفوفاً بالأعداء الأجانب والمحليين.

 

فلتفكروا أنتم أيها المختلقون للاشكالات، أليس من الأفضل السعي للاصلاح والمساعدة، بدلاً من السعي في التدمير؟ ثم أليس من الأفضل التصدي لنصرة المظلومين والمضطهدين والمحرومين، بدلاً من تأييد المنافقين والظالمين والرأسماليين والمحتكرين من عديمي الانصاف الغافلين عن الله؟ أليس من الأفضل النظر الى المقتولين غيلة بدءاً من علماء الدين المظلومين وانتهاءً بالقائمين بمختلف الخدمات المتدينين، بدلاً من النظر الى الفئات المشاغبة والقتلة المفسدين ودعمهم وتأييدهم بطرقٍ غير مباشرة؟

 

إنني لم أدّعِ _ ولست مدعياً الآن _ بأن الإسلام العظيم مطبق بكل أبعاده في هذه الجمهورية، وأنه لا يوجد مخالفين للقوانين والضوابط _ جهلاً أو بسبب عقدةٍ ما أو لمجرد عدم الانضباط _ لكنني أقول ان السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تبذل جهوداً جبارة لأسلمه أجهزة الدولة، وأن الشعب بملايينه يؤيدها ويدعمها. ولو أن تلك القلة المثيرة للاشكالات والتحبيطات بادرت الى المساعدة، لأصبحت إمكانية تحقق تلك الآمال أسهل وأسرع، أما إذا لم يثُب اولئك الى رشدهم _ لا سمح الله _ فإن الشعب المليوني اليقظ الواعي المتأهب سينطلق لتحقيق هذه الآمال الإنسانية الإسلامية بشكل مذهل _ بحول الله _ وحينها لن يستطيع أولو الافهام المنحرفة من المثيرين للاشكالات الصمود أمام هذا السيل الهادر.

 

* مفخرة للشعب الإيراني المسلم

 

إنني أدّعي وبجرأة بأن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في عصرنا الحاضر أفضل من شعب الحجاز الذي عاصر رسول الله (ص) ومن شعب الكوفة والعراق المعاصرين لأمير المؤمنين والحسين بن علي (عليهما السلام)، فمسلمو الحجاز لم يطيعوا رسول الله (ص) وتخلفوا عن جبهات الحرب بذرائع مختلفة حتى وبخهم الله تعالى بآيات من سورة التوبة وتوعدهم العذاب… وكم رموا الرسول (ص) بالأكاذيب حتى انه لعنهم من على المنبر _ على ما نقلت الروايات _.

 

أما أهل العراق والكوفة فلكثر ما أساءوا الى أمير المؤمنين (ع) وتمردوا عليه، حتى صارت كتب الأخبار والسير تضج بشكاواه منهم، كذلك فإنهم وقفوا مع سيد الشهداء (ع) بين متردد عن الاقدام على الشهادة بين يديه، وبين هارب من المعركة أو قاعد عن القتال حتى وقعت بحقه (ع) تلك الجريمة التاريخية النكراء، في حين اننا نرى اليوم ان الشعب الإيراني بكل فئاته _ بدءاً بالقوى المسلحة النظامية وشبه النظامية وحرس الثورة وقوات التعبئة، مروراً بالقوى الشعبية من العشائر والمتطوعين والقوى المرابطة في جبهات القتال وخلفها _ يقدمون التضحيات بكل شوق ولهفة ويسطرون أعظم الملاحم، ناهيك عما تقدمه الجماهير الكريمة من معونات قيمة في جميع أنحاء البلاد، وما يُرى من التفاؤل على وجوه المعوقين وذويهم وعوائل الشهداء مما يبعث على الحماس، وما يطلقونه من مقولات وما يفعلونه من أعمال ملؤها الشوق والاطمئنان دافعهم الى ذلك كله عشقهم وحبهم وإيمانهم المطلق بالله تعالى وبالإسلام والحياة الأبدية، والحال انهم ليسوا في محضر رسول الله (ص) المبارك ولا في محضر الإمام المعصوم (صلوات الله عليه)، ليس لهم من دافع في ذلك سوى الإيمان بالغيب والاطمئنان له، وهذا هو سر التوفيق والنصر في ابعادهما المختلفة.

 

والإسلام يفتخر انه انشأ كهؤلاء الأبناء، كما اننا فخورون بأننا في عصر كهذا العصر وفي محضر شعب كهذا الشعب.

 

* نصيحة مشفقة للمعارضين

 

وإن لي هنا وصية الى معارضي الجمهورية الإسلامية _ على اختلاف دوافعهم _ والى الشبان _ فتية وفتيات _ ممن تعرضوا لاستغلال المنافقين والمنحرفين والانتهازيين والنفعيين، وهي أن يتفكروا بوضعية وحرية في دعايات أولئك الساعين لاسقاط الجمهورية الإسلامية وفي ممارساتهم وسلوكياتهم مع الجماهير المحرومة من جهة، ومن جهة أخرى في الفئات والدول التي ساندتهم _ ولا تزال _ والمجاميع والأشخاص المرتبطين بهم والداعمين لهم في الداخل، وفي أخلاقهم وسلوكياتهم فيما بينهم ومع مؤيديهم، وفي التبدلات التي تتعرض لها مواقفهم أثناء المستجدات المختلفة، وليبحثوا في ذلك بدقة وبعيداً عن هوى النفس. ثم ليتأملوا في أوضاع أولئك المستشهدين في الجمهورية الإسلامية على أيدي المنافقين والمنحرفين، وليقارنوا بينهم وبين أعدائهم، فأشرطة تسجيل وصايا وأحاديث هؤلاء الشهداء متوفرة نسبياً، ولعل أشرطة تسجيل أحاديث معارضيهم في متناول أيديهم … فلينظروا أي فريق يناصر المحرومين والمظلومين من أبناء المجتمع؟!

 

أيها الاخوة … إنكم لن تقرؤا هذه الوريقات قبل وفاتي، بل قد تقرؤونها بعد وفاتي وآنذاك لن أكون بينكم حتى يقال ان هدفي هو التأثير على قلوبكم الفتية واستمالتها لصالحي أو الاستحواذ عليها كسباً لموقع أو سلطة ما. فانني انما أرغب في ان تسخروا شبابكم _ ما دمتم شباناً لائقين _ في سبيل الله والإسلام العزيز والجمهورية الإسلامية لتفوزوا بسعادة الدارين.

 

أسأل الله الغفور أن يهديكم الى طريق الإنسانية القويم وأن يعفو عما أسلفنا واسلفتم، برحمته الواسعة، ولتسألوا الله أنتم ذلك في الخلوات فهو الهادي وهو الرحمن.

 

* وصية للشعوب

 

كما إن لي وصية الى الشعب الإيراني المجيد وسائر الشعوب المبتلاة بالحكومات الفاسدة والأسيرة للقوى الكبرى.

 

أما الشعب الإيراني العزيز فأوصيه أن يعتبر النعمة _ التي حصل عليها بجهاده العظيم ودماء شبانه الراشدين _ كأعز ما لديه وان يسعى للمحافظة عليها وحراستها وبذل الوسع في سبيل هذه النعمة الإلهية العظيمة والأمانة الربانية الكبيرة، وعلى أبنائه أن لا يخافوا من المشكلات التي تواجههم في هذا الصراط المستقيم {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

 

كونوا أعواناً لحكومة الجمهورية الإسلامية في مواجهة المشكلات، ابذلوا غاية وسعكم لتجاوز العقبات واعتبروا الحكومة والمجلس منكم وحافظوا عليهما كما تحافظون على محبوب عزيز.

 

كما أوصي المجلس والحكومة وكل المعنيين أن يقدروا هذا الشعب حق قدره، وأن لا يقصروا في خدمته خصوصاً المستضعفين والمحرومين والمظلومين، الذين هم بمثابة النور لعيوننا والأولياء لنعمتنا، فالجمهورية الإسلامية تحققت على أيديهم ونتيجة لتضحياتهم وبقاؤها ومرهون بخدماتهم.

 

اعتبروا أنفسكم من الناس واعتبروا الناس منكم وارفضوا دوماً الحكومات الطاغوتية، التي لا عقل ولا ثقافة ولا منطق لديها سوى البطش … وطبيعي أن كل ذلك لا يكون إلا بالممارسات الإنسانية التي تليق بحكومة إسلامية.

 

أما وصيتي الى الشعوب الإسلامية، فهي أن يجعلوا حكومة الجمهورية الإسلامية وشعب إيران المجاهد قدوة لهم، وإذا لم تستجب حكوماتهم الجائرة لإرادتهم _ المماثلة لارادة الشعب الإيراني _ فليهبّوا بكل قوة لإيقافها عند حدّها، ذلك لأن أساس شقاء المسلمين هو الحكومات العميلة للشرق أو الغرب.

 

كما أوصيهم _ مؤكداً _ أن لا يستمعوا الى الأبواق الإعلامية لأعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية، فجميع أولئك جاهدون لإخراج الإسلام من الواقع حفاظاً على مصالح القوى الكبرى.

 

* مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة

 

دال: من المخططات الشيطانية التي عملت القوى الاستعمارية الناهبة الكبرى منذ سنوات متمادية على تنفيذها _ والتي بلغت ذروتها في ايران إبان عهد رضاخان وتواصل العمل على تحقيقها في عهد محمد رضا وبأساليب مختلفة _ مخطط ازواء الروحانية الذي نُفّذ في عهد رضاخان من خلال ممارسة الضغوط والتنكيل ومحاربة الزي الروحاني، والسجن والنفي والاضطهاد والإعدام وأمثال ذلك، ومن خلال إيجاد العداء بين الروحانيين والجامعيين في عهد محمد رضا، فقد شُنت في عهد حكومته الأخيرة حملات إعلامية واسعة النطاق في هذا المجال، حققت _ وللأسف _ نتائج ملحوظة بسبب جهل الطرفين بإبعاد هذه المؤامرة الشيطانية المدعومة من قبل الدول الكبرى.

 

فمن جهة حرص المسؤولون آنذاك على تعيين المعلمين والمدرسين والأساتذة ورؤساء الجامعات من بين المنبهرين بالغرب أو الشرق ومن المنحرفين عن الإسلام وسائر الأديان والاقلال من عدد المتدينين والمؤمنين لكي يُصار الى زيادة تأثير الشريحة الأقوى في العملية التربوية فيقومون بتربية من يُحتمل تصديهم للأمور مستقبلاً _ ومنذ الطفولة _ بطريقة تجعلهم يشمئزون من الأديان ومن الإسلام ومن المبلغين وعلماء الدين خصوصاً ممن كانوا يوصفون في ذلك الوقت بالعمالة للانجليز والتحالف مع التجار والاقطاعيين وبالرجعية والمخالفة للرقي والتمدن.

 

ومن جهة أخرى زرعوا _ وعبر إعلامهم السوء _ الخوف في نفوس الروحانيين والمبلغين والمتدينين من الجامعة والجامعيين حتى جعلوهم يتهمون جميع اولئك بالتحلل وعدم التدين، ومعارضة المظاهر الإسلامية والأديان. فكانت النتيجة أن أصبح رجال الدولة يعارضون الأديان والإسلام وعلمائه والمتدينين من جهة، وأصبحت جماهير الشعب _ المحبة للدين ولعلمائه _ معارضة للدولة والحكومة وكل ما يرتبط بها، مما خلق اختلافاً عميقاً بين الحكومة والشعب والجامعيين والروحانيين، فتح الطريق أمام الناهبين الى درجة صيرت جميع مقدرات البلد تحت سيطرتهم، وأفرغت جميع ثروات الشعب في جيوبهم، وقد رأيتم ما حل بهذا الشعب المظلوم، وما كان ينتظره من مصير.

 

 * الحوزة والجامعة هما العقل المدبّر للأمة

 

والآن وبعد أن تحطمت الأغلال وكُسر طوق سلطة القوى الكبرى وأُنقذت البلاد من أيديهم وأيدي عملائهم _ بارادة الله وجهاد الشعب بكل فئاته من طلبة علوم دينية الى طلبة جامعات والى كسبة وعمال وفلاحين _ فإني أُوصي هذا الجيل والأجيال القادمة باليقظة، كما أوصي الجامعيين والشبّان الراشدين الأعزاء أن يبذلوا غاية وسعهم لجعل عقد المحبة والانسجام مع علماء الدين وطلاب العلوم الإسلامية أكثر استحكاماً، وأن لا يغفلوا عن مخططات ومؤامرات العدو الغادر، وليبادروا _ وبمجرد رؤيتهم لشخصٍ أو أشخاص ممن يهدفون من خلال أقوالهم أو ممارساتهم الى بذر بذور النفاق بينهم _ الى إرشادهم ونصحهم، فإن لم يرعووا فليعرضوا عنهم وليفرضوا عليهم العزلة لتطويق المؤامرة ومنعها من التجذّر، فإنها _ أن أتيحت لها الفرصة _ سرعان ما تتمكن من العثور على نبع يسقيها.

 

ويتأكد هذا الأمر بالنسبة للأساتذة فإن وجد بينهم من يهدف الى ايجاد الانحراف فليرشدوه، وإن لم يستجب فلينبذوه وليطردوه حتى من قاعة درسه، وهذه الوصية موجهة أيضاً الى الروحانيين وطلاب العلوم الدينية وبنسبة أكبر. ولابدّ من القول هنا بأن المؤامرات التي تحاك في الجامعات تمتاز بعمقها الخاص، لذا وجب على جميع الفئات المحترمة _ ممن تمثل عقل المجتمع المفكر _ أن تحذر تلك المؤامرات.

 

* مصيبة التبعية للشرق والغرب

 

هاء _ من جملة المخططات التي تركت _ وللأسف _ أثرها الكبير في مختلف البلدان وفي بلدنا العزيز _ والتي ما زالت بعض آثارها باقية بنسب كبيرة _ هي جعل الدول المستعمرة تعيش حالة فقدان الهوية والانبهار بالغرب والشرق، والى درجة تجعل هذه البلدان تحتقر مواضيها وثقافاتها وقدراتها وتعتبر الغرب والشرق القطبين المقتدرين والعنصرين المتفوقين اولي الثقافة الأسمى وأنهما قبلة العالم، وتجعل من الارتباط بأحدهما أمراً مفروضاً لا يمكن الفرار منه. والحديث حول هذه المؤامرات حديث محزن وطويل والضربات التي تلقيناها _ ومازلنا _ من هؤلاء المستكبرين قاتلة ومدمرة.

 

والأشد إيلاماً من كل ذلك هو حرص أولئك على إبقاء الشعوب المظلومة المستعمرة متخلفة في كل شيء وجعل دولهم دولاً استهلاكية، فقد أذعرونا من تقدمهم ومن قدراتهم الشيطانية إلى حد سلبنا الجرأة على المبادرة بالقيام بأي إبداع ودفعنا للتسليم لهم في كل الأمور وتفويضهم مصائرنا والانصياع لأوامرهم انصياعاً أعمى وأصم. وهذا الخواء والفراغ العقلي المفتعل جعلنا لا نعتمد على فكرنا وابداعنا في أي أمر ونقلد الشرق والغرب تقليداً أعمى، بل أن الأمر بلغ حداً جعل الكتّاب والخطباء الجهلة المأسورين للغرب أو الشرق يتناولون بالانتقاد والسخرية ويدمرون كل ما لدينا من الثقافة والأدب والصناعة والابداع للقضاء على فكرنا وامكاناتنا الذاتية وزرع اليأس والقنوط لدينا، مروجين _ بدلاً من ذلك _ للعادات والتقاليد الأجنبية _ رغم انحطاطها وابتذالها _ وذلك بالقول والكتابة والسلوك العلمي. فقد مارسوا نشر ذلك بين الشعوب بامتداحه والثناء عليه، وعلى سبيل المثال، فانهم يستقبلون أي كتاب أو مقالة أو خطاب إذا انطوى على بضعة مفردات أجنبية بالإعجاب دون النظر في محتواه، ويعتبرون الخطيب أو الكاتب عالماً ومثقفاً. ولو القينا نظرة على جميع أمورنا من أبسطها حتى أعقدها لوجدنا ان كل ما أطلق عليه اسم غربي أو شرقي فهو مرغوب ومطلوب ويعدُّ من مظاهر التمدن، في حين انه إذا سمّي باسم داخلي أو محلي صار مرفوضاً وقديماً ومتخلفاً. فأطفالنا يصبحون مورداً للفخر والعزة بأسمائهم الغربية، في حين عليهم أن يخجلوا ويوسموا بالتخلف إذا كانت أسماؤهم محلية..

 

الشوارع، الأزقة، المحلات، الشركات، الصيدليات، المكتبات العامة، الأقمشة وسائر البضائع لابد وأن تحمل أسماءً أجنبية حتى تنال رضى الناس واقبالهم، حتى وان كانت محلية ومصنوعة في الداخل.

 

فالتفرنج من قمة الرأس الى أخمص القدمين وفي جميع المجالات من جلوس وقيام وعلاقات اجتماعية مدعاة للفخر والاعتزاز ودليل على الرقي والتمدن، في حين ان العادات والتقاليد المحلية، رجعية وتخلف.

 

عند الابتلاء بمرض أو الاصابة بوعكة صحية _ وان كانت بسيطة ومما يمكن علاجه في الداخل _ لابد وأن تدفع صاحبها للسفر الى الخارج وإشعار اطبائنا وعلمائنا بالاحباط والخذلان.

 

الذهاب الى إنجلترا وفرنسا وأمريكا وموسكو مفخرة عظيمة في حين أن الذهاب الى الحج وسائر الأماكن المباركة رجعية وتخلف، وعدم احترام كل ما يمتّ الى الدين والمعنويات بصلة من علائم التقدمية والتمدن والالتزام بها من علائم التخلف والرجعية.

 

ولست أقول هنا بامتلاكنا كل شيء، فمعلوم أنهم حرمونا طوال فترة التاريخ الحديث، وخصوصاً في القرون الأخيرة من كل تقدم، كما أن رجال الحكم الخونة وأسرة البهلوي على الخصوص، والمراكز الدعائية التي تطبل لإجهاض كل ما هو من إنجازنا، مضافاً الى ما نحمله من عقدة الحقارة والصغار والإحساس بالعجز كل ذلك منعنا من القيام بأية فعالية في سبيل التقدم، فاستيراد البضائع من جميع الأنواع، وإشغال النساء والرجال _ خصوصاً الشبّان _ بأنواع السلع المستوردة كأدوات التجميل والزينة والكماليات ولعب الأطفال، وجرّ الأسر الى التنافس فيما بينها ورفع مستوى الشراء الاستهلاكي .. وغير ذلك مما ينطوي على حكايات محزنة وإلهاء الشبّان وإفسادهم _ وهم القوة الفاعلة في الجميع _ عبر تكثير مراكز الفحشاء ودور البغاء وعشرات من هذه المصائب المدروسة ساهمت في إبقاء دولنا متخلفة.

 

* الاعتماد على الخبرات المحلية

 

وهنا أوصي الشعب العزيز بتواضع وإخلاص بأن ينهض _ وبارادة صلبة وبفعالية ومثابرة على العمل _ في سبيل رفع أنواع التبعية، فأنتم ترون كيف تم التخلص _ والى مدى بعيد _ من كثير من هذه المصائد، وكيف أن الجيل الحاضر المحروم قد هبّ للعمل والابداع، فاستطاع تشغيل وإدارة الكثير من المصانع والأجهزة المتطورة كالطائرات وغيرها مما لم يكن متصوراً قدرة المتخصصين الإيرانيين على تشغيلها، ومما كان يدفعنا الى مد أيدينا الى الشرق أو الغرب للاستعانة بخبرائهم. كذلك ونتيجة للحصار الاقتصادي والحرب المفروضة رأينا كيف تمكن أبناؤنا من تصنيع قطع الغيار اللازمة وعرضها بأسعار زهيدة مما ساهم في سد الحاجة المحلية وأثبت قدرتنا على أي عمل بمجرد إرادته.

 

لذا عليكم أن تكونوا يقظين واعين حذرين من ممتهني السياسة من عملاء الغرب والشرق خشية أن تؤدي وسوساتهم الشيطانية لدفعكم نحو الناهبين الدوليين. ولتعلموا بأن الإيرانيين والعرب، لا يقلون كفاءة عن الأوربيين والأمريكان والسوفيت، فإنهم ان استطاعوا العثور على هويتهم وتخلصوا من شعور اليأس واعتمدوا على أنفسهم فقط، فإنهم قادرون على القيام بأي عمل، وعلى صناعة ما يشاؤون، وما تمكن أولئك من تحقيقه فإنكم قادرون على تحقيقه شريطة الاتكال على الله، والاعتماد على النفس والتخلص من قيود التبعية للغير وتحمل الصعوبات من أجل بلوغ الحياة الشريفة والخروج من تحت سلطة الأجانب.

 

على الحكومة والمسؤولين _ سواء في الجيل الحاضر أم في الأجيال القادمة _ أن يقدروا متخصصيهم ويشجعوهم على مواصلة العمل، وذلك بالبذل المادي والمعنوي وأن يحولوا دون استيراد السلع الاستهلاكية المدمرة ويتكيفوا بالموجود عندهم إلى أن يتمكنوا من صنع كل ما يحتاجونه بأنفسهم. كما وأطلب من الشبّان _ فتية وفتيات _ أن لا يضحوا _ وان تطلب الأمر تحمل المشقة والعناء _ بالاستقلال والحرية والقيم الإنسانية في سبيل السلع الكمالية والاختلاط وأنواع التحلل وفي سبيل الحضور في مراكز الفحشاء التي يقيّضها لهم الغرب وعملاؤه الخونة، فقد ثبت أن أولئك لا يفكرون بغير إفسادكم وإغفالكم عن مصير بلدكم لنهب ثرواتكم وجركم بقيد الاستعمار وعار التبعية، وجعل شعبكم وبلدكم مستهلكين فقط. فهم يريدون بتلك الأساليب وأمثالها إبقاءكم متخلفين ونصف متوحشين _ على حد تعبيرهم _ .

 

________________________

 

[1]  هو رجل قاس متجبّر أسّس في إيران حكومة ملكية عام 1924م، التحق بالمجموعات المسلّحة الشقية المتجبرة وهو في الرابعة عشر من عمره، وسرعان ما بلغ أعلى مستويات القيادة لهذه المجموعات بسبب قساوة قلبه وتهوّره، فلفت انتباه البريطانيين واهتمامهم، وبما أنهم كانوا يسعون إلى إيجاد حكومة قوية في إيران تحفظ مصالحهم، فقد وجدوا فيه ضالتهم المنشودة. وبالفعل فقد استطاع وبمساعدة الانجليز أن ينهي حكم "القاجار" وأن يتربع على العرش الملكي مدة ستة عشر عاماً، وعندما شاهد التقدم السريع لجيش هتلر، وسقوط الدولة الأوربية واستسلامها، بهت بذلك، ومدّ يده لهتلر طمعاً في أن يكون النصر حليفه. لكن دول الحلفاء اجتاحوا إيران، وعزلوا رضاخان، ونقلوه بسفينة بريطانية إلى منفاه في جزيرة "موريس" شرق إفريقيا، ثم إلى "جوهانسبرغ" جنوبي أفريقيا، إلى أن مات فيها عام 1944م.

 

[2]  قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان القليل من أبناء الشعب الإيراني المسلم ينعمون بالراحة والرفاهية، أما الأكثرية _ وخاصة سكّان القرى والارياف _ فقد كانوا يعيشون في عناء وتعب وفقر دائم.

 

وبعد انتصار الثورة الإسلامية التي هدفت لرفع الظلم ومساعدة المحرومين والمستضعفين ونشر سلطة العدل، لذا فقد وجّه الإمام الخميني وفي الأيام الأولى للإنتصار نداءً إلى الشعب الإيراني المسلم طلب منه المساهمة بفعالية في ثورة البناء والاعمار، وبناءً على ذلك أسست مؤسسة ثورية سمّيت "جهاد البناء" وبدأت نشاطها في المناطق المحرومة، وتوجهت من خلالها أمواج الناس _ وخاصة الشبّان والجامعيون _ إلى القرى والمناطق المحرومة، وقدموا هناك خدمات جليلة طلباً لرضا الله في خدمة خلقه.