دقّ جرس الباب في ساعة متأخرة من الليل؛ كانت هذه هي الليلة الأولى التي أمضاها الإمام في باريس عندما استأذن بالدخول عليه مبعوثان من قصر الإليزية ذكرا أنهما يحملان رسالة خاصة من رئيس الجمهورية الفرنسية يريدان إبلاغها لزعيم إيران مُباشرة.

وافق الإمام على استقبالهما في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وكانت المفاجأة غير المنتظرة أنهما رحبا بالإمام في فرنسا، بيد أنهما أبلغاه قرار الرئيس الفرنسي القاضي بضرورة امتناعه عن ممارسة النشاط السياسي في الأرض الفرنسية.

علّق الإمام: انتظرت حكومة العراق خمسة عشر عاماً إلى أن أصدرت قرار المنع، أمّا الحكومة الفرنسية فقد بادرت إليه منذ الليلة الأولى!

استطرد الإمام مضيفاً: أنا أعرف أنكم تخشون من انتشار بياناتي وخطاباتي وتخافون من قيام الشعب الفرنسي إثر ذلك، ولكن بياناتي وخطاباتي هي باللغة الفارسية، وبالتالي فهي ليست موجهة هنا بل إلى إيران.

تمّ الاتفاق في نهاية اللقاء على أن يتمتع الإمام بحرية إصدار البيانات وإلقاء الخطب المباشرة، وأن يمتنع عن اللقاءات الصحفية.

أجاب الإمام: حسناً سنمتنع عن اللقاءات الإعلامية فعلاً!

لقد جهدت وسائل الإعلام الفرنسية في تحدي الحظر الحكومي والالتقاء مع الإمام، وكان أول من رفع لواء التحدّي وكسر الحظر المفروض هي صحيفة «الفيغارو» التي استطاعت أن تنشر لقاءً أجرته مع الإمام بتاريخ 14/ تشرين الأول / 1978 لتفتح بذلك الباب على مصراعيه لوسائل الإعلام في فرنسا وأوربا وأمريكا للقاء الإمام والحوار معه.

ولا تكمن أهمية هذا اللقاء الذي نقدّم ترجمته فيما يلي بأنه الخطوة الأولى على هذا الطريق مع ما تحمله الخطوة الأولى عادة من شحنات نفسية تنعش الذاكرة وحسب، بل تتمثل أهميته أيضاً بما ينطوي عليه من أفكار عرض لها الإمام الراحل حيل مقولات مواجهة الشاه والحكومة الإسلامية البديلة ووضع الأقليات، وغير ذلك مما كان يعصف بالمسار الثوري وقتئذ.

 

مقدمة مراسل الصحيفة:

قدّم مراسل «الفيغارو»? لحواره مع الإمام بمقدمة افتتحها بالنص التالي: آية الله الخميني: «لا يمكن أن تبقي الصدور العارية في معرض الرصاص إلى الأبد».

ثم كتب: على مسافة نصف ساعة من باريس يستقر عالم آخر. وقد اختار آية الله الخميني الذي يعتبر اسمه عنواناً لمعارضة الشاه، الإقامة في مكان صغير أطراف باريس.

دوريات الشرطة في المنطقة والسيارات المجهزة بالرادار والشرطة (الخاصة) بالملابس الشخصية كُلها علامات تُشير لمحل إقامته.

دُرنا حول المنزل فظهرت لنا مجموعة تتألف من عدد من رجال الدين وبعض العاملين والطلبة الذين قدموا من المانيا وتونس وبريطانيا لأداء الاحترام.

خلعنا أحذيتنا أثناء الدخول إلى المكان وكأننا ندخل إلى مسجد. كان آية الله خميني يجلس على فراش في غرفة صغيرة، تناثرت من حوله مجموعة من الأوراق وعدد من الكتب.

كان يرتدي لباساً رمادياً وعلى رأسه عمامة سوداء؛ راح يحدثنا بوقار من دور أن يرتفع صوته.

* الفيغارو: يتساءل الرأي العام بشأن مقاومة معارضي الشاه، وفيما إذا كانت هذه الحركة الدينية تريد أن تعيد السنن والأحكام الإسلامية مجدداً؟

الإمام: إنّ المعارضين للنظام وأصحاب النهضة الحالية، هم ضحايا للإعلام المضاد الذي يهدف أن يجعلهم غرباء عن ذواتهم، عندما نتحدث عن الإسلام، فلا يعني ذلك التنكب عن التقدم والتراجع عن الرقي، بل عكس ذلك هو الصحيح. نحن نعتقد إنَّ الإسلام دين تقدمي، يضرب على الظلم والنهج الدكتاتوري.

إنّها الأنظمة من أمثال نظام الشاه التي تحرف مسارات التقدم القائمة عن أهدافها؛ وهذه هي الأنظمة التي تحجب الانجازات المتحققة عن أبناء المجتمع رجالاً ونساءً وتفرّغ التقدم من محتواه.

وقبل هذا وذاك نعتقد أن الرقابة والضغط البوليسيين ليسا وسيلة للتقدم.

* الفيغارو: هل ثمة علاقة للنهضة الراهنة في إيران بحركات اليسار واليسار المتطرف أم لا؟

الإمام: لقد امتنعنا دائماً من الاتحاد مع هذه الأحزاب، بيد أنَّ الحاصل اليوم، أن جميع المعارضة الإيرانية تتحرك تحت لواء الدين، وقد انتظمت في إطار بيان الإسلام على نحو صحيح، وهي تتظاهر عبر هذا العنوان. والسبب في ذلك واضح يرجع إلى تلاشي المجموعات اليسارية والشيوعية وغيابها عن الساحة تقريباً. فهذه الجماعات لا تستطيع أن يكون لها وزن في النهضة. بيد أنَّ النظام يسعى لخداع أفكار الرأي العام ولاسيما خارج إيران، عبر اتهام جميع المعارضين ورميهم بالماركسية.

 

* الفيغارو: ولكن على رغم مقاصدهم نجد أن الماركسيين يستفيدون من الدين لمواجهة نظام الشاه؛ فهل راح الإسلاميون يتراجعون تدريجياً بواسطة أحزاب اليسار المتطرف، بحيث صارت هذه الأحزاب تتحكم بالمظاهرات والاضرابات وتوجهها بالنحو الذي تريده؟

الإمام: انظروا إلى المظاهرات الضخمة الأخيرة، فقد استطاع الإسلاميون تعبئة مليون إنسان وهؤلاء يهتفون بالشعارات الدينية في كل الحالات والأوقات. إنه الدين الذي يبعث على التعبئة وتحشيد القوى، ولم يحصل وان سُمعت شعارات اليسار المتطرف حتى ولو مرة واحدة.

* الفيغارو: لقد اكتسبت المعارضة ضدَّ الشاه طابعاً سلمياً نسبياً في المراحل الأولى عبر المظاهرات والاضرابات، بحيث لم ترفع الأسلحة وتوضع المتاريس ضدّ الجيش والشرطة؛ والسؤال: هل تعتقدون بأنَّ الظرف الراهن يتطلب الاستمرار بالنهج ذاته ولا يمكن العمل على نحوٍ آخر كاستخدام الكفاح المسلح مثلاً؟

الإمام: لقد بقينا على النهج الجهادي ذاته حتى بعد واقعة يوم الجمعة في طهران رغم المذبحة التي أصابت الشعب. وكما يعرف العالم فإن نداءنا لم يخبو وصوتنا لم ينكسر برغم القمع والاضطهاد الذي جوبه به، وستستمر المقاومة على هذا النهج ذاته. ولكن سألوني فيما إذا كان قد حان الوقت لتغيير أسلوب المقاومة واللجوء للكفاح المسلح لمواجهة استخدام الجيش للقمع من قبل السلطة الديكتاتورية؟ فأجبت: كلاّ.

بيدَ أني مع ذلك رحت اليوم أتساءل وأفكر بالأمر مع نفسي، إذ لا يمكن أن تبقى الصدور العارية عرضة للرصاص للأبد. إنّ توجيهاتنا قائمة على أساس النهج السلمي حتى الآن ولم تُغير من عملنا، ولكن ربما اضطررنا للتغيير.

* الفيغارو: ما هي الوجهة التي تقصدوها، وما هي طبيعة النظام الذي تريدوه بديلاً لنظام الشاه؟

الإمام: أقول بلا مواربة: لا مجال لبقاء نظام الشاه، لقد كنّا نعارضه على الدوام، وإسقاطه هو هدف لا يقبل التغيير. علاوة على ذلك لا أهمية للشكل الحقوقي للنظام «البديل» بل المهم محتواه. يمكن أن نفكر بصيغة الجمهورية الإسلامية، وذلك بسبب إننا نعتقد أن الرؤية الإسلامية الأصيلة ترشدنا لمجتمع متقدم تطفح بين جنباته الاستعدادات والقوى الإنسانية وتسوده العدالة الاجتماعية.

إننا نفكر بالمحتوى الاجتماعي للنظام السياسي المنشود قبل أي شيء آخر.

* الفيغارو: ولكن هل النظام الذي تبتغوه ديمقراطياً؟ على سبيل المثل هل توافقون على حرية المطبوعات، والتعددية الحزبية وحرية الأحزاب؟

الإمام: نحن مؤمنون بنظام الحريات الكاملة. والإطار المهم للنظام المستقبلي في إيران هو أخذه بنظر الاعتبار مصالح مجموع الشعب، تماماً كما هو الحال في أي نظام يستند إلى الشعب، كما ينبغي للنظام المقبل أن يلتزم بشؤون المجتمع الإيراني، ذلك لأن الدعوة إلى المجتمع المفتوح غير المنضبط بحدود يفضي إلى هتك شرف الرجال والنساء.

* الفيغارو: هل ثمة مكان في الجمهورية الإسلامية للأقليات الدينية في إيران؛ وهي كثيرة؟

الإمام: ليست سلوك نظام الشاه مع الأقليات الدينية أفضل من سلوك المسلمين معها. إننا نكن احتراماً أكبر لعقائد الآخرين الدينية، وبعد أن تسقط الديكتاتورية ويستقر بديلاً عنها نظام حر، ستتحسن كثيراً الشروط الحياتية للأكثرية الإسلامية والأقليات الدينية.

* الفيغارو: من المحتم أنَّ النظام الحالي سيستمر بالدفاع عن نفسه، فيا ترى ما هو السند الذي يتكئ عليه النظام؟ ومن هم الذين يسندوه ويوفرون له الحماية والدعم؟ وما الذي يمدّه بإمكانات قمع المعارضين؟

الإمام: ليس ثمة بالداخل أية قوة تحامي عن ديكتاتورية الشاه. ويكفي للتأكد من هذا الأمر أن نلقي نظرة واحدة على ما يجري داخل البلد. وهذا عمل سهل.

أما في الخارج فهذه الولايات المتحدة التي تحامي عن نظام الشاه على وجه الخصوص، وإذا رفعت أمريكا يديها عنه فسينهار فوراً وينهدم بنيانه.

* الفيغارو: ولكن برغم ذلك كلّه بمقدور الشاه أن يستند إلى الجيش ويخطط لحكومة عسكرية؛ وهذا احتمال أساسي؟

الإمام: ما هو مهم بالجيش هي بنيته التي تتحدّد بقيادته وسلسلة المراتب فيه؛ ومن هذا المنظور فإن الجيش يقاد من قبل أمريكا حتى الآن. بل نجد انه حتى الكادرات الوسطى أعدت من قبل التقنيين الأمريكان وربيت تحت إشراف المستشارين الأمريكان. وحتى اللحظة لم تظهر علائم في أوساط الضباط والجنود تدل على يقظتهم إزاء كفاح الشعب.

ولكن عليكم أن لا تنسوا أن هؤلاء إيرانيون قبل أي شيء آخر، وأن من أمامهم في المواجهة هم إيرانيون أيضاً.

لقد برزت بعض البوادر التي شوهد فيها المتظاهرون يقدمون الزهور للجنود بدلاً من رجمهم بالحجارة، وقد شوهد الكثير من الجنود يبكون بعد هذا الموقف، وقد سجّل الواقع بعض حالات انتحار لجنود أقدموا على ذلك بعد رميهم المتظاهرين بالرصاص. ستظل هذه الحالة المحزنة والتراجيدية مستمرة ما دام الجيش الإيراني تحت ظل السيطرة الأمريكية.