هي التي خاطبها إمام زمانها عليه السلام في عزِّ الفجيعة قائلاً: "أنت -بحمدِ الله- عالمة غير معلّمة، وفَهِمَة غير مفهّمة"(1).

ثمّة من ينظر إلى السيّدة زينب عليها السلام من جهة كونها المرأة المصابة والمفجوعة بأهلها في كربلاء، ويقوم بالتركيز على جانب الرثاء والحزن في شخصيّتها دون ملاحظة الجوانب الأخرى. كما أنّه يوجد من ينظر إليها من ناحية الشجاعة والموقف في كربلاء، وقد يبالغ في القول إنّها لم تكن باكية أو راثية، لينزّهها عن الضعف، إلّا أنّ الإنصاف يحتّم النظر بشموليّة أكبر، فكِلا القراءتين تنظران إلى مواقف زينب عليها السلام بالتركيز على جانب وإهمال الآخر. وسنحاول في هذا المقال التركيز على كِلا الجانبين، لنرى كيف أنّهما كانا مقصودَين من العقيلة زينب عليها السلام لتأدية دورها وإيصال صوتها الذي هو صوت الحسين عليه السلام.

 

•زينـــب عليها السلام الراثيـة والباكية في كربلاء

في البداية، نشاهد زينب عليها السلام المفجوعة بأخيها، النادبة له أشجى ندبة، والراثية له أشدّ الرثاء، والباكية له بدموع لا تخفيها أمام الأعداء.

وربّما يجد بعضهم في هذا الأمر ضعفاً، أو موقفاً يربو بزينب الصابرة والشُّجاعة عن فعله، إلّا أنّنا لو نظرنا بمنظار أدقّ، لوجدنا أنّ هذه السيّدة الجليلة بما اختزن في داخلها من خصائص فريدة، كانت تستفيد من كلّ مناسبة لتجعل منها فرصة توصل من خلالها الرسالة المناسبة:

 

1- فباعتبارها عليها السلام امرأة، ومن شأن المرأة البكاء والنوح عادةً، فإنّها الشخص الوحيد الذي لا يمكن إسكاته في أرض كربلاء، فهي امرأة ثكلى بأهلها وأحبّتها، ويحقّ لها أن تبكيهم وترثيهم.

 

2- كما أنّ الرثاء هو الطريقة الوحيدة التي يمكن لها اختيارها في موضع كهذا؛ ذلك لأنّها لو قامت خطيبة لسارعوا إلى إسكاتها، ولو كلّمتهم بأيّ طريقة لواجهوها وأجابوها، لكنّها بكت ورثت فسمعوها، ووعَوا كلامها، وفهموه، دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على إسكاتها، وإلّا لقيل له: إنّها امرأة تبكي فقيدها، وهي ثكلى على قتلاها، فما تريد منها؟!

 

3- لقد احتوى المضمون الذي قدّمته عليها السلام في رثائها على تقريرٍ عن الحادثة بطريقة مبدعة، فلو أنّ شخصاً أراد أن يكتب تقريراً جنائيّاً عن الحادثة، لما استطاع أن يقول أكثر ممّا قالته العقيلة زينب عليها السلام؛ فقد عرّفت بالقتيل أنّه من أهل بيت النبوّة، وأشارت إلى مَن قتله، وكيفيّة قتله، والمصائب التي جرت عليه وعلى أهل بيته.

 

قال الراوي: فوالله لا أنسى زينب بنت عليّ عليهما السلام وهي تندب الحسين، وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: "وا محمّداه، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى حمزة سيّد الشهداء. وا محمّداه، هذا حسين بالعراء، يسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، يا حزناه يا كرباه، اليوم مات جدّي رسول الله، يا أصحاب محمّداه، هؤلاء ذريّة المصطفى يساقون سَوق السبايا"(2).

وفي بعض الروايات: "يا محمّداه بناتك سبايا، وذريّتك مقتّلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهباً، بأبي من فسطاطه مقطّع العُرى، بأبي من لا هو غائب فيُرتجى، ولا جريح فيُداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جدّه رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبيّ الهدى، بأبي محمد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي عليّ المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء سيّدة النساء..."(3).

والنتيجة التي ترتّبت على هذا الموقف، هي القدرة الهائلة على التأثير، حيث يقول الرواي: فأبكت -والله- كلّ عدوّ وصديق(4)، ممّا يعني بعبارة أخرى: إنّ الرسالة التي أرادت إيصالها قد وصلت بشكلٍ ناجح وجيّد.

 

•زينب عليها السلام خطيبة مَهيبة في الكوفة

في الكوفة، استقبل أهلها السبايا والركب الحسينيّ وهم بحال بكاء وحزن وأسف. وهنا زينب عليها السلام كانت شامخة ومتماسكة، وقامت خطيبة بين أهلها. ويصفها أحدهم بوصف لافتٍ إذ يقول: "ورأيت زينب بنت عليّ عليهما السلام ولم أرَ خفرة(5) قطّ أنطق منها، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام"(6)! نعم، لقد ذكّرتهم بأبيها عليّ عليه السلام.

وفي إشارة إلى هيبتها وقوة حضورها قال: "وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأصوات"(7)!

ثمّ خطبت عليها السلام خطبة صغيرة، ذكرت فيها غدرهم وخذلانهم، وأشعرتهم بالندم على فعالهم. وممّا جاء فيها قولها: "يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنّة. أتبكون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، ولقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبداً...

ويلكم! أتدرون أيّ كبدٍ لمحمّدٍ فريتم، وأيّ دمّ له سفكتم، وأيّ كريمة له أصبتم؟ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ (مريم: 89-90)"(8).

إلى أن قال الراوي: "ثمّ سكتت، فرأيتُ الناس حيارى، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً قد بكى حتّى اخضلّت لحيته، وهو يقول:

كهولكم خير الكهول ونسلكم         إذا عدّ نسل لا يخيب ولا يخزى"(9)

نعم، لقد أشعرتهم عليها السلام بالندم الذي تسلّل إلى أعماق نفوسهم، ولا نستبعد التحليل الذي يقول إنّها عليها السلام بكلماتها هذه وسواها من كلمات من كان معها، تأسّست البذور الأولى لحركة التوّابين وطلب الأخذ بالثأر، التي قلبت كرسي النظام الحاكم على رؤوس أصحابه.

 

•زينب عليها السلام في الشام بين الرثاء والخطابة

تختلف الظروف حال دخول السيّدة زينب عليها السلام إلى الشام عن حال دخولها إلى الكوفة؛ لأنّ أهل الشام كانوا فرحين شامتين، وهذا الأمر احتاج منها إلى مواقف متعدّدة ومختلفة من الرثاء تارةً، والخطابة أخرى.

ومن ذلك أنّها لمّا دخلت على يزيد، ونظرت إليه وقد وضع رأس الحسين عليه السلام أمامه في طست، وجعل يضرب ثناياه بقضيب، وهو ينشد الأبيات المعروفة لابن الزبعرى، أرادت عليها السلام أن تلفت نظر الحاضرين إلى عظم هذه الجناية التي يقوم بها هذا المجرم، فلم يكن من سبيلٍ سوى الرثاء والبكاء، نادت بصوت حزين يقرع القلوب: "يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يا بن مكّة ومِنَى! يا بن فاطمة الزهراء سيّدة النساء! يا بن محمد المصطفى".

فأبكت والله كلّ من كان في المجلس، ويزيد ساكت، ثمّ قامت على قدميها، وأشرفت على المجلس، وشرعت في الخطبة(10)، تلك الخطبة الشهيرة التي واجهت بها يزيد (لعنه الله) بجرائمه، وفضحته أمام الملأ وعبر التاريخ، ووبّخته وقرّعته، وعرّفت بأخيها الإمام الشهيد، وأثبتت حقّ أهل البيت بالخلافة والإمامة...

 

•وعادت منتصرة

وهكذا كانت زينب عليها السلام في شخصيّتها تقف بين العاطفة والرثاء تارةً، وبين الشجاعة والموقف تارةً أخرى، حتّى عادت إلى مدينة جدّها منتصرة، قد أوصلت صوت أخيها الحسين عليه السلام وأدّت الأمانة.

 

فسلام الله عليكِ يا أمّ المصائب، وعقيلة الطالبيّين، يوم ولدتِ، ويوم رحلتِ إلى ربّك، ويوم تبعثين مع أخيك وأهل بيتك الطاهرين، ورحمة الله وبركاته.

 

1.الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص31.

2.بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص59.

3.(م.ن)، ج45، ص58- 59.

4.(م.ن).

5.أي: امرأة ذات حياء وستر.

6.الأمالي، الطوسي، ص92.

7.(م.ن).

8.(م.ن).

9.(م.ن).

10.الاحتجاج، (م.س)، ج2، ص35.

 

مجلة بقیة الله