قصص روحيّة من حياة الإمام الخمينيّ قدس سره

الشيخ موسى خشّاب

 

في إحدى السنوات، هطلت الثلوج بغزارة في قم، وبلغ ارتفاعها نحو ستّة أذرع، ولكنّه خرج وكسر الثلج المتجمّد أعلى حوض الماء بصعوبة لكي يتوضّأ منه، ثمّ ذهب إلى محلّ التدريس في المدرسة فيما الظلام مخيّم، حيث يعمد إلى التهجّد والعبادة إلى أوّل أذان الفجر(1).

إنّه الإمام الخمينيّ قدس سره، الذي سنتعرّف إلى بعض مآثره الروحيّة والعباديّة في أداء الصلاة وقراءة القرآن والدعاء.

 

•أوّلاً: الصلاة في أوّل وقتها

"منذ سنّ الرابعة إلى اليوم لم أسمع صوت الأذان إلّا والإمام قائم يصلّي، هكذا حاله في الصبح والظهيرة والمغرب"(2) (نقلاً عن ابنة الإمام قدس سره).

هذه الثابتة التي لم يحل بين الإمام قدس سره وبينها نفيٌ أو اعتقال، مرضٌ أو عمليّة جراحيّة، مصيبةٌ أو انتصار، فقد كان شديد الاهتمام بمواقيت الصلاة في الظروف والأوقات كلّها:

أ- في المشفى: "أُصيب الإمام قدس سره بسكتة قلبيّة، وكان مؤشّر جهاز قياس الضغط يشير إلى الرقم 5، وهو مستوى خطير للغاية. قمتُ بالإسعافات الأوّليّة، وحين تحسّنت حالته بعض الشيء، حاول القيام، فسألته عن سبب ذلك فأجاب: (الصلاة)، فقلتُ له: أنتَ يا سيّدي مجتهد في الفقه، وأنا مجتهد في الطبّ، إنّ تحرّككم حرام الآن حسب الفتاوى الطبيّة! أقيموا الصلاة وأنتم في السرير. وقد التزم الإمام بما قلته بدقّة"(3) (نقلاً عن أحد أطبّاء قم).

"كانت حالة الإغماء تغلب عليه بين الحين والآخر في ضحى اليوم الذي توفّي قدس سره في مسائه، لكنّه كان يسألنا كلّما أفاق: (هل حان وقت أذان الظهر؟). كان قلقاً لحرصه على إقامة الصلاة في أوّل وقتها"(4) (السيّد رحيم ميربان- من العاملين في بيت الإمام قدس سره).

"في المستشفى، كانت حالة الإمام الصحيّة تتغير بدرجة ثمانين في المئة عند حلول وقت الصلاة، بحيث كان ينشط ويصبح قادراً على الجلوس، وكان يتوضّأ-إذا كان مسموحاً له- ثمّ يقيم الصلاة"(5) (حجّة الإسلام والمسلمين الأنصاريّ الكرمانيّ).

ب- على الطريق: "كان الإمام ملتزماً بالنزول من السيّارة إذا سمع صوت الأذان وإقامة الصلاة على حافّة الجادّة في أوّل وقتها"(6) (نقلاً عن السيّدة زهراء مصطفويّ).

ج- وقت الخطر الشديد: "في أحد أيّام العاشر من المحرّم، ألقى الإمام خطاباً هزئ فيه من الشاه، وألهب مشاعر الجماهير. وعندما توجّه إلى البيت، بدأت القوى الأمنيّة باعتقال المقرّبين منه، واقترح بعض المتواجدين في بيت الإمام بإغلاق باب الدار خوفاً من الهجوم عليه، فنهاهم الإمام بشدّة قائلاً: (يجب أن يبقى باب البيت مفتوحاً)، ثمّ خاطب الحاضرين مذكّراً بالصلاة، وقال: (ما أحسن أن نقوم لإقامة الصلاة! فإذا هاجمنا الجلّادون ونحن كذلك، فنفوز بالفوز العظيم)"(7) (السيّد غلام حسين الأحمديّ).

د- وهو رهن الاعتقال: يُنقل عن الإمام قدس سره قوله: "في الساعة الثالثة والنصف قبل آذان الفجر من أحد الأيّام، اقتحموا البيت، ثمّ ألقوني في السيّارة، وأخذوا يطوون شوارع قم بسرعة باتّجاه طهران. قلتُ لهم في وسط الطريق: إنّني لم أصلِّ، توقّفوا في مكان مناسب لكي أتوضّأ، ولكنّهم رفضوا، ثمّ قلتُ لهم: توقّفوا لحظة لكي أتيمّم على الأقلّ، فاستجابوا لطلبي. أوقفوا السيّارة، ولكنّهم لم يسمحوا لي بالنزول منها، فانحنيت وأنا في داخلها، وأوصلتُ يديَّ إلى الأرض، وضربتُ بهما صعيدها وتيمَّمت، وقد أدَّيتُ صلاتي جالساً في السيّارة"(8).

هـ- أثناء البثّ المباشر: "تجمّع أمامه عددٌ كبير من مراسلي أجهزة الإعلام وشبكات التلفزة العالميّة الكبرى في مؤتمر صحفيّ، وبعد الإجابة عن سؤالين أو ثلاثة، غادر الإمام قدس سره المكان على عجل. استغرب الحاضرون مغادرة الإمام للمؤتمر الصحفيّ، وقد طلب إليه شخص أن يبقـى بضع دقائق للإجابة عن بعض الأسئلة، ولكنّ الإمام رفض ذلك بلهجة حازمة، وقال: (إنّه وقت الفضيلة لصلاة الظهر)، وذهب لأداء الصلاة.

لقد قطع الإمام تصريحاته في وقت غاية في الحساسيّة، حيث كانت تتوجّه نحوه أجهزة شبكات التلفزة العالميّة ولكلّ منها الملايين من المشاهدين، وذهب لإقامة الصلاة"(9) (حجّة الإسلام والمسلمين السيّد أحمد الخمينيّ).

و- وسط المعزّين: "وصل نبأ شهادة ابن الإمام الأكبر السيّد مصطفى، وغصّ المنزل بالمعزّين، وعلى الرغم من ذلك، ذهب إلى المسجد لأداء الصلاة في أوّل وقتها كما في كلّ يوم"(10) (حجّة الإسلام والمسلمين الفرقاني).

ز- هل مات أحد؟ "بعد فترة قصيرة من نومنا، استيقظتُ على صوت بكاء ونحيب، فأيقظتُ السيّد مصطفى لأعرف مصدر الصوت؛ فقال: (إنّه صوت بكاء سماحة السيّد الإمام، فهذا وقت إقامته لصلاة الليل والتهجّد والتضرّع لله)"(11) (آية الله بني فضل).

ح- نبكي لبكائه: "لقد كان بكاء الإمام وتضرّعه -في صلاة الليل التي كان يقيمها بالأسحار- شديداً إلى درجة تدفع كلّ من يسمعه إلى البكاء دونما اختيار"(12) (حجّة الإسلام والمسلمين السيّد أحمد الخمينيّ).

 

•ثانياً: القرآن الكريم: طبيب النفوس

أ- "أريد عيناً لتلاوة القرآن": "أيّها الطبيب، أنا أريد العين من أجل تلاوة القرآن، فما جدوى أن تكون لي عين ولا أتلو بها القرآن؟! عليك أن تقوم بما يمكّنني من تلاوة القرآن"(13).

هكذا أجاب الإمام الخمينيّ قدس سره طبيبه حينما طلب منه أن يستريح من تلاوة القرآن أيّاماً عدّة بسبب مرض أصابه في عينه.

ب- الرفيق الدائم: لقد كان القرآن الكريم الرفيق الدائم للإمام الخمينيّ قدس سره، ولم يكن المصحف يفارقه أبداً، بل كان دائماً يضعه بالقرب منه، وكان يقرأه في أغلب الأوقات: قبل صلاة الفجر وبعدها، ووقت الضحى، وكذلك قبل صلاة الظهر، وعصراً بعد رياضة المشي، وقبل صلاة المغرب، وبعد صلاة العشاء، ولم يكتفِ بذلك، فقد كان يغتنم الدقائق القليلة التي تسبق تحضير الطعام بتلاوته ولو كانت أقلّ من دقيقتين، وكذلك كان يتلوه وسط أعماله كلّما سنحت له الفرصة"(14).

ج- في أحلك الظروف: لم يترك الإمام قدس سره رفيقه الدائم في الأوقات الصعبة والأحداث المؤلمة، فتراه حينما علم بشهادة ابنه العزيز السيّد مصطفى الخمينيّ قدس سره، قام وجلس في زاوية من البيت وانشغل بقراءة القرآن الكريم(15)، كما أنّه لم يتركه في ذروة الانشغال بالأحداث الكبرى والانتصارات، حيث يروي سماحة الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "بعد عودة الإمام بيومين أو ثلاثة إلى طهران، هذه الأيّام التي تتذكّرون جيّداً ما كان يحصل فيها من تجمّعات وضوضاء في محيط وأطراف شوارع إيران، وبعد يومٍ شاقّ طويل من المراجعات واللقاءات مع عامّة الناس، والشخصيّات السياسيّة والعلمائيّة، وأصدقاء قدامى، دخلتُ الغرفة، وكانت بداية المساء، فرأيت الإمام قدس سره جالساً وحده يقرأ القرآن بعد صلاة العشاءَين، وكأنّ شيئاً لم يحصل في ذلك اليوم!".

د- ساعةٌ وحده برفقة القرآن: لقد كان الإمام قدس سره شديد الأنس بتلاوة القرآن الكريم، وكان يتوجّه بكلّ وجوده للقراءة والتدبّر في آياته ومعانيه، وكان يتميّز بحالة خاصّة من التوجّه والإقبال والأنس، كما كان يأنس بالاستماع لتلاوته، ولكي يستغرق الإمام في الأنس بالقرآن، خصّص ساعة ً لتلاوته لا يدخل فيها عليه أحد مطلقاً(16).

هـ- عشرة أجزاء في اليوم: كان الإمام قدس سره يقرأ يوميّاً جزءين من القرآن، وفي بعض الأوقات يقرأ أربعة أجزاء يوميّاً، أمّا في شهر رمضان فيقرأ عشرة أجزاء في اليوم، فيختمه كلّ ثلاثة أيّام(17).

 

•ثالثاً: رأس ماله الدعاء

أ- تعلّق خاصّ بكتاب مفاتيح الجنان: "كان الإمام شديد الحبّ لمناجاة الله، شديد الأنس بكتاب مفاتيح الجنان، كثير الاستفادة منه؛ ولذلك كان جلد نسخته من هذا الكتـاب يتمزّق مرّة كلّ بضعة أشهر، فكنّا نضطرّ إلى تجليده أو شراء نسخة أخرى له"(18) (حجّة الإسلام والمسلمين السيّد أحمد الخمينيّ).

"لقد كان الإمام حريصاً على أن يقرأ الأدعية في الأوقات المخصّصة لها، ولعلّه من الممكن القول إنّه قرأ جميع أدعية كتاب مفاتيح الجنان"(19) (آية الله الإمام الكاشانيّ).

ب- قبل فوات الأوان: "زرتُ الإمام في اليوم الأوّل من شهر شعبان، فوجدت كتاب مفاتيح الجنان في يده، وهو يستعدّ لتلاوة الأدعية الخاصّة بشهر شعبان، وعندما أردت تقبيل يده للاستئذان للخروج، قال لي: (قم بما تريد القيام به وأنت شابّ، فإذا بلغتَ سنّ الشيخوخة، فإنّ ما ستقدر على القيام به هو النوم والأنين)"(20) (حجّة الإسلام والمسلمين مسيح البروجردي).

ج- بين الضيوف: "كان الإمام يُقبل على تلاوة دعائه دون أن يلتفت إلى مَن جاء إليه، وأيّ ضيف حلّ في المنزل، غاية الأمر أنه كان يقول لنا إذا كنّا في غرفته: (تأذنون لي بتلاوة الدعاء؟)، فكنّا نقول: تفضلوا رجاءً بتلاوته، يا سيّدي، ونحن نصغي ونستفيد"(21) (السيّدة زهراء مصطفويّ).

د- وسط الضجيج: "دخلتُ عليه مرّة وكانت السيّدة (زوجته) قد عادت من سفر لها قريباً، ولذلك لم يرَ من المناسب أن يطلب منّا التزام الصمت لكي يتلو دعاء كميل، وقد اجتمعنا حول السيّدة نحادثها، وقد لاحظتُ أنّ الإمام قد وضع كتاب الدعاء أمامه وهو يتلو دعاء كميل وسط الضجيج، دون أن يلتفت لما يجرى حوله أو يترك الدعاء بسببه"(22) (حجّة الإسلام والمسلمين مسيح البروجرديّ).

هـ- سلاحه البكاء: "كنت نائماً في إحدى ليالي شهر شعبان بالقرب منه، فاستيقظتُ على صوت بكائه أثناء التهجّد، الأمر الذي جعلني أرتجف بقوّة! لقد شاهدتُ عياناً كيف كان الإمام يتلو بتضرّع المناجاة الشعبانيّة التي كان ملتزماً بمناجاة الله بها" (السيّد رحيم ميريان)(23).

و- اقبلني في جوارك: "في المستشفى، قبيل رحيله في لياليه الأخيرة، كان الإمام يبكي ويتضرّع ويقول: (اللّهمّ اقبلني في جوارك)"(24).

 

•السرّ المستودع فيه

إنّ ما تقدّم كلّه وغيره الكثير يجيب عن السؤال حول السرّ الذي جعل تلك الشخصيّة تحيّر العالم وتملك قلوب الملايين، وتسلب أعين المتجبّرين النوم الرغيد، وتعجز جميع أجهزة الاستكبار العالميّ التغلّب على البذور التي زرعها.. وحول ذلك يقول سماحة الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله:

"لو لم يكن الإمام من أهل التضرّع والاستغفار والاستقامة والبكاء والمناجاة والدعاء والتوسّل، لكان من المستبعد أن يحصل على هذا التوفيق كلّه من قِبل الله تبارك وتعالى. وإنّ النجاح الذي حقّقه هذا الإنسان الفذّ، رهين إلى حدّ كبير بهذا الارتباط بالله، وبانفتاح قلبه على مصراعيه على الحضرة الإلهيّة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) مقتطفات من كتاب "قبسات من حياة الإمام الخمينيّ قدس سره- الحالات العباديّة والمعنويّة"، إعداد: غلام علي الرجائي.

1.قبسات من حياة الإمام الخمينيّ قدس سره- الحالات العباديّة والمعنويّة، إعداد: غلام علي الرجائي، ص85.

2.(م.ن)، ص53.

3.(م.ن)، ص59.

4.(م.ن)، ص64.

5.(م.ن)، ص60.

6.(م.ن)، ص54.

7.(م.ن)، ص39.

8.(م.ن)، ص41.

9.(م.ن)، ص44-45.

10.(م.ن)، ص42.

11.(م.ن)، ص88.

12.(م.ن)، ص99.

13.(م.ن)، ص8.

14.(م.ن).

15.(م.ن).

16.(م.ن)، ص7.

17.(م.ن)، ص9.

18.(م.ن)، ص83.

19.(م.ن)، ص81.

20.(م.ن)، ص83.

21.(م.ن)، ص83.

22.(م.ن)، ص80.

23.(م.ن)، ص90.

24.(م.ن)، ص101.

 

المصدر: مجلة بقية الله