«دروس في الحكومة الإسلامية»؛ الدرس العاشر: الطائفة الخامسة من الروايات (الاستدلال لولاية النبي والأئمة)

 آية الله الشيخ محمد مؤمن


 

الطائفة الخامسة

أخبار متفرقة تدل على أن مقام الإمامة يلزمه حق تصدي أمور الأمة وبلاد الإسلام إما على عنوان الإمام وإمام مع ذكر أسمائهم الشريفة.

فأما ما يدل على أن الإمامة يلزمها الولاية بالمعنى المطلوب فأخبار:

1. منها ما رواه الكليني بإسناده الصحيح عن إسحاق بن غالب الأسدي الثقة عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في خطبة يذكر فيها حال الأئمة عليهم السلام وصفاتهم ـ أن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أمة محمد صلى الله عليه وآله واجب حق إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام عَلَماً لخلقه، وجعله حجة على أهل موادّه وعالمه[1]، وألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبّار، يمد بسبب إلى السماء لا ينقطع عنه مواده، ولا يُنال ما عند الله إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى ومعميات السنن ومشبهات الفتن، فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين عليه السلام من عقب كل إمام يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كلما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماماً علماً بيناً وهادياً نيراً وإماماً قيماً وحجة عالماً، أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهداهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها.

فالإمام هو المنتجب المرتضى، والهادي المنتجى، والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك، واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه، وفي البرية حين برأه ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه محبواً بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه وانتجبه لطهره، بقية من آدم، وخيرة من ذرية نوح، ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل على نبينا وآله وعليهم السلام، وصفوة من عترة محمد صلى الله عليه وآله، لم يزل مرعياً بعين الله، يحفظه ويكلأه بستره، مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ونفوث كل فاسق، مصروفاً عنه قوارف السوء، مبرّءاً من العاهات، محجوباً عن الآفات، معصوماً من الزلات، مصوناً عن الفواحش كلها، معروفاً بالحلم والبر في يفاعه، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسنداً إليه أمر والده، صامتاً عن المنطق في حياته.

فإذا انقضت مدة والده إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته، وجاءت الإرادة من الله فيه إلى محبته، وبلغ منتهى مدة والده، فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلده دينه، وجعله الحجة على عباده وقيمه في بلاده، وأيده بروحه، وآتاه علمه، وأنبأه فصل بيانه، واستودعه سره، وانتدبه لعظيم أمره، وأنبأه فضل بيان علمه، ونصبه عَلَماً لخلقه وجعله حجة على أهل عالمه، وضياءاً لأهل دينه، والقيّم على عباده، رضي الله به إماماً لهم، استودعه سره، واستحفظه علمه، واستخبأه حكمته، واسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيا به مناهج سبيله، وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل، وتحير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع، بالحق الأبلج، والبيان اللائح من كل مخرج، على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه عليهم السلام، فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي، ولا يجهده (يجحده ـ ظ) إلا غوي، ولا يصد عنه إلا جريّ على الله جل وعلا[2].

فهذه الصحيحة المباركة قد تضمنت صفات جليلة ومكرمات شريفة للإمام أعطاه الله إياها، وصرحت بأن الله تعالى أكرمهم بها عناية منه على عباده. وفضلهم بهذه الفضائل لكونهم أهلاً لها، وأوجب عليهم واجباً هو أهم الواجبات، الذي به يحيا سنته ودينه، وقد صرّحت الصحيحة أولا ً بأن الأئمة عليهم السلام كلهم من أهل بيت نبي الإسلام ومن ولد الحسين عليهم السلام وبأن الله تعالى لم يزل يختارهم وينصبهم إماماً عَلَماً بيناً وهادياً نيراً، وبأن الإمام قيم من الله تعالى على خلقه، وصرّحت أخيراً بأن الله تعالى نصبه القيم على عباده ورضي به إماماً لهم، وصرحت أيضاً بأن الله تعالى يحيي بالإمام مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، وبأن الإمام يقوم بالعدل على طريق المنهج الذي مضى عليه آباؤه الصادقون عليهم السلام.

فالصحيحة تامة الدلالة على أن الله تبارك نصب الأئمة المعصومين ولاةً للأمة الإسلامية بمعناها المطلوب، والحمد الله.

2. ومنها ما رواه في الكافي عن أبي محمد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم، ورواه الصدوق في إكمال الدين بإسنادين، أحدهما عن محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا أبو محمد القاسم بن العلاء قال: حدثني القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، وإسناده الآخر أيضاً ينتهي إلى القاسم عن أخيه، قال: كنا مع الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم عليه السلام ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بيّن لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً عليه السلام عَلَماً وإماماً، وما ترك (لهم) شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا بيّنه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل على نبينا وآله عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة، وفضيلة مشرفة بها وأشاد بها[3] ذكره فقال: ﴿جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ فقال الخليل سروراً بها ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ قال الله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾.

فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فكانت له خاصة، فقلدها علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله، فمن أين سيختار هؤلاء الجهال.

إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام، إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمام أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله... .

الإمام أمين الله في خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله والذاب عن حُرم الله، الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّأ عن العيوب... مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب... .

أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله صلى الله عليه وآله؟ كذبتهم والله أنفسهم... راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بُعداً... رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾... فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله ونسل المطهّرة البتول عليها السلام، لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب، في البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله والرضا من الله عز وجل، شرف الأشراف والفرع من عبد مناف، نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة قائم بأمر الله عز وجل، ناصح لعباد الله حافظ لدين الله... .

وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد آمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم... الحديث[4].

واللفظ الذي نقتله كان من الكافي، ولا تفاوت معنوي في ألفاظ الحديث فيه وفي إكمال الدين. والحديث كما عرفت نقله أبو محمد القاسم بن العلاء ـ الذي قال ابن طاووس: (أنه من وكلاء الناحية) ـ عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز، والقاسم هذا لم أجده مذكوراً في ترجمة رجال الأحاديث، وعبد العزيز بن مسلم ذكره جامع الرواة بقوله: (روى عن الرضا عليه السلام في الكافي في باب نادر جامع في فضل الإمام عليه السلام) فلم يذكر لواحد منهما توثيق إلا أن عظم مضامين ما تضمّنته الرواية وإتقان استدلالاتها القرآنية وصحة ما أفادته في نفي الطريق إلى اختيار الإمام وغير ذلك من المزايا كلها يوجب الاطمينان بصدورها، لاسيما وقد رواه وكيل الناحية واعتنى بها وذكرها الكليني والصدوق رضوان الله عليهما.

والحديث كما ترى صريح في أن الإمام أمر إلهي قد عدها القرآن الكريم من كمال الدين، وفي أن الإمامة مقام رفيع قد حصل لإبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة، وفي أن للإمام صفات وكمالات عالية خص الله الإمام بها بما أنه مفضل وهاب، ولذلك فلا يمكن للآراء البشرية والعقول الإنسانية وإن علت أن يختار الإمام، بل هي أمرٌ أعطاه الله إبراهيم وبعض ذريته من الأصفياء حتى ورّثه نبي الإسلام وقلّده بأمر الله علياً عليه السلام ثم صار في ذريته الأصفياء من ولد الحسين عليهم السلام إلى يوم القيامة.

والحديث الشريف قد جعل الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين، وصرح بأنه بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. ومن الواضح أن هذه الأمور ولاسيما الخمسة الأخيرة منها لا تكون إلا إذا كان الإمام ولي أمر الأمة بيده جعل الفيء والصدقات وأخذها حتى يكون منه توفيرها وبأمره وتحت نظره إجراء الحدود والتعزيرات الإلهية وإنشاء الأحكام في موارد المخاصمات وإجرائها وبيده رعية ثغور البلاد الإسلامية وأطرافها، فالحديث تام الدلالة على ثبوت المعنى المطلوب من الولاية للأئمة الهداة عليهم السلام، وعليه فيكون الإمام بولايته وقيمومته الإسلامية مراقباً على امتثال الأمة لواجباتهم الشرعية وبذلك يكون به تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج ولاسيما الجهاد الذي يكون بأمره ودعوته وتكون الإمامة حينئذ زمام الدين ونظام الإسلام والمسلمين.

كما صرح الحديث أيضاً بأن الإمام عالم بالسياسة مفروض الطاعة، فبعلمه بالسياسة وتدبير أمور الأمة والبلاد الإسلامية يرى ما هو المصلحة لأمة الإسلام ويبدي رأيه ويأمر به ويكون أمره واجب الامتثال وهو مفروض الطاعة، وقد مر مراراً أن فرض الطاعة وإطلاقه دليل على ثبوت الولاية المطلوبة.

كل ذلك علاوة على ما للأئمة الهداة من العلم القطعي الواقعي بالأحكام والمعارف الإلهية الإسلامية الذي تكون الأمة في ظل هدايتهم مهتدية إلى ما أراده الله منهما وجعله وسيلة ومرقاةً لارتقائها مدارج عالية إلهية فإنه أمر مخصوص بهم من غير طلب منهم ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب.

3. ومنها ما رواه الصدوق في أبواب الاثني عشر من الخصال بإسناده عن تميم بن بهلول قال: حدثني عبد الله بن أبي الهذيل، وسألته عن الإمامة في من تجب؟ وما علامة مَن تجب له الإمام؟ فقال: إن الدليل على ذلك والحجة على المؤمنين والقائم بأمور المسلمين والناطق بالقرآن والعالم بالأحكام أخو نبي الله وخليفته على أمته ووصيه عليهم ووليه الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، المفروض الطاعة بقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ الموصوف بقوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ المدعو إليه بالولاية، المثبّت له الإمامة يوم غدير خم بقول الرسول صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل: (ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، وقال: فمن كنت مولاه فعلي عليه السلام مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأعن من أعانه) علي ابن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين، وأفضل الوصيين، وخير الخلق أجمعين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وبعده الحسن بن علي، ثم الحسين عليهما السلام، سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وابنا خيرة النسوان أجمعين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم ابن الحسن عليهم السلام إلى يومنا هذا، واحداً بعد واحد، وهم عترة الرسول صلى الله عليه وآله المعروفون بالوصية والإمامة، ولا تخلو الأرض من حجة منهم في كل عصر وزمان وفي كل وقت وأوان... الحديث.

وبعد انقضاء الحديث ما لفظه: ثم قال تميم بن بهلول: حدثني أبو معاوية عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام في الإمامة مثله سواء[5].

والحديث كما ترى قد عبر في أمير المؤمنين عليه السلام بتعبيرات عديدة كل منها تامّ الدلالة على أن له الولاية بالمعنى المطلوب وعلى أنه عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم نطق بأن هذه المنزلة ثابتة لكل واحد من الأئمة الأحد عشر الأُخر كما صرّح بأسمائهم وخصوصياتهم عليهم السلام.

4. ومنها ما رواه الصدوق أيضاً في الباب المذكور بإسناده عن سُليم بن قيس الهلالي قال: سمعت عبد الله بن جعفر الطيّار يقول: كنا عند معاوية أنا والحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام، فقلت لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد عليّ فالحسن بن علي (عليه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم ابنه الحسين (عليه السلام) بعد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه علي بن الحسين الأكبر (عليه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثُمّ ابني محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين، ثم تكمله اثنى عشر إماماً، تسعة من ولد الحسين عليه السلام. قال عبد الله بن جعفر: ثم استشهدت الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية.

قال سُليم بن قيس الهلالي: وقد سمعت ذلك من سلمان وأبي ذر والمقداد، وذكروا أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله[6].

والحديث واضح الدلالة على أن كل واحد من الأئمة المعصومين الاثني عشر عليهم السلام لهم الولاية بالمعنى المطلوب في زمنه على الأمة وأن كلاً منهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وهو المطلوب إلا أن سنده ضعيف بأبان بن أبي عياش.

5ـ ومنها ما رواه أيضاً بسند موثق عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال: للإمام علامات: يكون أعلم الناس وأحلم الناس، وأتقى الناس... ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم... ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسيفه ذو الفقار... الحديث[7].

فنص الموثّقة على أن الإمام عليه السلام يكون أولى الناس منهم بأنفسهم وهو كما عرفت هي الولاية بالمعنى المطلوب.

6. ومنها ما في نهج البلاغة في قسم الخطب أنه عليه السلام قال: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم[8].

فتراه صرّح بأن أئمة الإسلام غرسوا في هذا البطن من هاشم، وأن الولاية لا تصلح لغيرهم، وهو ـ ولو بقرينة إنشاء هذه الخطبة في زمن تصديه لأمر ولاية الأمة ـ دليل واضح على أن أمر ولاية المسلمين موكولة إليهم عليهم السلام.

هذه هي عدّة من الأخبار تدلّ على أن الإمامة في كلّ من المعصومين عليهم السلام يلزمها الولاية بالمعنى المطلوب، من غير اختصاص مدلولها ببعض خاصّ من الأئمة عليهم السلام.

وأما ما يدل على ثبوت الولاية بهذا المعنى لبعض خاصّ منهم عليهم السلام بلا انعقاد مفهوم الخلاف عن غيره فعدة أخبار:

1. منها ما رواه الصدوق في الخصال ضمن أخبار عنوان (كانت لعلي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله عشر خصال) عن أبي خالد عمرو (بن خالد القرشي) عن زيد ابن علي بن الحسين عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: كان لي عشر من رسول الله صلى الله عليه وآله لم يعطهن أحد قبلي ولا يعطاهن أحد بعدي، قال لي: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة، ومنزلي ومنزلك في الجنة متواجهين كمنزل الأخوين، وأنت الوصي، وأنت الولي، وأنت الوزير، وعدوّك عدوّي وعدوّي عدو الله، ووليك وليّ ووليّي وليّ الله[9].

فترى أنه جعل إحدى هذه الخصال أنه الولي، وإذا كانت الولاية ظاهرة في المعنى المطلوب تمت دلالة الرواية على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

2. ومنها ما رواه أيضاً في الخصال تحت عنوان (احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر بثلاث وأربعين خصلة) بإسناده عن أبي سعيد الورّاق عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السلام قال: لما كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب عليه السلام ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه انقباضاً، فكبُر ذلك على أبي بكر، فأحبّ لقاءه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إياه أمر الأمة وقلّة رغبته في ذلك وزهده فيه أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة وقال له: والله يا أبا الحسن ما كان هذا الأمر مواطاةً مني، ولا رغبة في ما وقعت فيه، ولا حرصاً عليه ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة، ولا قوّة لي لمال ولا كثرة العشيرة، ولا ابتزاز[10] له دون غيري، فما لك تضمر عليَّ ما لم أستحقه منك، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه، وتنظر إليَّ بعين السأمة مني؟ قال: فقال عليه السلام له: فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ولا حرصت عليه ولا وثقت بنفسك القيام به وبما يحتاج منك فيه؟ فقال أبو بكر: حديثٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله (إن الله لا يجمع أمتي على ضلال) ولما رأيت اجتماعهم اتبعت حديث النبي صلى الله عليه وآله وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى، وأعطيتهم قود الإجابة، ولم علمت أن أحداً يتخلّف لامتنعت. قال: فقال علي عليه السلام: أما ما ذكرت من حديث النبي صلى الله عليه وآله (إن الله لا يجمع أمتي على ضلال) أفكنت من الأمة أو لم أكن؟ قال: بلى، قال: وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟ قال: كل من الأمة، فقال علي عليه السلام: فكيف تحتج بحديث النبي صلى الله عليه وآله وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك، وليس للأمّة فيهم طعن، ولا في صحبة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونصيحته منهم تقصير؟! قال: ما علمت بتخلفهم إلا من بعد إبرام الأمر وخفتُ أن دفعت عني الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدين عن الدين، وكان ممارستكم إليَّ أن أجبتم أهون مؤنةً على الدين، وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعوا كفّاراً، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم، قال علي عليه السلام: أجَل، ولكن أخبرني عن الذي يستحق هذا الأمر بما يستحقه؟ فقال أبو بكر: بالنصيحة والوفاء، ورفع المداهنة والمحاباة، وحسن السيرة وإظهار العدل، والعلم بالكتاب والسنة وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها، وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد، ثم سكت. فقال علي عليه السلام: أنشدك بالله يا أبا بكر أفي نفسك تجد هذه الخصال أو فيَّ؟ قال: بل فيك يا أبا الحسن.

ثم أنشده بخصال ذكر الصدوق أنها ثلاث وأربعون خصلة وأجاب أبو بكر بأنها فيه عليه السلام ومنها قوله عليه السلام:

أنشدك بالله ألي الولاية من الله مع ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك. قال: أنشدك بالله أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير أم أنت؟ قال: بل أنت. قال: أنشدك بالله ألي الوزارة من رسول الله صلى الله عليه وآله والمثل من هارون من موسى أم لك؟ قال: بل لك... قال: فأنشدك بالله أنا الذي بشرني رسول الله صلى الله عليه وآله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين على تأويل القرآن أم أنت؟ قال: بل أنت... قال: فأنشدك بالله أنا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه بالسلام عليه بالإمرة في حياته أم أنت؟ قال: بل أنت... .

إلى أن قال أبو بكر: فبهذا وشبهه يستحق القيام بأمور أمة محمد صلى الله عليه وآله، فقال له علي عليه السلام: فما الذي غرّك عن الله وعن رسوله وعن دينه وأنت خلو مما يحتاج إليه أمر دينه؟ قال: فبكى أبو بكر وقال: صدقت يا أبا الحسن أنظرني يومي هذا، فأدبّر ما أنا فيه وما سمعت منك. قال: فقال له  علي عليه السلام: لك ذلك يا أبا بكر، فرجع من عنده وخلا بنفسه يومه ولم يأذن لأحد إلى الليل، وعمر يتردّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي عليه السلام.

فبات في ليلته فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه متمثلاً له في مجلسه، فقام إليه أبو بكر ليسلّم عليه، فولّى وجهه، فقال أبو بكر: يا رسول الله هل أمرتَ بأمرٍ فلم أفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أردّ السلام عليك وقد عاديت الله ورسوله؟! وعاديت من والى الله ورسوله؟ رُدَّ الحق إلى أهله. قال: فقلت: من أهله؟ قال: مَن عاتبك عليه وهو علي قال: فقد رددت عليه يا رسول الله بأمرك. قال: فأصبح وبكى، وقال لعي (عليه السلام) أبسط يدك، فبايعه وسلم إليه الأمر وقال له: أخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبر الناس بما رأيت في ليلتي وما جرى بيني وبينك، فأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلّم عليك بالإمرة. قال: فقال له علي عليه السلام: نعم.

فخرج من عنده متغيراً لونه، فصادفه عمر وهو في طلبه، فقال له: ما حالك يا خليفة رسول الله؟ فأخبره بما كان منه وما رأى وما جرى بينه وبين علي عليه السلام، فقال له عمر: أنشدك بالله يا خليفة رسول الله أن تغترّ بسحر بني هاشم، فليس هذا بأوّل سحر منهم، فما زال به حتى ردّه عن رأيه وصرفه عن عزمه ورغّبه فيما هو فيه، وأمره بالثبات عليه والقيام به.

قال: فأتى علي عليه السلام المسجد للميعاد، فلم ير فيه منهم أحداً، فأحسّ بالشرّ منهم، فقعد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فمرّ به عمر فقال: يا عليّ دون ما تروم خرط القتاد، فعلم بالأمر، وقام ورجع إلى بيته[11].

والحديث بنفسه وارد في أن حق الولاية بالمعنى المطلوب كان لعليّ عليه السلام، وأن علياً عليه السلام قد أثبت للطاغوت الغاصب الأول هذا المعنى بأبلغ بيان، وقد ذكرنا خمساً من هذه الخصال التي كانت له عليه السلام وكل منها دليل له على هذا الاستحقاق، والأسف من نهاية الأمر أن عمر منع من رجوع الحق إلى موطنه وجرى على الإسلام الشريف بفعلهم ما جرى.

3. ومنها ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن زيد بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام قال في حديث: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: فإنك تخاصم الناس بعدي بست خصال فتخصمهم، ليست في قريش منها شيء: إنك أولهم إيماناً بالله، وأقومهم بأمر الله عز وجل، وأوفاهم بعهد الله، وأرأفهم بالرعية، وأعلمهم بالقضية، وأقسمهم بالسوية، وأفضلهم عند الله عز وجل[12].

ووجه دلالته على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام هو قوله صلى الله عليه وآله في خصاله الخاصة: (أرأفهم بالرعية... وأقسمهم بالسوية) فإن الرأفة بالرعية فرعٌ لا تكون والياً عليهم حتى يكون أرأف قريش بهم وهكذا أقسميَّته السوية إنما تتوقف على أن تكون الغنائم والصدقات وعوائد المسلمين تحت يده عليه السلام حتى يكون أقسمهم بالسوية، فدلالة الحديث تامة، إلا أن رجال سنده ضعاف أو مجاهيل.

4. ومنها ما رواه فيه بإسناده عن عباية بن ربعي قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أحاج الناس يوم القيامة بسبعة: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، وإقام الحدود[13].

وبيان دلالته اشتماله على الثلاثة الأخيرة التي لا تكون إلا لمن إليه أمر الأمة والرعية، إلا أن سنده أيضاً غير تام.

5. ومنها ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أخاصمك بالنبوة ولا نبي بعدي، وتخاصم الناس بسبع ولا يحاجّك فيه أحد من قريش؛ لأنك أنت أوَّلهم إيماناً،وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأدلهم في الرعية، وأبصرهم في القضية، وأعظمهم عند الله مزية[14].

ووجه دلالته أيضاً اشتماله على الأقسمية بالسوية والأعدلية في الرعية الذي عرفت اقتضاء كل منهما أن يكون أمر الأمة إليه، إلا أن سنده أيضاً غير تام.

ويمكن الإيراد على تمامية دلالة هذه الروايات الثلاث بأنها وإن دلت على قيامه عليه السلام بإدارة أمر الأمة والرعية وعلى أن هذا القيام منه عليه السلام بحق ولذلك كان يحاجّ الناس ويخاصمهم بها إلا أنه لا دلالة فيها على أن هذا القيام كان بجعل الله تعالى أو رسوله، فلعله كان لبيعة الناس وتفويضهم الأمر إليه دخل في ثبوت هذه الولاية.

6. ومنها ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن يزداد بن إبراهيم عمّن حدّثه من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لقد أعطاني الله تبارك وتعالى تسعة أشياء لم يعطها أحداً قبلي خلا النبي صلى الله عليه وآله: لقد فتحت لي السبل، وعُلّمت الأنساب، وأجري لي السحاب، وعُلّمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب، ولقد نظرت في الملكوت بإذن ربي فما غاب عني ما كان قبلي وما يأتي بعدي، وأن بولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم، وأتم عليهم النعّم ورضي إسلامهم، إذ يقول يوم الولاية لمحمد صلى الله عليه وآله: يا محمد أخبرهم أني أكملت لهم اليوم دينهم ورضيت لهم الإسلام ديناً وأتممت عليهم نعمتي، كل ذلك مَنٌّ مَنَّ اله عليَّ، فله الحمد[15].

والرواية ناظرة إلى نصبه عليه السلام بالولاية يوم الغدير، ودلالتها واضحة. وفي الحقيقة هي من الروايات التي ينبغي أن تذكر في أخبار تكملة آية الغدير، إلا أنها مع ذلك كله فسندها غير تام بالإرسال وغيره.

7. ومنها ما رواه فيه أيضاً بسندٍ صحيح عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في الرحبة والناس عليه متراكمون فمن بين مستفتٍ ومن بين مستعدٍ، إذ قام إليه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام بعينيه هاتيك العظيمتين ثم قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من أنت؟ فقال: أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك، قال: ما أنت من رعيتي وأهل بلادي، ولو سلَّمت علي يوماً واحداً ما خفيت عليَّ، فقال: الأمان يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هل أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته؟ قال: لا، قال: فلعلك من رجال الحرب؟ قال: نعم، قال: إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس، قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفّلاً لك، أسألك عن شيء بعث فيه ابن الأصفر[16] وقال له: إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد صلى الله عليه وآله فأجبني عما أسألك، فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وأبعث إليك بالجائزة، فلم يكن عنده جواب، وقد أقلقه ذلك، فبعثني إليك لأسألك عنها.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قاتل الله ابن آكلة الأكباد، ما أضله وأعماه ومن معه، والله لقد أعتق جاريةً فما أحسن أن يتزوج بها، حكم الله بيني وبين هذه الأمة، قطعوا رحمي، وأضاعوا أيامي، ودفعوا حقي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي، علي بالحسن والحسين ومحمد، فأحضروا، فقال: يا شامي هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا ابني، فاسأل أيهم أحببت، قال: أسأل ذا الوفرة[17] يعني الحسن عليه السلام وكان صبياً[18]، فقال له الحسن عليه السلام: سلني عما بدا لك، فقال الشامي:... فقال الحسن بن علي عليهم السلام:... فذكر جواب كل أسألته... فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حقاً، وأن علياً عليه السلام أولى بالأمر من معاوية، ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر، فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية لم تكلمني بغير كلامك وتجيبني بغير جوابك؟! أقسم بالمسيح ما هذا جوابك، وما هو إلا من معدن النبوة وموضع الرسالة، وأما أنت فلو سألتني درهماً ما أعطيتك[19].

فهذه الصحيحة دالة على تمام المطلوب فإن قول علي عليه السلام في جواب الشامي: (حكم الله بيني وبين هذه الأمة... دفعوا حقي وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي) لا ريب في أنه أراد منه دفع الأمة حق ولايته المنصوص بها في كلام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ومنازعتهم إياه فيها وتصغيرهم لعظمة منزلته المباركة.

8. ومنها ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن زيد بن وهب ـ الذي قيل في ترجمته: له كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام ـ قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب عليه السلام اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكان من المهاجرين خالد بن سعيد[20] بن العاص والمقداد ابن الأسود بن كعب وعمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعبد الله بن مسعود وبريدة الأسلمي، وكان من الأنصار خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وسهل بن حنيف وأبو أيوب الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم.

فلما صعد المنبر تشاوروا في أمره، فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم وقال الله عز وجل: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ ولكن امضوا بنا على علي بن أبي طالب عليه السلام نستشيره ونستطلع أمره.

فأتوا علياً عليه السلام فقالوا: يا أمير المؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.

فقال لهم علي عليه السلام: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم، ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت، لما تعلمون من وغر[21] صدور القوم وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله، وأنهم يطالبون بثارات الجاهلية، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال، كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولبّبوني[22] وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذلك أني ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا علي إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك، وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر، ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي، كذلك أخبرني جبرائيل عن ربي تبارك وتعالى) ولكن ائتوا الرجل، فأخبروه بما سمعتم من نبيكم، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه (وأزيد) وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه، وقد عصى نبيه وخالف أمره.

قال: فانطلقوا حتى حفّوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الجمعة، فقالوا للمهاجرين: إن الله عز وجل بدأ بكم في القرآن فقال: ﴿لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ فبكم بدأ.

وكان أول من بدأ وقام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال: يا أبا بكر اتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله، ألا تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنا ونحن محتوشوه[23] في يوم بني قريظة وقد أقبل على رجال منا ذوي قدر فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار أوصيكم بوصية فاحفظوها، وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه، ألا إن علياً عليه السلام أميركم من بعدي وخليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربي، وأنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتأووه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم أمر دينكم، وولي عليكم الأمر شراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون أمري، القائلون بأمر أمتي، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي، واجعل له من مرافقتي نصيباً يدرك به فوز الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض).

فذكر توهين عمر له وجوابه إلى أن قال: فأسكته خالد فجلس.

ثم قام أبو ذر رحمة الله عليه فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد يا معشر المهاجرين والأنصار لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (الأمر لعلي بعدي، ثم للحسن والحسين، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين) فأطرحتم قول نبيكم، وتناسيتم ما أوعز إليكم، واتبعتم الدنيا، وتركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا تهدم بنيانها ولا يزول نعيمها، ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها، وكذلك الأمم التي كفرت بعد أنبيائها بدّلت وغيّرت فحاذيتموها حذو القَذَّة بالقَذَّة والنعل بالنعل فعمّا قليل تذوقون وبال أمركم وما الله بظلام للعبيد.

(ثم قال:) ثم قام سلمان الفارسي رحمه الله فقال: يا أبا بكر إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء؟ وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلم وفي القوم من هو أعلم منك وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك وأقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله قرابة وقدمة في حياته؟ قد أوعز إليك فتركتم قوله وتناسيتم وصيته، فعما قليل يصفو لكم الأمر حين تزور القبور، وقد أثقلت ظهرك من  الأوزار، لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت، فلو راجعت إلى الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك وتفرد في حضرتك بذنوبك عما أنت له فاعل، فالله الله في نفسك، فقد أعذر من أنذر.

ثم قام المقداد بن الأسود رحمة الله عليه فقال: يا أبا بكر إربع على نفسك[24]، وقس شبرك بفترك[25]، والزم بيتك، وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك، ورد هذا الأمر إلى حيث جعله الله عز وجل ورسوله، ولا تركن إلى الدنيا، ولا يغرّنّك مَن قد ترى من أوغادها[26] فعما قليل تضمحل عنك دنياك، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت أن هذا الأمر لعلي عليه السلام وهو صاحبه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وقد نصحتك إن قبلت نصحي.

ثم قام بريدة الأسلمي فقال: يا أبا بكر نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك؟! أما تذكر إذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله فسلمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين ونبينا صلى الله عليه وآله بين أظهرنا، فاتق الله ربك وادرك نفسك قبل أن لا تدركها، وانقذها من هلكتها، ودع هذا الأمر ووكله إلى من هو أحق به منك، ولا تماد في غيّك، وارجع وأنت تستطيع الرجوع، فقد نصحتك نصحي، وبذلت لك ما عندي، فإن قبلت وفقت ورشدت.

ثم قام عبد الله بن مسعود فقال: يا معشر قريش قد علمتم وعلم خياركم أن أهل بيت نبيكم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله منكم، وإن كنتم إنما تدّعون هذا الأمر بقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وتقولون إن السابقة لنا فأهل بيت نبيكم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله منكم، وأقدم سابقة منكم، وعلي بن أبي طالب عليه السلام صاحب هذا الأمر بعد نبيكم، فأعطوه ما جعله الله له ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أبا بكر لا تجعل لنفسك حقاً جعله الله عز وجل لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله صلى الله عليه وآله وخالفه في أهل بيته، وأردد الحق إلى أهله تخف ظهرك وتقل وزرك وتلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنك راضٍ ثم تصير إلى الرحمن فيحاسبك بعملك ويسألك عما فعلت.

ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبِل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قال: نعم، قال: فأشهد بالله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (أهل بيت يفرقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم).

ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا أبا بكر أنا أشهد على النبي صلى الله عليه وآله أنه أقام علياً عليه السلام، فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله صلى الله عليه وآله مولاه، فقال صلى الله عليه وآله: (إن أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدموهم ولا تُقدموهم).

ثم قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله قال على المنبر: (إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أنصح الناس لأمتي).

ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال: اتقوا الله في أهل بيت نبيكم، وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام من نبي الله صلى الله عليه وآله (أنهم أولى به منكم) ثم جلس.

ثم قام زيد بن وهب[27] فتكلم، وقام جماعة من بعده فتكلموا بنحو هذا.

فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أن أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب وطلحة والزبير وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح، مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم، شاهرين السيوف، فأخرجوه من منزله، وعلا المنبر، وقال قائل منهم: والله لئن عاد منكم أحد فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه، فجلسوا في منازلهم ولم يتكلم أحد بعد ذلك[28].

فهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أنه مشتمل على كلمات عالية من هؤلاء أعاظم أصحاب الرسول استندوا بها لإظهار بطلان تصدي أبي بكر وأمثاله ـ غير علي وأولاده المعصومين عليه السلام ـ لأمر إدارة أمر الأمة وبلاد الإسلام، وهو نص في الدلالة على أن ولاية أمر المسلمين إنما هو لعلي عليه السلام ولأولاده العظام عليهم صلوات الله. وقد تضمن ذيل الحديث ذكر شرارة أولئك المذكورين الذين كانوا قد قاموا على وجه الحق وعزموا على عدم العمل بأمر الله ورسوله، فبليت الأمة الإسلامية بل البشرية كلها بهذا البلاء العظيم والمصائب الفاجعة، وستستمر إلى أن يملأ الله تعالى بقائمهم الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

9. ومنها ما رواه فيه في أبواب السبعة بإسناده عن محمد بن الحنفية وبإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو عليه السلام جالس في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي، قال عليه السلام: سل عما بدا لك يا أخا اليهود، قال: إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذى عليه ويعمل به في أمته من بعده، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم، فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرّة؟ وإلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم؟

فقال له علي عليه السلام: والله الذي لا إله إلا غيره، الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى عليه السلام لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرّنّ به؟ قال: نعم، قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى عليه السلام لئن أجبتك لتسلمنّ؟ قال: نعم.

فقال له علي عليه السلام: إن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الأمم ممن يقول بطاعة الأنبياء، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء عليهم السلام في سبعة مواطن ليبلو صبرهم، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء وقد أكمل لهم السعادة.

قال له رأس اليهود: صدقت يا أمير المؤمنين، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرّة، وكم امتحنك بعد وفاته من مرة؟ وإلى ما يصير أمرك؟

فأخذ علي عليه السلام بيده وقال: انهض بنا أنبئك بذلك ـ إلى أن قال: ـ فقام جماعة من أصحابه عليه السلام منهم الأشتر ورضي عليه السلام بحضورهم في مجلس الجواب أيضاً ـ وأقبل على اليهودي فقال: يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي ـ بنعمة الله له مطيعاً، قال: وفيمَ وفيمَ يا أمير المؤمنين؟

قال أما أوّلهنّ: فذكر عليه السلام كونه أول الناس إسلاماً في دعوة العشيرة الأقربين. وكونه فداه بنفسه ونام في بيت النبي في قضية دار الندوة. وكونه المقاتل الذي بقتاله غلب المسلمون في غزوة بدر. وكونه المقاتل الدافع الوحيد عن النبي في غزوة أحد. وكونه المقاتل الفاتح في غزوة الخندق وقتل عمرو بن عبد ود. وكونه المقاتل الفاتح الوحيد في غزوة خيبر. وكونه مندوب الرسول وقارئ سورة البراءة على المشركين في مقدمة فتح مكة، فهو عليه السلام عدّ هذه المواطن السبعة، وصدّقه أصحابه الكرام، وطلبوا منه عليه السلام أن يذكر السبعة مواطن التي امتحنه الله بها بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله فقال:

يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي ـ بمنه ونعمته صبوراً.

وأما أوّلهنّ يا أخا اليهود ـ فذكر أن النبي صلى الله عليه وآله رباه في الدنيا والدين، فراجع ـ ثم قال عليه السلام:

وأما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمّرني في حياته على جميع أمته وأخذ على جميع مَن حضر منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره إذا حضرته والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ولا بعد وفاته، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده، ثم كان آخر ما تلكم به في شيء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز[29]، وأكد فيه أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قبض النبي عليه السلام إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليهم من ملازمة أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم، فحلوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم، واختصت به آراؤهم، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي، فعلوا ذلك وأنا برسول الله صلى الله عليه وآله مشغول، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي، مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة، وفقد مَن لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالى، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها، على تقاربها وسرعة اتصالها.

ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه، فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ويلوم غيره (ويلزم غيره ـ خ ل) ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله، فكنت أقول: تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً[30] هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة، لعل فلاناً يقول فيها: نعم، وفلاناً يقول: لا، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل، وجماعة من خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً فيدعوني إلى أخذ حقي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم، فأقول: رويداً وصبراً قليلاً، لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال كل قوم: منا يا أمير، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر.

فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صيّر الأمر بعده لصاحبه، فكانت هذه أخت أختها، ومحلها مني مثل محلّها، وأخذا مني ما جعله الله لي، فاجتمع إليَّ من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ممن مضى وممن بقى ممن أخّره الله مَن اجتمع، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول، صبراً واحتساباً ويقيناً، وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألّفهم رسول الله صلى الله عليه وآله باللين مرة وبالشدة أخرى، وبالنُّذُر مرة وبالسيف أخرى، حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر والفرار والشبع والري واللباس والوطاء والدثار، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا، يتناول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، ونطوي الليالي والأيام عامّتنا، وربما أتانا الشيء مما أفاءه الله علينا وصيّره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله صلى الله عليه وآله أرباب النِعم والأموال تألفاً منه لهم، فكنت أحق من لم يفرّق هذه العصبة التي ألّفها رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة[31] التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها، لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين: أما تتبع مقاتل، وأما مقتول إن لم يتبع الجميع، وأما خاذل يكفر بخذلانه أن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي، وقد علم الله أني منه بمنزلة هارون من موسى، يحل به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته، ورأيت تجرّع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب أزيد لي في حظي، وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ ولو لم اتق هذه الحالة ـ يا أخا اليهود ـ ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومَن بحضرتك منهم بأني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرةً وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجةً وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً، لسوابقي وقرابتي ووراثتي، فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها، وقد قبض محمد صلى الله عليه وآله وأن ولاية الأمة في يده وفي بيته، لا في يد الأولى تناولوها ولا في بيوتهم، ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال.

ثم التفت إلى أصحابه فقال عليه السلام: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلما (أن) أتته منيّته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه لم أشك أني قد استرجعت حقي في  عافية، بالمنزلة التي كنت أطلبها، والعاقبة التي كنت ألتمسها، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمّى قوماً أنا سادسهم، ولم يستوني بواحد منهم، ولا ذكر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري، وصيرها شورى بيننا، وصير ابنه فيها حاكماً علينا، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره، وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبراً، فمكث القوم أيامهم كلها، كل يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن يسألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم، دعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله لهم، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ألتمس مني شرطاً أن أصيّرها له بعدي، فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ومنعه ما لم يجعله الله له أزالها إلى ابن عفان طمعاً في الشحيح معه فيها، وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط، فضلاً عمن دونهم؛ لا ببدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ومَن اختصه معه من أهل بيته عليهم السلام، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه.

ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرأوا منه، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عامة، يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع وأحرى أن لا يُصبر عليها، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته، ولم يكن عندي إلا الصبر على ما أمضّ وأبلغ منها... إلى أن قال عليه السلام:

وما سكتني عن ابن عفان وحثّني على الإمساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لم يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه، فضلاً عن الأقارب، وأنا في عزلة، فصبرت حتى كان ذلك، لم أنطق فيه بحرف من (لا) ولا (نعم). ثم أتاني القوم وأنا عَلمَ الله كارهٌ لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض، وعلمهم بأن وتلك ليست لهم عندي، وشديد عادة منتزعة، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل.

ثم التفت إلى أصحابه فقال عليه السلام: أليس كذلك؟ فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك منّي وثبوا بالمرأة عليَّ، وأنا ولي أمرها والوصي عليها، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال... في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم طويلة لحاهم... وهم جيران بدو ورواد بحر... ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل في... ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة... .

ثم التفت إلى أصحابه فقال عليه السلام: أليس كذلك قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما السادسة يا أخا اليهود فتحكيمهم (الحكمين) ومحاربة ابن آكلة الأكباد وهو طليق معاند لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة، فأُخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده... وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إليَّ حقي وأقر في معدنه وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً وفي أمانة حُمّلناها حاكماً كرّ على العاصي بن العاص، فاستماله فمال إليه... وإني نهضت إليه بأصحابي، أنفذ إليه من كل موضع كتبي وأوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه، والدخول فيما فيه الناس معي، فكتب يتحكم عليَّ، ويتمنى عليَّ الأماني، ويشترط عليَّ شروطاً لا يرضاها الله عز وجل ورسوله ولا المسلمون... فلما لم أُجب إلى ما اشترط من ذلك كرّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه، بحمير لا عقول لهم ولا بصائر... ثم ذكر عليه السلام قصة غزوة صفين وغلبة جنده عليهم وعزمه عليه السلام على قطع أصلهم والتجاء معاوية بحيلة رفع المصاحف وتحميل من معه عليه السلام له على قبوله ثم قبول التحكيم ثم قبول حكمية مَن كان لا يراه أهلاً لذلك وكان حكم معاوية ابن العاص... إلى أن قال عليه السلام: فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها، وأظهر المخدوع عليها ندماً ثم أقبل عليه السلام على أصحابه، فقال عليه السلام: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عهد إليَّ أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب، يمرقون بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إيّاي من الدين مروق السهم من الرمية، فيهم ذو الثدية، يختم لي بقتلهم بالسعادة، فلما انصرفت إلى موضعي هذا ـ يعني بعد الحكمين ـ أقبل بعض القوم على بعض بالأئمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً، إلا أن قالوا: كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ، وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا، فقد كفر بمتابعته إياناً وطاعته لنا في الخطأ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه، فتجمّعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم: لا حكم إلا الله، ثم تفرقوا؛ فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته؛ فمن تابعها استحيته، ومن خالفها قتلته، فخرجت إلى الأوليين... فقتل الله هذه وهذه... ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى... فأبت إلا اتباع أختيها والاحتذاء على مثالهما وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين... فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم فقتلهم الله... فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة مَن ترى، له ثدي كثدي المرأة.

ثم التفت إلى أصحابه فقال عليه السلام: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود وبقيت الأخرى، وأوشك بها فكان قد.

فبكى أصحاب علي عليه السلام وبكى رأس اليهود وقالوا: يا أمير المؤمنين أخبرنا بالأخرى.

فقال عليه السلام: والأخرى أن تخضب هذه (وأومأ بيده إلى لحيته) من هذه (وأومأ بيده إلى هامته).

قال: وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء، حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً، وأسلم رأس اليهود على يدي علي عليه السلام من ساعته، ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين عليه السلام، وأخذ ابن ملجم لعنه الله فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه، فقال له: يا أبا محمد اقتله قتله الله، فإني رأيت في الكتب التي أنزلت على موسى عليه السلام أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخيه ومن القدار عاقر ناقة ثمود[32].

فهذا الحديث المبارك الطويل وإن لم يكن سنده تام الاعتبار، إلا أنه مشتمل على مطالب عالية وحاك لأمور واقعة زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وبعده بأحسن بيان، وهو صريح في أن علياً أمير المؤمنين عليه السلام قد نصب من الله عز وجل لإدارة أمر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأن الرسول قد بين ذلك لأمته وأخذ البيعة منهم لولايته وأمارته وتوسل لاستقامة الأمر بعد وفاته بتجهيز جيش أسامة وأمر الناس لاسيما ملأهم بخروجهم معه إلى خارج المدينة، وأن الغادرين قد تخلفوا عن أمره وعصوه وفي حين اشتغال علي عليه السلام بتجهيز جنازة الرسول اجتمعوا وتخلفوا أمر الله وجعلوا من عند أنفسهم رجلاً أميراً وهذا الأمير الطاغي وإن كان ربما يعترف بخطائه زمن حياته ـ إلا أنه مع ذلك أوكل أمر ولاية الأمة إلى الثاني القائم بالأمر بعده عصياناً، وهذا القائم الثاني مع أنه كان يشاوره في أمر إدارة الأمة ويصدر عن توجيهه إلا أنه أوكل أمر الولاية إلى ستة جعل أمرها بيد ابنه الذي كان منهم، فانتقل برأيهم أمر الولاية إلى عثمان بن عفان، وكل ذلك كان خلافاً لأمر الله وأمر الرسول، واشترك القائمون بذلك في فعل هذه المعصية الكبيرة التي هدم بها أعظم أركان الإسلام، الركن الذي به أكمل الله الدين وأتما بها نعمته، ورضى به الإسلام للمسلمين ديناً.

فبعد هذه المصائب وإن رجع المسلمون إلى ولي الأمر الإلهي لهم علي أمير المؤمنين عليه السلام إلا أنه عليه السلام مع عادة الملأ بالخلاف وتوقعهم للوصول إلى غايات دنياوية لا يمكن لهم الوصول إليها في حكومة إلهية فلذلك كان كارهاً بقول الولاية إلا أنه عليه السلام لمكان وجوب تصديه بها من الله عز وجل تصداها وابتلى بمخالفة الملأ المتعادين في غزوة الجمل ثم باعتداء معاوية بن آكلة الأكباد وغزوة صفين وقبول الحكمين على خلاف ما كان يراه وثم بعده ابتلي بمخالفة المارقين عن ولايته من أصحابه حتى قتلهم بفرقهم الثلاث.

ومن الواضح أن كلاً من هذه المراتب من نصبه عليه السلام ولياً وأخذ البيعة له ومن تصدى هؤلاء الثلاثة الغاصبين كان يدور حول معنى الولاية بإرادة تصدي أمور المسلمين وهو عليه السلام يصرح في الحديث مراراً أنها كانت حقاً له من الله ورسوله كما أن الغزوات والنقاشات الواقعة زمن قيامه بأمر الولاية كانت حول الولاية بهذا المعنى، وهو عليه السلام قد دفع عن هذا الحق الإلهي، وقاتل وقتل العصاة الطاغين بما أنه وظيفة إلهية له.

وبالجملة: فدلالة الحديث على المطلوب كاملة واضحة، وهو مشتمل على ذكر بعض النكات والخبايا والأسرار الذي من اللازم للمسلم المحقق الاطلاع عليها، ونحن نحمد الله تعالى على الاهتداء بنور ولاية محمد وآله المعصومين عليهم السلام، ونسأله أن يوفقنا لبذل تمام طاقتنا في خدمتها إنه سميع الدعاء قريبٌ مجيب.

10. ومنها ما رواه في أبواب الأربعين وما فوقه من الخصال بإسناده عن عامر بن وائلة قال: كنت في البيت يوم الشورى فسمعت علياً عليه السلام وهو يقول: استخلف الناس أبا بكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لهم عليَّ فضل، ولو أشاء لاحتججت عليهم بما لا يستطيع عربيهم ولا عجميّهم المعاهد منهم والمشرك تغيير ذلك. ثم قال: نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحّد الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) غيري؟ قالوا: اللهم لا... فذكر مناشتده لهم بأكثر من أربعين فضيلة، فراجع[33].

ولا يبعد اعتبار سند الحديث، وقد صرّح عليه السلام مقسماً عليه بالله بأحقّيته بأمر إدارة أمر الأمة من أبي بكر وعمر واستشهد لأحقيّته به من كل أحد بهذه الخصال العديدة.

ثم إن هنا أخباراً خاصة أخر تدل على ثبوت حق الولاية لعلي أمير المؤمنين عليه السلام نذكرها قريباً تحت عنوان (تتمة مستدركة للطائفة الخامسة من الأخبار).

وبالجملة: فدلالة أخبار هذه الطائفة أيضاً على المطلوب واضحة تامة.

 

[1] عن الوافي: أي أهل زياداته المتصلة وتكميلاته المتواترة.

[2] الكافي: باب نادر في فضل الإمام وصفاته ج1 ص203 الحديث2.

[3] الإشادة: رفع الصوت بالشيء.

[4] الكافي: باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ج1 ص198 ـ 203 الحديث1، إكمال الدين: الباب58 ص181 ـ 675 وهي آخر رواياته الحديث31.

[5] الخصال: أبواب الاثني عشر ص478 ـ 479 الحديث46.

[6] الخصال: أبواب الاثني عشر ص477 الحديث41.

[7] الخصال: أبواب الثلاثين وما فوقه ص527 ـ 528 الحديث1.

[8] نهج البلاغة: الخطبة144 تمام نهج البلاغة الخطبة21 ص261.

[9] الخصال: باب العشرة ص429 الحديث7.

[10] الابتزاز: الاستلاب. وفي الاحتجاج: لا استيثار به.

[11] الخصال: أبواب الأربعين وما فوقه ص548 ـ 553 الحديث30.

[12] الخصال: باب الستة ص336 ـ 337 الحديث39.

[13] الخصال: باب السبعة ص362 ـ 363 الحديث 53 و 54.

[14] نفس المصدر.

[15] الخصال: باب التسعة ص414 ـ 415 الحديث4.

[16] أي ملك الروم، وإنما سمي الروم بني الأصفر لأن أباهم الأول كان أصفر اللون.

[17] الوفرة: ما سال من الشعر على الأذنين، أو الشعر المجتمع على الرأس.

[18] المراد: حدت السن وذلك لأنه عليه السلام كان في زمن خلافة أبيه متجاوزاً عن الثلاثين.

[19] الخصال: باب العشرة ص440 ـ 442 الحديث33.

[20] عن نسخة الاحتجاج مكانه: (عمرو بن سعيد). أقول: إلا أن الموجود في الاحتجاج حسب الطبعة المطبوعة من (انتشارات أسوة) خالد بن سعيد في كلا الموردين، فراجع ج1 ص186 وص200.

[21] وغر صدره: توقد من الغيظ.

[22] أي أخذوا بتلبيبي وجروني.

[23] احتوشوا به: أحاطوا به.

[24] أي توقف واقتصر على حدك.

[25] الشبر: ما بين الخنصر والإبهام، والفتر: ما بين الإبهام والسبابة.

[26] الوغد: الضعيف العقل والأحمق.

[27] كذا في النسخ: ولم يسبق ذكره في إجمال من أنكروا على أبي بكر، وسبق ذكر أٌبيّ بن كعب. والجمع بين حصر المنكرين أول في اثني عشر وقوله هنا: (وقام جماعة من بعده) أن هذه الجماعة الأخيرة بَنَت على الإنكار وإظهار الاعتراض عقيب اعتراض أولئك الاثني عشر.

[28] الخصال: أبواب الاثني عشر، ص461 ـ 465 الحديث4.

[29] أوعز إليه في كذا: تقدم.

[30] العفو: السهل المتيسر.

[31] الخطة: الأمر المشكل الذي لا يُهتدى إليه.

[32] الخصال: أبواب السبعة: ص364 ـ 382 الحديث58. وروى نحوه الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص: تحت عنوان (كتاب محنة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام) ص163 ـ 181 الحديث7 لكن في سنده: عن جابر عن أبي جعفر عن محمد ابن الحنفية.

[33] الخصال: أبواب الأربعين وما فوقه ص553 ـ 563 الحديث31.