بغداد | منتصف سبعينيّات القرن الماضي، دخل «حزب الدعوة الإسلامية» مرحلةً جديدة في تاريخه، عُرفت في أدبياته بـ«المرحلة السياسيّة»؛ يومها، بدأت المواجهة المباشرة مع الحكومة العراقيّة، والدخول في طور الحركة وتنظيم الجماهير، والإعلان عن انتهاء طور البناء والنضال الفكري. تمخّض عن ذلك «انتفاضة 17 رجب» (1979)، والتصعيد ضد حكومة صدام حسين، وقد نتجت عنها - أيضاً - محطات مفصلية كاستشهاد محمد باقر الصدر في 10 نيسان/ أبريل 1980 (هذه الفترة هي بذاتها محل نقاش موسّع؛ فـ«الدعوة» رأى أنّه وقف على مشارف المرحلة السياسية ولم يدخلها، أما رأي الصدر فهو أن تلك الفترة هي قلب المرحلة السياسية، وتحديداً عندما وجّه كلمته لـ«الدعاة»، قائلاً «لقد أشبعتم الأمة فكراً... حان وقت العمل»).

نقلت هذه المرحلة «الدعاة» (كوادر الحزب كما يُعرّفون أنفسهم) من مفاهيم البناء والنضال الفكري إلى مفاهيم جديدة؛ منها توسيع التنظيم واستقطاب «دعاةٍ» جدد، وتشكيل «الخط الجهادي» وبناء ذراعٍ مسلّحة لمقارعة الحكومة، وهو شيءٌ لم يكن يعرفه الحزب قبل «المرحلة السياسية». ويذكر صلاح الخرسان أن إرهاصات العمل العسكري بدأت مع «نكسة حزيران» (1967)، حيث تدرّب «الدعاة» في معسكرات «حركة فتح» في الأردن ولبنان، في نهاية الستينيّات وبداية السبعينيّات. لكن على العموم، لم تختمر فكرة الجهاد والكفاح المسلح إلا مع بداية «المرحلة السياسية»؛ وعليه، نشهد في هذه المرحلة بروز عددٍ من «الخلايا الجهادية»، التي تكوّنت ذاتيّاً من شباب «الدعوة»، بالتوازي مع توجّه الحزب إلى بناء تنظيم عسكري داخل الجيش، مستقطباً ضباطاً من مختلف الصنوف (أبرزهم من ضباط «القوّة الجويّة») في محاولةٍ لتنفيذ انقلابٍ من داخل الدولة. كذلك، نشهد ظهور أول المعسكرات «الدعوتية» في الخارج (معسكر الأهواز)، والذي أُنشئ بإيعاز من مهندس «الدعوة» الأوّل هادي السبيتي (أبو حسن السبيتي)، بفكرة استوحاها من معسكرات الفلسطينيين في «دول الطوق».

في هذا الجو المشحون، وعندما أخذ «الدعوة» زمام المبادرة، انخرط الشاب البصري جمال جعفر، داخل الحزب. درس الهندسة المدنيّة في «الجامعة التكنولوجية»، وتنظّم من هناك (كانت التابعية لـ«تنظيم جامعة بغداد»)، ناهلاً أفكار تلك المرحلة، والتي حمل مضامينها إلى يوم استشهاده مطلع العام الماضي، في محيط مطار بغداد الدولي، مع رفيق دربه قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني.

لا نعلم الكثير عن نشاط الشهيد «الدعوي» في العراق في نهاية السبعينيّات. حتى وثائق الحزب لا تذكر عنه شيئاً. لكن تشير تقارير إلى أنّه خرج مع اشتداد القمع الحكومي إلى «الأهواز»، ومنها إلى الكويت (أخرى تقول إنه خرج مباشرةً إلى الكويت)، حيث كان الخط «الدعوتي» نشطاً، ويُعتبر من أنشط الخطوط الخارجية المرتبطة بتنظيم داخل العراق. ويعود نشاط هذا الخط إلى سهولة الانتقال بين البلدين، نظراً إلى العلاقة المميزة بين النظامين وكثافة وجود العراقيين فيه قبل عمليات (12 كانون الأوّل/ ديسمبر 1983)، وما تلاها بما يُعرف بـ«كويت 17».

بقي جمال جعفر في الكويت حتى منتصف الثمانينيّات، أو قبلها بقليل، ثم غادرها إلى الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. هناك، التحق بـ«فيلق 9 بدر»، وهو تشكيل عسكري منضوٍ تحت جناح «الحرس» (تأسس عام 1982/ ويُعدّ الجناح العسكري لـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق»، بزعامة محمد باقر الحكيم)، وتدرج في مسؤوليّاته التنظيميّة من معاون العقيدة السياسية في الفيلق، وصولاً إلى قيادته التي تخلى عنها عند عودته إلى العراق، بعد الاحتلال الأميركي في نيسان/ أبريل 2003.

ثمة من يسأل، لماذا تميّز «المهندس» عن أقرانه من المعارضين العراقيين؟ الجواب - هنا - يتشعّب إلى فروعٍ عديدة:

1- ظلّ الشهيد وفياً لخط «الدعوة» الأساسي، ومرحلته السياسية التي أشعل شرارتها محمد باقر الصدر. وظل متمسكاً بمفاهيم تلك المرحلة؛ الجهاد والكفاح المسلح.

2- التوجه الدائم نحو القاعدة الشبابيّة؛ فمن كان يسميهم «أبناءه»، ظل يوصيهم بإدامة الجهاد، حتى في وصيته التي أُذيعت بعد استشهاده.

3- الدعوة الدائمة إلى ضرورة توحيد بندقية المقاومة، وجمع شتاتها بقيادة أبويّة؛ ففي قيادته لـ«الحشد الشعبي»، وطوال خمس سنوات، لم تجرؤ أي رايةٍ على الانفصال عن «الهيئة»، رغم تكاثر الأجنحة المتصارعة. والمقصود هنا ليس «البندقيّة الشيعية»، حصراً، فكل الفصائل انضوت تحت قيادة «أبو مهدي» من دون قيدٍ أو شرط، إذ أثبت الرجل نفسه كقائدٍ محنّكٍ قبل تجربة «الحشد». هنا، تجدر الإشارة إلى النقطة التالية: في تسعينيّات القرن الماضي، قاد «أبو مهدي» بجدارةٍ عالية، «فيلق بدر» والذي مرّ بنفس المعترك الذي مرّ به «الحشد»، حتى إن الدراسات الأمنية المعادية له من قبل نظام البعث العراقي تناولت المهندس (في بداية الألفيّة الجديدة، وعندما كان في إيران)، إذ ركّزت على هذه النقاط في شخصه.

4- مثّل سلوكاً أشبه ما يكون بالأسطوري؛ فمن بين كل المعارضين لم يتنعّم بمميزات مرحلة ما افتُرض أنه الحصاد (سقوط النظام). رفض معظم ما قُدّم إليه. نفض يده حتى من راتبه كنائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي»، وعاش من أجل رسالته وجهاده. فعندما نراجع أوصاف المتصوفين الاجتماعيين الذين يذكرهم هادي العلوي في «مدارات صوفية»، وهم «من يكون التصوف عندهم سلوكاً ومواقف أكثر منه فلسفة، ويتمحور حول العيش من عمل اليد وعدم امتلاك الجواري والعبيد، إضافةً إلى مقاطعة السلطة، وأهمها القتال ضد البيزنطيين (بما هم سياسياً)؛ فالمتصوفون الاجتماعيون لا يكرهون الأغيار دينياً». وسلوك المهندس هو استمرارٌ لهذا الخط من دون إعلان، يُضاف الى ذلك وصاياه بالالتزام بالجهاد، الذي لم يحصره المهندس يوماً بالقتال. كان يوصي بأن يرافق الجهاد «التفقّه»، والذي يجعل المجاهد ملتزماً أمام أموال الناس وأعراضهم. «نحن لسنا بغاة»، كانت هذه وصيته عندما قاتل بغاة الأرض، لكن ضمن دستوره الأخلاقي.

5- كان غير كل المعارضين العراقيين. أيقن أن المعركة لن تنتهي بسقوط صدام حسين ونظامه. أيقن أن سقوطه لا يعني سكون الجهاد والركون إلى الراحة على الكرسي كما فعل الجميع. كان في عقيدته، عقيدة نصرة المستضعفين، أن العدو الأكبر هو الاستكبار العالمي، المتمثل في الولايات المتحدة، لا يزال موجوداً؛ وهذه المرة في بلده، فحمل شعلة الجهاد - ولا أجافي الحقيقة عندما أقول - وحيداً، وآمن بوحدة المعركة في «الإقليم»؛ فنراه يطل من بيروت مرّة، ومن دمشق مرّةً أخرى، وليس أخيراً في طهران.

في سنوية استشهاده الأولى، يبقى «الشايب» -كما اعتاد أبناؤه في الجهاد أن يسمّوه - نقطة فارقة في تاريخ العراق، والحركة الإسلامية، وحركات التحرر قاطبة.