منذ تأسيسها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كحركة مقاومة فلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني، عانت «حماس» من عدّة أنواع من التجاذبات الداخلية. أول تلك التجاذبات، أنّها في الوقت ذاته حركة شعبية جماهيرية (مع ما يتطلّبه ذلك من تعاون / تعامل واقعي مع منظمة التحرير الفسلطينية أولاً ثم السلطة الفلسطينية لاحقاً) وحركة كفاح مسلّح أيضاً (بما يقتضيه ذلك من سرية التنظيمات الثورية واعتباراتها الأمنية). التجاذب الثاني، كان بين كونها حركة وطنية (فلسطينية) وحركة إسلامية (انبثقت من رحم «الإخوان المسلمين»). وثالث التجاذبات، كان يتعلّق بالموقف من النظام الرسمي العربي (وبالتحديد أنظمة مصر والأردن والسعودية) في مقابل العلاقة مع إيران.
وفي ضوء تلك التجاذبات والعوامل، سارت «حماس» على مدى أكثر من 25 سنة. وبناءً عليها، يمكن فهم التناقضات والمواقف المتضاربة التي اتخذتها الحركة سواء في الداخل الفلسطيني أو على المستوى الإقليمي. بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين في عام 2004، وظهور خالد مشعل كقائد «رسمي» للحركة، ازداد الميل الحماسي للتعامل الإيجابي مع النظام الرسمي العربي، وخصوصاً مع استقراره في قطر. بذل مشعل جهوداً كبيرة للتقارب مع السعودية، وسعى لإقناعها بجاهزية «حماس» لقبول الرعاية السعودية كبديلٍ للسلطة الفلسطينية، أو على الأقل إلى جانبها. ولكنّ مجهودات مشعل لم تثمر واصطدمت بتعنّت شديد، خصوصاً من طرف الأمير سعود الفيصل وإصرارٍ من السعودية على ضرورة قطع العلاقة مع إيران، أي أنهم وضعوه في خانة إما نحن أو إيران! وكذلك مع مصر، حاول مشعل كثيراً مع نظام حسني مبارك لكي يظهر له حسن النية والجاهزية للتعاطي بإيجابية مع الملاحظات والمطالب المصرية، وذلك بهدف التعامل مع «حماس» كشريك وطرف سياسي مقبول، ولكن جهود مشعل قوبلت بالصد ووصلت إلى حائط مسدود مع إصرار مصر على التعامل مع «حماس» على أساس «أمني»، ووضع ملفّها كاملاً بأيدي المخابرات المصرية، وليس وزارة الخارجية. ومع الأردن أيضاً، فشلت جهود خالد مشعل نظراً إلى حساسية جهاز المخابرات تجاه علاقة «حماس» بـ«الإخوان المسلمين» الأردنيين، وثبات السياسة الأردنية على مبدأ الدعم والشراكة مع السلطة الفلسطينية في عملية السلام (استخدمت الأردن العلاقة مع «حماس» كورقة في علاقتها مع سلطة عباس في رام الله تستعملها إذا اقتضت الحاجة من حين لآخر). باختصار، وجدت «حماس» صدّاً وردّاً ورفضاً من النظام العربي، وشروطاً تعجيزية، رغم كلّ محاولاتها وجهودها لنيل الرضا الرسمي. وهنا ظهر رجب طيب إردوغان. بحلول عام 2009، شعر إردوغان أنه صار يمتلك من القوة داخل تركيا بما يمكنه من تغيير سياساتها وتحالفاتها الخارجية. وعندما بدأ يطلق سهامه السياسية تجاه إسرائيل ويتكلّم عن القدس وفلسطين، وجدت «حماس» متنفّساً كبيراً لها، خصوصاً مع «سنّية» إردوغان وعلاقاته الإخوانية القديمة. اندفعت قيادة «حماس» نحو إردوغان إلى أقصى مدى، بشكل متهوّر يمكن القول، حتى ارتكبت خطأها الأكبر عندما قرّرت قلب ظهر المجنّ لسوريا والانقلاب على إيران. في الفترة ما بين عامَي 2011 و2013، دخلت «حماس» طرفاً في الأزمة السورية، داعمة للمعارضة الساعية لإسقاط النظام، مدفوعة بجذورها الإخوانية وبموقف إردوغان ومتشجّعة بصعود محمد مرسي في مصر. كان ذلك الموقف طعنة في ظهر سوريا وخيانة لإيران.
الجناح العسكري في «حماس»، «كتائب القسام»، كانت له دائماً أولوياته واعتباراته التي لا تتطابق بالضرورة مع قيادة خالد مشعل وسياساته العربية ومبادراته ومناوراته. لم تكن الدول العربية في وارد تقديم أيّ دعم عسكري على الإطلاق (بل كانت واقعاً في الخندق الآخر، الإسرائيلي، عندما يتعلّق الأمر بالمقاومة المسلّحة و«كتائب القسام»). وحتى تركيا إردوغان كانت تعرف حدودها، فاكتفت بالكلام السياسي والإعلامي، ولم تقترب أبداً من النواحي العسكرية لدعم القضية الفلسطينية. الشهيد قاسم سليماني، بتوجيهات من القيادة العليا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، قرّر أن يغضّ النظر عن خطأ قيادة «حماس» (أو خطيئتها بالأحرى) ومكتبها السياسي، وأن يستمرّ في البرنامج الاستراتيجي الذي أطلقه من سنين طويلة والهادف إلى تحويل «حماس» في غزّة إلى قوّة عسكرية حقيقية قادرة على مواجهة إسرائيل وتحدّيها، بل والتغلّب عليها، على نموذج حزب الله في لبنان. مبكراً جداً، دخل الشهيد سليماني على خط المقاومة في غزّة، متبنّياً التنظيمات المسلّحة، وأهمّها وأكبرها «كتائب القسام»، وداعماً لها تقنياً وفنياً، بالسلاح والعتاد، ولوجستياً ومادياً. سخّر الحاج قاسم إمكانيات إيران في هذا الاتجاه، فصارت تؤتي أُكلها وبدأت قدرات جديدة ومتطوّرة بالظهور في أيدي المقاومين الفلسطينيين، أنظمة صواريخ يزداد مداها يوماً عن يوم، قنابل وألغام متطوّرة، قدرات بحرية وحتى جوية! والأهم هو التأهيل والتدريب ونقل الخبرات من أجل ضمان الاستمرارية والقدرة على التصنيع والإنتاج. لم يتعامل الحاج قاسم مع «حماس» بمنطق ردّ الفعل، فلم يوقف برنامج الدعم العسكري لـ«كتائب القسام» ولم يطلب من «حماس» شيئاً، ولا ضغط عليها ولا ساومها لأجل تغيير موقفها السياسي من الأزمة في سوريا. تعامل الشهيد سليماني مع «حماس» بمنتهى الصبر والهدوء، فلم يعاقبها بسبب «خيانتها» في سوريا وتجاهل، بثقة العالم العارف، خالد مشعل ومكتبه السياسي، وكأنّ شيئاً لم يكن. كانت القضية أكبر من الأشخاص عند قاسم سليماني، وفلسطين مسألة مبدأ وأكبر من خالد مشعل بل من «حماس» كلّها. إنها عقيدة الجمهورية الإسلامية غرسها الإمام الخميني في نفوس قاسم سليماني ورفاقه: إسرائيل غدّة سرطانية ولا بدّ أن تزول، وسوف تزول! سرعان ما أدركت «حماس» خطأها. فمع صمود سوريا وفشل خطط إسقاط النظام فيها، وجدت قيادة «حماس» نفسها في مهبّ الريح، وخصوصاً مع إقرار إردوغان واعترافه بهزيمة مشروعه في سوريا، عام 2016. فلا النظام الرسمي العربي معها، ولا انتصر «الإخوان المسلمون» في مصر أو سوريا، وقد أبعدت نفسها عن إيران وأغضبتها، وكلّ ما حصدته من مغامرتها السورية هو الفشل والخيبة والظهور بمظهر الغادر الناكر للجميل. فكان التغيير الحتمي. توارى خالد مشعل ورموز مكتبه السياسي خلف الأضواء، واضطرّوا لإفساح المجال لصعود القيادة الجديدة في «حماس»، قيادة العمل العسكري و«كتائب القسام»، لتتسلّم زمام الأمور في غزة، ممثّلة بشخص المناضل العتيد والعنيد يحيى السنوار الذي لن يسمح بعد الآن للسياسيين «بالعبث» في إنجازات «حماس» العسكرية التي تحقّقت بفضل إيران وبالذات الشهيد قاسم سليماني. لا يبالي يحيى السنوار بغضب من يغضب ولا يداري، بل قالها علناً وعلى رؤوس الأشهاد: كلّ ما حقّقناه من قدرات عسكرية كان بفضل إيران ودعمها. سوف يوجد دائماً في صفوف «حماس» وقاعدتها الشعبية من يعادون إيران على أسس مذهبية، وسوف لن تتوقف الأصوات التي تتحدّث عن الشيعة والسنّة، ولكن لن تكون لهم الكلمة بعد اليوم. تعلّمت «حماس» درسها ولن تغادر محور المقاومة بعد الآن، والفضل كلّ الفضل للشهيد قاسم سليماني. قالها إسماعيل هنية في طهران ثلاثاً: شهيد القدس، شهيد القدس، شهيد القدس! * كاتب وباحث من الأردن
تعليقات الزوار