ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالا للكاتب هادي قبيسي يتناول فيه الحديث حول ثغرات أمريكا المعرفية في منطقة الشرق الأوسط رغم بذلها إمكانات هائلة من أجل التعرف على شعوبها.

الكاتب: هادي قبيسي

 

توجه الإمام الخامنئي دام ظله بتاريخ 21 مارس/آذار الحالي بكلمة متلفزة بمناسبة بدء العام الهجري الشمسي الجديد، وردت فيها عبارة مهمة تستحق التوقف عندها والتأمل في خلفياتها، خصوصاً وأنها في الظاهر تبدو في سياق المواجهة الإعلامية والمعنوية مع الأمريكي، لكنها عند التحقيق والبحث تظهر أنها نقطة مركزية في الصراع وقيمة تحليلية فريدة. "أنتم الأمريكيون يجب أن تعلموا أنكم لا تعرفون هذه المنطقة وشعوبها وأنكم تخطئون". إن صدور هذه الكلمة عن الإمام الخامنئي هو الذي يدفع إلى التوقف عندها والبحث في خلفياتها، حيث يُدرك المتتبع لخطاب سماحته أن كلماته مختارة بدقة وعناية، وتستند إلى مدخلات معرفية واسعة ودقيقة جداً.

أنفق الأمريكيون خلال 70 سنة من تدخّلهم المباشر في منطقة غرب آسيا موارد هائلة للتعرّف على المنطقة وشعوبها، وطوّرت أجهزتهم وسائل علمية واستخباراتية وخبرات فردية وجماعية معقّدة ومتكاملة فيما بينها لتكوين صورة واضحة عن وضعيات المنطقة وتحوّلاتها الجارية والمحتملة، وكذلك عن شعوبها في طباعها واهتماماتها وعناصر التأثير فيها ونقاط ضعفها وقوتها النفسية والاجتماعية والفكرية، ومنذ عدة سنوات أحصيت حوالي 250 مركزاً بحثياً في أمريكا يحمل في اسمه عبارة "الشرق الأوسط"، هذا إلى جانب مئات المراكز الأخرى التي تهتم بمسائل متعددة من بينها منطقتنا دون أن يكون في اسمها إشارة إلى "الشرق الأوسط"، فالحصيلة تقريباً حوالي 500 مركز دراسات يهتم بهذه المنطقة، مع توزيع للموضوعات بين أبحاث سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وعسكرية وغيرها، بحيث تشكل هذه المراكز بمجموعها مؤسسة حيوية ضخمة ومتنوعة ومتكاملة في أجزائها، تخدم هدف التعرف على المنطقة ومواكبة متغيراتها الأساسية.

إلى جانب هذه المؤسسات غير الرسمية، هناك بنية رسمية أخرى تتولى الإشراف اليومي واللحظوي المباشر، لا تقل في حجمها وخبراتها وقدراتها ومواردها عن هذه البنية، وتمارس حضوراً مباشراً في المنطقة، من خلال الدبلوماسيين والعملاء والوكلاء ووسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات والشركاء الاقتصاديين واستطلاعات الرأي العام والعلاقات العامة مع كل أصناف النخب والأنشطة العامة والخاصة الرامية للاندماج في البيئة ومواكبتها بالرقابة المباشرة.

كيف يمكن أن نوائم بين هذه البنية والجهود وبين التوصيف الذي أطلقه الإمام الخامنئي أخيراً؟ إن مجرد وجود البنية المؤسساتية التي أشرنا إليها، وكذلك التدفق المعلوماتي المعلن والسري الناتج عنها، لا يعني بالدقة توفر المعرفة الصحيحة، بل إنه يعني توفر أدوات واسعة ومتنوعة لتحصيل المعرفة الصحيحة. كيف يمكن تقييم ناتج هذه المعرفة؟ خصوصاً وأن الأمريكي يسيطر على دول ومؤسسات وأفراد والرأي العام في المنطقة، فهو ليس مجرد مشاهد، بل متفاعل ومنخرط في التعامل المباشر مع جزء كبير من مناطق وسكان غرب آسيا.

لا شك بأن حسم الإجابة يحتاج إلى البحث عن نتائج وآثار تلك المعرفة، فالمعرفة الصحيحة ينبغي أن تنعكس في القرارات الصحيحة، والرهانات الصائبة، والنجاحات الميدانية الفعلية، وإلا كانت معرفة ناقصة، أو جهلاً مركباً. من هنا يمكن التقييم، والتوصل إلى فهم تلك العبارة المهمة والمفصلية في المواجهة، ذلك أنها تستهدف العقل المدبر للهيمنة، والمنتج لأفكار وسيناريوهات السيطرة والاستعمار الحديث. طلقة تستقر في الوعي المظلم والدامس للأمريكي وتصيب عقله الإجرامي الإرهابي المريض بلحظة استفاقة، ليدرك أن كل منظومته الفكرية والمعرفية غير مجدية، وبالتالي تسدد ضربة قاتلة لثقته بتلك المنظومة ورهانه عليها مستقبلاً.

منذ عام 1979 انكشف عجز الأجهزة الأمريكية في التقدير والتوقع، حيث فشلت في استكشاف إمكانية انهيار نظام الشاه، وبعدها أيضاً فشلت في توقع انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن لنبقى في سياق منطقتنا، لا تزال أمريكا وحلفاؤها يقعون في فشل تلو الآخر. فشلت في توقع قيام مقاومة في لبنان، وفشلت في توقع إمكانية نجاحها في تحرير جنوب لبنان، كما فشلت في توقع إمكانية قيام نظام إسلامي بعد انتصار الثورة الإسلامية، وفي توقع إمكانية نجاح الجمهورية الإسلامية في مواجهة نظام صدام حسين رغم التكتل العالمي خلفه، وفشلت في استشراف إمكانية صمود إيران أربعين عاماً في ظل الحصار، وفشلت في توقع صمود سوريا في مواجهة الحرب الكونية ضدها، وفشلت في توقع قيام الشعب العراقي بتشكيل قوة قتالية تحت ظل فتوى المرجعيّة وسحق تنظيم داعش الإرهابي، كما فشلت في توقع صمود المقاومة في لبنان في مواجهة الحرب الشاملة عام 2006، كما فشلت في توقع صمود الفلسطينيين في مواجهة الحروب المتواصلة والحصار الشامل، وفشلت وتفشل اليوم في التعامل مع حرب اليمن التي استمرت ست سنوات بدلاً من ست أسابيع كما كانت تتوقع، وتفشل اليوم وفشلت في إخضاع شعوب المقاومة أمام الحصار الاقتصادي الخانق والشامل.

توقع الأمريكيون مئات المرات أن تتخلى الشعوب عن حركات المقاومة وفصائلها وأن تنقلب عليها، بفعل الترهيب أو الترغيب، وراهنت على برامج دعائية هائلة لتشويه صورة تلك الحركات والفصائل، وإبعادها عن بعضها وإثارة الخلافات في كل الثغرات والمشكلات وتضخيمها وتغذيتها بشكل مستمر في الميدان وفي الإعلام، بحيث لم يعد هناك ثغرة لم تُستهدف في هذا المجال، فتقوم الأجهزة باستحداث ثغرات واستنبات مشكلات للاشتغال عليها، لكن كل ذلك لم يؤد إلى نتيجة مجدية، ولا تزال قوى المقاومة في عافية وقوة وتطور دائم.

المشكلة ليست في المنهجية التي تشتغل عليها مراكز الدراسات والاستخبارات، فنحن لسنا أمام خطأ موضعي، نحن أمام مسار خاطئ بالأساس. المشكلة حضارية وإنسانية، حيث لم يقدر الأمريكي أن يكتشف الإنسان الشرقي حتى الآن، رغم كل هذه الجهود. هناك أسرار في المنطقة وفي شعوبها لا يستطيع أن يرتقي الأمريكي إلى مستوى حلها، ولذلك يقع دائماً في الاشتباه. اشتباه كلّفه بحسب تصريحاته الرسمية وبيانات وزاراته سبعة تريليونات دولار خلال السنوات السبعة عشر الفائتة فقط. أصابت عبارة الإمام هذا المقتل بالتحديد، وهي توضح لنا الثغرة المعرفية الأمريكية الكبرى، رغم كل الضجيج والدعاية والترويج للتفوق المعرفي والعلمي.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir