مقتطفات من كلمة للإمام الخامنئي يشرح فيها سماحته جوانب من خطبة الرسول الأكرم في استقبال شهر رمضان ويتطرّق للحديث حول أهميّة استغلال فرصة الضيافة الإلهية هذه والانتفاع منها وتنقية القلب بالمواظبة على الدعاء وكثرة الاستغفار.

هناك الكثير من الدّروس من خطبة الرّسول الأعظم صلوات الله عليه في استقبال الشهر الفضيل المليئة بالرحمة والبركات الربانية المضاعفة، حيث يدعونا الله فيه إلى ضيافته الكريمة، وأن نكون من أهل كرامته. 

فمن يكون ـ يا ترى ـ من أهل ضيافة الله وكرامته؟ إنهم المؤمنون المخلصون لله في كلّ أخلاقيّاتهم وسلوكيّاتهم، وفي قلوبهم وصدقهم ومشاعرهم، والله تعالى يدعونا بلطفه إلى أن نوفَّق بصيامنا لأن نهذّب إيماننا ونعمّقه، ونؤكّد ارتباطنا الفعليّ بالله تعالى.

 

شهر رمضان، شهر الضيافة الإلهية والانتفاع من الفرص

حلّ شهر رمضان المبارك مرة أخری بكل بركاته وجمالياته المعنوية. كان رسول الإسلام الأعظم صلوات الله عليه يعدّ الناس قبل حلول شهر رمضان للدخول في هذه الساحة الخطيرة السامية الزاخرة بالخيرات و البركات.. "قد أقبل علیكم شهر الله بالبركة والرحمة".

في خطبة يوم الجمعة الأخيرة من شهر شعبان، حسب بعض الروايات، قال الرسول الأكرم صلی الله عليه وسلم قوله هذا ونبّه الناس لقرب حلول شهر رمضان. لو أردنا تعريف شهر رمضان بجملة واحدة لوجب القول إنه شهر الفرص. ثمة الكثير من الفرص أمامنا أنا وأنتم في هذا الشهر. لو استطعنا الاستفادة بصورة صحيحة من هذه الفرص لتوفّر لدينا رصيد عظيم وقيّم جداً. ولأوضّح هذه الفكرة بعض الشيء، ولتكن الخطبة الأولی حول هذه المسائل ذات الصلة بشهر رمضان وفرصه المنقطعة النظير. 

 

شهر دعيتم فيه إلی ضيافة الله

في هذه الخطبة التي أشرنا إليها، يقول الرسول الأكرم صلوات الله عليه: "شهر دعيتم فيه إلی ضيافة الله".. وهذه عبارة جديرة بالتأمل والتدبّر. إنه دعوة لضيافة إلهية. لیس ثمة إجبار وإكراه علی أن ينتفع الجميع من هذه الضيافة، لا، إنما جعل ذلك فريضة، لكننا أحرار في أن ننتفع من هذه الضيافة أو لا ننتفع. البعض لا تتوفر لهم الفرصة أبداً للاهتمام بهذه الدعوة والانتفاع من هذه الضيافة. غفلتهم وانهماكهم في الأعمال المادية والدنيا المادية هو بنحو يجعلهم لا يدركون معه حلول شهر رمضان وانقضائه.

كأن یدعوا شخصاً لضیافة جد عظیمة ومفعمة بالخيرات والبركات ولا یجد الفرصة للمشاركة فيها، فيغفل حتى عن النظر في بطاقة الدعوة. هؤلاء لا ينتفعون شيئاً من هذه الضیافة. والبعض يدركون وجود هذه الضيافة لكنهم لا يسارعون إليها ولا يشاركون فيها. هؤلاء هم الذين لم يتلطف بهم الله تعالی ولم يوفقهم لصيام هذا الشهر، فهم لا يصومونه، ومن دون عذر. أو تلاوة القرآن الكريم أو قراءة أدعية شهر رمضان. البعض لا يلبّون هذه الدعوة ولا يشاركون في هذه الضيافة ولا یأتون لها. هؤلاء حالهم ووضعهم معلوم. وهناك كثيرون من المسلمين من أمثالنا يشاركون في هذه الضيافة، بيد أن نصيبهم من هذه الضيافة ليس بمقدار واحد لكل واحد منهم. فبعضهم ينال وينتفع أكثر من هذه الفرصة. 

الرياضة المتوفّرة في هذا الشهر - رياضة الصيام وتحمّل الجوع - ربما كانت أكبر مكتسبات هذه الضيافة الإلهية. البركات المكنونة للإنسان في الصيام كبيرة وعظیمة من الناحية المعنوية ومن حيث إشاعة النور في قلب الإنسان إلی درجة ربما أمكن القول معها إن الصيام أعظم بركات هذا الشهر. البعض يصومون، فهم إذن يشاركون في هذه الضيافة وينتفعون منها. ولكن بالإضافة إلی الصيام - وهو الرياضة المعنوية في هذا الشهر - فهم يتعلمون من القرآن الكريم أقصی ما يمكن تعلمه، تلاوة القرآن بتدبّر، وتلاوة القرآن والأنس به وتلقّي كلام الله والاستماع له في الليالي ومنتصف الليالي، وفي حال الصيام وما يورثه الصيام من النور في قلب الصائم، هذا الأنس بالقرآن الكريم في هذه الحالة له طعم ومعنی مختلفان. الشيء الذي يتعلمه الإنسان من القرآن الكريم في مثل هذه التلاوة لا يمكنه أن يحصل عليه في الأحوال العادية المألوفة. هؤلاء يتمتعون بهذه الفائدة أيضاً. بالإضافة إلی ذلك فإنهم ينتفعون من التحدث مع الله تعالی ومخاطبته ومناجاته وفتح قلوبهم لربّهم وإذاعة أسرارهم له. وهذا ما يتجسّد في الأدعية. دعاء أبي حمزة الثمالي والأدعية اليومية، وأدعية الليالي والأسحار، هذه كلها محاورة وكلام مع الله، وطلب من الله، وتقريب للقلب من ساحة العزة الإلهية. هذه بدورها فائدة أخری ينتفعونها من شهر رمضان. وبالتالي فهم ينتفعون من كل فوائد وخيرات هذه الضيافة. 

 

اجتناب المعاصي أفضل الأعمال في شهر رمضان

يسأل الإمام علي بن أبي طالب علیه الصلاة والسلام الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وآله: أيّ الأعمال أفضل في هذا الشهر؟ فيجيب الرسول صلوات الله عليه: "الورع عن محارم الله". اجتناب الذنوب وما حرّمه الله مقدّم علی الأعمال الإيجابية. ترك المعاصي حيلولة دون تلوّث الروح والقلب. وهؤلاء الذین نتحدث عنهم يتجنّبون المعاصي أيضاً. إذن، فهناك الصيام، وهناك تلاوة القرآن، وهناك الدعاء وذكر الله، وهناك البُعد عن المعاصي. هذه المنظومة تقرّب الإنسان من حيث الأخلاق والسلوك من الحالة التي يريدها الإسلام. حين تحصل هذه المجموعة من الأعمال يخلو قلب الإنسان من الأحقاد، وتُبعث فيه روحُ التضحية والإيثار، وتصبح مساعدة المحرومين والفقراء سهلة عليه، ويسهل عليه أيضاً الصفح والتجاوز لصالح الآخرين وبما يضرّه في الأمور المادية. لذلك تلاحظون أن الجرائم تقلّ في شهر رمضان، وتكثر فيه الخيرات، وتزداد فيه المحبّة بين الناس. وهذه كلها ببركة هذه الضيافة الإلهية. 

البعض ينتفعون هكذا من شهر رمضان المبارك، والبعض لا ينتفعون بهذا الشكل، فقد ینتفعون من شيء ويحرمون أنفسهم من شيء آخر. یجب أن ينصبّ جهد الإنسان المسلم في هذا الشهر علی الانتفاع إلی أقصی حدّ من هذه الضيافة الإلهية، وينال الرحمة والمغفرة الإلهية، وأنا أؤكد علی الاستغفار، الاستغفار من الذنوب والخطايا والمزالق، ومن المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة. من المهم جداً أن نطهّر قلوبنا في هذا الشهر من الأدران والأقذار، وننقّي أنفسنا ونغسلها من الشوائب والتلوث، وهذا ممكن بالاستغفار. لذا ورد في الكثير من الروايات أن أفضل الأدعية أو علی رأس الأدعية هو الاستغفار، أي طلب المغفرة من الله. وثمة استغفار لجميع البشر. حتى الرسول الأكرم صلی الله عليه وسلم وهو أرقی البشر كان يستغفر. واستغفارنا نحن وأمثالنا استغفار من نوع من الذنوب هي هذه الذنوب العادية الدارجة والميول الحيوانية في أعماقنا، وهذه المعاصي الظاهرية الواضحة. لكن استغفار البعض ليس من مثل هذه الذنوب، فالبعض لا يقترفون حتى "ترك الأولی"، لكنهم مع ذلك يستغفرون، وهذا استغفار من القصور الذاتي والطبيعي للإنسان حيال عظمة الذات الإلهية المقدسة، وهو استغفار من عدم المعرفة الكاملة، وهو استغفار الأولياء والعظماء. 

 

الاستغفار هو انتشال النفس من الغفلة اعن النفس 

علينا الاستغفار من ذنوبنا. الفائدة الكبرى للاستغفار هي أنه ينتشلنا من الغفلة عن أنفسنا. أحياناً نقع في أخطاء بخصوص أنفسنا. وحين نفكر بالاستغفار تتجسّد أمامنا ذنوبنا وخطايانا ولامبالاتنا واتباعنا لأهوائنا النفسية وتجاوزنا للحدود وظلمنا لأنفسنا وظلمنا للآخرين، ونتذكر ما فعلنا، وعندئذ لا نصاب بالغرور والنخوة والغفلة عن أنفسنا. هذه هي فائدة الاستغفار. ثم إن الله تعالی وعد الإنسان الذي يستغفر، أي الذي يطلب المغفرة والصفح من الله سبحانه طلباً حقيقياً ويكون نادماً علی ذنبه بالقول: "لوجد الله توّاباً رحيماً". الله سبحانه يقبل التوبة من عباده. هذا الاستغفار عودة إلی الله وإعراض عن الذنوب والخطايا، والله تعالی يقبله إن كان استغفاراً حقيقياً.

تنبّهوا إلی إنه لا فائدة من أن يقول الإنسان بلسانه: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويكون باله وذهنه في مكان آخر. فهذا ليس باستغفار. الاستغفار دعاء وطلب. يجب أن يطلب الإنسان من الله حقاً أن يغفر له ويصفح عنه: ارتكبت هذا الذنب فارحمني واصفح عن ذنبي يا ربّ. مثل هذا الاستغفار عن كل واحد من الذنوب يستجلب بلا ريب غفران الله، وقد فتح الله تعالی هذا الباب.