مفهوم الثورة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي

(دورة التعرّف على المنظومة الفكرية لسماحة الإمام الخامنئي)

الدرس (5): جذور الثّورة الإسلاميّة وبيئة انطلاقها

الأستاذ: سماحة السيد كميل باقر

 

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّی الله علی سیّدنا محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین.

أیّها الأعزّة، أيّها الكرام، السلام علیكم ورحمة الله تعالی وبركاته.

نتابع معكم في هذه السلسلة من الدروس والمحاضرات دراسة مفهوم الثورة الإسلامية من منظار سماحة الإمام الخامنئي دام ظلّه ضمن الدورة العامة التي یقیمها معهد الثورة الإسلامية.

في الجلسات السابقة أشرنا إلی مبادئ الثورة وأهدافها ومراحلها، وفي هذه الجلسة سندرس جذور الثورة وبیئة انطلاقها، إن شاء الله.

بشكل عام، بيئة انطلاق الثورات الدینية الأصيلة تشبه بیئة ظهور النبوّات وبعثة الأنبياء علیهم السلام، لأنّ العصر الذي يسبق الثورة هو في الحقيقة عر جاهلية، وتأتي الثورة في بیئة اجتماعیة مماثلة للبيئة والظروف الاجتماعية التي يُرسل فيها الأنبياء من حیث المعالم والمؤشرات. لذلك يقول ساحة القائد في كتاب «ثورة الأنبیاء » في شرحه لإحدی خطب الإمام أمیر المؤمنین عي علیه السلام حول ظروف المجتمع قُبيل بعثة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم، یقول ساحته: «عندما كنت أترجم وأشرح هذه الخطبة قبل انتصار الثورة كانت كلّ كلمة أكتبها تنبع من الوجدان والمشاعر، إذ كانت تحكي بالضبط ما كنّا نلمسه ونعانيه. وكان كلّ ما ورد فی هذه الخطبة من كلام حول بیئة ظهور الأنبیاء علیهم السلام ینطبق خطوة بخطوة وكلمة بكلمة علی الأیام التي كنّا نعیشها آنذاك. »

المیزة البارزة في فترة ظهور النبوّات هي حاكمية الطاغوت في المجتمع. وحاكمیة الطاغوت علی المجتمع تعني تسلّطه علی جمیع طاقات المجتمع البنّاءة والخلّقة، )وبالتالي( انجرار المجتمع وقواه واستعداداته نحو أهداف الشیطان وتأمین مصالح الطاغوت. المجتمع الذي یحكمه الطاغوت یعیش حالة العبودیة للشیطان. وحاكمیة الطاغوت في الحقیقة منشأ لجمیع المشاكل والمفاسد ومصدر لجمیع الآلام والمعاناة. والأنبیاء علیهم السلام یأتون في مثل هذه الظروف وشعارهم التغییر؛ هم یریدون أن یحوّلوا المجتمع الطاغوتي إلی مجتمع توحیدي.

رسالة الأنبیاء علیهم السلام هي صناعة المجتمع الإسلامي، وهذه الرسالة تشمل جمیع قضایا المجتمع مثل الحكومة والاقتصاد والثقافة والعلاقات الدولیة. ولذلك، ساحة القائد في كتاب «مروع الفكر الإسلامي في القرآن » كان یؤكد دائماً علی أنّ هیئة المجتمع الطاغوتي وشاكلته تتباین بل تتعارض مع هیئة وتركیبة وشاكلة المجتمع التوحیدي.

هذا الفرق بین هذین المجتمعین مسألة مهمة جداً، وهذا الاختلاف اختلاف بنیوي وأساسي یجب الالتفات إلیه، ولیس مسألة شكلیة وظاهریة وبسیطة. هذا الفرق سیتبیّن لنا أكثر عندما ندرس وبدقّة وضع المجتمع في زمن الجاهلیة ونقارنه بوضع المجتمع بعد تأسیس الحكومة الإسلامية بید الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم في صدر الإسلام، وأیضاً عندما ندرس الفرق بین الوضع في إیران قبل انتصار الثورة الإسلامية وبعده.

إذاً رغم أنّنا سندرس في هذه الجلسة بیئة انطلاق الثورة الإسلامیة في إیران كعیّنة بارزة من الثورات الدینية الناجحة إلا أنّ الكلام هو نفسه في جمیع الثورات الإلهیة في الماضي وفي المستقبل، ويمكن تكرار نفس التجربة في أيّ بیئة اجتماعیة مشابهة، لأنّ هذه المسألة من السنن الإلهیة والتاریخیة الثابتة والجاریة في كل زمان ومكان.

حسناً، لدراسة الوضع في مرحلة ما قبل انطلاق الثورة الإسلامیة في إیران ولفهم جذور الثورة وبیئة نشأتها ننظر إلی الموضوع من جهتین؛ أوّلاً ننظر إلی النظام الشاهنشاهي السابق وخصوصیاته وتصرّفاته التي أدّت إلی نهوض الشعب في وجهه، وثانیاً ننظر إلی الشعب ومواصفاته ومؤهّلاته الأساسية التي مهّدت الأرضية للثورة.

 

بالنظر إلی النظام الطاغوتيتي، هناك خمس خصوصيات أساسیة وبارزة كانت توجد في ذلك النظام وقد بیّنها ساحة الإمام الخامنئي: الخصوصية الأولی حسب تعبیر القائد عبارة عن «الدكتاتوریة السوداء » والقمع الشدید للناس بأقسى الأسالیب. كانت إحدى خصوصيات ذلك النظام الخبيث الشدة والقسوة في التعامل مع كل من كان له أدنی اعتراض عليه حتى لو كانت الانتقادات بسيطة جدّاً. كانوا يحكمون بقوة الاستبداد والسجون والتعذیب والضغط النفسي والجسدي على الناس. ولا تزال آثار ووثائق تلك السجون وتلك الأساليب القمعية التي اعتمدوها موجودةً، وقد أصبحت بعض تلك السجون متحفاً لاستعراض التاریخ، وعندما یزورها الشباب الذین لم یعیشوا تلك الفترة ربّا لا یصدّقون حجم الظلم والتعذیب والقسوة التي كان یمارسها النظام الطاغوتي آنذاك.

الخصوصية الثانية هي «التبعية الذليلة » التي كانت لهم تجاه القوى الخارجية. أصلاً لقد وصل رضا خان إلى الحكم بأمر من البريطاني ن، وأزيل عن الحكم بأمر من البريطانيين، وبعد ذلك جاء البريطانيون بمحمد رضا بهلوي إلى الحكم. ثمّ دخل الأمريكيون ساحة السياسة الإيرانية وسيطروا على كلّ شيء فيها. كانت السياسات في إیران سياسات أمريكا، وكان ما يحصل في إیران هو ما كانت تقتضيه مصالح أمريكا وما يراه الأمریكيون لازماً ومناسباً، سواء على صعيد السلوك الداخلي، أو السلوك الإقليمي، أو السلوك الدولي. یعني ذلك النظام المستبد الظالم الذي كان یتعامل مع شعبه بمنتهی القسوة كان ذلیلاً وخاضعاً وتابعاً وخانعاً ومطیعاً ومذعوراً أمام أمریكا. هكذا كان الوضع!

الخصوصية الثالثة لنظام الطاغوت هي «الفساد المستشري ». 

كان نظاماً فاسداً ومفسداً، یعني كان یروّج الفساد. في ذلك النظام كانت تحصل وتحدث أنواع المفاسد، من المفاسد الجنسية إلى غيرها من الفساد المالي والإدمان على المخدرات وترويج المخدرات، وكلّها كانت تحدث بواسطة عناصر وشخصیات فاعلة وأساسية في نظام الحكم. كان جميع رجال البَلاط تقريباً والمحيطون بهم واقع ن في المفاسد، وقصص هذه الأمور مخجلة. والكثير من أبناء الشعب في ذلك الحين كانوا يعلمون هذه القصص لكنّهم لم یكونوا يتجرأون على التفوّه بها. لقد قام نفس محمّد رضا بهلوي والمحيطون به بارتكاب أضخم عمليات الفساد المالي وأسوأ أنواع التطاول والنهب للمصادر الماليّة للشعب. لقد جمعوا الثروات لأنفسهم، وكان الثمن إفقار الشعب.

الخصوصية الرابعة للنظام الطاغوتي هي «عدم الاكراث للناس ». 

كان النظام منقطعاً تماماً عن الشعب، ولم یكن لدیه أي اهتمام بالناس وبهموم الناس وبمشاكل الناس، ولم یكن يحسب للناس أي حساب أصلاً. الشعب لم یكن یعلم أصلاً من هو على رأس الأمور، ولم یكن للناس أيّ دور في انتخاب المسؤولین وفي تحديد السیاسات والاتجاهات العامة، بل إنّ الصلة بين جماهير الشعب ونظام الحكم كانت مقطوعة تماماً. أولویات النظام واهتماماته وهواجسه ومخطّطاته وبرامجه كانت في مكان، وأولویات الناس وآلامهم وهواجسهم وحاجاتهم كانت في مكان مختلف كلّیاً! لذلك من المعروف أنّ محمد رضا بهلوي في البداية تفاجأ عندما واجه اعتراض الشعب، ولم یكن لدیه أدنی تصوّر عن سبب هذا الاعتراض. یعني أنّهم كانوا بعیدین عن الشعب وآماله وآلامه إلی هذا الحدّ.

الخصوصية الخامسة لنظام الطاغوت عبارة عن «تضخيم الغرب وإشاعة عقدة الدونية الوطنية ». من جهة، أهانوا الشعب واستهانوا بقدراته، ومن جهة أخری ضخّموا الثقافة الغربية وروّجوا لنمط الحیاة الغربي وللقيم المادية الغربية. الأعمال العلمية لم تكن تتقدم والتحرك العلمي بالمعنى الحقيقي للكلمة لم يكن موجوداً أصلاً. في وسائل الإعلام كانوا قد عوّدوا الناس على المنتج الغربي، بدل أن يأخذوا البلاد نحو إحياء الإنتاج الداخلي وإنعاش المصادر الحقيقية للشعب. كانوا قد عوّدوا الشعب على الواردات والاستیراد بأموال النفط، وغيرّوا ذوق الناس، وقضوا على الزراعة في البلاد، ودمّروا الصناعات الوطنية، وجعلوا البلاد كلها تابعة للخارج ولأعداء الشعب. 

 

هذه كانت الخصوصيّات الخمسة الأساسیة لدی النظام الطاغوتي، وهي علی الأغلب خصوصيّات مشركة بین جمیع الأنظمة غیر الإلهیة في العالم، سواء الأنظمة الدكتاتوریة أو الأنظمة اللیبرالية التي هي طاغوتیة أكر من الدكتاتوریات. في المقابل، یجب أن ندرس خصوصیّات الشعب أیضاً لكي نفهم كیف استطاع الإمام الخمیني أن يحرّك الجماهیر للنزول إلی الساحة ولقبول المسؤولیة وتحمّل الصعوبات وتقدیم التضحیات.

في هذا المجال یؤكّد ساحة الإمام الخامنئي علی خصوصية أساسیة لدی الشعب والتي شكلت عنصراً مهماًّ في تمهید الأرضية المناسبة للثورة وهي «إیمان الشعب ». ثمّ یذكر ساحة القائد وصفین مهمّین لإیمان الشعب وها «عمق الإیمان » و «انتشار الإیمان ». وجود هذا الإیمان العمیق والمنتشر لدی الشعب كان عاملاً مؤثراً في انطلاق الثورة.

یذكر ساحة الإمام الخامنئي في مذكراته قصة ویقول: «جاء إلی إیران أحد القادة الإفریقيين المعروفین. وقد شرحت له كیف انتصرت الثورة الإسلامیة، قلت له لم یكن في الأمر انقلاب عسكري، ولا ضباط شباب جاءوا وأسقطوا الطاغوت كما هو دارج في العالم، ولم یكن للنخب والأحزاب دور مهم، إنما كان الدور لكتل الشعب الواسعة، ولیس هذا بالسلاح. لم یكن في أیدی الشعب الإیراني سلاح، وإنما نزلوا إلی الساحة بأید خالیة وبأجسامهم. وضعوا قلوبهم ودماءهم علی الأكف وسارعوا إلی الساحة. وهذا غیر ممكن من دون إیمان عمیق ومنتشر بین الناس. فنزلوا إلی وسط الساحة وانتصر الدم علی السیف، وهذه هی الحالة الطبیعیة في كل مكان. أین ما كان الشعب مستعداً للتضحیة فا من قوة تستطیع أن تقاومه. حین شرحت انتصار الثورة الإسلامیة لذلك القائد الإفریقي، كان الأمر مثیراً ولافتاً بالنسبة له جداً، وجدیداً علیه. ذهب وشاهدتُ بعد فترة وجیزة أنه قد انطلقت في بلاده مثلُ هذه الحركة الشعبیة، وشعرتُ أن ذلك كان مستلهماً من سلوك إمامنا الخمینی الجلیل وسلوك شعب إیران، وقد انتصر هناك. لقد انتصر علی إحدی القوی المتعسفة الخبیثة الكبری المتسلطة علی العالم، واستطاع إنقاذ ب اده. »

إذاً في مثل هذه البیئة الاجتماعیة قام الإمام الخمیني ونهض وتحرّك وحرّك الشعب وانطلقت الثورة. طبعاً سوف نتحدّث في حلقة مستقلّة حول أصحاب الدور الرئیسي في الثورة الإسلامية وسنتحدّث بالتفصیل حول الإمام الخمیني رضوان الله تعالی علیه وشخصیته وخصوصیاته أكثر وأكثر إن شاء الله. والحمد لله ربّ العالمین، والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته.