في طهران، اليوم، تبدو مع الإطلالة الأولى على حال الجمهورية الإسلامية قبيل عيد ثورتها الـ 44، مواقف سياسية كبرى، وذكرى أطياف أيام الحق والمبادئ التي رسختها التضحيات وعمدها الدم الزكي وصنعتها الأرواح النبيلة التي دفعت أثمان التحول الكبير، وتطورات هائلة ومتلاحقة أعقبت الثورة، ومياه كثيرة تدافعت لتشق في مجرى التاريخ طريقًا ثابتًا وعريضًا وعميقًا.

 

ولأن الثورة لم تكن عملية مصنوعة في أروقة أجهزة الغرب، أو خارجة من إرادة السياسات الأميركية، بل كانت عملًا وطنيًا في الصميم، ومخلصًا لمبادئه وأهدافه العظمى، فإنها شهدت كما كل عمل يكسر إرادة هذا الغرب ويخاصم مصالحه ووصفاته، فإنها شهدت عملية تشويه ممنهجة، شاركت بها دول وأجهزة وشخصيات، دفعها هواها وأغراضها إلى أن تتلاعب بحكاية التاريخ، قصدًا وعمدًا، في محاولات لا تتوقف لطمس الحقائق ونشر كل ما يغطي عليها ويخفي وجهها الأصيل، لإن المطلوب من الأميركي وأذنابه المحليين كان ــ ولا يزال ــ تغييب الذاكرة وسحق الوعي وضرب الهوية، لكي يستطيع من يريد أن يطوع المستقبل ويوجهه حيث شاء وأراد.

 

في البداية، فإن تجريه الثورة الإسلامية قد نضجت كثمرة حلوة، رويت على مر الأيام بالمواقف التي لا تعرف سبيلًا إلى اللين أو المهادنة على حساب الحق، واستمرت في طريقها تعاند وتصمد في وجه العواصف العاتية، وعبرت في بهاء كل الشراك التي وضعت أمامها تستهدف النيل منها، بخناجر الخيانة المسمومة أحيانًا وبالبارود والدم في أحيان أخرى، لكنها في النهاية ترسخت كغرة في جبين الدهر، وأرغم الظروف والأحداث على أن تتقبل حلمه الكبير، وأن تفسح في الأيام أبهاها وأجملها لتكون الذكرى والعيد لثورتها العظيمة.

 

كيف استطاعت الثورة الإسلامية أن تعبر كل فصول المؤامرات وتبعات الحروب السياسية والاقتصادية والعسكرية عليها، يمكن رد أول الأسباب إلى اللحظة الأولى ليقظة الإرادة الوطنية، التي وعت تمامًا موقعها والرغبة المحمومة في كسرها أو استتباعها للقوى الكبرى، وتحت قيادة الإمام الخميني (قده) الذي بدأ الثورة، ثم الإمام الخامنئي، الذي أكمل طريقها بنفس الوفاء والقوة والإصرار، ما منح الجماهير القيادة الحقيقية التي تستطيع التعبير عنهم والعمل من أجلهم.

 

وعبر طريق طويل وشاق من التنمية، استطاعت طهران تحقيق المعادلة المستحيلة ــ في عالمنا العربي على الأقل ــ إذ واجهت الغرب في معركة لتثبيت الاستقلال الوطني، وفي الوقت ذاته، تمكنت من تحقيق عملية تنمية شاملة، بدأت من الإنسان ثم امتدت إلى تغيير الهيكل الاقتصادي الرث والتابع كليًا للغرب، والأضعف من الوقوف أمام هزات السوق الدولية.

 

والحقيقة أن عملية التنمية التي انطلقت في أعقاب نجاح الثورة وإعلان الجمهورية الإسلامية، قد حازت كل الشروط المطلوبة للقيام بعملية تغيير ضخم على وجه البلد وأهله، عبر صياغة هوية جامعة للشعب، تراعي الاحتياجات المعيشية للناس، وتمنح الفرد والجماعة الوطنية أسبابًا للتماسك والصمود في وجه أية منظومة عقوبات تستهدف تمزيق الوحدة والدفع بالبلد إلى حالة العجز ثم الفشل.

 

وعززت عملية التنمية من النظرة إلى النفس والغير، باحترام وتقدير بلا إفراط ولا تفريط، وهي ترجمة أمينة وفعلية لعملية التنمية الاقتصادية، أي حشد كل الموارد الوطنية المتاحة في مشروع هائل يرتكز على الذات، ويضع أهدافًا كبرى يجري تحقيقها على الأرض تتاليًا، وفي مراحل متوسطة وطويلة المدى، وهي تصنع بالنجاح والصبر اقتصادًا مقاومًا يتمحور حول قيمتي العمل والجهاد، وبما يحقق فكرة الإدارة الرشيدة الكفء في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

 

وإذا كانت الثورة قد جاءت ترجمة لرفض ومقاومة العلو الأميركي في مشارق الأرض ومغاربها، ومقاومة لما يراد له أن يفرض على الشعوب، فإنها كذلك لم تتوقف عند كونها رد فعل ينطلق من الإيمان والتضحية، وفقط، بل تعدته إلى خلق طرق موازية للمسيرة الوطنية، وصناعة الواقع الذي تحلم به، واختصار المسافة الفلكية بين التبعية والاستقلال الحقيقي، وهي كما استطاعت هزيمة المخططات ضدها، فإنها أيضًا قد نجحت في الخروج من اختبارات القوة بميزات هائلة على الشخصية الإيرانية وبرصيد ضخم من الإنجازات والخبرات، تتجاوب مع طموحات المواطن، العادي جدًا، وتترجم الأنات الشجية للجراح التي سببتها المؤمرات الأميركية والصهيونية على البلد، وتحفظ، في بهاء وعزيمة، العهود مع الأرواح العظيمة للشهداء وهمساتهم ووصاياهم الأخيرة.

 

إذا كان ثمة سبب واحد لإعادة الكتابة عن الثورة الإسلامية وأفعالها الخلاقة التي انعكست على محيطها العربي والإسلامي، فإن قضية فلسطين ومركزيتها والدور الذي اضطلعت به الثورة عن إيمان ويقين كاملين سبب عظيم وأكثر من كافي، القضية التي دخلت إلى ثلاجات التبريد عقب إتمام الصلح المصري الصهيوني في 1979، كان يراد لها بعد ذلك أن تخرج إلى محرقة الجثث، عبر عملية تطبيع واعتراف هائلة من أغلب الأنظمة العربية الرسمية، لكن الدخول الإيراني على خط المواجهة المباشرة مع عدو الأمة، في عز جبروته وعنفوانه، حوّلها إلى مناسبة بعث جديد للشعب والمقاومة في فلسطين، واليوم وصلنا إلى المرحلة التي يتحول فيها كل لاجئ وكل إنسان في فلسطين إلى مشروع يهدد بقاء الكيان، وصارت كل عملية بطولية جديدة تدق المسامير في نعش الفكرة الصهيونية ذاتها.

 

 

موقع العهد