الشيخ حميد رضا مهدوي أرفع*
قال الإمام القائد دام ظله يوماً عبارة جميلة: "التّعبويّ يعني الاقتداء بعليّ عليه السلام الذي كان كلّ وجوده وقفاً للإسلام"، وليس ثمّة أجدر من أن يعبّر عن الإمام عليه السلام وتعبويّته، من سيرته المباركة وبعض ما ورد في كتاب نهج البلاغة.
* موقعيّة التعبئة في المجتمع
يتعاطى نهج البلاغة مع التعبئة على أنّها ثقافة، خاصّة في مسائل الحقّ والباطل والولاية والثّورة وأحداث التّاريخ كافّة. وثمّة نقطة أساسيّة في مسألة الحقّ والباطل وهي الجبهة، والتي تتألّف من ركنين: أحدهما الوليّ، والآخر هو الأمّة. أمّا الوليّ، وهو الركن المركزيّ في الجبهة، فتتمحور حوله ثلاث طبقات:
1.الأولى- طبقة النّصرة: وهي تضمّ من كان اعتقاده أنّ ماله، وماء وجهه، وكلّ ما يملك وعائلته في سبيل تحقيق إرادة الوليّ وهدفه الاستراتيجيّ؛ أي الفناء في إرادة الوليّ. طوال التّاريخ كانت هذه الطّبقة تضم أعداداً قليلة في جبهة الحقّ، لكنّهم كانوا نوعيّين.
2. الثانية- طبقة الإيمان والطّاعة: هي أوسع من طبقة النصرة لناحية الكمّ والعدد، ولكنّها أقلّ منها تأثيراً، لديها اعتقاد وطاعة ولكن لم تصل إلى تمام الجهوزية والفناء.
3. الثّالثة- طبقة الإسلام والتسليم: هي الدّائرة الأكبر في المجتمع، وأفرادها ليسوا من المعاندين أو المُعارضين، ولكنّهم لا يُقدّمون أي تضحيات في سبيل الولاية. نحن نطلق عليهم مصطلح "الرماديّين"؛ أيّ أنّهم في جبهة الولاية، وإنّما لا يطيعون أمر الوليّ، بل يفسّرون ما يقوله وفق فهمهم.
أمّا التعبئة فإنّها تقع في طبقة نصرة الوليّ وهي أشرف جزء من أمّة الإمام. والتّعبويّ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة ليس ذلك الشّخص الذي يمتلك بطاقة انتساب إلى التعبئة، بل هو الشّخص دائم الحركة لنصرة الحقّ.
* المسؤوليّة... نصرة الوليّ
على مدى التّاريخ كانت جبهتا الحقّ والباطل تتصارعان، إذ استطاع الطّاغوت لمرّة واحدة في التاريخ في عصر النبيّ نوح عليه السلام أن يضع كلّ البشريّة تحت مظلّته بينهم نساءه وأولاده، فيما بقي مع ولي الحقّ 17 فرداً من أنصاره فقط. وفي العصر الحديث، استطاعت جبهة الحقّ استقطاب طبقات جبهة الباطل إلى طبقة النّصرة، بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة.
إذاً، المسألة الرئيسة هنا هيّ أنّنا عندما نتحدّث عن التّعبويّ، فإنّنا لا نتحدّث عن عنصر مُنفعل أو شخص يكتفي بمشاهدة الأحداث، بل نتحدّث عن عنصر مؤثّر في نصرة وليّ الله.
وعليه، فإنّ القاعدة الفكريّة والروحيّة والتربويّة للتعبئة هي نصرة الوليّ ولا شيء آخر؛ أيّ أنّه يدرس تأثير كلّ عمل يقوم به في حياته بما فيه زواجه، وعمله، وراتبه، على مسألة نصرة الوليّ. ولكن كيف ستكون نهاية حركة المواجهة هذه؟ إنّنا وأجدادنا نردّد منذ أربعة عشر قرناً: "اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه"؛ فنحن ندعو الله أن يجعلنا من طبقة أنصار إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، والتي هي امتداد للطبقة التي ستنصر الإمام الوليّ، المتمثّل حاليّاً بسماحة الإمام السيّد علي الخامنئيّ دام ظله؛ وهذه هي النتيجة المتوخّاة.
* خصائص تعبويّة أمير المؤمنين عليه السلام
من أجل تحديد معايير التّعبويّ يكفي أن نعثر على موقع أمير المؤمنين عليه السلام على مدى تلك الحقبة من تاريخ الإسلام:
1. أوّل المؤمنين: الإمام عليّ عليه السلام أوّل من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق، في الوقت الذي وقف فيه الأغلبيّة ضدّه.
2. البصيرة: من خصائص تعبويّة أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً البصيرة. تذكر الخطبة الخامسة من نهج البلاغة أنّه عندما انعقدت السقيفة وغُصب حقّ الإمام عليّ عليه السلام حصل خلاف في المُجتمع، إذ حاول أبو سفيان أن يتذاكى، فاصطحب العبّاس عمّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل الإمام عليه السلام، وقال له: لمَ أنت جالس بينما غصبوا عليك حقّك؟ قم وانطلق وأنا آتيك بالقوّات. يا له من إنسان خبيث! وهُنا قبض الإمام عليه السلام على صدر أبي سفيان، وقال عبارة مهمّة للغاية: "أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ"(1)؛ أيّ إذا كان لديك ناصرٌ، أو توفّرت فيك شروط القيام، عليك أن تقوم، أمّا إذا لم يتوفّر الناصر، ولم تتوفّر الشروط، فعليك أن تقبل بالواقع، "هَذَا مَاءٌ آجِنٌ ولُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، ومُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا، كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِه"(2)؛ أيْ إنّك يا أبا سفيان تريد منّي أن أطلق تيّاراً في مواجهة تيّار السّقيفة، فنُصبح تياريّن لتقوم أنت بإطلاق تيّار ثالث يجني ثمار هذا الصّراع. لذلك، تصرّف الإمام عليه السلام بحكمة شديدة وبصيرة ثاقبة؛ لئلّا تؤول الأمور إلى ما لا يُحمد عقباه. من هنا، يجب أن يتربّى التّعبويّ على امتلاك البصيرة في المواقع المُعقّدة وأن يُحدّد ماذا عليه أن يفعل.
3. الصبر والعقلانيّة: في الخطبة الشقشقية يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "طَفِقْتُ أَرْتَئي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ". ما هي نتيجة تفكير أمير المؤمنين عليه السلام؟ "فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى"، أي رأيت الصّبر في ظروف كهذه منطقيّاً أكثر، كيف صبر؟ "فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذىً وَفِي الْحَلْقِ شَجاً"(3). لقد صبر الإمام عليه السلام 25 سنة وكأنّما في عينه قذى وفي حلقه شجاً.
إحدى صفات التّعبويّ أنّه عندما يكون عليه الاختيار بين السّكوت أو القيام، ويكون السّكوت لصالح الوليّ والمجتمع وجبهة الحقّ، يختار السّكوت طوعاً وفي حلقه شجاً نتيجة صبره وعقلانيته، التي تسعفه حين يضطرّ أن يرضى بالسيّئ عندما يخيّر بينه وبين الأسوأ.
4. نصرة الولي: أمير المؤمنين عليه السلام كان التعبوي الأول الذي نصر وليّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين افتداه بنفسه وبات في فراشه ليلة الهجرة.
لكن في حياة أمير المؤمنين عليه السلام قد تعرّض للخذلان من المسلمين في فترة حكمه، مثلاً في صفين لو تصرّف الجميع كما فعل عمّار بن ياسر ومالك الأشتر، ولم يخذل المسلمون علياً عليه السلام، لما قبل بتوقيع معاهدة مع معاوية. وحيث إنّه لم يستطع اجتثاثه، كان عليه السلام أمام خيارات عدّة: إمّا أن يواصل الحرب بغضّ النّظر عمّن سيُرافقه، وتكون النتيجة شهادة أمير المؤمنين عليه السلام أو الذهاب إلى التّحكيم، أو السكوت والصبر. إذاً، إحدى صفات التّعبويّ هي ألّا يسمح، طالما هو حيّ، أن تحكم الظّروف على الوليّ وتغلّ يده.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة فوارق بين (ما هو واضح) و(النوايا المضمرة)، وعلى التعبويّ التمييز بينهما؛ لكي يدرك أنّ الإمام عليه السلام اختار هذه الظّروف السيّئة حتّى لا تسوء الأمور أكثر، وإلّا لكان حارب معاوية حتّى اللحظة الأخيرة.
* الاستعداد لزمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
إنّ هذا الربط بين تعبويّة الإمام عليّ عليه السلام وبعض ما جاء في نهج البلاغة، إنّما يجب أن يوصل التعبويّ في نهاية المطاف إلى الاستعداد للتمهيد لإمام زمانه عجل الله تعالى فرجه الشريف وظهوره المبارك. ولكي يتمكّن من تحقيق ذلك، ينبغي أن يتحصّن بالبصيرة والمعرفة عن طريق هذا الكتاب الشامل والقيّم، فيدرك ساعتئذٍ لماذا خُذل الإمام عليّ عليه السلام خلال فترة حكمه، ولماذا لم يتعايش الناس معه، عندها يحصّن نفسه بشكلٍ صحيح، حتّى لا يقع في خطأ ما وقع وسيقع فيه كثيرون؛ لأنّ إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف سيتّخذ من حكومة الإمام عليّ عليه السلام نموذجاً لحكومته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس النهضة العالميّة لقراءة نهج البلاغة.
1- نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 52.
2- المصدر نفسه، ص52.
3- المصدر نفسه، ص 48
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار