قراءة في الفكر الاقتصادي للإمام الخميني

العدالة الاجتماعية...

أساس النظام الاقتصادي في الإسلام

يحرص الإمام الخميني على إيضاح صورة النظام الاقتصادي في الإسلام بأبعادها الحقيقية ضمن المشروع الإلهي للبشرية ومن خلال الدور الذي نهض به الأنبياء لتحقيق العدالة الاجتماعية باعتمادهم على الشرائح المظلومة والمستضعفة.

عندما اعتبر الإمام الخميني (رضي الله عنه) الثقافة الإسلامية هي الغاية والاقتصاد مجرد وسيلة فذلك لا يعني أنه (رضي الله عنه) يدعو إلى تجاهل دور الاقتصاد في حياة الشعوب وإنما أراد أن ينبه إلى حقيقة جوهرية وهي أن سيادة الوعي الإسلامي الأصيل وتعزو مواقع الثقافة الإسلامية في البنى الفكرية للمجتمع كفيلان بتحديد مواضع الخلل والشذوذ ليس في الاقتصاد وحده وإنما في شتى مجالات الحياة وهذا الأمر لا ينطبق على بلد بعينه وإنما يشمل سائر البلدان.

وقد أشار الإمام (رضي الله عنه) في مناسبات عديدة إلى أن سطوة المستكبرين الاقتصادية والسياسية إنما جاءت بعد أن ألحقوا الهزيمة النفسية بالشعوب المستضعفة ثم بدأوا بفرض عبوديتهم على جميع الشعوب ويقول (رضي الله عنه):

إن غالبية المجتمعات البشرية قد ارتبطت في حياتها اليومية بأسياد القوة والمال وحتى إن اتخاذ القرار حول شؤون الاقتصاد العالمي قد سلب منها فظلت تعاني الفقر والفاقة رغم المصادر الطبيعية الهائلة والأراضي الخصبة الشاسعة والأنهار والغابات الواسعة والثروات الطائلة في العالم، إن الشيوعيين والرأسماليين قد انتزعوا زمام المبادرة والحق في العيش من الشعوب عموماً بإقامة العلاقات الوثيقة مع الطامعين وأمسكوا فعلاً بعصى الاقتصاد العالمي بإيجاد المراكز الاحتكارية المتعددة الجنسيات وربطوا جميع طرق التصدير والتنقيب والتوزيع والعرض والطلب وحتى أعمال التسعير والصيرفة بأنفسهم وأقنعوا الشرائح المحرومة ـ من خلال أفكارهم وأبحاثهم المصطنعة ـ على وجوب العيش تحت نفوذهم...).

ويكشف النص السابق للإمام (رضي الله عنه) أن انحلال النظام الاقتصادي ليس في العلاقات غير المتكافئة بين ثلة من الدول الغنية والشعوب المقهورة فحسب بل يؤكد أن هذا النمط المجحف من العلاقات إنما يعطل طاقات الشعوب ويحول بينها وبين الاستفادة من خيراتها وثرواتها من خلال إقامة علاقات بين أرباب المال والنفوذ ونخبة في المجتمعات المحرومة التي تعتبر اليوم امتداداً لسطوة المستكبرين وهيمنتهم على الشعوب المحرومة. كما يكشف أن أهم أسباب سطوة المستكبرين هو سيطرتهم على شريان الاقتصاد العالمي وإغلاق كل المنافذ بوجه المحرومين وهكذا كلما إزداد أرباب المال ثراءاً كلما إزدادت الشعوب المحرومة فقراً وفاقة.

إن افتقاد النظام الاقتصادي العالمي إلى العدالة لم يعد مثار شكوك أو نقاش فشعوب العالم النامي قد أضحت على قناعة أن استمرار هذا النظام سيؤدي إلى انتشار الفقر والحرمان، وإذا كانت بعض البلدان تسعى للإفلات من أسر هذا النظام من خلال التعويل على المساعدات والقروض أو محاولاتها للاندماج فيه دون الاهتمام بمواجهته جدياً على صعيد تحرير بناها الفكرية والثقافية من جذور التبعية لهذا النظام فإن محاولاتها تلك ستأتي بمردودات عكسية.

مهمة الفقهاء والعلماء

الإمام (رضي الله عنه) اعتبر أن إحدى القضايا المهمة التي تقع على عاتق العلماء والفقهاء هي المواجهة الجدية للثقافات الاقتصادية الظالمة ومكافحة السياسة الاقتصادية الظالمة ومكافحة السياسيات الاقتصادية والرأسمالية في المجتمع وهو عندما يؤكد على ذلك فإنما يستند على حقيقة أن الإسلام يرفض الرأسمالية الظالمة الجشعة ويعتبرها مخالفة للعدالة الاجتماعية، ويشدد الإمام (رضي الله عنه) على ضرورة تعرية أفكار وكتابات أولئك الذين يطرحون الإسلام وكأنه لا يتعارض مع الرأسمالية، وأكد أن مثل هذه الطروحات هي تحريف للإسلام ويمهد الطريق أمام أعدائه لكي يهاجموه ويعتبروه كأي نظام من الأنظمة الرأسمالية في الغرب.

ومثلما أكد الإمام (رضي الله عنه) تمايز الإسلام واختلافه عن الرأسمالية وضرورة مواجهتها فإنه أكد على أن الإسلام يرفض النظام الإشتراكي والماركسية اللينينية التي ترفض الملكية الفردية وتدعو إلى الإباحية وسائر أنواع الانحطاط ودعا إلى تعرية هذا النظام والرد على دعاياته المضللة التي يصور الإسلام من خلالها وكأنه نوع من أنواع الديكتاتورية والاستبداد وأشار إلى (أن الإسلام نظام معتدل يعترف بالملكية ويحترمها، ويصنع حدوداً لظهورها والتعرف بها)، ولو أن الشروط التي وضعها الإسلام لها قد جرى بها العمل حقاً (لدارت عجلات الاقتصاد بصورة سليمة وتحققت العدالة الاجتماعية اللازم توفرها في نظام سليم).

إن نقد الرأسمالية والاشتراكية وتعريتهما لا يعني أن الإسلام يكتفي بالنقد وفضح المظالم التي يتعرض لها الإنسان في ظل هذين النظامين بل إن للإسلام نظام اقتصادي متكامل يعتمد على العدالة ورفع الظلم والحيف الذي يلحق بالمحرومين من الظلمة وأرباب الثروة والمال، يقول الإمام الخميني (رضي الله عنه): (جاء الإسلام من أجل إقامة حكومة العدل الواسعة حيث دونت ونظمت في هذا الدين القوانين الخاصة بالأمور المالية كالضرائب وبيت المال وكيفية جمع الضرائب من جميع فئات الشعب وطبقاته بشكل عادل).

إن العدالة لا تعني أن الإسلام ينظر بعين واحدة إلى الأغنياء والفقراء ويعاملهم معاملة واحدة بل إن علاقة الإسلام بالفقراء هي أكثر من علاقته بالأغنياء المتخمين خاصةً إذا كانت أموالهم قد جاءت بطرق غير مشروعة فالإسلام لا يعترف بمثل هذه الأموال فالأموال في الإسلام مشروعة ومحددة ومعينة ويبين الإمام (رضي الله عنه) أحكام الأموال بالرجوع إلى حاكم الشرع والفقيه ولي الأمر سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة (1).

ومن أجل تحقيق العدالة يقف الإسلام ضد المصالح الشخصية للمترفين وحرصهم على العيش كيفما يشاؤون فيقوم بتعديل الثروة من أجل مصلحة المجتمع الإسلامي.

الإسلام ضد الحرمان والفقر:

يحرص الإمام الخميني على إيضاح صورة النظام الاقتصادي في الإسلام بأبعادها الحقيقية ضمن المشروع الإلهي للبشرية من خلال الدور الذي نهض به الأنبياء لتحقيق العدالة الاجتماعية باعتمادهم على الشرائح المظلومة والمستضعفة يقول الإمام (رضي الله عنه): (لا نملك من هم أسمى من الأنبياء، ولا نملك من هم أسمى من الأئمة (عليهم السلام) إن هؤلاء قد ضحوا بأنفسهم من أجل المجتمع يقول الله تبارك وتعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ) فالغاية أن يقوم الناس بالقسط وتتحقق العدالة الاجتماعية بين الناس وتزول المظالم ويهتم بأمور الضعفاء ويحصل القيام بالقسط. ويقول تبارك وتعالى بعد ذلك (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيد) فما هو التناسب؟ التناسب هو أن تتم هذه الأمور بالحديد أي البينات والميزان والحديد الذي (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فلو أراد إنسان ما أو مجموعة إفساد المجتمع أو إفساد الحكومة العادلة فيجب التحدث معهم بالبينات، فإن لم يسمعوا فبالموازين ـ الموازين العقلية ـ وإلا فبالحديد).

إذن فتحقيق العدالة يأخذ منحى تصاعدياً من النصح والإرشاد وتقديم الدليل في أجواء من اللين ثم اللجوء إلى الشدة عندما لا تنفع تلك الأساليب ويدعو الإمام (رضي الله عنه) إلى النظر في التاريخ واستلهام الدروس والعبر منه، فأول ما يتكشف من تلك المراجعة أن الأديان هي التي دفعت الجماهير المستضعفة للثورة ضد السلاطين وأن الأنبياء جاءوا لتعبئة الفقراء لإيقاف نهب المستكبرين وإيقافهم عند حدهم لتتحقق بعد ذلك العدالة الاجتماعية.

مهمة الأنبياء:

إن مهمة الأنبياء هي تنوير الناس واستنهاضهم ضد سلطة الأقوياء والأثرياء وسلاطين عصرهم، ويضرب الإمام الخميني (رضي الله عنه) أمثلة متعددة لقيام الأنبياء بهذه المهمة الإلهية والتي تؤكد على أهمية انتشال الفقراء والمحرومين من وهدة الخنوع والذل والعبودية ودفعهم إلى الثورة بوجه الطغاة والمتجبرين من أجل بناء المجتمع الجديد القائم على العدالة الاجتماعية.

وقد جاءت الثورة الإسلامية امتداداً لثورات الأنبياء حين قام العلماء وعلى رأسهم الإمام الراحل (رضي الله عنه) بقيادة المحرومين والمستضعفين لدك عرش وإقامة النظام الإسلامي الذي وضع نصب عينيه تحقيق الهدف الأول وهو تحقيق العدالة الاجتماعية، لذا فإن الإمام (رضي الله عنه) يؤكد في الكثير من المناسبات أن أحد أهم عوامل نجاح الثورة هو اندكاكها بالمحرومين والمستضعفين وأن ديمومتها تتمثل في احتضانها وسن التشريعات والقوانين لصالحهم... يقول الإمام (رضي الله عنه): (إن إزالة الحرمان هي عقيدتنا وسبيل حياتنا فإن الطامعين لا يدعوننا وحالنا في هذا الشأن أيضاً، وقد ضيقوا الحصار أكثر حولنا بقصد إضعاف حكومتنا ومسئولينا وابرزوا حقدهم وضغينتهم وخوفهم ورعبهم حيال هذه الحركة الجماهيرية والتاريخية، من خلال آلاف المؤامرات السياسية والاقتصادية، ومما لا ريب فيه أن الطغاة يهابون نظرية الاقتصاد الإسلامي، والتوجه الموجود فيه لحماية المحرومين لذا يجب أن تتحرك البلاد بإندفاع أكثر نحو إزالة الفقر والدفاع عن المحرومين مما يبدد آمال الطامعين بنا، ويضاعف توجهات شعوب العالم نحو الإسلام.

فقط للمحرومين:

وهو أن المحرومين المستضعفين هم القوة الأساسية التي ترفع راية الإسلام ليس في إيران وحدها وإنما في العالم أجمع فهم في معسكر وأعداؤهم الرأسماليون والملحدون وعبدة المال في معسكر آخر ويرى الإمام (رضي الله عنه) أن أحكام وأسس الإسلام في الجمهورية الإسلامية سيؤدي إلى تقوية مواقع المحرومين والمستضعفين في العالم أجمع فالمستقبل لأنصار الإسلام رغم أنهم يفتقرون إلى القوة والمال في مواجهة أعداء الإسلام الحقيقيين الذين يكنزون الذهب والمحتالين والأقوياء والجهلة المتظاهرين بالتقدس.

إن ثنائية الصراع بين المستضعفين والمستكبرين تجد الكثير من المصاديق في عالم اليوم حيث يتسع البون بين الفقراء والأغنياء ويزداد النهب وفق القوانين التي يشرعها الأقوياء والتي تكرس هيمنة دول الشمال الغنية تحت لافتات براقة مثل النظام العالمي الجديد أو العولمة أما دول الجنوب فتزداد فقراً ونقل مساهمتها في الإقتصاد العالمي يوماً بعد آخر.

وإذا كانت الشيوعية قد انتقلت إلى المتحف فإن الرأسمالية حتى وإن أدت إلى زيادة ثروات الأغنياء فإنها فشلت كنظام اقتصادي إذ أدت إلى إفقار أربعة أخماس سكان العالم.

إن التطلع إلى نظام عالمي جديد قائم على العدالة والتكافئ بين الدول لن يأتي إلا بتفجير طاقات الشعوب المحرومة وتحركها لاجتثاث الثقافات المهزومة وتحرير ثرواتها وخيراتها من سيطرة المستكبرين وأذنابهم، وهذا الأمر لا يخص الشعوب الإسلامية وحدها وإنما يخص جميع الشعوب المحرومة فالإسلام شخّص الداء والدواء(2).

 

ــــــــــــ

 

1ـ  يقول الإمام لو فرضنا أن شخصاً يملك أموالاً كثيرة حسناً أمواله أيضاً مشروعة لكنها إذا كانت بمقدار شخص الحكم والفقيه والولي أنها لا ينبغي أن تكون بهذا المقدار فإنه يستطيع مصادرتها من أجل مصالح المسلمين.

2 ـ المصدر: منهجية الثورة الإسلامية مقتطفات من أفكار وآثار الإمام الخميني (ص50).