بالأسناد المتّصلة إلى رئيس المحدِّثين محمّد بن يعقوب ـ رضوان الله عليه ـ عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن عاصِمِ بن حُمَيْد، عَنْ أبي حَمْزَةَ، عَنْ يَحْيى بْنِ عَقيل قالَ: قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : «إِنَّما أخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: إتِّبَاع الهَوى وَطُولَ الأمَلِ، أمّا إتِّباعُ الهَوى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وَأمّا طُولُ الأَمَِل فَإِنَّهُ يِِْنسِي الآخرة»[1].

 

الشرح:

 «الهوى» في اللغة «حب الشيء» و«اشتهاؤه» من دون فرق في أن يكون المتعلقة أمراً حسناً ممدوحاً، أو قبيحاً مذموماً. أو أن النفس بمقتضى الطبيعة تميل إلى الشهوات الباطلة والأهواء النفسية، لو لا العقل والشرع اللذان يكبحانها[2]. أما احتمال الحقيقة الشرعية ـ كما يقول بعض المحققين ـ فمستبعد.

 أما «الصدّ» عن الشيء فمعناه المنع والإعراض والانصراف عنه. وهي معان تناسب الكلمة، إلاّ أن المعنى المقصود هنا هو المنع والانصراف عن الشيء، إذ أن الصدّ بمعنى الإعراض يكون لازما لا متعديا.

 وسوف نحاول، إن شاء الله، من خلال مقامين اثنين أن نوضح فساد هاتين الصفتين، وكيف تقوم الأولى بالمنع عن الحق. وتقوم الثانية بنسيان الآخرة. طالبين من الله التوفيق.  

 

المقام الأول: ذم إتباع هوى النفس

 وفيه فصول:

 فصل: في بيان أن الإنسان عند ولادته يكون حيوانا بالفعل

 اعلم أن النفس الإنسانية، على الرغم من كونها ـ في معنى من المعاني الخارجة عن نطاق بحثنا ـ مفطورة على التوحيد، بل هي مفطورة على جميع العقائد الحقة. ولكنها منذ ولادتها وخروجها إلى هذا العالم تنمو معها الميول النفسية والشهوات الحيوانية، إلاّ من أيّده الله وكان له حافظ قدسي. ولما كان هذا الاستثناء من النوادر فإنه لا يدخل في حسابنا، لأننا نتناول نوع الإنسان عموما.

 لقد ثبت في محلّه بالبراهين أن الإنسان منذ أول ظهوره، وبعد مروره بمراحل عدّة، لا يعدو أن يكون حيواناً ضعيفاً لا يمتاز عن سائر الحيوانات إلاّ بقابلياته الإنسانية. وأن تلك القابليات ليست بمقياس إنسانيته الفعلية.

 فالإنسان حيوان بالفعل عند دخوله هذا العالم، ولا معيار له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها الشهوة والغضب. ولكن لما كان أعجوبة الدهر هذا ـ الإنسان ـ ذات جامعة، أو قابلة على الجمع، فإنه لكي يدبر هاتين القوتين، تجده يلتجأ إلى استعمال الصفات الشيطانية، مثل الكذب والخديعة والنفاق والنميمة وسائر الصفات الشيطانية الأخرى. وهو بهذه القوى الثلاث ـ الشهوة، الغضب، هوى النفس ـ التي هي أصل كل المفاسد المهلكة، يخطو نحو التقدم، فتنمو فيه كذلك هذه القوى وتتقدم وتتعاظم. وإذا لم تقع تحت تأثير مربّ أو معلم، فإنه يصبح عند الرشد والبلوغ حيوانا عجيبا يفوز بقصب السبق في تلك الأمور المذكورة على سائر الحيوانات والشياطين، ويكون أقوى وأكمل في مقام الحيوانية والصفات الشيطانية من الجميع. وإذا ما استمرت حاله على هذا المنوال، ولم يتبع في هذه الشئون الثلاثة سوى أهوائه النفسية، فلن يبرز فيه شيء من المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، بل تنطفئ فيه جميع الأنوار الفطرية.

 فتقع جميع مراتب الحق التي لا تعدو هذه المقامات الثلاثة التي ذكرناها ـ أي المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة ـ تحت أقدام الأهواء النفسية. وعندئذ يصبح إتباع الأهواء النفسية والرغبات الحيوانية حائلاً دون أن يتجلّى فيه الحق من خلال أية واحدة من تلك المراتب، ويطفئ ظلام النفس وأهوائها كل أنوار العقل والإيمان، ولن تتاح له ولادة ثانية، أي الولادة الإنسانية، بل يمكث على تلك الحال ويكون ممنوعا ومصدودا عن الحق والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم. أن مثل هذا الشخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم، عالم كشف السرائر، إلاّ حيوانا أو شيطانا. لا تشمّ

 منه رائحة الإنسان والإنسانية أبدا، فيبقى في تلك الحال من الظلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. إذن هذه هي حال التبعية الكاملة لأهواء النفس والتي تُبعد الإنسان نهائيا عن الحق.

 ومن هنا يمكن أن نعرف أن ميزان البعد عن الحق هو إتباع هوى النفس. ومسافة هذا البعد تقدر أيضا بمقدار التبعية. فمثلا، لو أن هذا الإنسان، استطاع أن يجعل مملكة إنسانية هذا الإنسان الذي اقترن منذ ولادته بالقوى الثلاثة وترعرعت وتكاملت تلك القوى أيضا مع نمو الإنسان وتكامله، لو استطاع أن يجعل هذه المملكة متأثرة بتربية تعاليم الأنبياء والعلماء والمرشدين لاستسلم شيئا فشيئا لسلطة تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فقد لا يمضي عليه وقت طويل حتى تصبح القوة الكاملة الإنسانية، التي أودعت فيه على أساس القابلية فعلية تظهر للعيان، وترجع جميع شؤون مملكته وقواها إلى شأن الإنسانية بحيث يجعل شيطان نفسه يؤمن على يديه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ شَيْطَانِي آمَنَ بِيَدي»[3] فتستسلم حيوانيته لإنسانيته، حتى تصبح مطيّه مروّضه على طريق عالم الكمال والرقي، وبراقا يرتاد السماء نحو الآخرة، ويمتنع عن كل معاندة وتمرد. وبعد أن تستسلم الشهوة والغضب إلى مقام العدل والشرع تنتشر العدالة في المملكة، وتتشكل حكومة عادلة حقه يكون فيها العمل والسيادة للحق وللقوانين الحقة، بحيث لا تتخذ فيها خطوة واحدة ضد الحق، وتكون خالية من كل باطل وجور. وعليه، فكما أن ميزان منع الحق والصدّ عنها إتباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب الحق وسيادته هو متابعة الشرع والعقل. وبين هذين المقياسين وهما التبعية التامّة لهوى النفس والتبعيّة التامة المطلقة للعقل منازل غير متناهية، بحيث أن كل خطوة يخطوها في إتباع هوى النفس، يكون بالمقدار نفسه قد منع الحق، وحجب الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال الإنساني وأسرار وجوده. وبعكس ذلك، كلما خطا خطوة مخالفة لهوى النفس ورغبتها، يكون بالمقدار نفسه قد أزاح الحجاب وتجلّى نور الحق في المملكة.

 فصل: في ذم إتباع الهوى

 يقول الله تعالى في ذم اتّباع النفس وأهوائها: (وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[4]... (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)[5].

 وجاء في الكافي الشريف، بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «قال رسول الله ص لّى الله عليه وآله وسلم: يَقُولُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي وَكِبْرِيائِي وَنُورِي وَعُلوّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَواهُ على هَوايَ إلاّ شَتَّتُّ عَليهِ أَمْرُهُ وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا وَلَمْ أوتِهِ مِنْها إلاّ ما قدَّرْتُ لَهُ وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَعَظَمَتِي وَنُورِي وَعُلُوّي وَارْتِفَاع مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوايَ عَلَى هَواهُ إلاّ اسْتَحْفَظَتْهُ مَلائِكَتِي وَكَفَّلْتُ السَّمَواتِ والأَرضَينَ رِزْقَةُ وَكُنْتُ لَهُ مِْن وَرَاءِ تِجارةِ كُلِّ تَاجِرٍ وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ راغِمَةٌ» [6].

 وهذا الحديث الشريف من محكمات الأحاديث التي يدل مضمونها على أنه ينبع من علم الله تعالى الرائق حتى وإن كان مطعوناً فيه بضعف السند، فنحن لسنا بصدد شرحه. وهناك حديث آخر منقول عن الإمام علي عليه السلام قال فيه:

 «إنَّ أخْوَفُ مَا أَخَاف عَلَيْكُمُ اثْنَانِ إتِّبَاعُ الهَوى، وَطُولُ الأَمَلِ»[7]. وجاء في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «احْذَرُوا أهْوائكُمْ كَما تْحذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أعْدى لِلرِّجَالِ مِن إتّباعِ أهْوائِهمْ وَحَصَائِد ألْسِنَتهم» [8].

 اعلم أيها العزيز، أن رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حد أو غاية. فإذا اتبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطر إلى أن يتبع تلك الخطوة خطوات، وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، اجبر على الرضى بالكثير منها. ولئن فتحت بابا واحدا لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبوابا عديدة له.

 إنك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثم سوف تبتلى بآلاف المهالك، حتى تنغلق ـ لا سمح الله ـ جميع طرق الحق بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما أخبر الله بذلك في نص كتابه الكريم، وكان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين وولي الأمر، والمولى، والمرشد والكفيل للهداية والموجِّه للعائلة البشرية عليه السلام.

 بل إن روح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأرواح الأئمة عليهم السلام تكون جميعا في قلق واضطراب لئلا تسقط أوراق شجرة النبوة والولاية وتذوي.

 قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «تَناكحوا تَنَاسلوا فَإنّي أُبَاهي بِكُمُ الأُمَمَ وَلَوْ بِالسِّقْطِ»[9].

 لا شك في أنه لو سار الإنسان في مثل هذه الطريق المحفوفة المحفوفة بالمخاطر مما قد يلقي به إلى هوّة الفناء ويجعله موضع عقوق أبيه الحقيقي، أي النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم، ويبحث عن نمط العظيم الذي هو رحمة للعالمين. فما أشد تعاسته، وما أكثر المصائب والبلايا التي يخبئها له الغيب!.

 فإذا كنت على صلة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وإذا كنت تحب أمير المؤمنين عليه السلام وإذا كنت من محبي أولادهما الطاهرين، فاسْعَ لكي تزيل عن قلوبهم المباركة القلق والاضطراب.

 لقد جاء في القرآن الكريم في سورة هود:

 (... فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ... )[10]. وجاء في الحديث الشريف أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُود لِمَكَانِ هذِهِ الآيةِ»[11].

 يقول الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ «هذا، على الرغم من أن هذه الآية قد جاءت في سورة الشورى أيضا، ولكن من دون (وَمَنْ تَابَ مََعكَ) إلاّ أن النبي خصّ سورة هود بالذكر، والسبب أن الله تعالى طلب منه استقامة الأمة أيضا، فكان يخشى أن لا يتحقق ذلك الطلب، وإلاّ فإنه بذاته كان أشدّ ما يكون استقامة، بل لقد كان صلّى الله عليه وآله وسلم مثال العدل والاستقامة».

 إذاً، يا أخي، إذا كنتَ تعرف أنك من أتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وتريد أن تحقق هدفه، فاعمل على أن لا تخجله بقبيح عملك وسوء فعلك. ألا ترى أنه إذا كان أحد من أولادك والمقربين إليك يعمل القبيح وغير المناسب من الأعمال التي تتعارض وشأنك، فكم سيكون ذلك مدعاة لخجلك من الناس وسبباً في طأطأة رأسك أمامهم؟ ولا بد أن تعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلي عليه السلام، هما أبوا هذه الأمة بنصّ ما قاله النبي الكريم: «أنا وَعَلِيُّ أَبَوا هذِهِ الأُمَّة»[12]. فلو أحضرنا في حضرة ربّ العالمين يوم الحساب وأمام نبينا وأئمتنا، ولم يكن في كتاب أعمالنا سوى القبيح من الأعمال، فإن ذلك سوف يصعب عليهم ولسوف يشعرون بالخجل في حضرة الله والملائكة والأنبياء. وهذا هو الظلم العظيم الذي نكون قد ارتكبناه بحقهم، وإنها لمصيبة عظمى نبتلى بها، ولا نعلم ما الذي سيفعله الله بنا؟ فيا أيها الإنسان الظلوم الجهول، يا من تظلم نفسك! كيف تكافئ أوليائك الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل هدايتك، وتحمّلوا أشد المصائب، وأفظع القتل، وأقسى السبي لنسائهم وأطفالهم من أجل إرشادك ونجاتك؟ فبدلاً من أن تشكرهم على ما فعلوا وتحفظ لهم أياديهم البيض نحوك، تقوم بظلمهم ظنا منك أنك إنما تظلم نفسك وحدها! استيقظ من نوم الغفلة، واخجل من نفسك، واتركهم يعانون من الظلم الذي تحمّلوه من أعداء الدين من دون أن تضيف على ظلامتهم ظلامة أخرى، لأن الظلم من المحب أشد ألماً وأكثر قبحاً!.

 

فصل: في تعدد هوى النفس

 لا بُدَّ أن نعرف أن أهواء النفس متعددة ومتنوعة من حيث المراتب والمتعلقات، وقد تكون أحيانا من الدقة بحيث أن الإنسان نفسه يغفل عن ملاحظة أنها من مكائد الشيطان ومن أهواء النفس، ما لم يُنَبّه على ذلك، ويوقظ من غفلته. إلاّ أنها جميعها تشترك في كونها تمنع الحق وتصدّ عن طريقه، رغم اختلاف مراتبها ودرجاتها، فإن أصحاب الأهواء الباطلة من الذين يتخذون الآلهة من الذهب وغيرهم ـ كما يخبر الله سبحانه عنهم في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[13] وغيرها من الآيات الشريفة ـ ينقطعون عن الله، بصورة معيّنة، وإن أتْبَاع الأهواء النفسية وال أباطيل الشيطانية في عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة يحتجبون عنه سبحانه بصورة أخرى، وإن أصحاب المعاصي الكبيرة والصغيرة والموبقات والمهلكات كل حسب درجة المعصية ومرتبتها يبتعدون عن سبيل الحق بصورة ثالثة. وإن أهل الأهواء في الرغبات النفسية المباحة مع الانشغال والانهماك فيها يتخلّفون عن سبيل الحق بصورة رابعة. وإن أهل المناسك والطاعات الظاهرية الذين يعبدون من أجل عمران الآخرة وتلبية الشهوات النفسية ومن أجل البلوغ إلى الدرجات العلى أو الخشية من العذاب الأليم والنجاة من الدركات السفلى يحتجبون عن الحق وسبيله بصورة خامسة، وإن أصحاب تهذيب النفس وترويضها، لإظهار قدرتها والوصول إلى جنة الصفات، فيفصلون عن الحق ولقائه بشكل آخر، وإن أهل العرفان والسلوك والانجذاب ومقامات العارفين الذين لا يهمهم سوى لقاء الحق والوصول إلى مقام القرب، يحتجبون عن الحق وتجلياته الخاصة بنوع سابع لأن التلوّن وآثار وجوده الخاص لا يزال عندهم موجودا.

 ثم توجد بعد هذه المراتب درجات أخرى لا يناسب ذكرها في هذا المقام.

 فإن على أصحاب هذه المراتب أن يراقبوا بدقة حالهم، وأن يطهّروا أنفسهم من الأهواء لئلا يتخلّفوا عن طريق الله ولا يظلّوا عن مسالك الحقيقة، حتى تظلّ أبواب الرحمة مفتوحة عليهم، مهما تكن مقاماتهم ومنازلهم. واللّهُ وَليُّ الهِدَايَةِ.

 

المقام الثاني: في ذم طول الأمل

 وفيه فصلان:

 

فصل: في بيان أن طول الأمل ينسي الآخرة

 اعلم أن المنزل الأول من منازل الإنسانية هو منزل اليقظة كما يقوله كبار أهل السلوك في بيانهم لمنازل السالكين، ولهذا المنزل كما يقول الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام ظله ـ بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها. ولكن ما يجب قوله هو أن الإنسان ما لم ينتبه إلى أنه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأن له هدف وتجب الحركة نحوه، وأن البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرك. ولكل واحد من هذه الأمور، شرح وبيان لو ذكرناه لطال بنا المقام.

 ويجب أن نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظن الإنسان أن في الوقت متسعاً للبدء بالسير، وأنه إذا لم يبدأ بالتحرك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل.

 فإن طول الأمل هذا وامتداد الرجاء، وظن طول البقاء، والأمل في الحياة والرجاء سعة الوقت، يمنع الإنسان من التفكير في المقصد الأساسي الذي هو الآخرة. ومن لزوم السير نحوه ومن لزوم اتخاذ الصديق وتهيأة الزاد للطريق، ويبعث الإنسان على نسيان الآخرة ومحو المقصد من فكره ـ ولا قدّر الله ـ إذا أصيب الإنسان بنسيان للهدف المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت، وعدم توفّر العُدَّة والعدد رغم ضرورتهما في السفر، فإنه من الواضح لا يفكر في الزاد والراحلة، ولوازم السفر وعندما يحين وقت السفر يشعر بالتعاسة، ويتعثر ويسقط في أثناء الطريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل.

 

فصل: موعظة حول طول الأمل

 اعلم إذاً، أيها العزيز، أن أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معين، فقد يكون الوقت ضيقاً جداً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم متى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إن طول الأمل المعشعش عندي وعندك الناجم من حب النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق الله، ولا نعمل عل تهيئة زاد وراحلة، حتى إذا ما أزف الوعد الم وعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة. ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، اللذان تدور عليهما مئونة ذلك العالم، ولم نهيأ لأنفسنا شيئاً منهما. حتى لو كنا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنه لم يكن خالصاً بل مشوباً بالغش، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة وهذا العلم إما أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإما أنه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتمي وواضح فينا نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتى كان لعملنا وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أننا أجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال ـ لا سمح اله ـ لكان علينا أن نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، مما لا يمكن إزالته!.

 إذاً، فنسيان الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ الله الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الأمل، لأنه يعرف مدى خطورة هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيؤ وإعداد الزاد والراحلة، عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم والغفلة من دون أن يعلم أن هناك عالما آخر، وأن عليه أن يسير إليه حثيثاً. وماذا سيحصل له وما هي المشاكل التي يواجهها؟

 يحسن بنا أن نفكر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهم. إن معرفتهم بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهم، وأن جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا.

 إن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم قد روّض نفسه كثيرا في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: (طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [14]. وعبادات علي عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحق المتعال معروف للجميع.

 إذاً، اعلم أن الرحلة كثيرة المخاطر، وإنما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال ألاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقظ أيها النائم من هذا السبات وتنّبه، واعلم أنك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شيء من عناء السفر، ولا تصاب بالتعاسة في طريقه، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّه لا عزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه. إنها النار التي لا تنطفئ والضغط الذي لا يخفف، والحزن الذي لا يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي أبداً.

 أنظر أيها الأخ إلى ما يقوله الإمام في دعاء كميل وهو يناجي الحق عزَّ وجلَّ:

 «وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاَءِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتِهَا» إلى أن يقول : «وَهذَا مَا لا تَقُومُ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ». ترى ما هذا العذاب الذي لا تطيقه السماوات والأرض، الذي قد أعدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد كل يوم استغراقاً في النوم والغفلة؟

 فيا أيها القلب الغافل! انهض من نومك وأعدّ عدتك للسفر، «فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ»[15]، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كل لحظة أن يسوقوك سوقاً إلى العالم الآخر. ولا تزال غارقاً في الجهل والغفلة؟

 «اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دارِ السُّرُورِ والاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ»[16].

 ــــــــــــــــــــ

 [1] أصول الكافي، المجلد الثاني، الإيمان والكفر، باب إتباع الهوى، ح 3.

 [2] يبدو هنا سقط في الكلام (في نسخة الأصل).

 [3] ورد مثل هذا الحديث في كتاب عوالي اللئالي المجلد: 4 ص97. وفي كتاب علم اليقين، المجلد: 1، ص: 282.

 [4] سورة ص، آية: 26.

 [5] سورة القصص، آية: 50.

 [6] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب إتباع الهوى، ح: 2.

 [7] نهج البلاغة، خطبة ـ 42 ـ (الشيخ بصحي الصالح).

 [8] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب إتباع الهوى، ح1.

 [9] "مستدرك وسائل الشيعة" كتاب النكاح ـ الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح ـ ح17. لا تجد في الحديث هنا كلمة (ولو بالسقط). ورد في تفسير أبو الفتوح الرازي (سورة النور ـ الآية: 32) " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِي أُباهي بِكُمُ الأمَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَوْ بِالْسقط ".

 [10] سورة هود، الآية: 112.

 [11] تفسير مجمع البيان ـ المجلد الخامس ـ ص: 140.

 [12] بحار الأنوار ـ ج: 36 ـ ح: 12 ص: 11.

 [13] سورة الجاثية، آية 23.

 [14] سورة طه، الآية: 1 ـ 2.

 [15] نهج البلاغة ـ الخطبة ـ 204 ـ (الشيخ صبحي الصالح).

 [16] مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.