الدكتور عماد أفروغ يقرأ الثورة الإسلامية من زاوية علم الاجتماع السياسي (1)

 

من الوجوه البارزة اكاديمياً واعلامياً في مجال علم الاجتماع السياسي في ايران، ومع أنه لم يرتبط بأي من القوى السياسية أو الحزبية الداخلية الا انه يندر أن تشهد الساحة السياسية حدثاً أسياسياً لا يكون له اطلالة تحليلية وموقف مبدئي منه.

 

ثوري ومثقف ملتزم يختزن تجارب طويلة من المطالعات والقتال والدرس والابحاث.. والمناظرات في انحاء ايران، يؤمن بضرورة وجود المثقف المنتقد والموجه من خارج مؤسسات الحكم لتقوية ودعم الدولة الدينية، والذي يدرس بدقة أزمات مجتمعه ملتزماً بأحلام وآمال وعراقة وثورية وتدين هذا المجتمع بعيداً عن التبعية الفكرية والثقافية.

 

اللقاء معه هو فاتحة لاطلالة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية الاجتماعية في ايران الثورة والاسلام وما تشهده من حركة وابداعات وأزمات وآمال.., وفيما يلي الجزء الاول من هذا اللقاء.

 

س ـ  أولاً نبارك لكم الذكرى الرابعة والعشرين لانتصار الثورة الاسلامية، ونسأل عن مقاربة علم الاجتماع السياسي لظاهرة الثورة الاسلامية في ايران؟

 

ج ـ للاطلالة على نظرة ورؤية علم الاجتماع السياسي للثورة الاسلامية، ينبغي ان نمرّ أولاً على تعريف هذا العلم لنرى كيف ينظر اليها من هذه الزاوية، التعريفات الرائجة والمتداولة لعلم الاجتماع السياسي يمكنها فقط ان تغطي جزءاً من تحليل هذه الثورة ولا يمكنها دراسة جميع أبعادها وجوانبها. بل اننا نستطيع ان نقول ان نفس الثورة الاسلامية يمكنها ان تساهم في تقديم تعريف جديد لعلم الاجتماع السياسي ليكون لها كلمتها الجديدة في هذا المجال. التعريف الكلاسيكي والسابق لعلم الاجتماع السياسي يتناول بشكل أساسي علاقات القوى الاجتماعية وقدرة الدولة، واذا اردنا ان ننظر للثورة من هذه الزاوية لندرس المشاكل والتحديات الداخلية في ايران في ذلك الزمن ونحلل ظهور الثورة وعلاقات القوى الاجتماعية بالدولة وما شابه، نكون قد حصلنا على قسم من التحليل داخل هذا الاطار الضيق نسبياً، ولكننا بهذا نكون قد اكتفينا ورضينا بأن الثورة كانت صرفاً ظاهرة محلية ووطنية وداخلية.. هذا اذا التزمنا بمفروضات هذا التعريف الكلاسيكي، لكننا نشعر أن هذا ظلم وجفاء بحق هذه الثورة ان نحصرها في هذا الاطار لانها لم تكن ظاهرة وطنية فقط، بل كان لها ابعاد عالمية ودولية ورسالة تحملها لكل البشرية، صحيح أن هذا الحدث قد وقع على رقعة جغرافيا محددة هي ايران، وضمن ظروف تاريخية معينة، ولكن محتوى وجوهر الثورة ليس محدوداً بأوضاع ايران بأي وجه من الوجوه.

 

الثورة كان لها ابعاد "فوق وطنية" هذا بالنسبة للتعريف السابق، اما التعريف الجديد لعلم الاجتماع السياسي فيمكنه ان يساعدنا في جوانب أخرى، فهو يلحظ بشكل ما الابعاد العالمية، وهو على كل حال متأثر بظاهرة العولمة وحتى بردود الفعل التي واجهت العولمة. صحيح ان لها أصداءً داخلية في كل بلد ولكن ليس بمعنى عدم وجود الأبعاد الكبرى الخارجية الاساسية، وبالتغييرات التي طرأت على علم الاجتماع السياسي. القابلية المفهومية لمصطلح العولمة، بالرغم من انتقادي لعلم الاجتماع السياسي المتداول للعولمة، ولكن شئنا أم ابينا فإن هذه القابلية تفتح امامنا الحدود وتجعل امكانية طرح المسائل عالمياً أكبر، وتوفر لنا ارضية لعلم اجتماع الثورة الاسلامية. نحن حتى عندما ننظر الى ردود الفعل على العولمة نرى أنها ليست محدودة بفضاء أو حدود محلية ووطنية مثل حركة "الخضر" او الاعتراض على السلاح النووي وحتى حركة النسوية، وكلها لا تحد ببلد او منطقة معينة، ولهذا فإننا نقول ان هذا التعريف المعاصر هو أقرب لفهم وتحليل الثورة كونه "فوق وطني" وكذلك باعتنائه بالابعاد الثقافية وما يسمى بالسياسات الثقافية... مع ابقاء اهمية الدور الداخلي والتأثير المحلي في الثورة. مع ملاحظة أساسية انه اذا اعتبرنا ان علم الاجتماع السياسي المعاصر مرتبط بشكل ما بـ"البوست مودرنيسم" وبالمباني المعرفية والفلسفية التابعة لها فإن الثورة الاسلامية ترتبط بالمباني المعرفية والنظرية التقليدية. واعني هنا اتجاهاً تقليدياً فلسفياً وليس اجتماعياً، لانها تقبل جوهراً وبنى، وهي من هذه الزاوية اصولية وبنوية وبالتالي متفاوتة بشكل كامل مع "البوست مودرنيسم" طبعاً فان هناك اشتراكاً من ناحية العالمية والهوية والابعاد الثقافية ، وباعتقادها (الثورة) بمبنى وجوهر فانها تختلف.

 

وأنا أفضل أن يتم تناول الثورة من هذه الزاوية ووفق التعريف الثاني وأن لا تحصر بالعوامل الداخلية من جهة ولا تشترك مع "البوست مودرنيسم" بالمباني المعرفية والنظرية من جهة أخرى.

 

بناءً على هذه المقدمة والمدخل النظري عندما نحلل الثورة الاسلامية، فإن الابعاد العالمية لهذه الثورة تتجلى في الايديولوجية الاسلامية التي سار بها سماحة الامام عبر ولاية الفقيه، وبأي وجه من الوجوه، فأنا لا اعتقد ان نظرية ولاية الفقيه ترتبط بظروفنا التاريخية أو بأحوال مجتمعنا فقط، بل ان هذه النظرية ليست محدودة بالبلدان الاسلامية. في الواقع ان ولاية الفقيه هي فلسفة سياسية جديدة، هي نظرة جديدة، ان توجهنا مفهومياً الى ولاية الفقيه، الى مشروعية النظام السياسي تركز على بعد الفضيلة، الحقانية وصفات الاشخاص الحاكمين، وأيضاً على كيفية ومنهج وأسلوب الحكم، اي انها ليست فقط تقبل نظرة أفلاطون في تعريف مشروعية الحكم، بل أيضاً نظرة ميكافيلي التي تركز أيضاً على أسلوب الحكم وكيفيته. ومن صفات نظرية ولاية الفقيه أيضاً انها تهتم بالحقوق الانسانية وبالحقوق الالهية أيضاً فلا يصبح الانسان فقط محوراً منفصلاً عن محضر الحق سبحانه وتعالى، ومن جهة اخرى نرى أنها أيضاً تهتم بالحقوق الفردية والاجتماعية على السواء. وعلى كل حال ما اريد ان أقوله بالنسبة للبعد العالمي كي نثبت المطلب الذي عرضناه أولاً حول علم اجتماع الثورة الاسلامية فإن البعد العالمي هو في الوقت ذاته أصولي وجوهري، ولا يمكن القول مثلاً انه نسبي المعرفة وليس فيه جوهر.

 

اذاً فالبعد العالمي للثورة هو ولاية الفقيه واسلامية هذه الثورة وايديولوجيتها. وهناك عوامل أخرى اعدادية أيضاً في بروز هذه الثورة مما يمكن تسميته عوامل انضمامية، فإن كان العامل الأول هو البعد الثقافي والهوية والتاريخي والعالمية مما يمكن تصنيفه البعد الضروري، فإنه يمكن اضافة هذه العوامل الانضمامية مثل:

 

ـ فقدان التنمية السياسية والنمو الاقتصادي الكاذب وشبه معاصر(مودرنيتيه) وهذا العامل يمكن ملاحظته في مجالات مختلفة كالهوة بين التقليدية والحداثة، فهذه الظاهرة (شبه مودرنيتيه) التي صنعها النظام البهلوي لم تكن تناسب وتلائم ثقافة وتاريخ المجتمع وتقاليده. ومن المسائل المهمة أيضاً في هذا المجال اننا بسبب حجم التمويل الخارجي ورؤوس امواله شهدنا مفاوضات اساسية بين المباني المعرفية والثقافية للمجتمع من جهة، وبين سياسة النظام  واقتصاده من جهة أخرى، وهذا "الصراع مع الذات" انتج سلسلة من التحديات والاشكالات والحركات وردود الأفعال.

 

ولعله وبصرف النظر عما اسميته عوامل اعدادية، هناك نقطة ليست خارجة عن اطار بحثنا، وهي ان السياسات الثقافية التي اتخذها نظام الشاه لجر المجتمع الى التبعية والارتباط بالخارج قد انتجت غربة عن الذات والهوية، وأدت الى تحقير ثقافي للمجتمع، وبالالتفات الى ان ايران وشعبها كان عندهما دائماً حساسية تجاه التحقير والتبعية الثقافية، فلم يكن عند الايرانيين يوم استقلال كونهم لم يكونوا تابعين في يوم من الأيام، وهذا جزء من البنية التحتية الثقافية لهذا الشعب ولهويته، وكلما ظهرت ازمة هوية فإنهم يظهرون ردّ فعلهم.

 

ونستطيع القول إنه بسبب تلك السياسة الثقافية المتوجهة نحو الغرب والاستغراب فإن مجتمعنا واجه مشكلة تحقير، وفي ظل ولاية الفقيه اظهر رد فعل عظيماً، فكان اضافة الى ما ذكرنا من عدم تنمية سياسية ونمو اقتصادي غير سليم سبباً لتجلّ عيني (داخلي) ولكن رد الفعل هذا لم يكن محدوداً بالظروف الداخلية، بل انه ذو بعد عالمي ومرتبط بتصدير الثورة الاسلامية، وهذا بشكل عام ومهما عرضنا من أسباب سياسية وثقافية واقتصادية فإنه يبقى الأساس في العامل الايديولوجي الذي شخص المسائل والسلبيات واستطاع تعبئة الجماهير... فهذه نظرية خاصة وفضلاً عنها فإن هناك قيادة خاصة من حيث الحزم والحسم..

 

س ـ وصلتم الى ما كنا نريد طرحه حول المواصفات والمميزات الخاصة لسماحة الامام (رضوان الله عليه)..

 

ج ـ أقدم للجواب بأن هذه النظرية التي تجلت في ولاية الفقيه، كان لها منافسون أيضاً في الساحة: الليبراليون الوطنيون، الاشتراكيون، وغيرهم ممن لم يوفقوا في طروحاتهم. وأنتم تلاحظون مثلاً أن الوطنية لم تطرح بأي وقت بعنوان فلسفة سياسية.. فقط في مسألة تأميم النفط حيث تمت تعبئة أجنحة مختلفة ضد قرار خاص وجزئي.. الليبراليون مثلاً كانوا دائماً علماء بلاط ولا دخل لهم بالسياسة، وعندما ترجع الى مثقفيهم زمان الشاه فكلهم كانوا من حواشي البلاط (كتّابهم.. شعراؤهم..) وحتى عندما يتعاطون السياسة فكانوا يلتزمون بدستور الشاه، ولا شأن لهم بتحولات جذرية.. عندما ننظر الى صفات وخصوصيات الامام فإن سماحته رضوان الله عليه كان شخصية ذات رؤية وحدوية وتوحيدية وكلية.. أي ان الامام لم يكن عنده انفصال بين ساحات المعرفة المختلفة وساحات الحركة والفكر والسلوك.. هناك نظرة ذات سير تسلسلي في رواية الامام مثلاً في كلامه رضوان الله عليه بأن أفضل حكومة يقبلها العقل هي حكومة الله.. والتي تجلت في قالب ولاية الفقيه نرى انسجاماً وكلية ووحدة حيث يعتبر أن مجرد تصورها يوجب التصديق بها، فالامام له نظام عضوي ينسجم في النظر الى المسائل، وبناءً عليه فتفكير من هذا النوع لم يكن انزال الدين الى الساحة الفردية والخاصة، فلا معنى للدين عندها.. وعلى كل حال فإن ذهب الدين فقط للمسافات الفردية فإن له تجليات اجتماعية عينية وخارجية.. وهذا من أهم أفكار الامام.. حتى في العرفان فإن عرفان الامام في هذا الاطار يكون له معنى، فالعرفاء يحكم على ذهنيتهم الوحدة، وكل شيء في الوجود يرجعونه الى اصل نظرة وحدوية، الامام أصلاً لم يعتقد بانفصال وافتراق بين العرفان والعقل والوحي، ويمكن القول اصطلاحاً انه نظر (صدراني) نسبة الى (صدر المتألهين) الى المسائل، ومن الممكن وجود تفاوت بين الامام وصدر المتألهين، ولكنْ هناك دائماً تشكيك وجودي، يعني دائماً في النهاية هناك مكان ترتبط فيه الأمور ببعضها... لانها نظرة كلية وحدوية.. الامام يذكر ان تلك الاختلافات بين المتكلمين والعرفاء والفقهاء لا واقعية لها، وهي مختلفة وظاهرية، وهذا يرجع الى رؤيته العامة.

 

الصفة الثانية البارزة لسماحة الامام (والتي ترتبط بشكل ما ايضاً بما سبق) هي الابعاد السلوكية للامام، قاطعية وحسم الامام، الاتكال على الحق تعالى.. من الممكن امام تلك الحملات والهجمات ان يخسر الانسان، ولكن الامام باتكاله الواقعي على الله وقف صلباً امام الحوادث، وما كان يقوله بأننا مأمورون بأداء التكليف وليس بتحصيل النتيجة بشكل كلي نابع من هذه الخصلة، وهذا لا يعني اننا لا نهتم بالنتيجة ولا تعنينا، بل اننا نرى النتيجة من زاوية التكليف. فنحن يجب ان نصل الى النتيجة ولو بلغ الأمر ما بلغ، ولو وصلنا الى الشهادة. فهذه الشهادة ليست نهاية المطاف، بل انها وصول الى نتيجة، لأن البعض يضع التكليف والنتيجة في مقابل بعضهما... لا.. نحن يجب ان نصل الى النتيجة ولو بلغ الأمر ما بلغ.. في الواقع هنا يوجد رؤية تكليفية.. يعني لا يمكن ان نقول مثلاً نصل الى النتيجة ولو تم خفض وتقليل البعد التكليفي.. قد لا نرى النتيجة في زمان خاص، الامام يقول نحن ننجز تكليفنا والاجيال القادمة تواصل وتصل، هذا هو العمل في سبيل الله، وهذه نقطة بارزة في شخصية الامام.

 

______________________

 

 ـ الدكتور عماد افروغ/ استاذ علم اجتماع سياسي ـ 45 سنة ـ مواليد شيراز.

 

 ـ مدرس في جامعات  طهران، تبريز، قم المقدسة، كلية باقر العلوم، مركز الامام الخميني.

 

 ـ مشاركة في الكتابة في أبرز الصحف الايرانية والمؤتمرات والمحاضرات.

 

ـ أهم كتبه:

 

 ـ نظرة دينية واقتصادية بأهم المفاهيم السياسية.

 

 ـ علم الثقافة والحقوق الثقافية.

 

 ـ تحديات ايران المعاصرة.

 

 ـ الهوية الايرانية.

 

 ـ النهضة الأخرى..

 

 وترجمة كتاب: القدرة لاستيفن لوكس.

 

 كان يتابع دراسته في بريطانيا سنة 1976 وبعد انتصار الثورة اعتقل ليضرب عن الطعام لأشهر ثم يرحّل الى ايران.

 

 شارك مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية في قتال العدو الاسرائيلي في جنوب لبنان قبل تغييب الامام السيد موسى الصدر.