حوار: ايفا علوية ناصر الدين

 

إنَّ كل مجتمع، ولدوام استمراريته، ينشد بناء حضارة تخدم مستقبل الإنسان، ويؤسس لذلك رؤية ومنهج حياة. وهذا ما أنجزته الجمهورية الإسلامية في إيران كأمة لديها رؤية واضحة ومتينة لمستقبل الإنسان الحضاري.‏

 

عن هذه الرؤية وعن الخطوات الذي تسير على أساسها الجمهورية الإسلامية كان محور اللقاء الذي جمعنا بعضو مجلس خبراء قيادة الثورة وعضو مجلس صيانة الدستور آية الله الشيخ عباس الكعبي.‏

 

* مبادئ المشروع‏

 

- ما هو المشروع الحضاري الإنساني الذي تتبنّاه الجمهورية الإسلامية وما هي مبادِئه؟‏

 

المشروع الحضاري الإنساني الذي تتبناه الجمهورية الإسلامية وتسعى إلى تحقيقه يتبلور في مجموعة المبادئ العامة التي يقوم عليها الدّستور وهي:‏

 

أولاً: إنّ السيادة المطلقة لله الواحد القهار.‏

 

ثانياً: إنّ سلطة الشعب مستمدة من الخلافة الإلهية، بمعنى أنّ السلطة في الإسلام تستمد شرعيتها من الله تبارك وتعالى، لكنّ الشعب هو الذي ينتج ويصنع السلطة.‏

 

ثالثاً:الربط بين الولاية الإلهية والأمانة الشرعية، بمعنى أن السّلطة أمانة، كما يقول أمير المؤمنين(ع): «إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة».‏

 

رابعاً: المواءمة بين العدالة والمصالح العليا.‏

 

خامساً: بناء الدولة.وهذا المشروع الحضاري الإنساني على أساس الشورى والخبرة بالجمع بين الاثنين، أي عندما نتحدث عن مبدأ الشورى في الإسلام نلتفت إلى أنّ هذه الشورى تقوم على أساس الخبرة والتخصص.‏

 

سادساً: المساواة بين كافة الطبقات.‏

 

سابعاً: الأخوّة الإسلامية.‏

 

ثامناً: الوحدة الإسلامية ونبذ الفرقة.‏

 

تاسعاً: المشاركة الجماهيرية في إدارة البلاد، والتّعاون على البرّ والتقوى.‏

 

عاشراً: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.‏

 

- يتبادر إلى الأذهان هنا سؤال مهمّ عن ماهيّة أسلوب أو نظرية الحكم الإسلامي في هذا المشروع.‏

 

إنّ أسلوب الحكم في الإسلام يتلخص في أن لا تُبنى الحكومة على الطبقية أو على السلطة الفردية أو الجماعيّة، بل إنّ على الحكومة أن تجسّد الأهداف السياسية لشعبٍ متّحد في دينه وتفكيره حيث يقوم بتنظيم نفسه حتى يستطيع من خلال التغيير الفكري والعقائدي أن يسلك طريقه نحو هدفه النهائي، وهو الحركة إلى الله.‏

 

* في ضوء القرآن والسنّة‏

 

- من أين تستمد التشريعات والقوانين بنودها؟‏

 

تستمدها من التشريع الإلهي حيث يجب أن يتم ذلك على ضوء القرآن والسنة، فهي ليست من صنع الحاكم وليست من خيار الشعب. ففي الأنظمة الاستبدادية، القانون من صنع الحاكم، وفي الأنظمة الديمقراطية يدّعون أن القانون هو من صنع الشعب. ولكن في الدولة الإسلامية وفي هذا المشروع الحضاري، النظام القانوني ينبثق من إرادة الله التشريعية الحاكمة. والتشريع ينظّم العلاقات المتبادلة، فهناك واجبات وحقوق، وهذه نقطة مهمة أيضاً.‏

 

- هل سعت الجمهورية الإسلامية في إيران إلى تعميم هذا المشروع وهي التي لطالما نادت بالأمة الإسلامية الواحدة؟‏

 

نعم، يلحظ الدستور أهمية ومسؤولية العمل لبناء الأمة الواحدة في العالم {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة، والمضطهدة. ولذلك فإن بناء الأمة الإسلامية في المشروع الحضاري للدولة الإسلامية، في الواقع، يتبنّاه دستور الجمهورية الإسلامية. كما أنّ هناك مواد دستورية خاصة، سعت لتنفيذ هذا البند.‏

 

دولة الديمقراطية الواقعية‏

 

- كيف تتجلى الديمقراطية والخلاص من الاستبداد في هذا المشروع الإنساني؟‏

 

إنّ الدستور يضمن زوال كل نوع من أنواع الدّكتاتورية الفكريّة والاجتماعيّة، والاحتكار الاقتصادي ويسعى للخلاص من النظام الاستبدادي ومنح الشعب حق تقرير مصيره بنفسه، ويرفع عنهم الأغلال التي كانت عليهم. وهذا ما كان ركيزة العمل في العقود الثلاثة الماضية؛ فقد عُرفت الجمهورية الإٍسلامية في إيران بدولة الانتخابات في كل سنة، وبدولة الديمقراطية الواقعية التي تتجلى من خلال ممارسة الحكم على ضوء المبادئ الإسلامية.‏

 

- كيف يُنظر للموظف في الدولة وعلى أي أساس يتم التعامل معه؟‏

 

في هذا المشروع الحضاري الإنساني، الذي تتبناه الجمهورية الإسلامية على ضوء الفكر الإسلامي نظرياً وتطبيقياً، الموظف في الحكومة هو العبد الصالح لأن الحكم وإدارة شؤون البلاد ينبغي أن تكون بيد الأشخاص الصالحين }أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{ (الأنبياء: 105) فلا تنظر الدولة الإسلامية إلى الموظف في الحكومة كشخص يُسيّر عملاً, بل إنه عبدٌ لله صالحٌ يعمل مخلصاً لله من أجل تلبية الأمور العامة على أساس الوظيفة والمسؤولية الشرعية.‏

 

* الهدف الأكبر‏

 

- ما هي أهداف المشروع الحضاري الإنساني الذي نتحدث عنه؟‏

 

إنّ الهدف من إقامة الحكومة والدولة الإسلامية، كما قلنا، هو تحقيق مشروع حضاري إنساني يهدف إلى هداية الإنسان للسير نحو النظام الإلهي {وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. هناك أهداف للدول والحكومات مثل الرفاهية والعيش الهانئ، وهذه كلّها مقدمات للوصول لهدف أكبر وهو تحقيق العدل. وتحقيق العدل والقسط في حد نفسه هو هدف متوسط لتحقيق هدف أكبر هو هداية الإنسان إلى عبادة الله والوصول به وبالمجتمع إلى الكمال وذلك يتم من خلال تنمية المكارم والفضائل الأخلاقية لدى الإنسان. ولكي نهيّئ الظرف المناسب لظهور المواهب وتفتّحها في سبيل نموّ الأخلاق الإلهية في الإنسان، نحتاج إلى مجتمع إنساني يقوم على أساس العقل والحكمة والحريَّة، والفضيلة الأخلاقيَّة والعدالة.‏

 

- كيف يتم العمل على تحقيق هذا الهدف؟‏

 

يتم ذلك من خلال الإعداد لحكومة المستضعفين. حيث يقوم الدستور بإعداد الظروف اللازمة للمشاركة الفعّالة والشاملة من قبل جميع أفراد المجتمع في مسيرة التطوّر الاجتماعي وجميع مراحل اتخاذ القرارات السياسية والمصيرية وذلك ليصبح كل فرد في مسيرة تكامل الإنسان هو بذاته مسؤولاً ومباشراً لنمو القيادة ونضجها وهكذا تتحقق حكومة المستضعفين في الأرض {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} بمعنى أنّ من مهمات الأجهزة والمؤسســـات الـــدستورية في مشروع بناء الدولة الإسلامية لصنع حضارة إنسانية أن يتكامل دور الفرد ويرقى من إنسان عادي طبيعي إلى مستوى النخبة وأن يتحوّل إلى فرد يشعر بمسؤوليته في المجتمع ويسعى لتطوير مواهبه وقدراته، ويرى نفسه هو المسؤول عن قاعدة «كلّكم مسؤول عن رعيته».‏

 

* دولة ولاية الفقيه‏

 

- أين موقع ودور ولاية الفقيه ضمن إطار هذا المشروع الحضاري الإنساني؟‏

 

تقول المادة الخامسة من دستور الجمهورية الإسلامية: في زمن غيبة الإمام المهدي(عج) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير. إذاً عندما نتحدث عن ولاية الفقيه في هذه المنظومة، فإنّنا في الواقع نتحدث عن الدولة التي يرأسها الفقيه العادل وعن الدولة التي تهدف إلى صنع حضارة إنسانية. ومن هنا ننظر إلى دولة ولاية الفقيه على أنها دولة حضارية إنسانية.‏

 

* صلاح الإنسان والمجتمع‏

 

- ما هي مقوّمات المنظومــة العقائدية والإيديولوجية التي يقوم عليها المشروع الحضاري الإنساني؟‏

 

عندما نتحدث عن الدولة الإسلامية نقول إنها دولة إيديولوجية لكنها ليست بمعنى الإيديولوجيات الشمولية التي عرفها الإنسان المعاصر وهي ليست إيديولوجية السلطة أيضاً بل إنها إيديولوجية القرب من الله. وهذا ما يجعل الدولة الإسلامية دولة عقائدية، وأخلاقية وإنسانية، واجتماعية تبني صلاح الإنسان والمجتمع.‏

 

لذلك في هذا الصدد، تقول المادة الثانية من الدستور أنّ نظام الجمهورية الإسلامية يقوم على:‏

 

1ـ الإيمان بالله الأحد «لا إله إلّا الله» وتفرّدهِ بالحاكمية والتشريع ولزوم التّسليم لأمره.‏

 

2ـ الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بناء القوانين.‏

 

3ـ الإيمان بالمعاد ودوره الخلّاق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله. وتكمن أهمية المعاد في السير إلى الله عزّ وجلّ {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}.‏

 

4ـ الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام، ثورة الأنبياء والأوصياء والأولياء(ع).‏

 

5ـ الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله.‏

 

- هل هذه هي مواصفات الإنسان في المشروع الحضاري؟‏

 

نعم إنّ مشروع بناء الدولة الإسلامية هو مشروع حضاري إنساني لأن إنسان الحضارة الإسلامية يتمتع بكرامة ذاتية، بالحرية، بالمسؤولية وبعبادة الله تبارك وتعالى.‏

 

إنسان الحضارة الإسلامية هو إنسان عاقلٌ، عالمٌ، واعٍ، متفكر، حُرٌّ، عادلٌ، كريمٌ ينطلق في جميع مساحات الحياة من خلال نظام يؤمّن القسط والعدالة والاستقلال السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، والثقافي.‏

 

* بين مشروعين‏

 

- أي علاقة تربط هذا المشروع الحضاري بالحضـارة الغربية القائمة اليوم؟‏

 

عندما نتحدث عن بناء الدولة الإسلامية وصنع مشروع حضاري إنساني قد يسأل السائل كيف تريدون أن تتجاوزوا الحضارة الغربية الآن وهي التي خطت خطوات كبيرة جداً في مجال التقنية والصناعة والتي لها مقومات كالبناء والإعمار والتقدم في المجال الصناعي والاقتصادي والمادي؟ في الجواب نأتي إلى الحديث عن:‏

 

أولاً:التوليف بين الدين والتنمية بمعنى أنه في مسيرتنا لبناء الدولة الإسلامية ولصنع مشروع حضاري إنساني نحن نوظّف المنظومة الدينية عن طريق آلية الاجتهاد المستمرّ لفقهاء الأمة على ضوء الكتاب والسنة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} يعني الوصول إلى أقوَم النتائج والأفكار، وأقوَم الحضارات في جميع المجالات.‏

 

ثانياً: الاستفادة من التجارب البشرية والتقنية الحديثة وتكامل هذه التجربة البشرية والمضي بها قدماً خطوة إلى الأمام يعني إضافة تجربة إلى التجارب البشرية فنحن لا ندير ظهورنا إلى التجارب البشرية ولا نهدم، كما يتهمنا الغرب، من أجل أن نبني من جديد, بل نستفيد من التجارب والحضارة البشرية، ونأخذ بالصورة الحضارية الإعمارية، والصناعية، والتقنية ونعطيها مضموناً إنسانياً حقيقياً، يعني المضمون عندنا يرتكز على الإنسانيات وعلى الحقائق الإلهيّة والربانيّة التي تضمن تكامل الإنسان.‏