أحزان يوسف!

 

* كثيراً ما تقدم لنا الحياة قصصاً عظيمة كتبتها الأقدار بيد ماهرة لا تستطيع أن تطاولها يد الأديب في مفارقاتها العجيبة فيما تقدمه من كشف لأغوار النفس الإنسانية، فمنذ أيام نشرت أجهزة الإعلام في العالم أخبار السيارة الملغومة التي فجرها اثنان من الشباب الفلسطيني بإحدى أسواق مدينة القدس دون أن تدرك هذه الأجهزة ما خطته الأقدار بهذه الواقعة من رواية إنسانية مؤثرة غابت عنا جميعاً تقدم ما هو وراء الحدث السياسي من دوافع إنسانية وعسوامل اجتماعية تعتمل داخل النفس البشرية لأبطال ذلك الحدث.

 

كان صباحاً مشرقاً كغيره في هذا الوقت من السنة، فشهر نوفمبر هو دائماً أفضل أشهر الخريف في مدينة القدس العتيقة… أيامه تبدأ بطقس لطيف نفض عن نفسه حرارة الصيف… وتنتهي بمداعبة الشتاء قبل أن يحل ببرودته القارسة التي تستمر طوال الأشهر الثلاثة التالية:

 

كان اليوم هو يوم الجمعة ولم تكن جدة يوسف تتوقع أن يصحو من نومه مبكراً، لقد كانت هي التي توقظه كل صباح ليذهب إلى محل بيع الخضروات الذي كان يعمل به، أما في أيام الجمع فكانت تتركه إلى أن يصحو بمفرده وعادة ما كان ذلك قبيل صلاة الجمعة حيث كان يغتسل، ويأخذ رشفة أو رشفتين من كوب الشاي الذي أعدته له جدته، ثم يقبلها على جبينها ويخرج مسرعاً إلى الجامع تاركاً إفطاره كما هو.

 

أما في هذا الصباح فقد فوجئت الجدة العجوز بيوسف واقفاً أمامها يقول لها وعلى وجهه ابتسامته المحببة التي لم تفارقه منذ ولدته أمه قبل 21 عاماً: صباح الخير…

 

وتذكرت الجدة ذلك الصباح حين وضعت بنتها مولودها الثالث، كان صباحاً مثل هذا الصباح، كان الجو لطيفاً، وكذلك كانت الولادة، لم تعان الأم كما عانت في ولادة علي ثم سميح… كانت الجدة هي التي رأت وجه المولود لأول مرة وهي التي أعطته اسمه… سألتها ابنتها وعلى وجهها علامات الارتياح الذي يجئ بعد الاعياء: أهو ولد أم بنت؟ فقالت الجدة: إنه يوسف! فأغمضت الأم عينيها وذهبت في نوم عميق.

 

كان يوسف قد أمضى ليلته السابقة يقرأ القرآن في غرفته حتى ما بعد منتصف الليل، وكانت جدته التي لا تقرأ ولا تكتب، كثيراً ما تأتي إليه بالمصحف وتطلب منه أن يقرأ لها قليلاً، كان صوته جميلاً مثل وجهه وكان يدخل إلى نفسها شعوره بالارتياح والطمأنينة، ولكنه في تلك الليلة كان يقرأ القرآن لنفسه في غرفته المغلقة عليه، وبعد منتصف الليل بقليل أطفأ النور وحل بالغرفة السكوت، ودعت الجدة الله أن يوفق يوسف ابن فاطمة في هذا الحياة الصعبة، فقد كان هو كل ما تبقى لها بعد رحيل ابنتها قبل عشر سنوات وزواج علي الابن الأكبر ورحيل سميح إلى خارج فلسطين بعد أن ضاق عليه الخناق تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يكن لينتهي.

 

قالت الجدة: لقد أعددت لك «البليلة» التي تحبها، سآتيك بها وهي ساخنة، فقال لها: شكراً يا جدتي لكني اليوم صائم، قالت: إذن سأبقيها لإفطارك في المغرب، فابتسم يوسف دون أن يرد، وقبل جدته ليس على جبينها كما كانت عادته وإنما أيضاً على وجنتيها ثم ضمها إلى صدره بقوة وانطلق إلى خارج البيت.

 

وجلست الجدة مكانها وقد تجمعت في عينها دمعات صغيرة لم تنهمر، وتذكرت فجأة ذلك الحلم الذي جاءها الليلة السابقة، والذي كانت قد نسيته وحاولت أن تستعيد تفاصيله... لكنها لم تتذكر إلا أن الحلم كان يدور حول (عرس) يوسف وكانت أمه تنثر حوله الزهور وسط زغاريد النساء… من الخارج سمعت صوت محرك السيارة التي كان يوسف يحاول تشغيلها فانقطع فجأة خيط الحلم… أرادت أن تخرج إلى يوسف لتنصحه بعدم سواقة هذه السيارة التي أتى بها البارحة. مادام لم يحصل على رخصة قيادته بعد، لكنه كان قد انطلق بالسيارة إلى حيث لا تعرف، فاكتفت برفع يديها إلى السماء داعية أن يعيده الله إليها سالماً، فلم يكن هناك أمان لأي شاب في فلسطين منذ حل بهم هذا البلاء الذي لم تستطع الحروب ولا المفاوضات ولا القوى الكبرى إزاحته عن صدورهم.

 

كان يوسف يجيد القيادة لكنه لم يكن قد استخرج رخصة قيادة بعد، فلم يكن قد مضى على خروجه من السجن إلا بضعة أشهر وحين دخل كان مازال دون السن، لكنه كان ينوي استخراج الرخصة وقد سمعته يتفق منذ  أيام مع أحد أصدقائه على اصطحابه لاستخراج الرخصة، لكن ذلك كله لم يكن يجدي أمام غطرسة الجنود الإسرائيليين الذين ما أن يجدوا أي سبب لتعذيب الشباب حتى ينقضوا عليه ليحيوا حياتهم إلى جحيم لا يطاق.

 

خمسون عاماً قضتها الجدة العجوز تعانى من هذا الاحتلال، وترفض رغم كل المعاناة أن تترك بيتها الذي ولدت به وتزوجت به وستموت به حين يوافيها الأجل، لكنها كانت الآن وحيدة إلا من يوسف الذي كبر وأصبح الآن شاباً يافعاً وأصبح الوقت يقضيه بالسجون أكثر مما يقضيه بهذا البيت العتيق.

 

لم يكن يوسف قد أتم عامه الخامس عشر حين دخول السجون الإسرائيلية لأول مرة، مكافأة له على مقاومة الاحتلال عن طريق قذف سيارات الجنود الإسرائيليين بالحجارة، عندئذ انقطع يوسف لأول مرة عن دراسته التي كان متقدماً فيها مما ملأ جدته أملاً في أن يستمر في الدراسة إلى أن يصبح طبيباً أو مهندساً في عالم آخر سيجيء بعد التحرير، يكون أكثر جمالاً من هذه الحياة القبيحة التي أصبحوا يعيشونها.!! لكن الآمال مجالها الأحلام والواقع يظل واقعاً كما هو.

 

وانفصلت الجدة عن حفيدها الأصغر لأول مرة ودام الانفصال ستة شهور كاملة، مرت عليها وكأنها ست سنوات، كانت والدته قد توفيت قبل أربع سنوات أحس خلالها الجدة بمسؤولية كبيرة تجاه يوسف فها هو الآن قد انتزع من صدرها وقذف به في السجون وهو مازال صبياً. وحين خرج يوسف من السجن لم يكن قد تغير، كان مازال محتفظاً بنضارته وابتسامته التي ولد بها في أحد أيام 1977، لكن الجدة، كانت قد نفدت حدة إبصارها من البكاء فكانت تتحرك داخل البيت معتمدة على ذاكرتها وبمعرفتها المسبقة تستطيع السير دون أن يرافقها أحد.

 

لكن قبل أقل من عامين كان يوسف مرة أخرى داخل السجن، وفي هذه المرة تعرف يوسف على آلة التعذيب الإسرائيلية، وتعرف أيضاً على الجهاد والشهادة، كان يسمع في الليل صرخات المعتقلين وهي تمزق صمت الظلام الدامس داخل عنبر السجن، وكان خلال النهار يستمع إلى أعضاء جماعة الجهاد وحماس المعتقلين معه وهم يلقنونه أصول الشهادة في سبيل الله ثم الوطن، وما بين هذا وذاك لم يكن هناك طريق ثالث… كان العالم الخارجي قد توارى بالتدريج ولم يبق أمام يوسف إلا حقيقة واحدة هي الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على أنفاس الشعب الفلسطيني الذي كان متجسداً أمام يوسف في كل لحظة من لحظات وجوده داخل السجن، ولم يعد يدور في ذهنه إلا سؤال واحد: ما العمل؟!! وكيف يكون الإخلاص؟!! وفي بحثه هذا لم يكن هناك مجال للحديث عن المفاوضات أو اتفاق أوسلو أو السلام، فتلك كانت كلها أشياء يقرأ عنها في الصحف أما داخل السجن فلم يكن هناك إلا حقيقة واحدة هي الاحتلال الإسرائيلي الذي يصحو عليه ويبيت فيه.

 

وهذه المرة لم يخرج يوسف بعد ستة شهور كما حدث في فترة سجنه الأولى فقد مرت الشهور وصارت سنين وهو مازال في سجنه… أربع (سنوات) قضاها يوسف داخل أسوار واحد من أقذر السجون الإسرائيلية، دخله وهو في سن الـ 17 وخرج منه، وهو يقترب من سن الرشد، تغير الصبي وصار شابا ثائرا يحمل داخل جسده الهزيل مأساة شعبه التي امتدت نصف قرن من الزمان.

 

ومع ذلك حين خرج يوسف من السجن كان وجهه مازال مبتسماً لكن نفسيته كان قد حل بها الحزن المقيم، أما جدته فقد فقدت بصرها تماما، وأصابها الهزال فأصبحت تعتمد على جيرانها في قضاء حاجاتها.

 

وصل يوسف بسيارته «الفيات» الحمراء القديمة إلى بيت سليمان في الموعد المحدد وساعده في ركوب السيارة إلى جانبه، فقد كان سليمان قد فقد إحدى ساقيه بعد أن أصيب فيها برصاص الجنود الإسرائيليين واضطر إلى بترها تماماً، لذلك كان يعتمد في سيره على عكازين لا يستطيع التخلي عنهما، كان سليمان هو ابن عم يوسف وكان يكبره بعدة سنوات، لكن العلاقة بينهما كانت نتاجا للسنوات التي قضياها معا في السجن، فقبل السجن لم يكن يوسف يعرف سليمان جيدا فهو يقطن قرية قريبة من مدينة جنين بالضفة ولم يكن يأتي كثيراً إلى القدس.

 

اتجه يوسف وبصحبته سليمان إلى المسجد وترك السيارة في شارع جانبي، وساعد سليمان على النزول منها واتجها معا إلى المسجد فصليا صلاة الجمعة كما كانا يفعلان كل أسبوع، وما أن انتهت الصلاة حتى عادا إلى السيارة وانطلقا بها إلى مصيرهما الذي خططا له سويا داخل السجن، وما هي إلا لحظات حتى ارتجت أرجاء السوق الكبيرة بالقدس بدويّ انفجار هائل وصل إلى أسماع الجدة وهي وحيدة بالمنزل، وبعد دقائق كانت أجهزة الإعلام تذيع أخبار السيارة الحمراء الملغومة التي انفجرت في السوق، والشابين اللذين كانا بها وتفاصيل الإصابات التي لحقت بـ24 شخصا كانوا على مقربة منها.

 

ودق أحد الرجال باب الجدة وحين فتحت له لم تتعرف عليه ليس بسبب ضعف نظرها، فقد كانت عادة ما تستطيع تبين شخصية الموجود أمامها من صوته، ولكن لأنه كان غريبا تماماً عليها، وسألها الرجل بسرعة: أين يوسف؟ ودون أن تجبه سألته هي بدورها: لماذا؟ ماذا هناك؟ قال لاشيء ولكن أين السيارة؟ قالت أي سيارة؟ قال: السيارة "الفيات" الحمراء، لقد اشتراها مني بالأمس فقط وقد سمعت اليوم أن هناك سيارة مماثلة قد انفجرت في السوق.

 

وسقطت الجدة على الأرض مغشيا عليها، فتجمع الجيران حولها محاولين إسعافها، وحين عادت إلى وعيها قالت لهم: ألم أقل لكم إن يوسف لا يمكن أن يسرق؟ وكان الجيران قد سألوا يوسف في اليوم السابق من أين أتى بهذه السيارة، ولكنه يصمت ولا يجيب، ومن ثم تصور البعض أنها سيارة مسروقة، لكن ها هو الرجل الذي باعها قد جاء بنفسه وكأنه كان يقصد إبراء ذمة يوسف من هذه التهمة.

 

وذاع خبر العملية الاستشهادية التي قام بها يوسف مع قريبه سليمان في سوق المدينة وتعرفت السلطات على شخصيتهما، وهرع شقيقاه على وسميح إلى جدتهما ليكونا إلى جانبها ولإعداد ترتيبات تلقى التعزية، لكنهما حين دخلا غرفته وجدا بها ورقة صغيرة إلى جانب المصحف الذي كان يقرأ فيه الليلة السابقة، وكانت بها الكلمات التالية «ولا تهنوا ولا تحزنوا… ولتكن دموعكم هي دموع الفرح، فقد نلت الشهادة وصرت الآن في الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين».

 

في التعزية لم تقدم القهوة للمعزين، بل الحلوى والعصائر والشربات.