إلى اي مدى يحيد المرء عن الصواب حين يتصور ان العظماء لا يتركون بعد رحيلهم سوى الانجازات العظيمة والآثار الحميدة التي تصبح بمرور الزمان موضع اكبار وتبجيل الاجيال المتلاحقة.. فيشقون طريقهم نحو الخلود، على اعتبار ان حياتهم كانت سلسلة من العطاءات والانجازات الفياضة التي تثري المسيرة الإنسانية، وتجدد فيها الحياة ردحاً من الزمن.. وعند رحيلهم .. تبقى منهم الذكرى الصالحة والمآثر الجميلة، يتغنى بها الناس، كلما مرت مناسبات وفياتهم الأليمة.

ان الراحلين العظماء.. وخصوصاً أصحاب المدارس الاصلاحية والتجديدية.. ليسوا خالدين في الذكرى فحسب، بل هم يعيشون مع الناس من خلال تعاليمهم وأفكارهم المنتشرة في أوساط المجتمع، والمغروسة في قلب كل فرد من أفراد الأمة.

وما الشهيد الاستاذ مطهري ... إلاّ واحد من هؤلاء الأفذاذ الذين واصلوا الحياة بعد الممات... وأضحت أفكاره الثرة رافداً، يغذي المسلمين ويسدد خطاهم، ويوجه مسيرتهم نحو الأهداف المرسومة... ويحميها من الشطط والانحراف المهلك.

والاستاذ مطهري مثلما هو خالد في الضمير كذلك أفكاره وتعاليمه، فقد شكلت مدرسة متميزة، ستواكب الثورة والجماهير حتى يعم الإسلام أرجاء المعمورة.

المولد والنسب

ولد الشهيد آية الله مرتضى مطهري في 12 جمادى الثانية من عام 1338 هـ ق في مدينة فريمان بمحافظة خراسان، من عائلة علمائية.

فأبوه المرحوم الشيخ محمد حسين مطهري، درس العلوم الدينية في النجف الأشرف، وبعد فترة من الإقامة في العراق والحجاز ومصر عاد إلى فريمان وتوطن هناك وقضى عمره في ترويج الدين وإرشاد الناس. كان عالماً وزاهداً ومخلصاً وتقياً، وبلغ مقامات معنوية رفيعة. توفي عام 1349هـ ش عن عمر يناهز المائة عام.

وكان لزهد وتقوى والده دوراً رئيساً في بلورة الشخصية المعنوية للشهيد، وقد تفضل عليه الباري تعالى بهذا الولد البار جزاءً لإخلاصه وتقواه.

يقول الشهيد مطهري في مقدمة كتابه (قصص الأبرار) بهذا الصدد:

"أهدي هذا الأثر الزهيد إلى والدي العزيز الحاج الشيخ محمد حسين مطهري (دامت بركاته) والذي كان أول من أرشدني إلى طريق الصواب بإيمانه وتقواه وعمله الصالح".

والذي يستفاد من خلال القرائن والشواهد أن الشهيد مطهري كان تحت الرعاية الإلهية حتى قبل ولادته، تقول أمّه بهذا الصدد:

"عندما كنت حاملاً في الشهر السابع، رأيت في المنام أنني جالسة وسط النساء في مسجد فريمان الواقع في الحيّ، فدخلت امرأة مجلّلة ومقدسة المسجد، تتبعها امرأتان، وكانت في أيديهن ماء الورد يرشن على النسوة، وعندما وصلن أليّ رشن ماء الورد على رأسي ثلاث مرات، فقلقت خوفاً من أنني قصرت في أداء واجباتي الدينية، فسألتهن: لماذا رشيتن ماء الورد على رأسي ثلاث مرات، فقلن: لأجل الولد الذي تحملينه. إنه سوف يقدم خدمات عظيمة للإسلام".

كما أن آثار التدين كانت بادية عليه منذ نعومة أظفاره، تقول أمّه في هذا الخصوص:

"كان في الثالثة من عمره يذهب أحياناً إلى احدى الغرف ويغلق الباب على نفسه ويقف يصلّي".

كما ينقل أنه كان يبدي اشتياقاً شديداً وهو في الخامسة من عمره للذهاب إلى الكتّاب، وفي إحدى الليالي وقريب الفجر، تصور هذا الطفل أنه الصباح، فأخذ دفتره وكتابه متوجهاً إلى الكتّاب، وبما أن محل الكتّاب كان مغلقاً انتظر خلف الباب فغلب عليه النوم. وفي الصباح عندما يستيقظ والداه فلا يجدانه، وبعد البحث عنه يجدانه نائماً خلف دار الكتّاب.

الدراسة

بدأ الشهيد مطهري دراسة العلوم الدينية في سن العاشرة. وفي عام 1312هـ ش توجّه إلى مشهد لإكمال دروسه الدينية. وبعد عامين أقدم رضا خان على إغلاق المدارس الدينية، فعاد الشهيد إلى مسقط رأسه وواصل دراسته الحرّة لمدة سنتين. ينقل عنه أنه كان يقول: " إن كل ما لدي من مطالعات تاريخية، تعود إلى السنتين اللتين رجعت فيهما من مشهد إلى فريمان".

وقد شاهد الشهيد مطهري عام 1314هـ ش ملحمة مسجد كوهرشاد بمشهد. ففي عهد كبت رضا خان علت الصيحات واحتجاجات الناس بزعامة مراجع الدين ضد ممارسات رضا خان ومن جملتها كشف الحجاب، وكان المنطلق مسجد كوهرشاد، إلاّ أنها قمعت بشدة من قبل رضا خان وارتكبت مجازر رهيبة. هذا الحدث السياسي ترك أثراً كبيراً على الأفكار الجهادية للشهيد.

وقد بدأ الشهيد بالبحث والدقة منذ الأيام الأولى لتلقّيه العلوم الدينية، وذلك بغية الحصول على إجابات واضحة ووافية حول موضوع (معرفة الله). يقول الشهيد بهذا الصدد:

"بمقدار ما أتذكر عن تحولاتي الروحية، فقد وجد هذا القلق طريقه إلى نفسي منذ الثالثة عشر من عمري، وأبديت حساسية عجيبة تجاه المسائل المختلفة المتعلقة بالله، وكانت تهاجم فكري أسئلة الواحد تلو الآخر، طبعاً ما يتناسب مع مستواي الفكري آنذاك.

وفي السنين الأولى من مهاجرتي إلى قم، وعندما لم أكن قد أنهيت المقدمات العربية بعد، كنت غارقاً في هذه الأفكار بصورة بحيث خلقت في نفسي الرغبة إلى العزلة، فلم أكن أحتمل زميلي في الغرفة، وحوّلت غرفتي الجيدة في الطابق العلوي إلى غرفة كالتابوت لأكون وحيداً مع أفكاري. في ذلك الوقت لم أكن أرغب في ساعات الفراغ من الدرس والمباحثة، بالتفكير في موضوع آخر غير هذا. وفي الحقيقة كنت أعتبر التفكير في أي موضوع آخر عبثاً ومضيعة للوقت، أكثر من أن يحلّ مشاكلي في هذه القضايا. وكنت أتعلّم المقدمات العربية والفقهية والأصولية والمنطقية من أجل إعداد نفسي لدراسة وبحث أفكار الفلاسفة الكبار. وأتذكر أنني منذ دراستي وتعلمي القواعد العربية في مشهد، كنت أتصور الفلاسفة والعرفاء والمتكلمون ـ وإن كنت غير مطلع على أفكارهم ـ أعظم من سائر العلماء والمفكرين والمخترعين والمكتشفين، لهذا الدليل فقط وهو أنني كنت أعتبر هؤلاء أبطال ميدان هذه الأفكار. وأتذكر جيداً في تلك السنين وكان عمري بين (13 ـ 15) سنة، كنت أعظّم من بين جميع العلماء والفضلاء والمدرسين في حوزة مشهد، المرحوم آقا ميرزا مهدي شهيدي رضوي مدرس الفلسفة الإلهية في تلك الحوزة، وكنت أرغب في أن أنظر إلى وجهه وأجلس وأراقب حركاته، وأتمنى أن أحضر يوماً ما درسه. إلاّ أن تلك الأمنية لم تتحقق لأنه توفى في تلك السنوات (1355هـ ق).

الهجرة إلى قم

في عام 1340هـ ق (1300هـ ش) هاجر المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري إلى قم، وبدأت مرحلة جديدة من حياة الحوزة العلمية بقم. توفي الشيخ الحائري عام 1355هـ ق (1315هـ ش)، وانتقلت زعامة الحوزة إلى الآيات العظام السيد محمد حجت، والسيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخوانساري.

ورغم وجود العلماء الكبار في الحوزة العلمية بمشهد، إلى أن صيت قم قد ذاع في الآفاق، مما جعل الشهيد مطهري يهاجر إليها، هذا في وقت كانت قد بلغت فيه محاربة رضا خان للحوزات العلمية أوجها، والعلماء معرضون لأشد الضغوط. ومن جانب آخر كان أقارب وأصدقاء الشهيد يعارضون ذهابه إلى الحوزة العلمية بقم. يقول الشهيد بهذا الصدد:

"كنت صغيراً في الأعوام (1314 ـ 1315هـ ش) أعيش في خراسان، ولو تذكر أحد الأوضاع آنذاك خصوصاً في خراسان بعد تلك الأحداث التي جرت فإنه لم يكن يوجد في كل خراسان سوى اثنين أو ثلاثة معمّمين لا أكثر، وأجبر المسنّون والملالي الكبار والمجتهدون والمدرسون على لبس القبعات، وأغلقت جميع المدارس الدينية، والمساجد وإن كانت بمعنى آخر، ولم يكن يصدق أحد بإحياء الدين والمذهب مرة أخرى

في تلك الفترة التي كنت بين (15 ـ 16 عاماً)، كنت أفكر في كل شيء لكني لم أكن أرضى إلاّ بتحصيل العلوم الدينية، ولم أكن أفكر حينها ـ في تلك الأوضاع والأحوال ـ في تفكيري هذا!

كان عمري خمسة عشر عاماً حين ذهبت إلى مشهد، ثم عدت إلى مدينتي، وكانت الأوضاع هنا أسوء من أماكن أخرى، فوالدي الذي كان في الثمانين من عمره، أخذوه بالقوة وألبسوه القبعة, لكنه عاد إلى البيت من فوق السطح، ولأنه كان يلبس زي العلماء فلم يكن يخرج من البيت. إلاّ إنني كنت مصرّاً على الذهاب إلى قم.

في ذلك الوقت كان في قم عدد قليل من الطلبة في حدود الأربعمائة، وكانت أمي تصرّ على عدم ذهابي إلى قم، لأنها كانت لديها برامج لي وتودّ بقائي في قم. لهذا أوكلت إلى خالي الذي كان عالماً أيضاً ويكبرني بين (10 ـ 20 سنة) اقناعي بعدم الذهاب.

ففي السفر الذي رافقته فيه كلما قال لي شيئاً كنت أجيبه بالرفض، وهذا دليل على حقانية الإسلام. لأنهم كانوا يقصّون بالمقص لباس كبار السن ويلبسونهم القبعات بينما يصرّ فتى يبلغ الخامسة عشر من عمره على دراسة العلوم الدينية".

هاجر الشهيد مطهري عام 1315هـ ش وهو في سن السابعة عشر إلى قم بعد ستة أشهر من وفاة آية الله الشيخ الحائري، وكانت زعامة الحوزة بيد الآيات الثلاث: الخوانساري والصدر وحجت.

درس الشهيد مطهري كفاية الأصول لدى آية الله السيد محمد داماد، والبحث الخارج لدى الآيات الثلاث. ثم استفاد من دروس الإمام الخميني (قده)، وكان يعتبر الدراسه على يد الإمام الخميني (قده) اثنا عشر عاماً ـ والذي تعدّت علاقته بالإمام حدود علاقة التلميذ بالأستاذ حيث كان الإمام يزوره في غرفته ـ ذي تأثير كبير على تبلور شخصيته. يقول الشهيد في مقدمة كتاب (الدوافع نحو المادية) بعد بيان أمنيته للمشاركة في درس المرحوم آقا ميرزا مهدي شهيدي رضوي مدرس الفلسفة الإلهية في حوزة مشهد، وعدم تحقق هذه الأمنية بسبب وفاة آقا ميرزا:

"بعد الهجرة إلى قم، وجدت ضالتي في شخصية أخرى، كنت أرى فيها دوماً المرحوم آقا ميرزا مهدي إضافة إلى ميزات أخرى. كنت أتصور أن روحي الظمأى سوف ترتوي من معين زلال هذه الشخصية، وإن كنا في بداية الهجرة إلى قم لم نفرغ بعد من المقدمات ولم نكن جديرين بالدخول في (العقليات)، لكن درس الأخلاق الذي كان يلقى يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع بواسطة محبوبي، والذي كان درساً في المعارف والسير والسلوك لا أخلاقاً بمعناه العلمي الجاف، كان يطربني. ودون أدنى مبالغة كان هذا الدرس يشدّ وجدي بحيث كنت أشعر بتأثيره الشديد حتى الاثنين والثلاثاء في الأسبوع التالي. وقد تبلور قسم مهم من شخصيتي الفكرية والروحية في هذه الدرس ثم في دروس أخرى درستها عند ذلك الأستاذ الإلهي طوال اثني عشر عاماً. وكان في الحقيقة روحاً قدسياً وإلهياً".

كان الشهيد التلميذ المبرز لآية الله العظمى البروجردي في الفقه والأصول، ولأن الشهيد كان يراه عالماً مفكراً، فقد كان يذهب في الصيف إلى بروجرد ويستفيد من محضره. كما أن هجرة آية الله العظمى البروجردي إلى قم رهين ـ إلى حد ما ـ لجهود الشهيد مطهري. يقول الشهيد في مقال تحت عنوان (مزايا وخدمات المرحوم آية الله البروجردي):

"إنني كنت أستفيد خلال الثمان سنوات الأخيرة من إقامتي في قم، والتي كان تصادف السنوات الأولى من مجيئ سماحته إلى قم، من دروسه، وحيث إنني أؤمن بأسلوب فقاهته، لهذا أعتقد بوجوب مواصلة وتكميل هذا الأسلوب".

كما أن لتلمذ الأستاذ مطهري عند العلامة الطباطبائي دور كبير في بلورة شخصيته العلمية والروحية. ورغم أن مدة دراسة الأستاذ الرسمية لدى العلامة كانت في حدود الثلاث سنوات، إلاّ أن علاقته بالمرحوم العلامة كانت مستمرة حتى استشهاده، وكان يستفيد منه حتى نهاية حياته. وعبارة "سماحة أستاذنا الأكرم العلامة الطباطبائي" لدليل على ما يكنّه الشهيد من احترام للعلامة.

أحد المقاطع الحساسة في حياة الشهيد والذي ترك أثراً بالغاً في تكوين شخصيته الروحية والمعنوية، هو تعرّفه على العالم الرباني المرحوم الحاج ميرزا علي الشيرازي (قده) عام 1320هـ ش في أصفهان. يقول الشهيد نفسه في هذا الصدد:

"يمكنني القول بجرأة إنه كان عالماً ربّانياً حقاً، لكني لا أتجرّء على القول بأني متعلم على سبيل النجاة..".

ونرى من المناسب هنا أن ننقل هذه العبارات عن زميل له في المباحثة والدراسة لمدة اثني عشر عاماً حول شخصية الشهيد:

"هاجرت عام 1320هـ ش وعمري آنذاك (19) عاماً بتشجيع من بعض الزملاء من أصفهان إلى قم، وسكنت مدرسة المرحوم الحاج ملا صادق. ثم بعد فترة شاركت في درس الكفاية باب (الأوامر) والذي كان يدرّس من قبل المرحوم آية الله الحاج سيد محمد محقق اليزدي المعروف بـ (الداماد) في المدرسة الفيضية، كان عدد الحضور لا يبلغ العشرة.

وبعد أيام طلب مني أحد الحضور والذي كان يظهر أنه أكبر مني بعدة سنوات، مباحثة الدرس. في البداية استقبلت هذا الأمر بفتور، إلاّ أنه عندما أصبحت علاقتنا قوية شيئاً فشيئاً لم نكن نقتنع بمباحثة الدرس فقط، بل تعدى ذلك إلى مناقشة مختلف المسائل الإسلامية وحتى المسائل الفلسفية والعرفانية في حدود استعدادنا.

هذا الشاب الذكي والمستعد والجاد وذو الهمة والتقي والملتزم بالآداب والسنن الإسلامية، كان المرحوم آية الله الشيخ مرتضى مطهري فريماني خراساني (أعلى الله مقامه ورفع في الخلد درجته).

نعم، كان ساكناً في المدرسة الفيضية، كما أنني انتقلت إلى المدرسة الفيضية بإصرار منه، وشيئاً فشيئاً أصبحنا متلازمين في الحياة ومصارف العيش والدروس والمباحثة والنزهة والحضور في المجالس الدينة والأخلاقية، ورغم أننا كنا في عسر وضيق مادي، إلاّ أننا كنا مستأنسين بالدرس والمباحثة والمشاركة في بعض المجالس المفيدة خصوصاً درس الأخلاق لسماحة آية الله العظمى الإمام الخميني الذي كان في عصر يومي الخميس والجمعة في المدرسة الفيضية، كما كنا نستفيد من دروس الخارج للمرحوم آية الله الداماد وآية الله حجت.

كما أننا كنا من محبّي المرحوم آية الله العظمى الحاج حسين البروجردي (طاب ثراه) والذي كان حينها ساكناً في بروجرد، وسافر المرحوم آية الله مطهري في صيف عام 1362 هجري قمري وأنا في صيف عام 1363 هجري قمري إلى بروجرد وتعرفنا على درسه ومذاقه وأخلاقه. وبعد أن قدم ذلك المرحوم في محرم عام 1364 هجري قمري بدعوة من كبار أساتذة الحوزة ومنهم آية الله العظمى الإمام الخميني إلى قم، كنا نحن الاثنان من المواظبين على حضور دروسه في الفقه والأصول، كما أننا درسنا منظومة الحكمة ثم مبحث (النفس) من كتاب الأسفار عند آية الله الخميني.

وبعد فترة وبما أن دروس المرحوم آية الله العظمى البروجردي كانت عامة ومزدحمة، وبما أننا كنا بحاجة إلى درس خاص نستطيع خلاله من مناقشة حرة مع الأستاذ، لهذا شرعنا المباحث العقلية في الأصول لدى آية الله العظمى الخميني، ومن هنا بدأت الدروس العليا لآية الله الخميني في الحوزة العلمية بقم.

وإلى جانب مباحثتنا لدروس الفقه والأصول كنا نتباحث الجلد الأول من كتاب الأسفار، كما كانت لكل واحد منا حوزة تدريسية مستقلة، وكنا نشارك ليالي الخميس والجمعة في جلسة البحث الفلسفي للعلامة الطباطبائي، وهذا الدرس أصبح فيما بعد الأساس لكتاب (أصول الفلسفة).

استمر هذا الأمر لمدة عشر سنوات، إلى أن هاجر المرحوم آية الله مطهري بسبب المشاكل ومصاعب الحياة عن الإقامة في قم، إلى طهران. والحمد لله كان تواجده في طهران مصدر فيض، وانشغل بالتدريس في الجامعة وتأليف ونشر المعارف الإسلامية خارجها، فشكر الله مساعيه الجميلة.

كان المرحوم مطهري مجتهداً وصاحب رأي في العلوم الإسلامية من قبيل التفسير والفقه وأصول الفقه وأصول الدين والفلسفة الشرقية، خصوصاً أنه لمس بدقة مسائل فلسفة صدر المتألهين الشيرازي، وكانت تأليفاته دقيقة وناضجة ومفيدة وقيمة جداً لجيل الشباب الباحثين.

وكان للمرحوم دور مؤثر في التعريف بالإسلام الأصيل وفي الكفاح بزعامة الإمام الخميني، وكان ضمن العلماء الأعلام والمثقفين الذين اعتقلوا في الخامس عشر من خرداد. وكان دائماً من أنصار الثورة الأوفياء، وكان من خصوصياته أن أجواء طهران المتلاطمة لم تلوثه، وبقي على خلوصه وصفائه وبساطته وأخلاقه ومعنويته، ويالها من فضيلة عظيمة أن لا تؤثر الأجواء سلباً على الانسان، بل يترك آثاراً ايجابية في المحيط الذي يعيشه. كما أن من خصوصيات المرحوم هي الالتزام والعلاقة المفرطة للذكر والدعاء والتهجد (رزقني الله إن شاء وإياكم).

أتذكر عندما تعرفت عليه، كان ملتزماً بصلاة الليل وكان يحثني على ذلك، غير إنني كنت أتهرب من الصلاة بذريعة أن ماء البركة مالح أو وسخ ومضر لعيني. وفي ذات ليلة رأيت في المنام أنني نائم وإذا برجل يوقظني ويقول إنني عثمان بن حنيف ممثل أمير المؤمنين (ع)، والإمام يأمرك بأن تستيقظ وتصلّي صلاة الليل، وهذه الرسالة أيضاً بعثها إليك. تلك الرسالة الصغيرة كتب فيها بخط أخضر فاتح: "هذه برائة من النار". في عالم الرؤيا كنت جالساً حيراناً، وإذا بالشهيد مطهري يوقظني وهو يحمل وعاء ماء، وقال: هذا الماء قد أحضرته من النهر. قم وصلّ الليل ولا تتذرع.

هذا المرحوم قد نال فيض الشهادة العظيم، فهنيئاً له وحشره الله تعالى مع الشهداء والصالحين والهم الله أولاده وأهل بيته الصبر والأجر بجاه محمد وآله.

نعم، ذكرنا أساتذة الشهيد مطهري الذين كان لهم دور وتأثير رئيس في بلورة شخصيته المعنوية والعلمية، وكان للإمام النصيب الأوفر حيث قضى الشهيد دروسه وتلمذه عند الإمام أكثر من أي شخص آخر.

فالإمام قد بدأ تدريس خارج الفقه والأصول في إطار خاص بطلب من الشهيد وأحد تلامذته الآخرين، فعندما كان المرحوم آية الله البروجردي يدرّس خارج الفقه والأصول، طلب الشهيد مطهري من الإمام أن يدرّس خارج الأصول له مع جمع من التلامذة.

يقول الشهيد في مقدمة كتاب (الحركات الإسلامية في القرن الأخير) حول الإمام هكذا:

"وأما ذلك المهاجر الذي تهويه أفئدة مئات القوافل، فإن اسمه وذكره وشجاعته وبصيرته وايمانه الراسخ والمعروف لدى العامة والخاصة، وأعني روح الأرواح وبطل الأبطال، قرة عين الشعب الايراني وعزيزه وروحه، أستاذنا المعظم والقدير آية الله العظمى الخميني (أدام الله ظلاله). إنه حسنة أنعمها الله في قرننا وحياتنا المعاصرة هذه، وحقاً إنه مصداق بارز وواضح للحديث القائل (إن لله في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف المبطلين).

وإن القلم ليضطرب لبيان قليل من كثير شكراً لاثني عشر عاماً من فيض أستاذنا العظيم، والافاضات الروحية والمعنوية التي كسبتها ببركة القرب من منبع الفضيلة والمكرمة ذاك".

وإضافة إلى درس خارج الأصول، درس الشهيد شرح المنظومة لملا هادي السبزواي وجزءً من الأسفار لدى الإمام الخميني (قده)، وكان يتمتع بذكاء وافر واستعداد قوي وجهد مضاعف بحيث تخطى المدارج العلمية بسرعة، ونال الاجتهاد في العلوم النقلية والعقلية.

ومعمول في الحوزات العلمية منذ القدم أن يبدأ الطالب إضافة إلى دراسته للدروس العليا، بتدريس العلوم الحوزوية، عاملاً بالحديث الشريف "زكاة العلم نشره". والشهيد مطهري لم يشذ من هذه القاعدة، فبدأ بالتدريس في الحوزة إلى أن نال لقب (الأستاذ) في الحوزة العلمية، وأصبح من الأساتذة المعروفين فيها. ومن جملة الكتب التي درّسها الشهيد:

ـ المطوّل في البلاغة لسعد الدين التفتازاني.

ـ شرح المطالع في علم المنطق.

ـ شرح تجريد الاعتقاد في علم الكلام لخواجة نصير الدين الطوسي.

ـ الرسائل في علم الأصول للشيخ الأنصاري.

ـ المكاسب في الفقه للشيخ الأنصاري.

ـ كفاية الأصول للآخوند الخراساني.

ـ شرح المنظومة للملا هادي السبزواري.

هذه الكتب كانت الدروس الأصلية والتخصصية في الحوزات العلمية والتي كانت تدرس خلال دورات مختلفة، وكانت من السطوح العليا في العربية والفقه والأصول والكلام.

إن فهم وتفهيم وتدريس هذه الكتب كانت من الصعوبة بدرجة أن الذين يدرّسونها لا يتجاوزون عدد أصابع اليد. ورغم أن الذين درسوا هذه قد استوعبوها جيداً، إلاّ أن تدريسها يتطلب شرائط خاصة لا يتوفر عليها كل أحد.

إن تدريس هذه الكتب والتي يطلق عليها الدروس العليا، يعتبر مقدمة لتدريس دروس الخارج ونيل مقام المرجعية. ولو أن الشهيد مطهري لم يهاجر إلى طهران، لكان من المسلم أنه بلغ هذا المقام، بل يمكن القول إنه كان مرجعاً أعلى.

وبعد أن هاجر إلى طهران، كان أحد شؤونه الرئيسة هو تدريس العلوم الحوزوية. فقد كان لسنوات عدة يدرّس كل يوم بعد صلاة الصبح في مدرسة مروي. ومن جملة الكتب التي درّسها، شرح المنظومة للسبزواري، ودانشنامه لعلائي، والشفاء لابن سينا.

وكما أشرنا سابقاً، فقد كان الشهيد مطهري يهتم بشدة بالأمور المعنوية، وعلى هذا الأساس كان ينتخب أساتذته، وينبغي البحث عن بدء هذا الاهتمام في التربية الأسرية ودور والده في هذا المجال. وكان هذا الاهتمام مرافقاً للتهجد وإحياء الليل بالعبادة، فكان يصلي الليل منذ دخوله سلك العلوم الدينية، واستمر حتى نهاية عمره المبارك.

تقول زوجته بهذا الخصوص:

"كان يقف لصلاة الليل والمناجاة من الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل. كانت مناجاته عجيبة. كما كان يأنس بالقرآن كثيراً، وكان يقرأ القرآن قبل النوم".

إن التهجد وأحياء الليل بالعبادة مقام الأنبياء والأئمة والأولياء، وليس من السهل نيله من قبل كل من أراد، إنه رحمة إلهية خاصة تشمل حال أناس خاصين. وشهيدنا العزيز قد شملته هذه الرحمة، ويمكن القول إن توفيق الشهيد في تبيين وتبليغ معارف الدين هو من ثمرات عباداته في الليل.

والنقطة القابلة للاهتمام في فترة دراسة الشهيد في الحوزة العلمية بقم هو اهتمامه ودوره المؤثر في القضايا السياسية والاجتماعية إلى جانب جدّه في تحصيل المعارف الدينية، حيث كان ذي علاقة بمنظمة (فدائيان إسلام). يقول حجة الإسلام الشيخ علي دواني بهذا الصدد:

"بعد الحادثة التي قام بها بعض طلاب الحوزة بتحريض من حاشية المرحوم آية اللّه البروجردي ضد منظمة "فدائيان إسلام" حيث انتهى الأمر بالتعرض لهم وضربهم في المدرسة "الفيضية"، قرّرت أن أذهب لزيارتهم، فمع الشهيد نواب صفوي زعيم منظمة "فدائيان إسلام" والشهيد عبد الحسين واحدي الرجل الثاني في المنظمة، تربطني علاقة قديمة؛ فضلاً عن وجود قرابة بيني وبين الشهيد واحدي .

حين ذهبت لزيارتهما، وجدت عندهما الشهيد مطهري. لم يأتِ الشهيد مطهري وحده، بل كان برفقته شخص أو شخصان. لم يكن الشهيد نواب صفوي بمدينة قم ليلة الحادثة، بل كان في طهران. بيد أنه استعجل المجيء في ليلة اليوم الذي حصلت فيه الحادثة أو بعد ذلك بيوم. المهم أننا التقينا معه في بيت تقوي شميراني، وكان حاضراً كلّ من السيد الواحدي والسيد هاشم الحسيني، والسيد محمد الأخ الأصغر لواحدي، وقد جرحوا جميعاً، حيث كانت رؤوسهم مشدودة بالضماد الطبي.

أما البيت، فقد كان أشبه بالبيوت السرية التي تختص بالمنظمات، لذلك لم يكن متاحاً لأي شخص أن يزورهم في هذا المكان.

كان الشهيد مطهري منسجماً مع "فدائيان" ومع أفكارهم. وقد سمعت الشهيد نواب مرّات، يذكر الشيخ مطهري باحترام، ويسأل عنه.

استمع الشهيد مطهري في تلك الليلة لعتاب "فدائيان" وشكواهم من المرحوم آية اللّه البروجردي، حيث انتهى الحال إلى ما انتهى إليه من ضربهم. وبعد ذلك تكلم مطهري فقال: الأخ نواب! أعتقد أنّ الخطأ منكم. وعليكم أن تقبلوا أنّكم تتصفون بمزاج عصبي حاد، ولا يمكن فعل أيّ شيء بالحدة والغضب .

أضاف مطهري: ورد عندنا في الحديث: "الغضب نوع من الجنون لأن صاحبه يندم بعده"، والحديث معلّل، والعلة مذكورة في متن الحديث نفسه، فالغضب ضرب من الجنون، لأنّ صاحبه يندم عليه بعد ذلك.

استطرد الشهيد مطهري: لماذا تفعلون ما من شأنه أن يجر المسألة إلى هذا المآل؟ ليس من تكليفكم أن تكونوا طرفاً في الصراع مع السيد البروجردي .

التزم السيد الواحدي والسيد هاشم السكوت ولم يتكلما بشيء، أما السيد نواب فقد وافق على كلام الشهيد مطهري وكان يصغي إلى ما يقوله بهدوء.

كانت منظمة "فدائيان" تكنّ احتراماً فائقاً للمرحوم مطهري، خصوصاً السيد نواب والأخوين واحدي، فقد كان مطهري من فضلاء الحوزة المعروفين، وكان رجلاً ودوداً مرناً ينسجم معهم في مشروعهم.

تحدّث القوم بكلام لم أعد أذكره، بيد أنّهم قبلوا في المحصلة الأخيرة، بأنهم مسؤولون عما حصل. أما الشهيد مطهري فقد كان يركز في كلامه كثيراً على حدتهم وتطرفهم في الدخول طرفاً في الصراع مع آية اللّه البروجردي، اذ لم يكن يرى مسوغاً لذاك.

بعد أن مضت سنوات على هذه الحادثة، عدت إلى ذكرها مع الشهيد مطهري في حديث جرى بيننا في "كلية الإلهيات"، وخصصت بالذكر الحديث الشريف الذي نصح به مطهري السيدين نواب والواحدي. فما كان من شهيد العلم والفضيلة إلا أن اندهش من ذلك، وتساءل: عجباً! وقد كنت أنت حاضراً؛ وأنا فعلاً الذي ذكرتُ الحديث وقلت الذي قلت؟ أجبت: أجل، وقد حفظت الحديث من ليلتي، ولا زلت أتذكر بقية كلامك، وكأنّه كان في الأمس!

كان الشهيد مفتّح حاضراً في هذه الجلسة، فأصغى إلى حديثنا بتعجب.

أما الشهيد مطهري فقد ازدادت دهشته، وأردف يقول مجدداً: عجباً! لا أذكر أي شيء مما تقول.

كان من بين ما تحدّث به الشهيد مطهري في تلك الليلة، أنّه خاطب المرحوم نواب صفوي بقوله: السيد نواب! ليس ثمة ريب في حسن نيتك وحميّتك الدينية وسمّو هدفك ورفاقك، ولكن ما جاء في بيانكم الذي وجّهتموه إلى السيّد البروجردي من قولكم له: "لا نظن أنّ غيرتك الدينية بأقل من الحاج السيد حسين القمي" هو الذي ألّب عليكم، إذ اتخذه بعض المغرضين ذريعة في التحريض ضدّكم، حتى آل الأمر إلى أن يهجموا عليكم في المدرسة الفيضية، ويضربوكم بهذا الشكل.

فلو أنّكم فكّرتم جيداً، وبادرتم لدراسة خطوتكم في جوٍ هادئ، بعيداً عن انفعالات الشباب وعواطفهم الجامحة، لكانت النتيجة مختلفة بالتأكيد ولم تنتهوا إلى ما انتهيتم إليه الآن.

ظلّ الشهيد نواب يستمع إلى نصائح الشهيد مطهري ويظهر تأييده له، والألم يعتصره من الداخل، إذ لم يشأ أن يتحدّث بحديث يؤذي السيد واحدي والسيد هاشم بحيث يشعران بالخجل. ومردّ ذلك أنّهما سارعا إلى طبع البيان واستعجلا توزيعه من دون استشارته وأخذ رأيه، مما تسبّب بضربهما.

بقي الشهيد مطهري يذكر "فدائيان اسلام" حتى النهاية، بيد أنّه كان مثلي لا يرضى بما يظهر على هذه المجموعة من ممارسات الشباب الجامحة وتطرفهم الحاد، خصوصاً ما يظهره الشهيد واحدي من حدية. فقد كنت أشهد أحياناً، وأسمع في أحيان أخرى أنّ المرحوم مطهري يقوم بزيارة هؤلاء، كلما سنحت له الفرصة، في قم وطهران، ويتفقد أحوالهم، وقد بادلوه بدورهم الاحترام نفسه.

ولا يستبعد أن تكون الانعطافة التي شهدتها الجماعة وما أظهرته فيما بعد من لين وترك التصرفات المتطرفة الحادة، قد جاءت متأثرة إلى حدٍ ما بنصائح الشهيد مطهري. فقد كان مما بادرت الجماعة إليه بعد ذلك، أنها أخذت تعقد الجلسات لبيان المسائل الشرعية وتدارسها انطلاقاً من رسالة آية اللّه البروجردي نفسه.

والذي يؤيد ذلك هو الاحترام الفائق الذي كانت تكنّه الجماعة للشهيد مطهري؛ كما أنّ شهيد العلم والدين هذا، لم يكن يتوانى عن رعايتها والاهتمام بها ولم يتركها لحالها".

الهجرة إلى طهران

هاجر الشهيد مطهري عام 1331هـ ش من قم إلى طهران، وليس واضحاً السبب الرئيس والعامل الأساس لهذه الهجرة، لكن الذي يظهر من تقرير الساواك، ويراه البعض، أن السبب هو المصاعب المادية.

ومهما يكن السبب، فقد تركت هذه الهجرة أثرين، أحدهما ايجابي والآخر سلبي؛ فمن جهة حرمت الحوزة العلمية في قم من حضوره المستمر ومن دروسه، ومن جهة أخرى هيّأ تواجده في طهران المركز السياسي والثقافي في البلاد، الأرضية لجهوده الحثيثة على شكل إلقاء المحاضرات، والتدريس، التحقيق، ونشر الكتب والمقالات، واستفادة الشرائح المختلفة للشعب من علومه الدينية والمعنوية.

ويمكن القول إنه كان إلى هنا عهد تعلم العلوم الإلهية والحوزوية، وسعيه في إطار الحوزة العلمية وقليلاً خارجها في التبليغ، حيث سافر تلك الأيام إلى مدن مختلفة مثل أراك وهمدان ونجف آباد وآباده لتبليع الدين، وكان يحاضر أحياناً في قم.

بيد أن هجرته إلى طهران كانت بداية مرحلة جديدة من نشاطاته الاجتماعية المهمة، فبدأ تبليغ الدين انطلاقاً من ثلاث قواعد رئيسة هي المنابر والكتب والتدريس. وأدى دوراً أساساً في صياغة الفكر الديني للمجتمع الايراني. ولا يمكن توكيل آثاره وثمرات هجرته إلى الصدفة أو قياسها بالمعايير المادية، لأن في هذه الحالة لابد وأن يترك وراءه ثروة طائلة، وهذا ما لم يحدث، لأن الشهيد كان يستفيد من الامكانات المادية بقدر الحاجة والضرورة.

ولعله لم تحتل أية شخصية مكانه ولم يحتل أي كتاب محل كتبه في التعريف بالإسلام. وكلما تقدم الزمن شعرنا بالحاجة إلى شخصيته وكتبه أكثر مما مضى. ولو كان الشهيد باقياً في قم فمن غير المؤكد أن يترك مثل هذا التأثير الذي ترك وجوده في طهران. فمن المسلّم أن الظروف الجغرافية لها تأثيرها البالغ في تحديد الدور الاحتماعي للأشخاص، إلاّ أن الشعور بالحاجة والآلام الاجتماعية وسبل معالجتها لا تظهر في كل ظرف اجتماعي، فمواجهة الفلسفة الدينية للفلسفة المادية، والصراع بين الهدف الإلهي وطلب الدنيا، وتوجه الشباب نحو المذاهب المادية، والأسئلة الكثيرة لشرائح المجتمع المختلفة خصوصاً الشريحة الجامعية والمثقفة والباحثة عن الدين، مثلما كانت مطروحة في طهران لم تكن مطروحة في قم. والشعور بالتكليف في طهران لدى العالم الحريص على الدين لا يظهر لدى الشخص الساكن في قم. وعندما هاجر الشهيد إلى طهران شعر بكل هذه التضاربات وهذه المتطلبات.

وبهجرته إلى طهران بدأ فصل جديد في أمر الموعظة والتبليغ، وفي هذه المرّة تطرق شخصية لإلقاء المحاضرات وتبليغ الدين وهو مجتهد مسلّم به، ونعى شخصية أبا عبد الله الحسين (ع) وقرأ مقتله وهو مشتغل بتدريس أعقد الكتب الفلسفية في الجامعة.

ولو كان متصوراً في السابق أن الذين ينعون أبا عبد الله (ع) هم ممن لا يتمتعون بالمستوى العلمي المطلوب أو من الجهلة، فإن هذه المرة وضع شخص قدمه في هذا الميدان وهو صاحب رأي في الفقه والفلسفة والكلام والتفسير. فجامعيته قد وفّرت له الأرضية اللازمة للتواجد في المجامع العلمية والثقافية والدينية. وطُرِح كفقيه حوزوي، وعالم دين، ومبلغّ حريص على الدين، ومفكر أكاديمي، ووجه جامعي لامع، وعالم بصير وجامع، وخطيب مفوّه، وكاتب مقتدر، بحيث يمكنه إدارة مجتمع مثقف وحضاري في عالم اليوم بالنظرية الدينية التي ظهرت منذ أربعة عشر قرناً، ويمكنه تقديم الدين وإرشاد المشاعر الجياشة للجيل الجديد في طريق الدين.

ومما لا شك فيه أن هجرته رغم أنها خلقت حالة من اليأس في قلوب الطلاب والباحثين في قم، إلاّ أنها أوجدت الأمل في نفوس العلماء الواعين والثوريين والجامعيين في طهران، وعقد العلماء المتألمين لضياع الجيل الجديد آمالهم على الشهيد مطهري.

بعد أن استقر الشهيد في طهران، بدأ بالتدريس في مدرسة مروي للعلوم الدينية؛ فكان يخرج من البيت قبل أذان الصبح ليصلي في المدرسة ثم يبدأ بعدها بتدريس شرح المنظومة للسبزواري وكتاب دانشنامه لعلائي والشفاء لابن سينا حتى الساعة التاسعة صباحاً. كما كان يدرّس في مدرسة سبهسالار (مدرسة الشهيد مطهري حالياً). واستمر تدريسه في مدرسة مروي إلى قبل ثلاث سنوات من استشهاده.

وأول تأليف للشهيد هو مقدمة وحاشية على كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي). وكان لانتشار هذا الكتاب دور كبير في إثبات خواء الفلسفة المادية.

فقد قال احسان طبري منظر حزب توده في ايران والذي نبذ الأفكار المادية وعاد إلى الإسلام أواخر حياته، قال في مقابلة معه إن تغيير أيديولوجيته كان نتيجة مطالعته لكتب الأستاذ مطهري خصوصاً كتاب (أصول الفلسفة و...).

التدريس في كلية الإلهيات

في عام 1333هـ أعلنت كلية الإلهيات بجامعة طهران عن حاجتها لأستاذ مساعد في علم المعقول والمنقول، فتقدم الشهيد مطهري لهذا الطلب، وبعد المصادقة على صلاحيته العلمية، استخدم بتاريخ 12/11/1334هـ ش للتدريس في الكلية بحقوق شهرية قدرها (3000 ريال)، ومن هنا بدأت النشاطات الجامعية للشهيد. ويعتقد أن المرحوم راشد الذي كان من الأساتذة المشهورين في الكلية، كان له دور في دعوة الشهيد مطهري للتدريس في الجامعة، خصوصاً وأنه كان مدير قسم الفلسفة في الجامعة. ومن الآن فصاعداً طُرِح الشهيد مطهري من قبل المجامع العلمية كمنظر إسلامي ومجتهد حوزوي ومدرس جامعي؛ وقد برزت قدرته العلمية بسرعة نتيجة حاجة الشريحة الجامعية والمؤمنة لوجوده، فشريحة المهندسين والمعلمين والطلبة وكذا المناضلين ضد النظام الملكي قد شعروا بالحاجة العميقة إلى الطاقات العلمية للشهيد؛ فاستقبلوه بحفاوة بالغة.

وقد أثار تواجده المكثف في المجامع العلمية والمجالس الدينية، وكذا اقبال الشريحة الجامعية على محاضراته وندواته العلمية حفيظة الساواك، فأخضعوه لرقابة شديدة.

وكان أول تقرير من الساواك حول محاضرات الشهيد مطهري قد أعد في عام 1339هـ ش على أعتاب انتخابات المجلس الوطني. ففي خمسة ليال من شهر محرم أقام مجلساً في منزله حاضر شخصياً فيه، وتعرض فيها للحكومة وانتقدها بشدة، وقال: يجب أن يكون الإنسان حراً، ويحكم مصيره، ثم انتقد الحكومة والوزراء وشخص الشاه لتبعيتهم السياسية والاقتصادية للأجانب ودفاعهم عن الرأسمالية التابعة للأجنبي، وصرّح أن أي حكومة لا تستطيع الصمود أمام القوة العظيمة للشعب، وذكر الحكام بعدم إمكانهم من السيادة على الشعب بالقوة والإرهاب، وأن قوانين البلاد يجب أن تكون إسلامية، وعلى الشاه والوزراء والجميع أن يعملوا بدستور الإسلام.

وفي محاضرة أخرى بيّن للرأي العام أن انتخابات المجلس الوطني ما هي إلا تعيين للوكلاء من جانب الحكومة، ولا أثر للانتخابات الحقيقية فيها. وكان أكثر مخاطبيه في هذه المحاضرات هم المعلمين والمهندسين والجامعيين والمثقفين. وقد أثارت هذه المحاضرات حفيظة الساواك وأمروا بتشديد مراقبته.

بعد قيام الإمام الخميني (قده)، شارك الشهيد مطهري في هذه النهضة ودافع عن الإمام، واعتقل في فاجعة 15خرداد عام 1342هـ ش فترة ثلاثة وأربعين يوماً. وبعد إطلاق سراحه كان يتالم دائماً من الوضع الحاكم في السجن ومحاصرة الإمام (ره). وقال في إحدى محاضراته في مسجد هدايت في رمضان 1383 هـ ق:

"نسأل الله تعالى أن يعطينا القوة التي نقمع بها أعداء القرآن والدين الإسلامي المبين. كلنا يعلم بوضعنا الفعلي، علينا أن لا نقصر في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. علينا أن نطلب ونبيّن لإخواننا في الدين ما يجب فعله حتى يمكنهم الدفاع عن حقوقهم.

نحن المسلمون، علينا أن نعرف قادتنا الحقيقيين، ونعرف من يسعى لرفعة الإسلام والقرآن، وعلينا أن نطرد من بيننا أولئك الذين يعدون أمر الباري تعالى كفراً، ويسحقون القرآن والدين الإسلامي بأقدامهم من أجل نيل مطامع دنيوية.

ومازالت الفرصة باقية اليوم، ويمكننا أن نحقق أهداف الإسلام بقلب واحد ولسان واحد، وذلك من أجل خلاص قادة الإسلام الكبار. تعالوا جميعاً نرفع أيدينا بالدعاء ونطلب من الله أن يبعث بشرارة من الحق والعدالة بين شعبنا لتجتث جذور الكفر". وكان الشهيد يقصد من قادة الإسلام الكبار الإمام الخميني والمرحوم آية الله الطالقاني؛ فقد كان الإمام من 15خرداد 1342هـ ش إلى 17فروردين 1343هـ ش رهن الاعتقال.

واستمرت محاضرات الشهيد مطهري ليالي رمضان في مسجد هدايت، والساواك يراقبه ويعد التقارير الواحد تلو الآخر حول محاضراته.

وكما هو معروف فإن هذا المسجد قد بناه المرحوم الطالقاني، والشهيد مطهري كان يحاضر فيه بدعوة منه، وكان مركزاً مهماً للشهيد من أجل تبليغ وبيان المباني الدينية. وكان أكثر الحضور من الجامعيين والمثقفين.

ويتحدث الشهيد في مناسبة أخرى حول العدالة والحكومات، ويقول:

"إنه لو راعت الحكومات العدالة، عاشت الشعوب في راحة، ولكن عليّ أن أقول هل هم مجبورون على السلطنة مع العدالة، فلو لم يفعلوا ذلك لتقدمت العدالة بنفسها، ولو لم تتقدم العدالة واجه البلاد خطراً عظيماً".

وكما ذكر سابقاً، فإن الشهيد قد اعتقل عام 1342هـ ش وقضى فترة في السجن. وقد كانت له كتابات، وكذا أبيات شعرية في الإمام الخميني (ره)، في السجن.

الجمعيات المؤتلفة الإسلامية

منذ بدء النهضة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني(ره)، بدأت هيئات دينية مختلفة في طهران بنشاطات في هذا المجال. وكانت لرؤساء هذه الهيئات لقاءات منفردة مع الإمام (ره) في قم يتلقّون فيها التعليمات اللازمة. فما كان من الإمام (ره) إلاّ أن جمعهم جميعاً وعرف بعضهم ببعض، وأسس جماعة سياسية جديدة باسم (الجمعيات المؤتلفة الإسلامية)، وكانت تدار ـ بأمر من الإمام (ره) ـ تحت إشراف جمع من العلماء أمثال الشهيد مطهري، والشهيد بهشتي، وآية الله أنواري. وكان الرابط الرئيس بين الإمام (ره) وهذه الجمعيات هو الشهيد مطهري.

قسم الشهيد مطهري نشاطات هذه الجمعيات إلى قسمين: عقائدية وسياسية، وكان يستدل بأن الكفاح السياسي يجب أن يكون مبتنياً على الفكر والنظرية الإلهية. ومادام المجاهدون والمجتمع غير متمتع بالفكر التوحيدي الرصين، فالكفاح السياسي سوف ينحرف عن المسير.

وكان يقول: يجب أن يتولى جمعٌ العملَ الفكري ويقدم التعليمات الفكرية اللازمة للمجموعة الثانية التي تتولى المواجهة السياسية والعلنية، وتولى هو مسؤولية التغذية الفكرية، فكتب كتاب (إنسان وسرنوشت) أي الإنسان والمصير، وكان يدرس للجماعات التابعة للجمعيات المؤتلفة الإسلامية المختلفة.

وقد قامت هذه الجمعيات بعدة إجراءت، منها اغتيال رئيس وزراء النظام حسن علي منصور. فحسن علي منصور الذي حل محل علم في منصب رئاسة الوزراء بهدف إسكات وإخماد ثورة الإمام الخميني (ره)، قدم لائحة (الحصانة القضائية) ـ والتي دوّنها علم وصادق عليها مجلس الشيوخ سابقاً ـ إلى المجلس الوطني للمصادقة عليه. وبالفعل تمت المصادقة عليها، فما كان من الإمام (ره)، إلاّ أن هاجم في خطاب تاريخي، الحكومة والنظام بشدة بسبب هذا الموضوع مما أدى إلى نفيه إلى تركيا. وكان منصور هذا إضافة إلى ارتكابه لجرائم أخرى، أحد العوامل الرئيسة في نفي الإمام.

فقررت الجمعيات المؤتلفة الإسلامية اغتياله، وانتخب مجموعة من خيرة الشباب لهذا العمل وهم: حاج صادق أماني، محمد بخارائي، رضا صفار هرندي، مرتضى نيك نجاد، وبالفعل تم اغتيال منصور أمام المجلس الوطني بتاريخ 1/11/1343هـ ش. وحسب ما جاء في وثائق الساواك فإن الشهيد محمد بخارائي كان يشارك في دروس الشهيد مطهري.

حسينية (الإرشاد)

ومن أجل بناء قاعدة ثقافية وسياسية مهمة، قام الشهيد مع جمع من زملائه بتأسيس حسينية (الإرشاد) عام 1345ه .ش، وكان الهدف من تسمية هذه المؤسسة الدينية والثقافية والسياسية باسم (حسينية الإرشاد) هو جذب الشريحة الجامعية إلى الحسينية، وكذا إخراج الحسينية من الانزواء الاجتماعي.

هذه الكلمة التي يتداعى حين سماعها مفهوم التعزية في أيام معدودة من شهري محرم وصفر، برزت هذه المرة بصورة مؤسسة علمية ثقافية تطرح منها المفاهيم الدينية والمعارف الإسلامية. وقد وضع الشهيد مطهري برامج للمحاضرات والندوات والدروس المنتظمة والمتنوعة في بيان المفاهيم الإسلامية، وبذا حوّل الحسينية عملياً إلى قاعدة ثقافية وسياسية مهمة.

ومن جملة نشاطات الشهيد في هذه الحسينية هي تنظيم قوافل للحج، ودعوة المفكرين من سائر البلدان، والاجتماع بقادة المذاهب الأخرى وتبادل الأفكار معهم ، والسعي إلى الوحدة الإسلامية، والتنسيق مع سائر الشعوب، وتأليف وطباعة الكتب المفيدة. وكتاب (محمد خاتم النبيين) للشهيد يعتبر من نشاطات هذه المؤسسة الثقافية.

وكما أشرنا فإن أحد نشاطات المؤسسة هو تنظيم قوافل الحج، حيث كان الشهيد ـ في البدء ـ يشكل درساً في الحسينية من أجل تبيين مفاهيم وفلسفة الحج حيث كان يشارك فيه حوالي ألفين شخصاً بحسب تقرير الساواك.

وأما نفس القوافل فكانت تتشكل من شريحة المثقفين والجامعيين، وكان يهدف بذلك أمرين: الأول تعريف الباحثين والعطاشى للدين بالحج وفلسفته بصورة ملموسة. والآخر هو الاجتماع في أيام الحج بالعلماء والمفكرين المسلمين من سائر البلدان وذلك من أجل أن يخطو خطوة في طريق الوحدة الإسلامية.

كانت هذه الحسينية مركزاً مهماً لنشر أفكار الأستاذ الشهيد مطهري، وأساس تأليف بعض كتبه مثل (خدمات الإسلام وإيران)، و (حرف مكتبات إيران ومصر)، و (العدل الإلهي) و (قوة الجاذبة والدافعة عند علي (ع)) كان قد وضع في هذه الحسينية.

وإضافة إلى محاضراته المنتظمة في الحسينية، كان يدعو المفكرين والمنظرين الدينيين إلى إلقاء المحاضرات والدروس. وبذلك برزت حسينية الإرشاد كتيار ديني قوي في الساحة الفكرية والثقافية، وتجلت المفاهيم الدينية بصورة حركية بين الجامعيين والمثقفين، وأصبحت مورد إقبال الباحثين عن حقائق الدين.

إلا أنه في عام 1349هـ ش وإثر العراقيل والعوائق التي كان يضعها أحد أعضاء الهيئة الإدارية، وبعد أن شعر الشهيد أن الأمور قد خرجت من يده ـ ورغم أن العلماء والجماهير كانوا يعتبرونه هو المسؤول عن الحسينية ـ استقال الشهيد مطهري من الحسينية، وكذا أفراد آخرون، وكان بود الساواك أن لا يرجع الشهيد مطهري إلى الحسينية. ورغم استمرار نشاط الحسينية بعد ذلك إلا أن كل نشاطاتها قد توقفت بعد فترة وجيرة.

ولم يكن الشهيد مطهري بحاجة إلى حسينية الإرشاد للاستمرار في نشاطاته الفكرية والسياسية. فهو كان يتمتع بعلم واسع، وفكر راسخ، وبيان مستدل ومنطقي وبليغ، وكان يعرف المجتمع ومتطلباته ومخاطبيه جيداً.

ولا يتحدث طبقاً للمصالح المادية والروابط الاجتماعية، بل كان حراً في الفكر، وأينما حاضر استقبل بحفاوة بالغة من قبل الناس. ولهذا يمكن القول إن استمرار نشاطات حسينية الإرشاد كان قائماً بشخصه وحضوره وإدارته.

ومع بدء نهضة الإمام الخميني (ره)، بدأ الشهيد في كفاح عقيدي وديني وعملي مع النظام. فكتبه ألّفها في هذا الميدان، ومحاضراته ألقاها على أساس هذا الكفاح. ولعل الساواك قد غفل في البدء عن هدف وكفاح الشهيد هذا، أو لم يكن يوليه أي اهتمام. إلا أنه في الأعوام 48ـ1349هـ ش قد توجهوا إلى أهمية دوره في توعية المجتمع، فشددوا من مراقبتهم له.

وأقام النظام احتفالات (2500سنة) على الحكم الملكي في إيران وعمد إلى نفى الثقافة والهوية الإسلامية، وكان يسعى إلى إخراج إيران من ربقة الإسلام وإدخالها تحت سيطرة الثقافة الملكية وعبادة الأصنام الخفية. ولأجل تحقيق هذا الهدف، فقد أحيا تلك الاحتفالات الباهظة التكاليف، ومنع كل فكر وقول وكتاب من المس بالأصول الملكية وتثبيت دعائم الإسلام. ولهذا منع من طباعة كتاب (إحراق مكتبات إيران ومصر) للشهيد مطهري.

يقول الشهيد بهذا الصدد:

"في السنوات الماضية، وقبل إغلاق حسينية الإرشاد، لم يحدث أن يُعطى موضوع أي محاضرة للصحف للإعلان عنها، إلا قبل أسبوعين من قراري بإلقاء محاضرة حول (حرق مكتبات مصر وايران) وأشرح أن قصة هذا الحرق كذب وبهتان.

وفي اليوم المقرر لإلقاء المحاضرة أعطي الإعلان للصحف، لكن في الليل عندما صدرت الصحف، لم تطبعه أية صحيفة، وعندما حققت في الأمر قالوا جاءتنا أوامر من فوق.

في ذلك الزمان، لم نستطع كتابة قضية (حرق المكتبات في مصر وايران) في كتب (خدمات الإسلام وايران) الذي كان تحت الطبع، لأنهم أعلنوا بعدم التصريح بالطبع. والنظام كان يروج بيننا لسنوات أن الإسلام ليس لم يتمكن من بناء حضارة فحسب، بل قضى على الحضارات الماضية أيضاً".

نشاطات في مسجدي الجواد وهدايت

بعد أن ابتعد الشهيد مطهري عن نشاطات حسينية الإرشاد، بدأ نشاطه في مسجد الجواد وأشرف على برامج هذا المسجد، وإلى جانب محاضراته هناك، دعا شخصيات عدة للمحاضرة.

بدأ نشاطه بتوعية المجتمع، ووضع برامج سياسية ودينية مثل برامج حسينية الإرشاد. إلا أن الساواك قد تدخل في النهاية وأغلق المسجد بتاريخ 23/8/1351هـ ش.

كما كان مسجد هدايت إحدى قواعده النشطة، وكان يحاضر فيها بدعوة من المرحوم آية الله الطالقاني.

وفي تاريخ 9/9/1351هـ ش وبعد ما أغلقت حسينية الإرشاد، اعتقل الشهيد مطهري، وقضى 48 يوماً في السجن تعرض خلالها لأنواع التعذيب الروحي والجسدي.

جمع الإعانات للشعب الفلسطيني

بعد الهجوم الصهيوني الواسع عام 1346هـ ش على الدول العربية واحتلالها أراضٍ منها، دخل كفاح الشعب الفلسطيني ضد العدو الصهيوني مرحلة جديدة، وجوبه بشدة من قبل النظام الصهيوني مما أدى إلى تشريد مليوني فلسطيني من وطنهم.

والإمام الخميني (ره) دعا في مقابلات وبيانات متعددة المسلمين إلى دعم كفاح الشعب الفلسطيني، وخصص ثلث سهم الإمام (ع) لدعم المجاهدين هناك.

والشهيد مطهري كان من السباقين في جمع التبرعات لدعم الشعب الفلسطيني. وقد ألقى في حسينية الإرشاد خطاباً حماسياً، دعا فيه إلى دعم كفاح الشعب الفلسطيني كل حسب استطاعته.

ومما جاء في خطابه الحماسي في حسينية الإرشاد:

"هل سألنا أنفسنا لو كان نبي الإسلام حيّاً يعيش بيننا اليوم ماذا كان سيفعل؟ وبماذا كان يفكر؟

والله وبالله أقسم بأن النبي الأكرم (ص) إنما يرتعش جسده المقدس الآن وهو في قبره من اليهود وأعمال اليهود!!

وهذه المسألة لا تقبل التأويل، إنها مسألة منطقية واضحة للغاية، وإنها مسألة حسابية بسيطة، ومن يرفض التصريح بها يرتكب إزاء ذلك ذنباً، وإنني والله لو رفضت التصريح بها أرتكب ذنباً، وكل خطيب أو واعظ لا يصرح بهذه الحقيقة فإنه مرتكب للذنب حتماً.

فناهيك عن الجانب الإسلامي للقضية، أتعرفون ما هو تاريخ القضية الفلسطينية؟

إن قضية فلسطين ليست منحصرة بكونها قضية تتعلق بدولة من الدول الإسلامية، إنها قضية شعب أُخرج من بيته ووطنه بالقوة نتيجة حركة قلم خفيفة من متنفذ بريطاني يهودي هو (بلفور)، فما هو تاريخ فلسطين؟

إنهم يدّعون أنه، وقبل ثلاثة آلاف عام، قد حكم اثنان من جماعتهم بشكل مؤقت، هذه البلاد، وهما داود وسليمان.

اقرأوا التاريخ، وانظروا متى كانت بلاد فلسطين، على امتداد ألفين أو ثلاثة آلاف عام مضت ملكاً لليهود؟ أو متى كان القسم الأعظم من أرض فلسطين ملكاً لليهود؟ هل كانت فعلاً المساحة العظمى من بلاد فلسطين ملكاً لقوم يهود؟ إنها والله لم تكن ملكاً لهم، لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام.

وفي اليوم الذي فتح فيه المسلمون أرض فلسطين، كانت فلسطين تحت تصرف المسيحيين، وليس تحت تصرف اليهود، وبالمناسبة فإن المسيحيين الذين عقدوا الصلح مع المسلمين بعد الفتح، قد وضعوا بنداً في معاهدة الصلح المذكورة يشترط على المسلمين، بعدم السماح لليهود بالدخول إلى فلسطين، أي إنهم قالوا للمسلمين بأنهم مستعدون للتعايش معهم، ولكن غير مستعدين للتعايش مع اليهود! فكيف، ومن أين جاءت هذه التسمية فجأة، وتم إلصاقها بهذه البلاد، وصارت الوطن القومي اليهودي؟ إنه الظلم ووسائله...

إن واحدة من القضايا التي تسوّد سجل قرننا الحاضر، وتجعله مظلماً (هذا القرن الذي اكتسب لقب قرن حقوق الانسان، وقرن الحرية والانسانية، كذباً وزوراً) هي هذه القضية...

نعم، فلم كان الحسين بن علي بيننا اليوم، لقال لنا: إذا كنتم تريدون إقامة العزاء من أجلي، وأردتم الضرب على الصدور والخدود من أجلي، فإن شعاركم لابد وأن يكون فلسطينياً

فشمر اليوم هو (موشي ديان) وشمر ما قبل ألف وثلاثمائة عام قد مات، وعليك أن تتعرف على شمر هذا العصر، لأن جدران هذه المدينة يجب أن تهتز اليوم من شعارات فلسطين!".

هذا الخطاب أثار غضب الساواك بشدة، لأن الحكومة الإيرانية كانت متعاونة مع إسرائيل، وتدعمها مالياً، فتصدت لإثارة عواطف ومشاعر الناس ضد الكيان الصهيوني، ومنعت أي دعم وبأية صورة كانت للشعب الفلسطيني.

وفي إطار دعمه للقضية الفلسطينية، فتح الشهيد بالتعاون مع المرحوم العلامة الطباطبائي وآية الله سيد أبو الفضل الزنجاني، ثلاثة حسابات مصرفية لجمع التبرعات النقدية. فتابع الساواك بصورة واسعة موضوع الحساب المصرفي، واستدعى الشهيد مطهري وسيد أبوالفضل الزنجاني لتقديم إيضاحات حول الموضوع. إلا أنهما لم يعتنيا لهذا الاستدعاء، فصدرت الأوامر بجلبهما، وفي تاريخ 14/7/1349هـ ش تم جلب الشهيد مطهري، وطلب منه صرف الأموال التي جمعت، في الأمور الداخلية أو إعطاها للهلال الأحمر الإيراني، وتجنب إرسالها إلى فلسطين، فأجابهم الشهيد بأن هذا غير ممكن وفيه مسؤولية شرعية، ويجب صرفها في شؤون فلسطين. فهدّدوه إن أقدم على دعم الشعب الفلسطيني فإنه سيلاحق ويحاكم بتهمة خيانة البلد. ومن ناحية عبّأ الساواك عناصره لمنع إرسال هذه التبرعات إلى الشعب الفلسطيني.

وعلى أثر نشاطه في هذا المجال، صدر أمر عام 1349هـ ش إلى كلية الإلهيات بالحد من تدريسه في الكلية. وفي عام 1353هـ.ش طلب الشهيد من الكلية إجازة لمدة سنة بهدف المطالعة ليسافر خلالها إلى مصر وسوريا، ولبنان، والأردن، وتونس، والمغرب، والجزائر، والحجاز لزيارة مكتباتها وإكمال كتاباته.

ولولا رفض الساواك للأمر بعد استعلام الكلية منه لكانت لهذا السفر نتائج مثمرة للشهيد وللحوزات العلمية وتقريب أفكار المفكرين الإسلاميين وإيجاد الوحدة بين الشيعة والسنة معاً. ثم عاود الشهيد دعوته هذه المرة للحضور في معرض العالم الإسلامي بلندن، إلا أن هذه الدعوة أيضاً رفضت من قبل الساواك.

وفي تاريخ 14/2/1354هـ ش استدعي من قبل الساواك، وهدّد بالإخراج من الكلية إذا لم يترك نشاطاته السياسية والتبليغية ضد النظام.

ومن أجل مواجهة أفكار الشهيد ودوره في الجامعة، دعا الساواك أحد الأساتذة ذي النزعة المادية وعيّنه عضواً في قسم الفلسفة الإسلامية. فكان هذا يطرح آرائه المادية في الدرس، فواجه أحد الطلبة أفكاره الانحرافية، ووقع شجار بينه وبين هذا الطالب، فطلب أحد مسؤولي الجامعة من الشهيد مطهري الدعم. فوبّخ الشهيد ذلك الأستاذ وعاتبه. فانتشرت القضية في الجامعة وأخذت أبعادها تتسع في المجتمع. فأقدم ذلك المادي على إصدار بيان ضد الشهيد مطهري وتوجيه بعض التهم والافتراءات ضده. فما كان الشهيد إلا وأجابه ببيان بيّن الحقائق فيه. وذكر في نهاية بيانه الذي كان يخاطب فيه رئيس الجامعة هكذا:

"13ـ إنني بدوري، ومن أجل إعادة كرامة الكلية وكرامة الأساتذة وكرامة الجامعيين وكرامة المعارف الإسلامية السامية التي هتكت مرات من قبل هذا الشخص، أطلب متابعة حادثة 24 آذر في الكلية، والتحقيق في سوابق عمل هذا الشخص منذ عشرين عاماً وإلى الآن، من الجامعيين والخريجين من هذه الكلية. والعمل طبقاً لما يقتضيه القانون والحق والعدالة.

وإذا كان ـ مثلما يقول بعض الزملاء ـ ليس من مصلحة الكلية متابعة الموضوع عن طريق المحكمة، فينبغي ترتيب الأثر ـ على أدنى حد ـ لطلبه المكتوب في رسالته التي قدمت إليكم. وإذا كان من الضرورة واللزوم استمرار الوضع على ما كان عليه سابقاً، وأن هناك حكمة في البين في أن تلصق هذه التهمة بالكلية إلى الأبد، فليس هناك أدنى ضرورة والزام للاستمرار في التعاون معهم. وعلى هذا فإنني، وفي حال تحقق هذا الفرض، أقدم استقالتي من الآن.

وفي النهاية قرّر الساواك بعد مراجعة الملف من جديد، إخراج الشهيد من جامعة طهران ومنعه من ارتقاء المنبر. وبذلك صدر أمرين في تاريخ 28/3/1354هـ ش بإخراج الشهيد من الجامعة ومنعه من ارتقاء المنبر.

بعد انقطاع تعاون الشهيد العزيز مع كلية الإلهيات ومنعه من ارتقاء المنبر، كان يذهب إلى قم يومي الأربعاء والخميس من كل أسيوع للتدريس، وذلك بعد طلب جمع من فضلاء الحوزة منه وتوصية الأمام (ره) له. كما كان يدرس ليالي الخميس في المدرسة الرضوية، وكذا في منزل بعض الطلبة، الفلسفة. وعلاوة على التحقيق والتأليف، بدأ بتدريس الاقتصاد وفلسفة التاريخ في منزل عدد من الطلبة وأساتذة الجامعة بطهران.

وطوال فترة وجود الإمام في المنفى، احتفظ الشهيد مطهري بارتباطه بالإمام الخميني (ره)، وكان يعتبر أبرز ممثل لفكر الإمام في إيران.

في عام 1355هـ ش، ورغم كل العوائق والمشاكل، استطاع الشهيد إيصال نفسه إلى النجف الأشرف واللقاء بالإمام (ره)، والتباحث معه حول أوضاع الحوزة العلمية بقم، وكذا شؤون النهضة الإسلامية. وكانت هناك مكاتبات خاصة بينه وبين الإمام (ره) دوماً.

ومن الأحداث الأخرى في حياة الشهيد خلال عام 1355هـ ش تأسيس (رابطة العلماء المجاهدين بطهران) بالتعاون مع جمع العلماء. فالشهيد كان يشعر بالحاجة إلى رابطة للعلماء في طهران، وكان يعتقد بلزوم وجود مثل هذه الرابطة في سائر المدن. فكلما مضت الأيام كان ظل الساواك يخيم أكثر على الشعب وتشتد حالة الكبت في المجتمع؛ فعناصر الساواك قد نفذت في المنازل والمجالس الخاصة، وكانت تراقب كل حركة وفكر وقول ديني أو سياسي. وقد بلغ الأمر درجة بحيث لم يكن يثق بعض أفراد العوائل في بعضهم بعضاً. وكانت الحكومة والقانون والسياسة والأمن والاقتصاد والثقافة، كلها تدور حول مدار السلطنة المطلقة لمحمد رضا شاه. وكانت المصادر الاقتصادية العظيمة والبرامج الثقافية والمشاريع العسكرية تسخر لأجل الحفاظ على سلطة محمد رشا شاه.

والقوة الوحيدة التي كانت تشكل تهديداً لسلطته هي مراجع التقليد والحوزات العلمية والعلماء الأعلام. أي الدين، لأن الدين قد تجسد في الحوزات العلمية، والحوزات العلمية قد تبلورت في شخص الإمام (ره)، والإمام لم يكن ليهادن النظام أبداً. والعلماء كانوا يدافعون بصورة عامة عن الإمام (ره) ويضحون في طريقه ونهجه. وكان لكل منهم موقعه الاجتماعي بما يتناسب مع علمه وتقواه وعمله الاجتماعي، وهذا مما كان يشكل خطراً على الشاه.

ولمواجهة هذا الخطر أقدم النظام على الأمور التالية:

1ـ خلق التبعية في الحوزات العلمية للنظام.

2ـ التهمة وتضعيف المكانة الاجتماعية.

3ـ التصدي للنشاطات السياسية والتوعوية.

4ـ الرقابة والملاحقة المستمرة.

5ـ السجن، التعذيب، النفي، ومنع ارتقاء المنبر.

6ـ تقوية الأحزاب السياسية المعارضة للحوزات كاليساريين والمنافقين.

وكانت شدة التضييق على الحوزات العلمية بين الأعوام (50ـ1356هـ ش) قد بلغت درجة، بحيث كان أكثر العلماء الثوريين إما في السجن أو النفي أو ممنوعاً من ارتقاء المنبر أو مضايقاً عليه، ومن ضمنهم الشهيد مطهري الذي منع من ارتقاء المنبر، وصدر أمر بإخراجه من الجامعة.

ونظراً لانتشار الفكر الماركسي وظهور منظمة مجاهدي الشعب (المنافقين) ذات الأفكار الالتقاطية، فقد شعر الشهيد مطهري بالخطر على مستقبل النهضة الإسلامية، فضاعف من جهوده الفكرية وكتاباته أملاً في المحافظة على جهود الثوار المسلمين وعدم مصادرتها لصالح الماركسيين.

استشهاد نجل الإمام السيد مصطفى

في أول من شهر آبان 1356هـ.ش، توفي السيد مصطفى الخميني بصورة غامضة، والقرائن والشواهد ومن جملتها آثار التسمم الشديد في بدنه تدل على استشهاد هذا العالم المفكر. وبانتشار نبأ استشهاده بدأت مرحلة جديدة من النهضة في مدن وقرى إيران؛ فأقيمت مجالس الفاتحة، وكان اسم (الخميني) زينة هذه المجالس ودليل على دوام النهضة والثورة على الطاغوت، وتعالت صيحات الاحتجاج على حالة الكبت والاختناق، واصطبغت الثورة في مرحلتها الجديدة بصبغة دينية بحتة.

وقد أقام العلماء والمراجع مجالس الفاتحة تكريماً لمنزلة الشهيد السيد مصطفى الخميني، ودعماً وطاعة للإمام الخميني (ره). ومن جملة هذه المجالس هو المجلس الذي أقامه الشهيد مطهري بمعية جمع من زملائه في مسجد أرك بطهران. وقد بعث الإمام الخميني (ره) رسالة إلى الشهيد مطهري حول هذه المجالس هذا نصها:

25 ذي الحجة 97

بسمه تعالى

أسأل الباري تعالى لكم السلامة والتوفيق.

إنني أرى من اللازم عليّ أن أشكر عموم السادة على محبتهم وعواطفهم تجاه هذه الحادثة، وبما أنه غير ميسر لي أن أشكر السادة كل على انفراد، لذا أطلب من جنابكم السامي ـ الشريك في هذا الأمر ـ أن تشكر من جانبي ـ سواء هاتفياً أو بحسب المقتضى ـ، السادة الذين أقاموا المجلس في مسجد أرك، أو كما ذكر، بعثوا ببرقيات، وإنني وإن تشكرت بصورة عامة، إلا أنني أرى من اللازم إبداء شكري وامتناني إلى خصوص السادة المحترمين سواء العلماء الأعلام أو الخطباء أو المفكرين والمهندسين والأطباء وغيرهم. وبما أن لكم علاقات مع الجميع وتعرفون الطريق جيداً، فإنني أزاحمكم في هذا الأمر.

أسأل الله السلامة والسعادة للجميع، والسلام عليكم ورحمة الله.

روح الله الموسوي الخميني

انتفاضة أهالي قم

بعد إقامة مجالس الفاتحة على روح نجل الإمام السيد مصطفى الخميني، استشاط النظام غضباً، وكتب مقالاً في صحيفة اطلاعات ـ وقيل بعد ذلك إن كاتب المقال كان وزير الإعلام آنذاك داريوش همايون ـ أهان فيه الإمام (ره).

اثر ذلك ثار طلاب الحوزة العلمية في قم، وقاموا بتظاهرات طافوا خلالها شوارع المدينة والتحق بهم جمع من الناس، ووقعت مصادمات بينهم وبين عناصر النظام، استشهد خلالها عدد منهم، وكانت أنعطافاً في النهضة الإسلامية. وقد تعاطف المراجع العظام مع الطلبة في هذه الحادثة، وانتشر نبأها في كل أرجاء إيران.

في هذا الظرف الحساس، كان للشهيد مطهري دور بارز وخاص في النهضة، فقد كانت مكانته بصورة بحيث كان موضع احترام وثقة المراجع، ويمكن القول إنه كان حلقة وصل بين الإمام وسائر المراجع. ومن خصوصياته أن علاقاته كانت وثيقة جداً مع المراجع، ولم يكن ليحقر أحداً من المراجع من أجل محبة الإمام (ره). ففي المجلس الذي أقيم في قم والذي هتف فيه أحد الأشحاص قائلاً: من أجل سلامة مرجع الشيعة الوحيد صلّوا على محمد وآل محمد، لم يرض الشهيد على هذا الأمر، وقال: عظمة الإمام محفوظة في مكانها، إلا أنه ينبغي عدم إهانة سائر المراجع. وفي رسالته التاريخية إلى الإمام الخميني (ره) عام 1356هـ ش، يذكر الشهيد:

"وفي هذا المقام أيضاً، ينبغي إبداء أسفي لأن بعض أصدقاءنا يربون الطلبة الشباب والتلاميذ والشباب الجامعي على بغض وحقد العلماء باستثناء شخصكم، مما لها عاقبة وخيمة جداً على الإسلام والعلماء. يحسن من سماحتكم أن تأمروا بيتكم المحترم بالتحقيق الكامل حول الأصدقاء والمحبين في هذا المجال، وتذكير الذين اتخذوا هذا الأسلوب".

هذه العلاقة بين الشهيد ـ والذي يمثل نهج الإمام الخميني في إيران ـ وسائر المراجع تعتبر من نقاط القوة في النهضة الإسلامية آنذاك، ولولا هذه العلاقة لواجهت النهضة في بدايتها صعوبات أكثر. إن دور الشهيد مطهري في التنسيق بين سائر المراجع مع نهضة الإمام الخميني (ره) وتشجيعهم على إصدار البيانات، وخصوصاً دوره الخفي في أحداث 29 بهمن في تبريز بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على شهداء قم، مازال مستوراً ومخفياً.

إن التفات الأستاذ الشهيد لسائر المراجع، خصوصاً كان مطروحاً آنذاك أن العلماء ذاتياً وبحسب شريحتهم الاجتماعية غير ثوريين، وعندما يصبحون ثوريين فلأجل أمر آخر يخفونه، ولأجل استغلال الجماهير، والإمام الخميني مستثنى من هذه القاعدة. هذه الفكرة كانت متأثرة بالماركسية. لهذا ترى الشهيد يكرم في كتابه (الحركات الإسلامية خلال القرن الأخير) قسم قيادة النهضة، سائر المراجع، وذلك لعدم إنكار دورهم، وكذا التنسيق بينهم وبين قيادة النهضة.

بعد هجرة قائد الثورة الإسلامية إلى باريس، كان الشهيد مطهري على ارتباط دائم معه، وكما قال حجة الإسلام والمسلمين هاشمي رفسنجاني في مقابلة تلفزيونية: "كان منزل الأستاذ مطهري مركز هداية الثورة في داخل البلد، والتنسيق مع قيادة الإمام".

مشروع تأمين النفط

بعد إضراب عمال النفط عن العمل واجهت البلاد نقصاً شديداً في الوقود، فطرح الشهيد مطهري مشروعاً لتأمين النفط للداخل، واقترح على الإمام الخميني أسماء أعضاء اللجنة التي يجب عليها السفر إلى جنوب البلاد، فوافق عليه الإمام. هذا المشروع كان من ابتكارات الشهيد. ففي تلك الظروف كانت الأفكار الماركسية قد وقعت أثرها حتى في نفوس بعض الإسلاميين، حيث كانوا يتصورون أن من الأفضل عدم تأمين النفط للداخل حتى تصل الأوضاع إلى حد الانفجار فيكون في صالح النهضة الإسلامية. إلا أن الشهيد مطهري هذا العالم الواعي أدرك جيداً هذا الانحراف، وواجهه مستدلاً: أولاً بأن لا قيمة لثورة تعني انفجار، ولو قطع الماء والعشب عن الخراف، فإنها تبعبع. وقيمة الثورة أن تكون عن وعي وإرادة. والثورة بمعنى الانفجار هي ما يريده الماركسيون، لهذا تراهم يرفضون أي إصلاح أثناء الثورة ويعتبرونه سبباً في تأخير انتصار الثورة. فالثورة في رأيتهم كالقدر المليء بالماء والمغطى جيداً، فيضعونه على النار حتى يؤدي ضغط الماء إلى انفجار القدر. فيجب أن يبلغ الحرمان والاختلاف الطبقي واستثمار المحرومين درجة بحيث يؤدي إلى انفجار المجتمع كالقدر المليء بالماء.

وأما استدلاله الثاني فهو أنه إذا تم تأمين النفط للداخل، تأخذ قيادة الإمام (ره) بعداً إيجابياً أيضاً، وهو يمسك بزمام البلاد عملياً، وبتعبير آخر كانت أوامر الإمام لحد الآن تحمل جانباً سلبياً ومكافحة الوضع الحاكم، لكن هذا الإقدام يؤدي إلى إيجاد جانباً إيجابياً وبناء النظام المستقبلي وانتزاع الأمور من يد الشاه. لهذا اقترح الشهيد مطهري على الإمام هذا الطرح وكذا أعضاء اللجنة المتكونة من السادة حجة الإسلام والمسلمين هاشمي رفسنجاني والمهندس مهدي بازرجان والمهندس مرتضى كتيرائي، ووافق الإمام على الاقتراح.

كان الشهيد مطهري طوال فترة اشتداد وتيرة الثورة الإسلامية، يسعى جاهداً إلى عدم استغلال الأحزاب والجماعات المتظاهرة بالإسلام وذات الأفكار المنحرفة لها. لأنه كان يؤمن بقوة بالدفاع عن خلوص الثورة فكرياً وعقيدياً، وأن الهدف ليس الثورة فقط بل ثورة الإسلامية، ولهذا كانت هذه الجماعات تكن العداء الشديد للشهيد، وبلغ هذه العداء درجة بحيث اتهموا الشهيد بأنه المانع عن دعم الإمام لهم، وإلا فلا مخالفة للإمام معها، وطبعاً هذا ناشئ من عدم معرفتهم الصحيحة للإمام الخميني (ره).

تشكيل مجلس قيادة الثورة

ومن أجل تبادل الآراء مع الإمام بشأن قضايا الثورة الإسلامية المختلفة، سافر الشهيد مطهري قبل أشهر من انتصار الثورة إلى باريس والتقى بالإمام الخميني (ره). وقد أمر الإمام (ره) الشهيد مطهري في هذا السفر بتشكيل مجلس قيادة الثورة، ثم بعد ذلك أعلن الإمام عن وجود هذا المجلس في جامعة طهران وبحضور الشعب.

وعندما منع بختيار من دخول الإمام إلى البلاد، كان الشهيد مطهري على رأس العلماء الذين تحصنوا في جامعة طهران، ولعله كان هو المقترح لهذه الفكرة ومحل التحصن. يقول أحد المتحصنين: كنت قد سمعت أن الشهيد مطهري أهل للتهجد وصلاة الليل، فأردت أن أراه ماذا يفعل في هذه الليالي. كان منتصف الليل. فتظاهرت بالنوم، فرأيت الشهيد مطهري نهض بهدوء، وخرج من مسجد الجامعة، فاتبعته، فرأيته يتضوء ثم ذهب إلى مكان بعيد واشتغل بالصلاة والتهجد، والحال أن تلك الأيام كانت شدة أيام العمل والتعب.

رئاسة لجنة استقبال الإمام (ره)

بعد قرار الإمام بالعودة إلى إيران، ترأس الشهيد مطهري بنفسه لجنة استقبال الإمام، وكان هذا الأمر ذو تأثير بالغ على عدم نفوذ الانتهازيين كالمنافقين في هذه اللجنة. ولدى أعضاء اللجنة ذكريات جميلة حول سلوك وتصرفات وتعامل وحساسية الشهيد في اللجنة.

وعندما هبطت الطائرة التي تقل الإمام الخميني (ره) وقبل أن يخرج من الطائرة، طلب الإمام الشهيد مطهري، وبعد الإطلاع على كامل أوضاع البلاد، والبرامج المعدة، حينها نزل الإمام من الطائرة، مما يدل على ثقته الكاملة بالشهيد مطهري. كما أن نص بيان الترحيب بالإمام و الذي تلي في المطار قد أعده الشهيد مطهري.

كان الشهيد مطهري يعتبر الهوية الرئيسة للثورة إلهية ونبوية، وأنها قامت على الشعور الإلهي أو إلهية الشعور.

وأشير سابقاً أن الشهيد مطهري كان يعتقداً بأن الظاهر السياسي والنضالي والقهري للثورة ـ يجب أن يكون مبنياً على الإيمان والعقيدة الإلهية والوعي المعنوي، وإلا فلا تثمر هذه الثورة. وقد فسر الثورة الإسلامية عام 1357هـ ش بناءً هذه النظرية التي طرحها عام 1342هـ ش.

وما جاء في حديثه:

"هذه النهضة تعتبر من فصيلة نهضات الأنبياء، أي إنها قامت على أساس الشعور الإلهي أو (إلهية الشعور)، ونجد جذور هذا الوعي والشعور في أعماق الفطرة البشرية، وينبع من الضمير الباطني للانسان.

إن الانسان الذي يحصل على الشعور الإلهي وتصبح القيم الانسانية الرفيعة هدفاً له، هذا الانسان يتحرر من اتباع الفرد كفرد أو معاداة الشخص كشخص، ذلك أنه يصبح من أتباع العدالة وليس العادل، ويعادي الظلم وليس الظالم، وأن اتباعه للعادل وعداءه للظالم ليس ناشئاً من العقد النفسية والشخصية، بل ناشئاً عن الأصول الفكرية التي يعتقد بها ورسالته التي يحصلها".

وقد بيّن الشهيد مطهري جذور الثورة الإسلامية هكذا:

ـ تحكم الدكتاتورية العنفية الوحشية وانعدام كل نوع من الحرية.

ـ نمو الاستعمار الجديد أي الاستعمار اللامرئي والخطير في جوانبه الثلاث السياسية والاقتصادية والثقافية.

ـ فصل الدين عن السياسة.

ـ محاولات إرجاع ايران إلى عهد جاهلية ما قبل الإسلام وإحياء الشعائر المجوسية وإماتة الشعائر الإسلامية الأصيلة.

ـ قلب وتحريف الثقافة الإسلامية القيمة ثم تسميتها بتسمية وهمية هي الثقافة الايرانية.

ـ إشاعة الماركسية الحكومية أي الجوانب الالحادية من الماركسية فقط وليس الجوانب السياسية والاجتماعية.

ـ وقوع المجازر الوحشية وعدم إعطاء قيمة لدماء المسلمين الايرانيين، وتعميم التعذيب والسجون للمتهمين السياسيين.

ـ النمو الفاحش للاختلاف الطبقي برغم الاصلاحات الظاهرية الكاذبة.

ـ تسلط العناصر غير المسلمة على المسلمين عبر الدولة وسائر الأجهزة الحكومية.

ـ النقض الصريح والعلني للقوانين والأحكام الإسلامية سواء بصورة مباشرة أو على شكل إشاعة الفساد في جميع المجالات الثقافية والاجتماعية.

ـ مكافحة الأدب العربي الإسلامي الذي كان حافظاً وحارساً للروح الإسلامية في ايران باسم مكافحة اللغات الأجنبية.

ـ قطع العلاقات مع البلدان الإسلامية والتعاون مع البلدان غير الإسلامية والمعادية لها أحياناً كإسرائيل.

كما عدد الشهيد مطهري الآفات التي يمكن أن تؤدي إلى فشل الثورة، ويجب مواجهتها دائماً هكذا:

ـ تغلغل الفكر الأجنبي.

ـ التجدد المفرط في الإسلام.

ـ عدم إتمام مسيرة الحركة.

ـ تسلل العناصر الانتهازية.

ـ الغموض في البرامج المستقبلية.

ـ فقدان الاخلاص في العمل الثوري.

لهذا وقع هدفاً لسهام أنصار (إسلام بلا علماء). وقد عرف الأعداء جيداً لأي هدف يوجهون سهامهم وأي متراس للثورة يهاجمون.

الاستشهاد

وفي النهاية استشهد الشهيد مطهري في ليلة الثاني عشر من ارديبهشت (الشهر الثاني الفارسي) عام 1358هـ ش، أي بعد أقل من أربعة أشهر على انتصار الثورة، على يد جماعة فرقان المنحرفة، والتحق بالرفيق الأعلى.

تروى زوجته هذه الحادثة فتقول: قبل ثلاثة ليالي من شهادته، رأى مناماً وكانت آخر ليلة جمعة. استيقظ من النوم بحالة عجيبة فسألته. ماذا حدث؟ فقال: رأيت مناماً. كنت والإمام الخميني نطوف حول الكعبة فجأة لاحظت ان الرسول (ص) يقترب مني بسرعة، ولما كان يقترب مني تراجعت إلى الوراء حتى لا اسيء احترام الإمام، وقلت: يا رسول الله إن هذا السيد من أولادك فاقترب رسول الله من الإمام ثم عانقه، وبعدها اقترب مني وعانقني. ثم وضع شفاهه على شفاهي ولم يرفعها، وعندما استيقظت من النوم بحيث انني مازلت اشعر بحرارة شفاهه على شفاهي ثم سكت هنيئة، وقال إنني متأكد ان شيئاً مهماً سوف يحدث قريباً.

بعد أقل من ثلاثة أشهر على انتصار الثورة الإسلامية وبينما كان عائداً إلى منزله فتح عليه المجرمون أعداء الثورة الإسلامية النار فسقط شهيدا.. وكان ذلك في 2/5/1979.

اغتالوه… لقد نفذ صبرهم وهم يشاهدونه يدفع بعجلة الثورة الإسلامية إلى الإمام بقلمه ولسانه وكل ما بوسعه.

العلاقة بين الإمام الخميني (ره) والأستاذ الشهيد مطهري

الإمام الخميني (ره) والشهيد مطهري كانا كتابين يفسر بعضهما بعضاً. فلم يكن أحد يعرف الإمام جيداً كالشهيد مطهري، وكذا لم يكن أحد يعرف الشهيد مطهري جيداً كالإمام، وهذا ناشئ من تلمذ الشهيد لمدة اثني عشر عاماً على يد الإمام (ره) والعلاقة الحميمة للأستاذ الشهيد بالإمام والتي استمرت حتى لحظة استشهاده، وكذا السنخية الروحية والعرفانية بينهما رغم التفاوت في الدرجة. ونظرة إلى أقوال الأستاذ مطهري حول الإمام الراحل (ره) وكذا أقوال الإمام في الشهيد تكشف عن هذه الحقيقة.

يقول الشهيد مطهري في كتابه (حول الثورة الإسلامية) هكذا:

"إنني درست اثنتي عشرة سنة تقريباً عند هذا الرجل العظيم، لكن ذهبت إلى لقائه في سفري الأخير إلى باريس، فكشفت أموراً في معنوياته لم تزد في حيرتي فحسب، بل ازداد إيماني به أيضاً. وعندما رجعت سألني الزملاء: ماذا رأيت؟ فقلت: رأيت فيه أربعاَ:

ـ آمن بهدفه، فلو تكالبت عليه الدنيا، لم تصرفه عن هدفه.

ـ وآمن بسبيله، فلا يمكن صرفه عنه، وهو أشبه بإيمان الرسول بهدفه وسبيله.

 

 

ـ آمن بقومه، فمن بين من أعرفهم، لم أجد أحداً يؤمن بمعنويات الشعب الإيراني مثله. فينصحونه أن تمهّل قليلاً، فالناس قد تعبوا وفتروا، فيقول: كلاّ، ليس الناس كما تقولون، إنني أعرف الشعب أفضل منكم. ونرى صحة كلامه تتجلى يوماً بعد يوم.

ـ وأخيراً، والأسمى منها جميعاً، آمن بربّه.

في إحدى الجلسات الخاصة كان يقول لي: يا فلان، إننا لسنا الذين نقوم بكل هذه، فإنني أشعر بوجود اليد الإلهية. والإنسان الذي يشعر بوجود يد إلهية، ويخطو خطوة في سبيل الله، فالله ينصره بحسب الآية {إن تنصروا الله ينصركم}.

أو مثلما جاء في قصة أصحاب الكهف. يقول القرآن الكريم: {إنهم فتية آمنوا بربّهم} وتوكلوا عليه، {فزدناهم هدى}. إنهم قاموا لله، فثبت الله سبحانه وتعالى قلوبهم.

إنني أرى بوضوح مثل هذه الهداية والتأييد في هذا الرجل؛ فهو قد ثار لله، فأعطاه الباري تعالى قلباً قوياً لم يجد الخوف والتزلزل إليه سبيلاً.

وأذكر ميزة أخرى في هذا الرجل، قد لا تصدقون أن هذا الرجل الذي يصدر هذه البيانات الملتهبة نهاراً، يناجي ربّه في الأسحار ساعة على الأقل، ويذرف الدموع بصورة يصعب تصديقها.

هذا الرجل في الحقيقة نموذج لعلي (ع)؛ فقد قيل إن عليّاً كان يبتسم أمام العدو في الحرب، وأما في محراب العبادة فيغشى عليه من شدة البكاء. ونحن نرى نموذجاً له في هذا الرجل".

أما كلام الإمام الخميني (ره) في الشهيد فلا شك أنه لا نظير له، فلم يقل الإمام (ره) في أحد مثلما قاله في الشهيد مطهري، كما أنه لم يبكِ لأحد علناً كما للشهيد، وهنا ندرج هذا الكلام بالترتيب:

نداء الإمام (ره) بمناسبة استشهاد الأستاذ مطهري (ره)

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا لله وإنا إليه راجعون

إنني أعزي وأهنئ الإسلام والأولياء الكرام والأمة الإسلامية وخاصة الشعب الإيراني المجاهد، بمصابهم المؤسف بالشهيد الجليل والمفكر الفيلسوف والفقيه الكبير المرحوم الحاج الشيخ مرتضى مطهري قدس سره؛ أما العزاء فباستشهاد ذلك الرجل الفذّ الذي قضى حياته الكريمة الغالية في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية المقدسة والكفاح المتواصل مع كل الأفكار الملتوية المنحرفة. ذلك الرجل الذي عزّ له مثيل في معرفة الدين الإسلامي والمعارف الإسلامية المختلفة وتفسير القرآن الكريم. أما أنا فقد فقدتُ ولداً عزيزاً وقد فُجعت بوفاته فكان من الشخصيات التي أعدّها ثمرة حياتي.

وقد ثلم في الإسلام باستشهاد هذا الولد البار والمفكر الخالد ثلمة لا يسدّها شيء.

وأما التهنئة فلأننا نحظى بوجود أمثال هؤلاء الرجال الذين يضحّون بأنفسهم ويشعون بالنور في حياتهم وبعد وفاتهم. إنني أهنّئ الإسلام العظيم مربّي الأجيال واهنّئ الأمة الإسلامية بتربية رجال يفيضون بالحياة على القلوب الميّتة وبالنور على الظلمات. وإني وان خسرت ابناً عزيزاً كان كبضعة مني، ولكني أفتخر؛ بأنه كان وسيكون في الإسلام وسيكون مثله.

لقد غاب عنّا مطهري الذي قلّ له مثيل في طهارة الروح وصلابة الإيمان وقوة البيان، والتحق بالرفيق الاعلى، ولكن الأعداء لن يستطيعوا أن يقضوا على شخصيته الإسلامية والعلمية والفلسفية، وان المغتالين لن يتمكنوا من اغتيال الشخصية الإسلامية لرجال الإسلام. وليعلموا أن فقدان الشخصيات الكبار لن يزيد شعبنا ـ إن شاء الله العزيز ـ إلاّ تصميماً وعزماً في استمرار الكفاح ضد الفساد والاستبداد والاستعمار. إن شعبنا قد اهتدى إلى سبيله ولن يألو جهداً في قطع الجذور النتنة للنظام البائد وأعوانه الخبثاء. إن الإسلام العزيز نما وترعرع بالتضحيات وتقديم الأبطال. ولقد جرت سنّة الإسلام منذ نزول الوحي على الشهادة والشهامة. ومن أهم ما يدعو إليه الإسلام هو القتال في سبيل الله والمستضعفين {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ..}.

وهؤلاء الذين تيقّنوا الهزيمة والفناء يحاولون الانتقام بهذا العمل اللاإنساني أو ارعاب المجاهدين في سبيل الإسلام. وإن خابت ظنونهم؛ فمن كل شعرة لكل شهيد ومن كل قطرة دم تروي الأرض سينبعث مجاهد قوي العزيمة. فلا سبيل لكم للعودة إلى نهب ثروات الشعب ألاّ أن تغتالوا جميع أبناء هذه الأمة، ولن ينفعكم اغتيال الفرد مهما كان عظيماً، ولن يتراجع الشعب الثائر لاعادة مجد الإسلام متوكلاً على الله تعالى بهذه المحاولات اليائسة؛ فنحن مستعدون للتضحية والاستشهاد في سبيل الله.

انني أعلن يوم الخميس 13 ارديبهشت 1358هـ.ش الموافق ليوم 6 جمادي الثاني 1399[هـ.ق]. يوم حداد عام على رجل فذّ مناضل مجاهد في سبيل الإسلام والشعب، وسأقيم شخصياً مجلس التأبين في المدرسة الفيضية يومي الخميس والجمعة. وأسأل الله تعالى لابن الإسلام العزيز الرحمة والغفران وللدين الإسلامي الكرامة والمجد. والسلام على شهداء الحق والحرية.

بيان الإمام (ره) بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد الأستاذ مطهري (ره)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الثورة الإسلامية انتصرت بإرادة وتوفيق الباري تعالى وبالرغم من اصحاب السوء والمعارضين، وأن المؤسسات والأجهزة الإسلامية الثورية قد تم انجازها واحدة بعد الأخرى خلال عام واحد وبكامل الهدوء والتوفيق، إلا أن شعبنا والحوزات الإسلامية العلمية قد أصيبت بخسائر غير قابلة للجبلة بأيدي المنافقين المناوئين للثورة، وذلك مثل خيانة اغتيال العالم الإسلامي العظيم حجة الإسلام الشيخ الشهيد مرتضى مطهري رحمة الله عليه. انني لا استطيع هنا أن أبدي مشاعري وعواطفي تجاه هذه الشخصية العزيزة.

إن ما ينبغي ذكره حول الشهيد هو انه قدم خدمات قيّمة للإسلام والعلم، وانه يبعث على الأسف أن تمتد أيدي مجرمة لتأخذ هذه الشجرة الغنية من الحوزات العلمية والإسلامية، وأن تحرم الجميع من ثماره القيمة.

إن مطهري كان ابنا عزيزاً لي وسنداً قوياً للحوزات الدينية والعلمية، وكان خادماً نافعاً للشعب والوطن. فرحمه الله، وأسكنه إلى جوار خدمة الإسلام العظام.

ويسمع هذه الأيام أن المخالفين للإسلام، والفئات المناوئة للثورة تسعى ـ بإعلامها المضاد للإسلام ـ إلى إبعاد شبابنا الجامعي العزيز عن الاستفادة من كتب هذا الاستاذ الفقيد. انني أوصي الطلبة الجامعيين والمثقفين الملتزمين أن لا ينسوا كتب هذا الاستاذ العزيز بواسطة دسائس غير الإسلاميين.

أسأل الله تعالى التوفيق للجميع والسلام على عباد الله الصالحين

روح الله الموسوي الخميني

5 جمادي الآخرة 1400ﻫ.ق