ولادته

 ولد الشهيد السيد عبدالكريم بن السيد حسن هاشمي نجاد عام 1311هــ.ش في مدينة بهشهر من محافظة مازندران في أسرة متدينة محرومة. كان والده رجلاً مؤمناً شهماً له دكان يبيع فيه النفط ويقتات به لعياله. وكانت والدته امرأة عفيفة تدعى "سارة" تسهر على تربية ولدها.  

 ترعرع السيد عبدالكريم في وقت تمادت فيه حكومة رضا خان في طغيانها؛ ففي حينها راح رضا خان يعمل بكل قواه على إضعاف التيار الديني وعلماء الدين. والواقع هو أن إيران لم تشهد فترة مظلمة عانى فيها الدين وأهله الأمرّين كالسنين العشرين التي حكم فيها رضا خان. في ظروف كهذه، نما السيد عبدالكريم في ظل والدين مؤمنين على معرفة الله وحب أوليائه. في عام 1320هــ.ش عندما كان في العاشرة من عمره، غادر رضا خان أرض إيران تاركاً ابنه محمد رضا شاه على العرش.  

 

على طريق العلم

 وكغيره ممن ترك بصمات على التاريخ، كان السيد عبدالكريم يتمتع منذ صغره بذكاء وحس متميز؛ فقد كان إلى سن الرابعة عشرة يواصل دراسته من ناحية، ويسارع إلى إعانة والده في المساء من ناحية أخرى، فوعى معنى الصعوبات والمشكلات واستشعر معاناة الناس بوضوح. وفي هذا العمر بالذات وجد في نفسه رغبة الدراسة في الحوزة العلمية، فحدث أباه عن تلك الرغبة، ولمّا نال رضاه توجه إلى مدرسة آية الله الكوهستاني في قرية كوهستان الواقعة على بعد ستة كيلومترات من مدينته بهشهر ليستلهم إلى جانب مئتين من الطلبة الشباب باقة من علوم أهل البيت عليهم السلام. كان آية الله الكوهستاني يقوم على تدريسهم بروحه الصافية السامية. فتأثر الشاب عبدالكريم المتعطش للعلم والأخلاق بسلوك أستاذه وبساطة عيشه، وراح يواصل دراسته وينشد الكمال الروحي بكل جد ونشاط، فأنهى خلال أربع سنوات دروس المرحلة التمهيدية (المقدمات) ومقداراً من مرحلة المتوسطة (السطوح) في الفقه وأصوله.

 لقد أبدى السيد عبدالكريم خلال هذه الفترة من النبوغ ما جعل الأستاذ يشرف على تعليمه بنفسه بشكل مباشر لكي لا تهدر طاقته الذهنية والفكرية خلال مرحلة المقدمات القصيرة. والشهيد هاشمي نجاد لا يفتأ يذكر هذه المرحلة من حياته بكل خير وإجلال ويعتبرها نقطة انعطاف في حياته الروحية والأخلاقية.  

 

في حوزة قم

 بعد ذلك، استأذن السيد أستاذه في التوجه إلى مدينه قم ليواصل دراسته في الفقه والأصول. وفي قم، التقى أولاً الشيخ علي الكاشاني فريد الإسلام ليتخذ منه أستاذاً له في الأخلاق. كان الشيخ علي من الصالحين في عصره وكان آية الله الكوهستاني هو الذي عرفه للسيد عبدالكريم. فعاش السيد عبدالكريم معه في غرفة واحدة مدة من الزمن واستغرق في شخصيته يستلهم منها الفضيلة والكمال، حتى قيل إنه استطاع من خلال مرافقة رجل كهذا أن يلتقي الإمام صاحب الزمان عليه السلام.

 وبعد أن أتم مرحلة السطوح، راح يحضر دروس البحث الخارج في الفقه والأصول لدى سماحة السيد البروجردي والعلامة الطباطبائي والإمام الخميني (ره) ليقضي ما يزيد على عشر سنوات من البحث والدراسة في مدينة قم. ومن أساتذته الآخرين شهيد المحراب صدوقي والسيد رضا الصدر وآية الله مجاهدي والمرحوم الداماد وغيرهم.   

 

رحيله إلى مشهد

بعد رحيل آية الله البروجردي عام 1340هــ.ش، قصد الشهيد هاشمي نجاد مدينة مشهد المقدسة ليستقر فيها. فأخذ هناك يلقي دروس الفقه والأصول على الطلاب ويقيم الجلسات ومنابر الدعوة، إلى جانب حضوره درس الفقه لدى آية الله العظمى السيد محمد هادي الميلاني، كما حضر دروس الفقيه الكبير آية الله العظمى الشيخ مجتبى القزويني لبضع سنين.

تزوج الشهيد هاشمي نجاد في عام 1335هــ.ش وهو في الخامسة والعشرين من أخت السيد حسن الأبطحي بالرضاعة ليقيم عقد قرانه عند مرقد الأمام الرضا عليه السلام وبحضور آية الله الميلاني.   

 

شخصية فاضلة ومتميزة

 كانت حياة السيد عبدالكريم منذ زواجه وإلى آخر حياته في غاية البساطة؛ فقد كان يتقاضى كغيره من طلاب الحوزة وأساتذتها مرتباً شهرياً من الحوزة، ولم يكن يستعمل شيئاً من الأموال الشرعية في نفقاته الخاصة؛ فكان يعيش من خلال التدريس في الحوزة مع شيء مما كان يحصل عليه من الدعوة والخطابة أو ما كان ينشره من كتب ومؤلفات. كان الشهيد قد أسلم أمره لله، كما كان يحب أهل البيت عليهم السلام بشكل خاص. كان يلتزم أداء الفرائض وترك المحرمات بكل حزم وتقيد، ويتجاوز عن الآخرين بسهولة، ويجانب التكبر والغرور، ويعايش الناس ولا سيما المحرومين ويهرع إلى مساعدتهم. كان الشهيد هاشمي نجاد يصغي إلى من يخالفه برحابة صدر ويجالسه للتباحث والنقاش. كان حساساً جداً بالنسبة إلى القضايا الثقافية ويشعر بالمسؤولية تجاهها، وكان يحلل تاريخ الإسلام بشكل جيد. كانت الشجاعة الفائقة وتنظيم الأعمال والوفاء بالعهد من أبرز صفاته.  

 

في خندق الدعوة والتبليغ

ومنذ العام1340هــ.ش أخذ الشهيد بتوعية الناس من خلال جلسات الوعظ والدعوة. وبعد حاثة 15 خرداد، قام بسفرات للتبليغ في محرم وصفر ورمضان إلى نيشابور وري وشالوس وغيرها ليطرح مسائل جديدة ويجيب عن أسئلة الناس العلمية والاجتماعية وينبههم إلى الحكم الجائر آنذاك. وفي هذه الأسفار كان الساواك يتابعه كظله؛ والحقيقة هي أن قسماً كبيراً من ملف الشهيد هاشمي لدى الساواك يختص بأسفاره العلمية السياسية هذه. وفي مدينة مشهد قام بتأسيس "المركز الثقافي للشباب" من أجل توعيتهم الدينية والسياسية، وفي عام 1343هــ.ش أسس بالتعاون مع السيد حسن الأبطحي "مركز البحث والنقد الديني" بهدف إرشاد الشباب وتثقيفهم. كان السيد الأبطحي يمثل مؤسس المركز والشهيد هاشمي نجاد هو المتحدث باسمه، فأدى هذا العمل إلى خروج عملية الدفاع عن الدين والثقافة الإسلامية من الحالة أحادية الجانب والتدريس ومنبر الدعوة العامة، إلى شكل من التباحث والانتقاد والسؤال والجواب لجيل متطلع من الشباب المثقف والمتعلم. وكان للمركز فرعان يقيم أحدهما جلساته صباح يوم الجمعة والآخر مساء ذلك اليوم في مكانين مختلفين؛ وفي السنوات اللاحقة أصبح للمركز فرع رئيس ومكتبة. ويروي الساواك في عام 1344هــ.ش عن النظام الداخلي للمركز متحدثاً عن أهدافه ويقول: هذا المركز مجمع مستقل وديني لا علاقة له بأي حزب أو جمعية سياسية والدعوة للاشتراك فيه عامة للجميع؛ الغرض من تشكيله هو الإجابة عن الشبهات الدينية والتساؤلات العقائدية. إلا أنه في العام 1349هــ.ش يقول الساواك:"... بشكل عام مهمة المركز في الإجابة عن التساؤلات عبارة عن حجة، بل هو مركز نشاطات مضرة [سياسية ضد النظام]". وعلى الرغم من أن المركز يتناول بالدرجة الأولى المواضيع الدينية والاجتماعية والأخلاقية والعلمية والتاريخية، إلا أن السيد الشهيد كان يتناول بكل شجاعة وفطنة دراسات في قضايا السياسة من قبيل اسرائيل الغاصبة وأمريكا وانتهاكات النظام العميل وغيرها، وهذا ما يسميه الساواك "نشاطات مضرة"!

 وكان مركز البحث والنقد الديني يحظى بدعم مادي ومعنوي غير مباشر من المراجع والفقهاء وكبارعلماء الدين كآية الله العظمى الميلاني الذي عمد بنفسه إلى تقوية هذا الموقع العلمي والديني والسياسي. ومن أجل ذلك كان الساواك يراقب تحركات المركز عن كثب ويدس أفراده فيه. ومن نشاطات المركز القيمة إصداره نشرة شهرية باسم "سؤالك وجوابنا" التي لم يكن لها ترخيص رسمي من النظام!

 وهكذا كان مركز البحث والانتقاد الديني يمارس نشاطه على مدى نحو ثماني سنين من عام 1343 إلى 1350هــ.ش حتى منع الساواك الشهيد هاشمي نجاد من المشاركة والخطابة: "عطفاً على الكتاب 680/312 ــ 29/1/51 يتم إحضار المذكور أعلاه (السيد عبدالكريم هاشمي نجاد) ليبلغ بمنعه من المشاركة والخطابة في مركز البحث والنقد". هذا المركز الذي بدأ نشاطه بصورة سرية ومتنقلة في دور الأعضاء ومن ثم أصبح علنياً.

 ومن فعاليات الشهيد ومواقفه الجهادية الأخرى كشفه وانتقاده لبيع لحوم الخنزير في إيران! واعتراضه على الفن الكاذب وحال الفنانين الفاسدين والإشادة بالفن الإسلامي، ورفض عبادة الخرافات وتقليد الغرب، والاعتراض على مشروع التعليم الجنسي في المراكز التعليمية والثقافية! ودراسة النظام الرأسمالي والشيوعي، والاعتراض على التمايز الطبقي.  

 

حياة شريفة ومواجهة للطاغوت

 لقد بدأ السيد عبدالكريم هاشمي نجاد جهاده السياسي قبل الثورة بمدة طويلة؛ فكان يكشف عن جرائم أسرة البهلوى ويواجهها علناً، وكان في جلسات المركز ومنابر التبليغ ينبه إلى خطر أمريكا وإسرائيل ويسارع في كل فرصة إلى مساعدة التجمعات السياسية.

 واحدى الحوادث المهمة في الحياة السياسية والجهاديه لهذا الشهيد الكبير التي امتدت خمس عشرة سنة، هي اشتراكه في انتفاضة الخامس عشر من خرداد عام 1342هــ.ش، حيث أدى ذلك الى اعتقاله وحبسه مدة واحد وأربعين يوماً في طهران؛ ففي ليلة الخامس عشر من خرداد التي اعتقل فيها السيد الإمام الخميني ( ره) في قم، اعتقل معه أيضاً العديد من العلماء المجاهدين المعروفين من أنصار الإمام في مدن أخرى من البلاد، حيث كان الشهيد هاشمي نجاد أحدهم. كان ذلك أول اعتقال له من قبل الساواك؛ ففي أيام عاشوراء من كل سنة كان يرتقي المنبر في طهران، وقبل أيام من 15 خرداد، ارتقى المنبر في مسجد مروي وهيئة أهل يزد وسوق سراي ملاّ علي والهيئة الحسينية لطهران، وألقى خطباً قوية هاجم فيها النظام وكشف عن حقيقية "إصلاحات الشاه"، من: "مساواة المرأة والرجل في الحقوق"، و"التعتيم الإعلامي"، و"مجزرة الطلاب في المدرسة الفيضية" في الثاني من فروردين عام 1342هــ.ش وغيرها. وقد جاء في تقرير الساواك في طهران عن خطبته: " في الساعة 8:30 إلى 9 من ليلة 10/ 3/1342هــ.ش قام السيد هاشمي نجاد خطيب مسجد مروي... بمهاجمة الحكومة وقال: نحن لا نمتلك أمناً. فهناك اهتمام بشؤون اليهود والبهائية، إلا أنه لا يوجد اهتمام بالمدرسة الفيضية! أفراد الحكومة قتلوا وضربوا مجموعة من طلاب العلوم الدينية، إلا أن الأجهزة القضائية تقول: نحن لا نعرفهم... لماذا لا تذهب الحكومة لتأتي بدلها حكومة أخرى تهتم بأمور الناس؟! حكومة الظالم يزيد أعطت أيضاً الكثير من الحكم الذاتي، ولكنها سقطت أخيراً.. لماذا يجتثون الإسلام من العروق؟...". وفي الليلة التالية في ذلك المسجد أيضاً طلب في دعائه من الله هلاك أعداء العلماء ودعا عليهم بالذل والهوان.

 وبهذا يتضح أن الساواك كان يراقب خطب ونشاطات الشهيد هاشمي نجاد ويرسل بها تقارير قبل حادثة 15 خرداد. وهكذا كانت التبعية والاقتداء بالإمام (ره) هي السبب في اعتقال هذا العالم الشاب البالغ واحداً وثلاثين عاما ًفي الوقت الذي يعتقل فيه القائد.

 يتحدث الشهيد أثناء التحقيق عن سبب اعتقاله ويقول: "... وعن سبب الاعتقال فلعل ذلك لبعض انتقاداتي القانونية في خطبي حول الأوضاع الجارية؛ فإذا كان سبب الاعتقال هو هذا الذي ذكرت حقاً، فإنه مدعاة لبالغ الأسف!". وفي هذا التحقيق نفسه يجيب عن اتهام الساواك له بمحاولة الإخلال بأمن البلاد وتحريض الناس على الإضراب والتحرك يقول: "لا أحد من المسلمين يقوم بفعل يحاول فيه الإخلال بأمن بلد إسلامي وتحريض الناس على الإخلال بالنظام والإضراب والتظاهر، فكيف بشخص مثلي يحمل صفة الدعوة والتبليغ وقيادة الناس في حدوده الشخصية، وإذا كان رجال الدولة يتهمونني بهذه الأمور فذلك مدعاة لكثير من التأسف... فأنا وكل مسلم غيري يتبرأ ويستنكر هذه التهمة".

 وعلى أية حال قضى الشهيد هاشمي نجاد مدة واحد وأربعين يوماً في سجن الشرطة العامة، وبعد التحقيق معه عدة مرات من قبل مديرية الأمن، رفع عنه الاتهام وأطلق سراحه بتاريخ 24/4/1342. فكان طيلة فترة جهاده وحتى انتصار الثورة الإسلامية يذكر حادثة 15 خرداد ويوجه الرأي العام إليها.

 ومن بعد إطلاق سراحه من سجن الساواك، عاد من جديد إلى مشهد ليواصل نشاطه العلمي والسياسي. وفي أوائل الشهر السابع الإيراني من عام 1342 ارتقى المنبر في داره بمناسبة شهادة السيدة الزهراء سلام الله عليها متناولاً قضايا الساعة السياسية والاجتماعية. وفي تاريخ 21/7/1342هــ.ش دعي للخطابة في مسجد فيل، وفي تلك الخطبة تناول الحكومة في حينها بنقد لاذع، واعترض على ألعوبة لجان المحافظات والمدن آنذاك، كما كشف عن الممارسات الخيانية لرضا خان في نزع الحجاب ومحاربة الإسلام والقتل والرشوة وما إلى ذلك. فقال في بعض كلمته: "... نحن نرفض المجلسين[ الشورى والشيوخ الأمريكي]؛ فهذان قد انتخبتهما هي [الحكومة] نفسها... إني لأهزأ بالحكومة؛ لماذا يسجن الخميني والقمي؟! هل فعلا ما يخالف الشريعة‍‍! ‍‍لماذا يمنعون مقالات مجلة "مكتب تشيع" وليس فيها حتى كلمة واحدة في السياسة؟!.. أنا أقول لكي ينفصل المجلسان عن بعضهما وتتراجع الحكومة عن غلطتها، وإلا فإن مصير البلاد إلى خراب. ثم لماذا تقترض الحكومة من غيرها، أي من أمريكا، وترسل أموال إيران إلى اليهود الذين أفنوا العالم؟!..". وقد ‍‍تحدث بكل صراحة وشجاعة عن طبيعة الحكم العميل ليقول في خصوص لائحة لقد ألغت الحكومة لجان المحافظات والمدن: "... لجان المحافظات والمدن التي أقرتها، بحكم العلماء وقانون الإسلام، فلماذا تعيد العمل بها؟! إني أستجوب هذه الحكومة [حكومة أسد الله]!..". وفي اليوم التالي، أي عصر يوم 22/7/1342 في مسجد فيل أيضاً وبحضور آلاف المستمعين المتلهفين إلى حديثه، صعد هاشمي نجاد المنبر وأخذ يخطب بصلابة وهجوم أقوى من الليلة السابقة: "هذه القرارات الأخيرة للحكومة وهكذا مجلس مزور كلها خطأ، والمضحك هنا هو أنهم كلما وقعوا في قبال مواجهات العلماء، أخذوا بالتشدق إليكم أنتم الناس البسطاء عن إصلاحات الأراضي...". واعتبر نزع الحجاب الذي قام به رضا خان أكبر خيانة للدين والدستور وعده جريمة كبرى لا يمكن تناسيها، حيث أدت إلى عواقب مرة على مدى ثماني وعشرين سنة من قبيل ارتفاع نسبة القتل وتفشي الفساد والرشوة والانتحار واختطاف النساء والفتيات والطلاق، هذه الحالات التي لا زال يعاني منها المجتمع الإيراني.

 كان هذا الحديث لا يتحمل بالنسبة إلى الساواك، فقد كانوا قرروا اختطافه في حال عدم إمكان اعتقاله قبل خطبة يوم 22/7/1342؛ نجد في وثيقة الساواك في خصوص ذلك اليوم: "... إذا هاجم سماحة رئيس الوزراء [أسد الله علم ] فإنها غاية الوقاحة. وعلى أية حال صدر أمر توقيفه، فإذا لم يستطيعوا إلى هذه الليلة اعتقاله وأنتم عملتهم أيضاً طبق الأوامر ولم تحصلوا على نتيجة، فعليكم باختطافه كي لا يكبر حجمه ولا يظهر صوته...".

 وبهذا الشكل، حاصرت قوى الأمن والشرطة مسجد فيل في الليلة الثانية عندما كان السيد عبدالكريم يلقي خطبته وجلس رجال الساواك في المسجد يتقمصون لباساً آخر. يقول تقرير الساواك إن الحاضرين بلغوا نحواً من ستة إلى ثمانية آلاف شخص. وبعد الخطبة كان الناس يعلمون باعتقال السيد فلم يتركوا المسجد واقترحوا عليه أن يقوموا بإطفاء القوة الكهربائية في المسجد للحظات لكي يمكنه الهرب! إلا أن السيد أكد لهم أن الهرب هو عمل الجبناء، وقال لو كانوا يريدون اعتقاله فإنه سيقوم بتسليم نفسه بنفسه: "في الساعة 9:15 ليلاً انقطع التيار الكهربائي في المسجد لكي يستعينوا بالظلام ويعطوا فرصة للسيد هاشمي نجاد يفر فيها، إلا أنه جاء الناس فوراً بفوانيس إلى المسجد والسيد هاشمي نجاد نفسه لم يكن مستعداً للهرب، وقال للناس إذا كان الهدف اعتقاله فهو سيذهب إلى مركز الشرطة ويسلم نفسه...". فلما رأى رجال الشرطة ذلك اقتربوا من السيد وطلبوا منه الركوب في سيارة الشرطة! فصاح الناس "يريدون أخذ السيد!" وأرادوا الحيلولة دون اعتقاله، إلا أن الشرطة ورجال الأمن اشتبكوا مع الناس وقتلوا اثنين منهم وجرحوا الكثير. فدفعت فاجعة مسجد فيل الساواك إلى الاعتراف ببراءة الشهيد هاشمي نجاد وخشونة رجال الساواك والشرطة ورئيس الشرطة في ذلك القتل: "... لا بد من الاعتراف بأن استعار الناس في حينها[اعتقال هاشمى نجاد] كان بحيث لا يتفرقون في قبال خمسين من رجال الشرطة، من ناحية أخرى ان الشخص المراد اعتقاله قال أنا سأسلم نفسي، ففي تلك الحالة كان بإمكان رئيس الشرطة وخاصة العقيد عسكري ورئيس المركز رقم 4 [مشهد] أن ينهي القضية. هذا بالإضافة إلى أنه في ليالي أخرى لم يكن يبق مع السيد بعد انتهاء المجلس إلا عدد يسير يبلغ ثلاثين إلى أربعين شخصاً يرافقونه إلى داره. ومن الواضح في وضع كهذا أن تفريق ثلاثين إلى أربعين شخصاً اسهل بكثير من ستة إلى ثمانية آلاف...".

 وبحادثة مسجد فيل، أصيب الساواك والشرطة في مشهد بالخوف والهلع، فأخذوا يستعطفون مركزهم الرئيس لينالوا منه الدعم ويغطوا على جريمتهم النكراء. رسالة الدكتور "جناب" من خراسان إلى المركز الرئيس في هذا الصدد لافتة للنظر: "... في زيارة اللواء معاون الساواك إلى خراسان، وعدنا بتحويل مبلغ مساعدة قدر الإمكان لأسر القتلى والجرحى في حادثة مسجد فيل، فإذا تمت مثل هذه المساعدة ستتحسن صورة الساواك أيضاً. نرجو أمركم بالتحويل إن أمكن...".

 وعلى أية حال، سجن الشهيد هاشمي نجاد ومنعوا مواجهته؛ فأرسل آية الله العظمى الميلاني برقية يأسف فيها على هذه الحادثة. وفي هذه الحادثة أطلق سراح الشهيد هاشمي نجاد من دون محاكمة، ثم حكم علية بعد حين بالسجن مدة شهرين بحكم يمكن دفع بدله! وطبعاً ما يستفاد من الوثائق هو أن المدعي العام طالب بإعدامه وأن الشهيد هاشمي نجاد يقول في مكالمة هاتفية له مع الشهيد محمد رضا السعيدي إنهم اتفقوا على "عدم الإعدام" من بعد يومين من الدفاع وأربع أو خمس ساعات من المداولة، ليحكموا أخيراً بالسجن مدة شهرين يمكن دفع بدلها، حيث خالف المدعي العام ذلك مطالباً بإعادة النظر في الحكم.

 يقال إنه من بعد حادثة مسجد فيل في مشهد، قالت إذاعة الهيئة البريطانية بأن شبلاً في مشهد أوجد حادثة مسجد فيل التي تعد من حوادث المدينة النادرة.

 الحادثة الأخرى التي بعثت على اعتقاله وسجنه هي اعتراضه على قتل الطلاب في قم وإثارته لمشاعر طلاب مدرسة الميرزا جعفر ومدرسة آية الله الميلاني، الأمر الذي أدى إلى التظاهر ضد النظام. فألقى النظام القبض على أربعة عشر من الطلاب والعلماء منهم الشيخ واعظ طبسي والشهيد هاشمي نجاد. هذا التحرك الذي كان أساسه مجالس العزاء والموعظة التي كان يقيمها الشهيد في داره في أيام وفاة السيدة الزهراء عام 1354هــ.ش، انتهى بسجنه مدة سنتين حيث أطلق سراحه بتاريخ 20/3/1356. وفي الأول من الشهر الثامن الإيراني سمع بخبر استشهاد الحاج مصطفى الخميني فتأثر لذلك كثيراً وراح يضاعف من جهاده.

 وفي مشهد استأجر غرفة مع آية الله العظمى الخامنئي والسيد واعظ طبسي ليصدروا منشورات شجعون بها الناس إلى الإضراب والتظاهر، وهذا ما جعل الساواك يهرعون للهجوم على داره ويلقون عليه القبض. وبعد إطلاق سراحه حاول الساواك عدة مرات اغتياله بالمتفجرات، ولكن بلا جدوى، فتواصلت حياة شهيدنا وجهاده إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران.  

 

انتصار الثورة وعودة الإمام

 بعد عود الإمام الخميني (ره) منتصراً إلى ايران في 12 بهمن 1357، جاء الشهيد هاشمي نجاد من مشهد إلى طهران ليسارع إلى زيارة الإمام في مدرسة علوي. وفي 22 بهمن حاول الانتهازيون التعرض لمعسكر وفرقة 77 خراسان للحصول على السلاح، فكان لهاشمي نجاد دور فاعل في استتباب النظام في المدينة والمحافظة على المعسكر؛ فقد استطاع مع السيد واعظ طبسي الحفاظ على معسكر مشهد ومعسكر الفرقة 77 من تدخل من يتحين الفرص ليحافظوا على السلاح والهدوء في مشهد وتمكنوا من إدارتها.

 وبعد انتصار الثورة، أخذ الشهيد بمواجه حركة الحجتية والليبراليين، ذلك أنه كان يعتقد أن أكبر ثورة هي الثورة الثقافية، بمعنى هدم الثقافة التي حملها علينا الغرب. وكان يرى أن وثيقة أصالة الثورة هي الغضب على الاشتراكية والإمبريالية والرأسمالية العالمية. وفي الرابع من الشهر الثامن الإيراني عام 1358، كشف القناع عن الوجه المنافق لمحافظ مشهد في حينها؛ وبعد الخطبة تلك، خرج الحاضرون إلى الشوارع يهتفون بإعدام هذا المحافظ، الأمر الذي أدى إلى استقالة المحافظ من منصبه. وعندما كان أميناً عاماً للحزب الجمهوري الإسلامي في مشهد، قام الشهيد هاشمي نجاد بخدمات جليلة في رفع المستوى الثقافي لأفراد الحزب وكسب الشباب. وفي خرداد من عام 1358 سافر إلى ليبيا وسورية، وفي بهمن 1359 سافر إلى اليابان وبنغلادش ليحمل رسالة الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية. وعند لقائه برئيس الجمهورية القذافي قال: ما هو موقفكم من قضية أفغانستان؟ فقال القذافي: في أفغانستان حصلت ثورة، ونحن مسرورون وندعم هذه الثورة. فقال الشهيد هاشمي نجاد: إذا جاءت قوة واحتلت بلدكم وجعلت أحد عملائها حاكماً عليها، فهل تسمي هذه ثورة؟!.. واستمر البحث بينهما مدة ثلاثة أرباع الساعة حتى استسلم القذافي أمام منطقه واستدلاله وقال: أنت على حق، لقد أخطأنا وسنصحح موقفنا!

 كان الشهيد مباركاً أينما حل في سفر أو حضر؛ فعند لقائه بوزير خارجية اليابان تحدث إليه بصراحة أيضاً وقال: أنا لم آتِ إلى هنا كي أقول لكم كيف حالكم ولتبرزوا أنتم عن سروركم. إني جئت إلى هنا لأقول لكم: سيادة وزير خارجية اليابان، العراق اعتدى على إيران، تجاوز، خان، لماذا أنتم على الحياد؟! إذا كنتم لا تعلمون، فتحققوا من الأمر وانظروا أي البلدين هو المعتدي فأدينوه... الحياد ليس من عمل العقلاء والمفكرين.

 أخذ الشهيد طريقه إلى مجلس الخبراء بأغلبية ساحقة في محافظة مازندران وكان له أبرز الدور في إقرار قوانين حيوية من قبيل ولاية الفقيه. وفيما يتعلق بالحرب المفروضة، ذهب السيد مرة أو مرتين برفقة آية الله العظمى الخامنئي إلى مناطق الحرب؛ وفي مرة أخرى ذهبا سوية إلى الأهواز ثم إلى دزفول وقدما خدمات جليلة للجبهة. كما كان له دور كبير في الكشف عن خيانات بني صدر والجبهة الليبرالية المتحدة التي كانت تطلب السلطة والمنافقين. وبعد شهادة رئيس جمهورية إيران المحبوب ــ محمد علي رجائي ــ بذل جهداً كبيراً ليطلب من كبار مسؤولي الدولة أن تتولّى هذا المنصب شخصية من علماء الدين المخلصين، وبعد أن اقتنع المسؤولون، أصر على أن يتولى هذا الأمر في هذه الفترة الحرجة شخصية متميزة مثل آية الله العظمى الخامنئي لأنها تليق به؛ فكان خبر موافقة سماحة آية الله العظمى الخامنئي على الاشتراك في الترشيح لرئاسة الجمهورية قد سره كثيراً. كان السيد يعتقد بعدم الاقتصار على اعتبار آية الله العظمى الخامنئي رجلاً عقائدياً، بل لا بد من اعتباره مفكراً ومنظراً عقائدياً.  

 

الشهادة معراج العاشقين

 خطة اغتيال الشهيد هاشمي نجاد صممت من داخل منظمة المنافقين؛ يقول أمير يغمائي المعاون الأمني للمنظمة المذكورة: "لما كان طبسي حالياً في مكة وهاشمي نجاد هو الشخص الأول في مشهد، فإذا اغتلناه سنكسر ظهر النظام". في 5/7/1360 دق جرس الهاتف ليهدد السيد بموت أحمر. فتلقى بشرى الشهادة لتعود إلى ذاكرته الرؤيا التي رآها قبل أيام: "باقتراب شُعَل النار من الإمام الخميني، لم تجدِ محاولات السيد لإطفائها؛ احترقت كل ملابس الإمام إلا أنه بقي سالماً". قال الشهيد لإخيه بتعبير عاشق: "كل أصحاب الإمام سيستشهدون كاللباس الذي يحافظ عليه، وأنا ساكون من الشهداء بإذن الله، إلا أن نور وجود الإمام سيبقى ساطعاً". يقول السيد حسن الأبطحي إن الإمام كان قد وعده أيضاً بالشهادة: "أنا أخرج من الدنيا بأجل طبيعي.. ففكر أنت فكر بنفسك". وجاء في الصفحة 11 من كتاب سيرة فتى فاضل: أن الشهيد البهشتي رأى في منام صادق أنه ذهب للقاء حجة الإسلام والمسلمين واعظ طبسي ودعا هاشمي نجاد إلى لقاء شخصي: "دخل الشهيد البهشتي مشهد وجلس في صحن الإمام وأخذ يتحدث إلى السيد هاشمي نجاد بحرارة وخصوصية. وعندما دخل السيد طبسي ليتحدث إليهما كضيف، قام إليه الشهيد المظلوم البهشتي بتواضعه وبشاشته وقال: أنت انتظر قليلاً، ليس لدينا عمل معك، بل لدينا بعض العمل الخاص مع السيد هاشمي نجاد".

 كان الشهيد يرى عروجه الدموي أمراً محتوماً، فأخذ بترتيب شؤونه الشخصية استعداداً لذلك كي لا يعاني من مشكلة شخصية في ساعة الموت على حد تعبيره.

 في السابع من الشهر السابع الإيراني والذي وافق اشهادة الإمام الجواد عليه السلام، جاء السيد عبدالكريم في الساعة السابعة بالضبط إلى مقر الحزب الجمهوري الإسلامي ليحضر درساً كان الباحثون في انتظاره. وعندما خرج من الدرس في الساعة الثامنة، جاء أحد المنافقين وبيده رمانة يدوية قد سحب صمام الأمان منها ليحتضن السيد من الخلف واضعاً الرمانة على بطنه ملقياً إياه بقوة على وجهه. بعد ثواني انفجرت الرمانة ليلتحق السيد هاشمي نجاد بركب الشهداء ببدن مقسم وأيد مقطعة ويوارى جثمانه الثرى في "دار الزهد" في حرم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ويعلن عن حداد عام في خراسان لمدة ثلاثة أيام!

 قال الإمام الراحل بمناسبة استشهاده: "في يوم شهادة الإمام الجواد يستشهد أحد أبناء هذه الأسرة والسلالة. لقد تعرفت به عن قرب وعرفت خصاله والتزامه ولمست ذلك. وفضله وجهاده لا يخفى على من عرفه". كما لقبه الإمام قبل سنين بــ "سيف الإسلام القاطع".

 يقول قائد الثورة سماحة آية الله العظمى الخامنئي رفيق درب الشهيد في إجلاله لمكانته الرفيعة: " لقد أنجز مهمته الجسيمة منذ عام واحد وأربعين إلى صباح أمس ــ أي على مدى تسع عشرة سنة ــ على أحسن ما يكون، ويوم أمس غادر للقاء الله بكل عزة وفخر... أشعر أني فقدت أخاً عزيزاً قيماً كنت أعتمد عليه بقلبي وروحي، وكنت باستمرار أتأسى وأتأمل به خيراً... رحمه الله وأعطى هذا الشعب في مقابل فقدان هذه الجوهرة القيمة جزيل العطاء. عوّضنا الله عن هذه الخسارة".

 بعد شهادته، رأى أحد أقربائه في عالم الرؤيا نفسه يقترب من قبره ليقف عليه، إلا أنه وجد القبر خالياً! فبحث عنه كثيراً ليجده جالساً داخل ضريح الإمام الرضا عليه السلام! فقال له: مع كل تلك الكفاءات التي كانت لك في الدنيا لم تكن تتقبل المناصب التي اقترحها عليك الإمام، فماذا تفعل الآن في داخل الضريح؟! فرفع الشهيد رأسه وقال: " مكاني في القبر كان ضيقاً جداً، فجئت إلى هنا لأقوم بتنظيم لقاءات الإمام الجواد عليه السلام"!

 وفي الذكرى السنوية لشهادة هذا الشهيد الكبير، تحدث السيد القائد (أدام الله ظله العالي) عن امتيازاته الرفيعة ليكشف للناس عن وجهه المنير أكثر فأكثر:

 "كان رجلاً شجاعاً يتعامل مع الأمور بقلب قوي لا خوف فيه... كان شخصاً سياسياً واضح الرؤية وخطه السياسي هو بكل معنى الكلمة ما نسميه بخط الإمام... هذا الشخص الجليل كان على قدر من التذلل أمام الأصدقاء بحيث كان يخجلهم حقاً... البعد الآخر الذي لم يعرف من حياة السيد هاشمي نجاد هو البعد العرفاني؛ لقد كان رجلاًُ عارفاً، لا أحد يعرف ذلك من شخصيته وخصوصياته. كان من أهل السمو الروحي والتوجه، من أهل الصلاة والذكر والبكاء والمناجاة، وهذا ما أحسسته فيه منذ أيام شبابه".  

 

مؤلفاته، مرآة أفكاره

 ترك الشهيد هاشمي نجاد مؤلفات قيمة خالدة تتضح من خلال قراءتها مكانته الواقعية:

 1ــ مناظرة الدكتور والشيخ الذي كتبه قبل عام 1340هــ.ش وأعيد تنقيحه وتعديله وإكماله مرات عديدة. هذا المؤلف الديني الاجتماعي العلمي العقائدي المهم أعيد طبعه نحواً من عشرين مرة. وعلى الرغم من طبعاته المتوالية كانت تتناقله الأيدي ويقرؤه المهتمون. وقد اعتبر الساواك محتويات الكتاب مضلةً ومثيرة وأعلن أن نشره يتعارض ومصالح البلاد، ولهذا أصدر أمراً بمصادرته!

 2ــ الدرس الذي علمه الحسين للإنسانية. كتاب تاريخي يدرس عوامل حركة كربلاء ومعطياتها.

 3ــ القرآن وغيره من الكتب السماوية. مجموعة محاضرات ألقاها خلال عشر ليالي في حسينية إرشاد.

 4ــ جوابنا لمشكلات الشباب. إصدار مركز البحث والنقد الديني.

 5ــ المشكلات الدينية المعاصرة.

 6ــ قضايا عصرنا.

 7ــ أصول العقيدة الخمسة (مجلدان).

 8ــ عدة مقالات في مجلة "مكتب إسلام".

 9ــ قادة الحق. وهو في إثبات الرسالة وختم النبوة.

 10ــ مانح الوجود (الموجِد).

 11ــ الطريق الثالث بين الشيوعية والرأسمالية.

 12ــ ولاية الفقيه.

 13ــ الزهراء [سلام الله عليها] ومدرسة المقاومة.

 14ــ تقريرات (محاضرات) أصول الشيخ علي الكاشاني. وهو باللغة العربية ولم يطبع بعد.