الولادة والنشأة

 

في عام 1955م وفي قرية "بالا شيرود" ووسط عائلة فلاحية متدينة أطلَّ على الدنيا وليدٌ سُمّي (علي أكبر).

 

وبالرغم من أن ولادة علي أدخلت السرور على الأسرة، لكنها جاءت بنفقات إضافية على كاهل الأب الفلاح الذي كان يرقب بشغف متزايد وجهود مضاعفة ترعرع خامس أولاده وهو يمضي عمره مكابداً فقر الحياة القروية في ظل النظام الملكي الجائر، جاهلاً بمستقبل ابنه. ومنذ طفولته ألِفَ علي أكبر الفقر وأَنِسَ به؛ فكان خلال صباه يساعد والده في الزراعة بذراعيه الصغيرتين وقدميه اللتين تتفجران طاقة، فكان يعود إلى الدار مُتعباً مرهقاً بعد عملٍ شاق.

 

مضت الساعات والأيام وعلي أكبر يزداد تألّقاً وبروزاً بين أقرانه، وغدا هيكله الضخم الذي بناه العمل المضني والشاق في الزراعة قالباً لروحه الكبيرة الباحثة عن طريق للخروج على تقاليد المجتمع وأُطره المتعارفة، وبالرغم من أن علي أكبر قد ترعرع في أرضٍ قلَّبها المحراث لكنه كان يرنو نحو السماء والرقي.  

 

الدراسة

 

كانت قرية شيرود تفتقر للمدرسة، ورغم أن والد علي قد علَّم أبناءه على الطريقة القديمة بعض العلوم ولاسيما القرآن، غير أن تطلعات كبيرة كانت تراوده ويشاركه فيها علي، وإلى جوار شيرود كانت هناك قرية فيها مدرسة، فدأب علي على تحمل مشقة الذهاب والإياب قاطعاً المسافة إليها سعياً لطلب العلم إلى جانب مساعدته لوالده خلال ساعات الفراغ من الدراسة.

 

تنامت معرفته بالمفاهيم الإسلامية من خلال توجهه إلى الكتّاب الذي افتتح جديداً في شيرود فأثارت الثقافة الإسلامية الثرّة والعوز الناجم عن الاستغلال السائد في المجتمع في وجدانه حوافز المناهضة للنظام الملكي الجائر، وهذا ما بقي شاخصاً لديه حتى الأيام الأخيرة من حياته المعطاءة.

 

أنهى علي الدراسة الابتدائية، وكان خلالها مثالاً بين زملائه التلاميذ لما تحلّى به من ذكاء وفطنة استحق عليهما التقدير، وبدت عليه ملامح مستقبل دراسي زاهرٍ، بيد أن مانعاً كبيراً برز ليخلق معضلة أمام العائلة؛ فبعد أن أكمل علي الدراسة الابتدائية لم يستطع أبوه إدخاله ثانوية مرموقة لعجزه المالي فاضطر إلى أن يواصل دراسته في إحدى المدارس الفقيرة. وخلال هذه الأعوام لم ينفصل عن الزراعة، بل كان يزاولها إلى جانب الدراسة، والأهم من ذلك أنه وخلافاً لغيره من الفتيان ازداد معرفة بما يحيط به وانهمك في بناء نفسه عبر تعميق الثقافة الإسلامية في نفسه وأداء الفرائض والمشاركة في الشعائر والمجالس الدينية.  

 

الجهاد

 

لم يكن المحيط الريفي الضيق ليُقنع علياً ولم تعد الزراعة كافية لتؤمّن له المعيشة ونفقات الدراسة، ولم تكن العائلة أيضاً قادرة على ذلك؛ ولهذا فقد توجّه إلى طهران بعد إنهائه للصف الثالث المتوسط على أمل أن يتسنى له مواصلة العمل والدراسة في طهران، ولكن لم يكن في طهران يومذاك ما يجتذب هذا الشاب المفعم بالإيمان وحب الله، إلى أن دخل الخدمة العسكرية مُرغماً بعد سنتين، وبذلك فقد بدأت مرحلة جديدة من حياته اختار فيها علي صنف الطيران بطائرات الهليكوبتر، وهكذا فقد غدت السماء ميداناً له.

 

ونظراً لتبعية النظام البهلوي المشؤوم للاستكبار العالمي وبالذات أمريكا سياسياً وعسكرياً، فمن الطبيعي أن يتأثر الجيش حينئذ بأطماع الناهبين، فكان كل شيء ـ بدءاً من التنظيم والتدريب وانتهاءً بالتجهيزات ـ في قبضة الأجانب ولم يكن من متّسعٍ للعناصر المسلمة والملتزمة والغيورة من أمثال الشيرودي لأداء واجباتها، مما اضطر علي أكبر لالتزام الصبر والانتظار بسبب القوانين الخاصة التي لا تقبل تراجع وقتئذ.

 

يروي أحد أصدقائه خاطرة عنه: كان علي أكبر قد عزم على القيام بعمل بطولي، لكن يد التقدير حالت دون تمكنه منه. والقصة تتلخص في أنه صمم في إحدى المناورات التي كان من المقرر أن يحضرها أحد أفراد العائلة الطاغوتية أن يهاجم منصة الحضور بمروحيته فيقضي على هذا البهلوي الفاسد بعملية استشهادية، لكن المناورة أُلغيت، فبقي علي أكبر مكتنزاً غضبه الثوري بين جوانحه حتى أذنت مسيرات الشعب الإيراني المسلم بانطلاق الثورة الإسلامية، فكان بطلُنا يشارك في هذه المسيرات بشكل فعال.

 

لقد دبّت فيه روح جديدة، وحيث إنه كان ينتظر هذه الفرصة سنوات متمادية فقد كان لكل شيء معنىً آخر بالنسبة له؛ فها هو ربيع حرية الثورة يطلّ بكل عظمته والشيرودي يتأهب لأن يقول ما كان قد مُنع من قوله سنوات طوال ويؤدي ما أثقل كاهله من تكليف، فنزل بكل كيانه إلى الساحة بعد انتصار الثورة، هذه الساحة التي كانت تكوي فؤاده سنين.

 

كان دائم الحضور في النشاطات الدينية والاجتماعية، فيرشد ويوجه كوادر الطيران في قاعدة إرشاد، وحيث إنه كان مثالاً كاملاً للمسلم الملتزم سرعان ما نفذ إلى قلوب الكادر.  

 

بطولات ومواقف

 

ومنذ بداية انتصار الثورة، بادر الاستكبار، حينما رأى بأُمّ عينيه هزيمة أزلامه، بادر بتحركاته في كردستان، ومنذ الوهلة الأولى انطلق الشيرودي مهاجماً بطلعاته أولئك الخونة المرتزقة، فكانت بطولات هذا الرجل المسلم الحقيقي تجسيداً للإيمان والإرادة ومصداقاً للتخصص، إذ كان يؤدي واجبه ليلاً ونهاراً؛ ودوره في انتصار الإسلام والقضاء على الأشرار وأعداء الثورة مما لا يمكن إنكاره، وستبقى ملاحم هذا الطيّار البطل وبسالته خالدة أمام الأجيال المقبلة.

 

وبالإضافة إلى ذلك كله كان الشيرودي من المؤسسين للجان الثورية في مدينة باختران، ومن خلال تنسيقه مع حرس الثورة الإسلامية في باختران كان يسعى لبناء الوحدة بينهما، ولقد أبدى الشيرودي بمعية (كشْوَري) و(سهيليان) بطولات وبسالة في كردستان مما حدا بالشهيد فلاحي أن يوسمه بـ (كوكب الغرب)!

 

حينما اندلعت الحرب كان الشيرودي مشغولاً بالحصاد في مزرعة والده، وما أن سمع الخبر حتى توجه إلى باختران قاصداً منطقة العمليات، وفي إحدى بطولاته ـ التي قلَّ نظيرها ونادراً ما شاهد تاريخ الدفاع المقدس مثالاً لها ـ تصدى هذا القائد للجيش العراقي بثلاث مروحيات يستقلها اثنا عشر فرداً؛ فأفلح إلى جانب تحرير معسكر "سربل ذهاب" وإنزال خسائر فادحة بالمعتدين، أفلح في دحرهم إلى الخلف عدة كيلومترات، وحين بلغ الخبر مجلس الشورى الإسلامي وصفه الشيخ الرفسنجاني بأنه (مالك الاشتر زمانه)!

 

كان الشيرودي راسخ الإيمان في الجانب العقائدي، بحيث إن قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى الخامنئي (دام ظله) صرّح في أحد خطاباته: "إن الشيرودي أول عسكري ائتممتُ به في الصلاة"!

 

وعلى مدى الحرب حصل الشيرودي مراراً على المكافآت والترقيات، لكنه لم يقبل أيّاً منها لأنه كان يعلم جيداً لماذا ومن أجل ماذا يحارب، وهذا القتال بحد ذاته كان بالنسبة له مكافأة لأنه كان يعتبره أداءً للتكليف الشرعي وفي خاتمته الالتحاق بركب شهداء الإسلام.  

 

العروج الملكوتي

 

كانت الأيام والأسابيع تمضي إلى أن حانت اللحظة الموعودة في خاتمة المطاف؛ ففي الثامن من الشهر الثاني الفارسي عام 1360هـ.ش [1981م] أُخبر بحركة الدبابات العراقية باتجاه "قره بلاغ" في منطقة "سربل ذهاب"، لكنه لم يستطع التوجه إلى ساحة العمليات بسبب ظلام الليل فقضى تلك الليلة مصطفاً للصلاة، وهكذا عكف هذا القائد الإسلامي الباسل على مناجاة معبوده الأوحد في ظلمة الليل، ثم وقف يؤدي صلاة الصبح مطمئناً وصوت آذان المسجد لمّا ينتهِ؛ ثم توجه نحو ساحة المعركة، وفي الساعة السادسة صباحاً، إذ اقتنص الكثير من دبابات الجيش العراقي مرسلاً أزلامه إلى جهنم، وبعد معركة حامية لا تُنسى، قضت يد التقدير بنهاية حياته المعطاءة لتستقبل حضرة القدس الإلهية ضيفها المعزز.

 

وهكذا التحق هذا القائد الإسلامي المغوار، مالك الأشر زمانه، علي أكبر قربان الشيرودي بركب الشهداء؛ ولما بلغ خير شهادته الإمام "ره" قال سماحته بعد صمت طويل: "الشيرودي مغفورٌ له"! فيما كان يقول عن سائر الشهداء: "غفر الله لهم".

 

لقد أصبح ضريح هذا القائد الإسلامي الكبير في شيرود مزاراً يؤمه عشاق الشهادة؛ وأصبح ابنه (أبوذر) تذكاراً لمالك أشتر الثورة الإسلامية.