شغل السيد مير حسين الموسوي خلال فترة الدفاع المقدّس منصب رئاسة الوزراء. وهو اليوم بصفته مفكراً إسلامياً حريصاً على الثورة الإسلامية ينتقد ويمحّص في شتّى المناسبات، الأفكار السياسية والاجتماعية. وقد ألقى في الاجتماع السنوي للاتحاد الإسلامي لطلبة جامعة طهران والعلوم الطبيّة وبمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الإسلامي في الكلية الفنية، كلمة قيّمة حول وجود فكرة مريبة تسمّى بـ«وهم التآمر» تريد إعطاء انطباع يصور العالم وكأنه عالم آمن بالنسبة للشعب الإيراني. وبيّن بوضوح أنّ الإيحاء بمثل هذا  التفكير فيه ضرر على نظام الجمهورية الإسلامية المقتدر، ويصب في نهاية المطاف في صالح أوربا والغرب. ونبّه إلى أهمية وضرورة وعي المفكّرين المسلمين وأفراد الشعب لوجود مثل هذا التفكير.

 

إليكم فيما يلي نص كلمته:  

 

السلام على روح الإمام الخميني وعلى أرواح شهداء الثورة الإسلامية. وتحية لقائد الثورة. أشكر الإخوان في الاتحاد الإسلامي الذين وجهوا لي الدعوة وأتاحوا لي هذه الفرصة لأتحدث للأخوات والأخوة الأعزاء...

 

يدور كلامي حول جانب يعود إلى موضوع «استقلال البلد» والكلام الجديد الذي يطرح في بلدنا اليوم في هذا الجانب، عسى أن أُوفق بإذن الله لبيان ما أريد قوله.

 

أتحدث هنا عن الاثارات التي أخذت تطرح في أوساط مجتمعنا منذ بضع سنوات، وأُركّز كلامي من بعدها على انعكاساتها وتأثيراتها فيما لو أصبحت موضع قبول في مجتمعنا، والنتائج التي تتمخض عنها على صعيد الاقتصاد والسياسة والأمن القومي.

 

وقبل الولوج في صلب الموضوع أورد فيما يلي مقتطفات من كلام اثنين من المفكرين؛ أحدهما غربي، والآخر إيراني مقيم في الخارج ولكن لأفكاره انعكاسات في الداخل.

 

مفاد نظرية «وهم المؤامرة»:

 

يدور موضوع هذه الكلمات حول ما يُسمّى بـ (وهم المؤامرة) بمضمون مفاده: هل أخذت طبيعة وتوجهات شعبنا تنساق باتّجاه متطرف ينسب كل ما يحدث في العالم إلى فعل الأجانب؟ أم أنّ حقيقة الأمر شيء آخر؟ وهل كان كل ما يقوله شعبنا عن الأجانب ومؤامراتهم، وما يحمله من تصور عن القوى الكبرى ـ وهو ما كان على امتداد السنوات الأخيرة أو حتى منذ أوائل الثورة وحتى الوقت الحاضر، مادّة للنقاش والجدل ـ هو مجرد وهم؟ أم أنّ له نصيباً من الواقع؟ وما مدى تأثيره؟

 

أما السبب الذي ساقني إلى نقل كلام المفكر الأجنبي، فلأن أساس جميع البحوث يُنسب إليه. هو فيلسوف أمريكي ـ أوربي عرض عام 1948 في كتابه (تخمينات وإلغاء) بعض الآراء في هذا الحقل، والكتاب مترجم إلى اللغة الفارسية. أما النصوص التي سأشير إليها في ما بعد فستلاحظون مدى تشابهها مع هذه الآراء. وسأطرح بعض الإيضاحات بشأنها.

 

أشار هذا المفكر إلى قضية (نظرية المؤامرة) على النحو التالي: «كل ما يقع في المجتمع يأتي كنتيجة مباشرة للخطط التي يتولاها الأشخاص أو الفئات المتنفذة (القوية).

 

وقد انتشرت هذه النظرية على نطاق واسع. وأنا لا أشك في أنها صيغة ابتدائية لخرافة قديمة جاءت في هذه الصورة الجديدة كنتيجة للتجسيد الدنيوي للخرافات الدينية. كالاعتقاد بأنّ مؤامرات الآلهة الهومريين هي المسؤولة عما وقع من تقلبات في حروب «طروادة». وقد زال مثل هذا الاعتقاد حالياً عن الأذهان ولكن يقولون: حلَّ محل الهومرية الآلهة المقيمة في جبل «الالمبوس» أصحاب اللحايا البيض في جبل صهيون، أو الرأسماليون وأصحاب الاستثمارات والمستعمرون».

 

وسأتناول بالبحث الأمثلة الثلاثة التي أوردها وكأنه يصور أن الغرب، بل والعالم بأجمعه ينسب كافّة المؤامرات إلى الصهاينة أو المستعمرين أو أصحاب الاستثمارات والرأسماليين. وأُشير إلى الظروف التي صدر فيها هذا الرأي عام 1948.

 

وأمّا النص الذي أخذته عن المحقق الإيراني المقيم في الخارج فقد كان قد طرحه قبل عدّة سنوات، وكانت له انعكاسات في الداخل اتسعت حتى امتدّت إلى كليات العلوم السياسية وإلى مواضع أخرى، وكانت صيغته كالآتي:

 

«يعتقد المصاب بوهم المؤامرة أنّ جميع الأحداث السياسية الكبرى والوقائع التاريخية ومجرى الأحداث تجري بمشيئة القبضة الخفية للقوى السياسية الأجنبية، والشبكات الرهيبة، السياسية أو الاقتصادية أو حتى الدينية المرتبطة بتلك السياسة. ويعتقد أنّ جميع الثورات والحروب والاضطرابات والتخلّف، والتبعية السياسية، أو حتى نقص الإنتاج الزراعي، وتدنّي قيمة العملة، والجفاف والزلازل تديرها يد أجنبية خفيّة تحرّك جميع الشخصيات كما تحرك الدمى على المسرح، أو كما تحرك الجنّ والعفاريت الأسطورية شخصياتها من وراء ستار، وتجعل حركتها رهن إشارتها، وأنها لا تملك أية إرادة ذاتية. أي أنّ المصاب بوهم المؤامرة يعتقد انه يرى ما لا يرى غيره، وانه يفهم ما لا يفهم الآخرون».

 

أعتقد أنّ هذه المسألة واضحة إلى حد ما.

 

الأخوات والإخوة على اطلاع بأنَّ اعتبار وقيمة أي فكرة أمر، ودور الفكرة وأثرها في المجتمع والخلفيات التي انبثقت عنها أمر آخر، أي أنهما يتفاوتان. ولكننا في الوقت نفسه إذا تتبعنا الظروف التي نشأ فيها فكر ما، والخلفيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي أفرزته، فلعلنا نعثر على دليل يعيننا على فهم طبيعة الظروف التي أنتجته، وما هي طبيعته ومحتواه ودرجة اعتباره وقيمته. وأنا أُضيف إلى خلفيات نشوئه، تطبيقاته ـ فيما إذا كان قد وجد طريقه إلى التطبيق العملي ـ وهو ما سيشكل المحور الأساسي في كلامي.

 

جذور النظرية:

 

طرحت نظرية هذا الفيلسوف الغربي عام 1948 وبيّن فيها كأن جميع المؤامرات التي تجري في العالم تنسب إلى اليهود وأصحاب اللحايا البيضاء في جبل صهيون وكبار المُلاك والرأسماليين. وإذا أمعنّا النظر نجد أنّ عام 1948 هو عام تأسيس الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط، حيث أقيمت بعده ببضعة أشهر حكومة إسرائيل. كما وان الحديث عن الرأسمالية والاستعمار والامبريالية جاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث كانت قد ظهرت حينها الكثير من حركات التحرر في العالم، وأخذت الدول تكافح وتنال استقلالها، وتعرضت مصالح الغرب والدول الرأسمالية لمخاطر جادّة. ناهيك عن حالة النهوض في الحركات اليسارية والماركسية وما تمخّض عنها من جو ثقافي خاص في الغرب بين مناهضي الماركسية والحركات اليسارية حينذاك والتي كانت لها أصداؤها في ذلك الوقت حتى في إيران.

 

بمعنى إننا كان لدينا في تلك الحقبة مثقفون استهوتهم الحركات الماركسية. ولكنهم حينما ذهبوا إلى الاتحاد السوفيتي شاهدوا جرائم حكومة استالين المستبدّة.. بعد عودتهم بدأوا بكتابة المقالات عن ذلك. وقد تمخض عن تلك الأحداث انشقاق الاشتراكيين والقوة الثالثة عن حزب توده في إيران. فهذا من نتائج ذاك.

 

في مثل تلك الظروف صدرت بعض الكتب. ويمكن للإخوة الراغبين في الاطلاع على بحوث الفكر السياسي الرجوع إلى الكتب التي صدرت في تلك الفترة عن كُتّاب مثل «آندره جيد» و «ارثوكستر» وغيرهم، ممن ينتقدون فيها مجتمع الاتحاد السوفيتي من الداخل. وقد ترجمت هذه الكتب وطبعت. وكان للمرحوم آل أحمد وزملائه على وجه الخصوص نشاط كبير في هذا المجال.

 

كما ترجمت وطبعت كتب أخرى حول هذا الموضوع نفسه من قبيل كتاب «1984» وكتاب «حقل الحيوانات» وربّما قرأها الأخوة، وقد صدرت بأجمعها في أواخر الأربعينيات وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتنتقد الحكومات الاستبدادية.

 

ومن الطبيعي أنّ الآراء التي طرحت آنذاك كانت متأثرة عملياً بمثل هذه الأجواء. أي أنها جاءت كإفراز للظروف الاجتماعية ومتطلباتها في تلك الفترة أكثر من كونها قضايا فلسفية. وهي تعكس طبيعة التيار أو الجناح أو الموقف الفكري الذي كان ينتمي إليه ذلك الفيلسوف أو المفكر. ومن الطبيعي أنّ ذلك الفيلسوف المفكر يميل إلى المجتمع الغربي وقيمه ومصالحه، وهذا الميل هو الذي أعمى عينيه عن الجرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين، أو عمّا يمارسه الغرب ضد العالم الثالث.

 

وكان من أوائل الإيرانيين الذين تناولوا هذه القضية ـ أي نظرية التآمر ـ هم المحققون والباحثون الذين هاجروا أو فرّوا من إيران. وهكذا ولدت هذه الفكرة هناك بين الإيرانيين المقيمين في الخارج. إذن فموضوع الاعتقاد بوجود «التآمر» الأجنبي له جذوره في بلدنا. وأُشير هنا إلى أنّ هذا الاستدلال يعود إلى بداية تاريخ إيران، وإلى العهد الأسطوري من تاريخ إيران. وهم يؤكدون على أنّ وهم «التآمر» يقود بلدنا وشعبنا إلى حالات انفعالية بعيدة عن أي موقف عملي؛ فالشعور بوجود يد أجنبية في كافة القضايا والأحداث تؤدي بالشعب إلى النكول والتراخي وعدم المشاركة في صياغة مستقبله السياسي.

 

ويستدلون على رأيهم هذا باستدلالات وشواهد تاريخية. ومن جملة ذلك ما يتعلق بمعارضة شعبنا لمؤامرات أمريكا وإسرائيل، وحركة تأميم النفط، والماسونية، فيدعي هؤلاء المحققون أنّ المؤامرات المزعومة في هذه المجالات لا أساس لها من الحقيقة.

 

كل هذه الادعاءات التي تبدو في رأينا مثاراً للدهشة تتطلب تقديم إجابات تاريخية لها. وأنا لا أُريد هنا التطرق إلى هذا الموضوع، بل أُريد فقط نقل نوعية ونمط هذا الفكر لتعلموا أن أمثال هذه المواضيع مطروحة على بساط البحث أيضاً.

 

الأمر الذي يحظى بأهمية بالغة وأذكره بإيجاز هو فرضية ذات جانب ايجابي إلى حدّ ما وتدعونا أن لا نتصور على الدوام أنّ كل شيء سببه التآمر الأجنبي، وإنما يجب أن نستفيق ونتحرّك. ولكن إذا أخذت مثل هذه الفكرة حيّزها في أذهان شعبنا على هذا المنوال، واعتقدنا بعدم وجود أية مؤامرة أجنبية تهدد أمننا واقتصادنا وثقافتنا، فسيؤدي هذا التصوّر بنظامنا إلى اتخاذ قرارات وتدابير من نمط آخر.. جديرة بالتأمل. وهذه الكلمات أكثر ما تميل إلى هذا الجانب وهو ما سأبيّنه فيما بعد.

 

أعرض هذا الموضوع على نحو مطلق أنّ مثل هذه الفكرة ليست من أفكار شعبنا. لأن الشعب إذا كان يعتقد في فترة اندلاع الثورة، على أدنى الاحتمالات ـ أو حتّى فيما بعدها ـ بأن كل مفاتيح الحل والربط بيد الأجانب، وأنهم يفعلون كل شيء، وهم الذين يقيمون الحكومات أو يسقطونها، وهم الذين يخلقون الثورات والانتفاضات، لما كان لأبناء الشعب مثل هذا الحضور الواسع في ساحة الثورة. وحتى قلنا إن الأكثرية كانت تعتقد بهذا المعنى، فهي ـ على أدنى الاحتمالات ـ تتصف بالتناقض بالنسبة إلى وضع شعبنا، أو بالنسبة للأحداث الأخرى التي أعقبت انتصار الثورة؛ كالحرب المفروضة التي شارك فيها شعبنا كله، أو المسيرات والانتخابات؛ كانتخابات الثاني من خرداد؛ فهي تنم بأجمعها عن أنّ ما يحمله الشعب يناقض تلك الفكرة.

 

فلو كان الشعب يؤمن بأن كل شيء بيد القوى الأجنبية لما كان لدى أي واحد من أبنائه أي حافز لأي عمل، إلا أن يكون المرء معتوهاً ليشارك في عمل لا طائل من ورائه.

 

أُريد القول أنّ هذه الفكرة من ابتداع المنهزمين أمام الثورة، وعددهم طبعاً لا يستهان به ـ ولكنهم يشكلون نسبة ضئيلة من مجموع الشعب ـ حيث شعر عدد ممن وقفوا إلى جانب النظام البائد أيام اندلاع الثورة أنّ مصالحهم ومآربهم ووجاهتهم الاجتماعية على وشك الزوال، إلا أنّ تفكيرهم لم يسعفهم في تحليل هذه الحادثة واستقراء أسبابها بعمق. وهذا ما دفعهم إلى تصور وجود يد أجنبية في هذه الواقعة.

 

ومن أهم تلك الأقوال هي مذكّرات الشاه نفسه الذي نسب هذه الأحداث إلى أمريكا وبريطانيا حتى انه كان يرجوهما باستمرار ـ خلال المباحثات التي كان يجريها مع السفير البريطاني ـ في إيقاف عجلة الثورة. وهذا هو التصور الذي كان يحمله عن الثورة.

 

إنّ الإيرانيين من أصحاب الجاه والثروة ممن فقدوا امتيازاتهم وذهبوا إلى الخارج لسبب أو آخر، كان من الطبيعي أن يشعروا بالإحباط وتستولي عليهم حالة من اليأس، ولابدّ وان تكون هذه الفكرة قد انبثقت في مثل هذه الظروف والأوضاع. وإذا كان الأمر كذلك يمكننا القول أنّ مثل هذه الفكرة تختص بأقلية معيّنة. ولكنهم إذا التفتوا إلى حقيقة الأمر لأدركوا أن ليس كل شيء يجري بمؤامرة أجنبية، بل أنّ الشعب قد أفاق وصار له حضور فاعل في الساحة ومشاركة في صياغة مستقبله السياسي. ويمكن لمثل هذا الإدراك أن يخلق تغييراً في نفوس الإيرانيين المقيمين في الخارج أو من له صلة بهم في الداخل، ويحفزهم على العودة إلى الوطن.

 

يجب الانتباه إلى أنّ العوامل النفسية وكذلك العوامل الفئوية والمؤثّرات الاجتماعية والطبقية لها دور كبير في إيجاد مثل هذه الأفكار، إذن يجب علينا تتبع جذور كل فكر لنتعرف على مصدر نشوئه. وهذه الفكرة أيضاً من جملة الأفكار التي لا يمكن القول بشأنها إننا أمام بحث علمي صرف، بل أن لميولنا وصلاتنا بالماضي تأثير على مثل هذه التوجهات.

 

إنّ للعلوم الإنسانية صبغة عقائدية، ولا يمكن فصل هذه العلوم عن تلك الصبغة لنحصل مثلاً على حقائق عملية خالصة من المؤثّرات التاريخية والثقافية والعصبيات الفئوية والقومية وما شابه ذلك. وهذه حقيقة يجب أن لا نغفل عنها عند التعامل مع العلوم الإنسانية ومع مثل هذه الأفكار.

 

النقطة الأخرى التي يجب الالتفات إليها هي وجود رأي لدى النهضات الفكرية في أُوربا عموماً مفاده: إنّ القوّة والفكر مقولتان منفصلتان عن بعضهما، والفكر ينطلق حينما تلجم القوّة؛ أي أنّ هناك نوعاً من التضاد بينهما. وقد نشأت بين المفكرين الأوربيين في الآونة الأخيرة أُطروحة في غاية الخطورة ويمكن أن يفيد منها في هذا النمط من التحليلات.

 

هم يقولون: إنّ حقيقة الأمر ليست هكذا؛ ففي عصر التجديد في أوربا تزداد القيود البيروقراطية والبرجوازية على المجتمع، ويزداد المجتمع اتساعاً، تصبح هناك علاقة مباشرة في ظروف كهذه بين القوّة والفكر والأطروحات العلمية. أي لا تقوم أية علاقات قوّة ما لم تصنع لنفسها منهجاً في المعرفة وتنشره. وكذلك لا يوجد منهج علمي إلا ويؤدي إلى إقامة علاقات قوة.

 

هناك في الغرب محقق شرقي الأصل ذهب إلى أوربا، اسمه ادوارد سعيد وهو من تلاميذ ميشال فوكو ومن الباحثين في هذا المجال. وقد وضع هذه النظرية على المحك بشأن النظريات التي يراها الغرب في حق الشرق، وألّف في هذا السياق كتاباً قيّماً تحت عنوان: «الاستشراق»، وهو من الكتب البالغة الأهمية وفي الوقت نفسه في غاية التعقيد، ولم يحظ ـ وللأسف ـ بما يستحقه من اهتمام.

 

ادوارد سعيد ومفهوم الاستشراق:

 

يتساءل المؤلف في كتابه هذا عن كيفية صياغة الغرب لمفهوم الشرق بمدلوله المتعارف عليه حالياً، وإيجاده لنهج خاص به يضمن استمرار السياسات العدوانية للغرب وتسلطه وحتى استغلاله الواسع للشرق. ويمكننا العثور على معالم هذا النهج واضحة في نتاجات علماء الاجتماع والفلاسفة والروائيين والفنانين في الغرب على نطاق واسع. وتبيّن علوم اللغة مدى تأثيراتها وامتزاجها بالسياسة السلطوية المتغطرسة للغرب في هذا المضمار.

 

أقرأ على أسماعكم في ما يلي بضع جمل من مقدمة هذا الكتاب «الاستشراق» ثم أعاود الحديث عن الرأي الذي طرحته آنفاً، وأعرض من بعده ما آراه شخصياً في هذا الصدد. يقول في مقدمة الكتاب: «يعتمد الاستشراق بطريقة ثابتة من أجل إستراتيجيته على هذا التفوّق الموقعي المرن الذي يضع الغرب في سلسلة كاملة من العلاقات المحتملة مع الشرق دون أن يفقده للحظة واحدة كونه نسبياً صاحب اليد العليا. ولماذا لا يكون الأمر كذلك خصوصاً خلال مرحلة الهيمنة الأوربية الخارقة منذ أواخر عصر النهضة حتى الوقت الحاضر».

 

يكوّن هذا الموضوع جزءاً من البحث الذي يطرحه في هذا الكتاب تحت عنوان (الاستشراق) وهو ليس بالأمر الذي تتخذ القرارات بشأنه في دولة واحدة فقط، وإنما هو راكز في جميع قطاعات ومفاصل الحضارة الغربية ومترسخ في كل الأذهان والمؤسسات.

 

وقد ألّف هذا الشخص بعد احتلال وكر التجسس الأمريكي في طهران كتاباً مثيراً يقول فيه: كيف أنّ الغرب حينما استشعر خطر الثورة الإسلامية سارع بشكل تلقائي إلى نشر مقولة في العالم كله، وإلى درجة حتى أنهم صدّقوا ما جاء فيها، من أنّ الثورة الإسلامية ثورة ذات طابع عنيف وعدواني، وهي مما يتعلق بالماضي البائد، وتنتهج سياسة لا تنسجم مع قيم الإنسان المعاصر. وعكس في كتابه ذلك إلى أي مدى انتشرت هذه الفكرة على نطاق واسع في صحفهم ورواياتهم وأفلامهم وكتاباتهم المختلفة. ويمكننا أن نعتبر ـ في ضوء التحليل الشامل الذي يقدمه في هذا الصدد ـ سلمان رشدي وكتابه يصبان في هذا السياق ذاته؛ فالغرب بحاجة إلى رسم مثل هذه الصورة عن الإسلام وعن الثورة الإسلامية. وهذا هو ما يجب التعامل معه بحذر.

 

أما ما يتعلق ببحثنا فهو أنّ هذا النهج الاستشراقي له أنصاره وكأنه ـ وللأسف ـ بضاعة مستوردة. يقول هذا المفكر وهو مسيحي فلسطيني يعيش في الغرب: إنّ للغرب أنصاره ومؤيديه في الشرق؛ يعشقونه ويرتبطون به وينظرون إلى قضايا بلدهم بنفس منظاره واستدلاله وتحليله. وتنعكس نتيجة تلك التصورات في مثل هذه المناهج ذات الطابع الاستشراقي. ونحن يجب علينا أن نفهم تلك الإشارات ونقاط الربط في كلماتهم التي يكون هدفها أو تنتهي بالنتيجة إلى تسلّط الغرب وديمومة ذلك التسلط. ومقولة «وهم المؤامرة» تنطوي على مثل هذا المعنى؛ أي أنها تحمل شيئاً من معاني الاستشراق. نذكر على سبيل المثال انه جاء في جانب من هذه المقالة، انه حينما يكون هناك حديث عن إيران، يأتي أيضاً في مقابله ذكر الإيراني المعارض لإيران. يحوكون المؤامرات إلى الحد الذي يزعمون فيه أنّ المجتمع الإيراني الحالي والشعب الإيراني أسير خاضع لمثل هذه الأفكار.

 

حسناً، يمكن استنباط أشياء كثيرة من هذا النمط من الاستدلال. فإذا قلنا بوجود ما هو إيراني، فهناك أيضاً مَن هو معارض لما هو إيراني، ونطرح لها مثل هذه الاستنباطات. ويمكننا الحصول على نتائج أخرى من ذلك، وإذا دققنا النظر في مثل هذا الاستدلال نلاحظ وجود منطق استشراقي فيه. ولهذا فاني أستشف بأن مقولة «وهم المؤامرة» تحظى بمساندة وتأييد الغرب وأصدقاء الغرب. وعلى العموم فان هذه القضية تطرح بشكل مبالغ فيه من قبل الأفراد والجماعات التي تقف على هامش الثورة، وتشاع من قبلهم. ولا أريد الخوض في الاستدلالات التاريخية في رفض هذا الموضوع، وهو موضوع مستقل سيأتي ذكره في مقالات وكتابات أخرى، وهناك أشخاص آخرون يضطلعون بمثل هذه المهمة. وان أكثر ما يهمني الحديث عنه هو الجانب التطبيقي لهذه القضية والذي يتسم بأهمية بالغة.

 

انعكاسات نظرية «وهم المؤامرة»:

 

 أُريد أن أقول هنا: إننا إذا أردنا القبول عملياً بأنَّ ما نحمله من تصوّر بشأن تآمر الغرب ـ وخاصة القوى الكبرى ـ ضدّنا هو في الحقيقة ليس مؤامرة، وإنما (وهم المؤامرة)، فما الذي سيحل بالثورة؟ أي لو اتخذ هذا التصور المغلوط طابعاً شمولياً، فما الذي سيتركه من تأثيرات على سياستنا الداخلية والخارجية، وعلى شؤوننا الاقتصادية والثقافية؟ هذه هي النقطة المهمة التي أروم الحديث عنها.

 

الأهمية الأخرى التي تنطوي عليها هذه القضية هي أنها تقع على طرف نقيض مع فكر سماحة الإمام(رض)، فلا يكاد المرء يقلب صفحة من كتاب «صحيفة النور» إلا ويجد فيها تحذيراً من التآمر الخارجي وتآمر القوى الكبرى. وهذا هو أحد أوجه ذلك التناقض. وأنا لا أريد أن أستدل هنا بهذا الرأي على صواب هذه الفكرة، وإنما أريد التنبيه على مدى أهميتها.

 

نعلم جميعاً أنّ أحد المحفزات القوية لشعبنا على الثورة هو رفضه للوجود والتسلط الأجنبي؛ على أثر ما كانت له من تجربة مريرة في هذا المجال على مدى القرون العديدة الماضية، ولو كانت مثل هذه الفكرة قد طرحت وشاعت حينذاك لما كانت هناك لدينا أية ثورة. وحتى وان كانت للثورة زعامتها الكفوءة، إلا أنّ الشعب لم يكن يحمل مثل هذه المشاعر أزاء التآمر الأجنبي، ولفقد أحد دوافعه القوية التي كانت تحدو به لمجابهة النظام السابق. وأؤكد أنّ نفس الوضع يصدق على ظروف ما بعد انتصار الثورة؛ إذ لو شاعت مثل هذه الفكرة وصدّق الشعب بعدم وجود مؤامرة من الخارج، وان هذه الفكرة مجرد وهم، لخلقت أيضاً مثل هذه التأثيرات.

 

ولهذا السبب يبدو لي أنّ ثمّة شكوك تحوم حول محاولات تعميم مثل هذه الفكرة، والتي تصدر عادة بصيغة القالب العلمي وتؤيد علاقات الهيمنة التي تنتهي لصالح أوربا.

 

أقتطفُ في ما يلي مقطعاً آخر من مقالة لكاتب آخر، وأعود بعدها إلى موضوعي الأساسي. وهذا الكاتب هو مؤرخ متعاطف مع حزب توده، وقد كتب عن «وهم التآمر» ما يلي:

 

«هذا الوهم في إيران مسرح، تسيطر على الممثلين فيه قوى أجنبية هي التي ترسم لهم أدوارهم وتحدد لهم الكلام الذي يقولونه. ويبدو وكأن لهذه القوى الأجنبية قدرة مطلقة وهيمنة تامّة، ومطّلعة على جميع التفاصيل، وتتصرف في جميع ما يجري على المسرح من حركات. فالممثلون هم الإيرانيون العاملون في حقل السياسة الذين يبدون وكأنهم دمى على مسرح العرائس تحركها أصابع القوى الأجنبية كيف تشاء. وكل ما يجري ليس وليد الصدفة، ولا هو من نتاج تلك اللحظة، ولم يأت كنتيجة لإرادة الأشخاص المستقلة، بل أنّ كل شيء مصمم سلفاً.. والتمثيلية مكتوبة على الورق، ومؤلفها ومخرجها هم القوى الأجنبية الممسكة برؤوس الخيوط. وفي ضوء هذه الرؤية لا يبقى أمام المحلل السياسي إلا أن يحدد أية قوة أجنبية تتحكم بأي ممثل على المسرح. وإنّا أطلق على هذا النمط من التفكير في الثقافة السياسية الإيرانية اسم جنون الارتياب».

 

هؤلاء الكتّاب بأجمعهم يعممون هذا النمط من التفكير على الشعب الإيراني كله، زاعمين أن هذا النمط من التفكير موجود اليوم لدى كل الإيرانيين، وعلى هذا فالنتيجة النهائية تحتم علينا القضاء على هذا الأسلوب من التفكير وان نعتبره عملياً وهم المؤامرة!

 

الانعكاسات السلبية لنظرية «وهم المؤامرة» سياسياً:

 

ولكن ما هي المعطيات التي نحصل عليها بعد ذلك؟

 

أولاً: ينجم عن هذا النمط من التفكير بناء الثقة وحسن الظن بالسياسة الدولية في مجال سياستنا الخارجية والأمنية، بحيث ننتهج في توجهاتنا نهجاً جديداً. في حين أنّ (ماكياول) الذي ينظر إليه في الغرب كأكبر فيلسوف سياسي، وتخضع مؤلفاته وكتاباته للنقد والدراسة ولا توجد نظرية سياسية إلا وتشير إليه، واتخذت مؤلفاته كمصدر للكثير من الكتابات التي تعوّل عليها القوى الكبرى وساسة البلدان الغربية ككتابه المسمى: «موركشتا» وقد ترجم الكتاب إلى الفارسية تحت عنوان (السياسة العالمية)، وحتى أنّ الفلاسفة المعاصرين يعتبرونه فيلسوفاً بارزاً، هذا الشخص يعتبر ركيزة عالم السياسة هي «القوة والخداع». والغربيون أنفسهم يرتضون مثل هذا الأساس لسياستهم ويرسمون ستراتيجيتهم في الأمن القومي على أصالة هذه «القوة»، وهو ما نلاحظ انعكاساته في العالم، أو حتى في الخليج الفارسي في يومنا هذا.

 

في حين أنّ تلك المقولة تحاول الإيحاء وكأن ما يجري في عالم السياسة وفي العلاقات الدولية غير قائم على القوّة والخداع. أليس هذا من السذاجة التي تنتهي إلى إيجاد ثغرة في حصوننا وأنظمتنا الدفاعية؟ وهذه طبعاً واحدة فقط من نتائج التصديق بأننا (لا نواجه مؤامرة)، وإنما نحن مصابون بداء (وهم التآمر).

 

انهار حلف «وارشو» تلقائياً من بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان هذا يستلزم طبعاً زوال أسباب بقاء حلف الناتو، وكان ينبغي وفقاً للقاعدة أن يتقوّض وجود هذا الحلف العسكري في الغرب، إلا أنّ هذا الحلف لم يتقوض، بل أخذ يتسع نحو قلب أوربا ونراه حالياً يتوغل نحو حدودنا في آسيا الوسطى، وبلاد القوقاز، بل ويرى البعض أن التغلغل التركي في شمال العراق بمثابة تغلغل للناتو في قلب الأراضي الإسلامية.

 

إذا انزلقنا إلى القول بأننا مبالغون في الحذر من علاقاتنا بالغرب، وليس هناك ثمة مؤامرة، بل هناك وهم يوحي بوجود التآمر، ويجب علينا الإغضاء عن هذه التهديدات والمخاطر، وإدخالها ضمن تعابير قضايا حقوق الإنسان التي يسعى الغرب لتطبيقها استجابة للرسالة التي يحملها في هذا المجال، ونفترض على سبيل المثال انه يريد تأديب صدام، وضمان استقرار الاقتصاد العالمي، وإقرار السلام، إذا رأينا ذلك فلاشك في أن بمقدورنا تخمين الانعكاسات المدمّرة لهذه الفكرة في قراراتنا وعلاقاتنا الدبلوماسية آنذاك.

 

إذا تصورنا أنّ التآمر ضدنا مجرد وهم، سيضمحل فوراً ما لدينا من حساسية أزاء الظروف المعقدة المحيطة بنا وبأكثر المناطق تأزماً وحساسية في العالم. فهناك اليوم إلى جوارنا أفغانستان بكل قضاياها، والباكستان التي يقتل عدد من الناس فيها يومياً وفيها صراعات بين الشيعة والسنّة والتيارات المختلفة. وإذا نظرنا إلى الخليج الفارسي نلاحظ انه لم يسبق له وان استضاف مثل هذا العدد من القوات العسكرية الغربية. وإذا نظرنا إلى الجهة الأخرى نلاحظ وجود العراق، إضافة إلى تركيا وما فيها من أزمة. ونلاحظ في جانب آخر جمهورية أذربيجان تجول فيها تحركات إسرائيلية وأمريكية. وإذا ما ألقينا نظرة على آسيا الوسطى نرى وجود أحداث وتغيّرات على مشارف حدودنا ومساع لإيجاد موطئ قدم لأمريكا وإسرائيل.

 

فإذا تكوّنت لدى شعبنا ومن ورائه أجهزة ومؤسسات القرار في الدولة، مشاعر توحي بأننا مصابون بوهم التآمر، وان العالم يزخر بالأمان ومهيّء للعمل والحوار وإقامة علاقات الصداقة بل وحتى العلاقات الأخوية، فمن الطبيعي أننا سنفقد ما لدينا من حذر وحساسية أزاء هذه المخاطر والتهديدات، وسننتهي عملياً إلى موقف لا نستطيع الحفاظ على مكانتنا المناسبة في مقابل هذه الأخطار الهائلة، كما فعلنا حتى الآن بصفتنا نظاماً مقتدراً. ويمكنكم الآن أن تتصوروا مدى أهمية هذه القضيّة.

 

لدي في هذا الصدد ذكرى أود إلقاءها على أسماعكم لتدركوا من خلالها مدى أهمية وخطورة نظرية التآمر ووهم التآمر على الصعيد العالمي. كنت قد سافرت بعد فترة مسؤوليتي إلى اليابان وذهبت هناك لتفقد مدينة للبحوث تقع على مشارف طوكيو وتجولت في قسم البحوث الزراعية، تحدثت مع رئيس تلك المؤسسة وكان كهلاً متخصصاً بالزراعة؛ فسألته: ما حجم المبالغ التي تستثمرونها في البحوث الزراعية؟ قال: 23 مليار دولار. ثم تحدثنا في مواضيع أخرى كان من جملتها إني سألته: أنّ ما لديكم من فائض في ميزان المدفوعات، مضافاً إليه فائض الصادرات، إلى جانب ما تحصلون عليه من عملة صعبة، بل وحتى يمكنكم توظيف بعض الاستثمارات في مجالات أخرى، ويمكنكم أنفاق مبلغ ضئيل من هذه المداخيل السنوية لتوفير كل ما يحتاجه بلدكم من غذاء ومتطلبات أخرى، لماذا إذن تنفقون مبلغ 23 مليار دولار على هذه البحوث؟ فاليابان يمكن ملؤها بمحاصيل كالرز والحبوب والمواد الغذائية الأخرى بمليارين أو ثلاثة مليارات دولار، بحيث لا تبقى لها أية حاجة للخارج. فقال ذلك الكهل الذي لا يبدو عليه انه رجل سياسة: انظر إلى جغرافية بلدنا؛ نحن نعيش في جزيرة، فماذا نفعل لو فرض علينا الحصار يوماً ما؟

 

فاليابان هذا البلد القوي اقتصادياً والمتحالف مع الغرب، والذي لا يواجه أية أزمة وليست لديه أية مشكلة عسكرية، تجد مثل هذه القضية تشغل فيه ذهن شخص يعمل في مجال البحوث الزراعية. ويتضح بعد المقارنة بين هذا النمط من التفكير ونظرية (وهم المؤامرة)، إن ثمة مؤامرة تقف وراء إشاعة هذا النوع من الإيحاءات.

 

هذه النظرية تدعونا إلى التفاؤل وحسن الظن ونحن نعيش في الشرق الأوسط وفي منطقة العالم الإسلامي المليئة بالأزمات والمخاطر، على أساس أننا واهمون وأنّه ليست هناك من مؤامرة ضدنا، وان نغمض أعيننا عن مآرب القوى العظمى في المنطقة ونصدّق ابتساماتهم!!

 

لاشك في أنّ القبول بمثل هذه الأطروحة ورسوخها يمهّد الأرضية لإعادة نشاط المحافل الماسونية في بلدنا. فقد جاء في أوسع المقالات التي كتبت عن موضوع (وهم التآمر): «إنّ الماسونية ليست سيّئة إلى هذا الحد الذي يُشاع عنها، ولم تصدر عنها خيانات ذات أهمية. وهذه أيضاً من جملة الأوهام التي نحملها في هذا المجال».

 

شيوع فكرة (وهم التآمر) يزيل ما لدينا من حساسية ضد إسرائيل. وقد أفرزت من المقالة التي تلوت على أسماعكم مقدّمتها في بداية حديثي، مقطعاً يتعلق بإسرائيل لتدركوا مدى أهمية القضية التي نحن بصددها.

 

ورد في ختام تلك المقالة ما يلي: «من المؤسف أنّ الأوساط الإيرانية لا رغبة لها ولا تبدي الاهتمام المطلوب لدراسة ومعرفة سياسة إسرائيل؛ فهي ـ أي إسرائيل ـ بقيت حتى عام 1982 تتبع نهج السياسة الخارجية الذي رسمه «بن غوريون» ويعتبر فيه إيران وتركيا وأثيوبيا تحت أي نظام سياسي كانت، صديقة لإسرائيل، وان عدوّها الأساسي هو العراق. ولهذا كان من الطبيعي أنها كانت تميل في بداية الحرب بين إيران والعراق، إلى مساعدة إيران، والدخول في قضية «إيران ـ كونترا». إلا أنها وبعد أن تصدى الشيعة اللبنانيون لأمريكا وإسرائيل وبعد طردهما من بيروت، أخذت تنظر إلى الشيعة والإيرانيين كعدو أساسي لها».

 

ثم يدعو في سياق البحث قائلاً: «لو إننا قوّمنا أفكارنا واعتقدنا أنّ إسرائيل لا تضمر أية مؤامرة ضدّنا ولا تسعى على هذا السبيل، لصار بوسعنا أن نقيم العلاقات معها ونقضي على عدائها لنا».

 

الانعكاسات السلبية لنظرية «وهم المؤامرة» اقتصادياً:

 

لا تقتصر النتائج المتمخضة عن هذه النظرية على المجال السياسي وحده وإنما تتجاوزه إلى شؤون الاقتصاد أيضاً. وعلينا الانتباه إلى أنّ الكثير من مبادئ دستورنا في المجال الاقتصادي خاصة قائمة على دعائم سياسية وتاريخية واسعة.

 

فالمواد 43 و 44 من الدستور تختص بالتجارة الخارجية، والقطاعات الثلاثة: العام والخاص والتعاوني. وتحدد المادتان 80 و 81 من الدستور شروط الاقتراض من الخارج، والامتيازات التي لا يسمح بتقديمها للأجانب، وما شابه ذلك. يمكن الإذعان أنّ مناقشات مجلس الخبراء الأول كانت عارية تماماً من أية صفة اقتصادية. وأكثر الأسباب الكامنة وراء مثل هذه القرارات ناجمة عن تجربة مريرة مداها 200 سنة.

 

كانت إيران ما قبل الثورة تنتهج سياسة الانفتاح على الغرب؛ حيث دأبت الحكومات الإيرانية في تلك الفترة وبعد حروب إيران والروس على إتباع سياسة الباب المفتوح أمام الدول الكبرى. كان البعض يدعو للانفتاح على الشرق، ويدعو البعض الآخر للانفتاح على الغرب، إلا أنّ الجميع كانوا متفقين على هذه السياسة. وفي الوقت نفسه كان البعض يعرب عن معارضته لها، مثل أمير كبير الذي كان يعارض النفوذ والوجود الأجنبي، وفي أحداث تأميم النفط برزت خلال تلك الفترة القصيرة معارضة لذلك التوجه، إلا أنّ مجمل سياستنا العامة طوال المائتي سنة الماضية كانت تتسم بالانفتاح السياسي والاقتصادي على الغرب، وهو ما لمسنا انعكاساته المريرة على هذا الصعيد. وكان من جملة نتائج تلك السياسات وقوع هذه الثورة؛ فلولا تلك السياسات لما بلغنا مرحلة انبثاق الثورة الإسلامية.

 

الثورة تعني انتصار مثل وأفكار جديدة على تلك الفكرة أي سياسة الانفتاح الكامل على الشرق والغرب، وتدعو إلى علاقات واقعية تنظر بعين الواقع إلى الخداع والمكر والتسلط السائد في العلاقات الدولية، ولا تتعامل مع قضية العلاقات الدولية بسذاجة، وسوف تستمر على نفس النهج في المستقبل أيضاً إن شاء الله.

 

الثورة الإسلامية لا تدعو إلى العزلة وإنما تدعو إلى الانضباط والواقعية في العلاقات، وترفض في الوقت ذاته سياسة الانفتاح على الشرق أو الغرب. إذ أنّ الفكر الذي انتصر في هذه الثورة معاكس تماماً لما وقع على امتداد المائتي سنة الماضية. بمعنى أن نسدّ المنافذ ونتبع سياسة مدروسة ونبدي حذراً في تجارتنا الخارجية ونوع التنمية والنموذج الاقتصادي الذي نحتذي به. وهذا ناجم عن الشعور بانعدام الأمن في عالم وصفه الإمام الخميني(قدّس سرّه) بالقول: «القوى الكبرى فيه كذئاب جائعة في ليلة شتوية يترقب أحدها الآخر، فإذا ما نام أحدها افترسه الآخر». وهذا أفضل تعبير في وصف حقيقة العلاقات الدولية، على الرغم من الغطاء البرّاق الذي يغلفها.

 

لاحظتم إذن أنّ هاتين الرؤيتين تختلفان مع بعضهما اختلافاً تاماً. والرأي الثاني؛ وهو الرأي الذي تنادي به الثورة لا يقوض العلاقات ولا يقطعها، ويسعى إلى إزالة التوتر، ويريد إقامة علاقات منطقية مع العالم، والاستفادة من الثروات والتقنية والإمكانيات التي ساهمت جميع البشرية في إيجادها. بل أنّ مدار البحث يتركّز حول الاعتقاد بأن السير في هذا الاتجاه يستلزم الوعي والحذر واليقين بأن هذا العالم غير آمن لإقامة علاقات مبنيّة على حسن الظن.

 

لاحظنا من بعد الثورة أن عدداً من الخبراء الاقتصاديين أخذوا يتنكرون للمبادئ شيئاً فشيئاً بسبب ثقتهم المتزايدة بالغرب وتصورهم إننّا مصابون بوهم التآمر في ما يتعلق بنظرتنا للتآمر الأجنبي ضدّنا.

 

طرح أحد الأخوة في الاتحاد الإسلامي للطلبة بحثاً عن العدالة الاجتماعية وأعتقد أنّ لجانب من بحثه صلة بهذا الموضوع. فهناك من يرى في سياسة تنظيم الاقتصاد في بلدنا أفضل سياسة، في حين يوجد من لا يعيرون أهمية للجوانب السياسية والاقتصاد الواسع وعلاقته بالسياسة الدولية، وما يواجهنا من تهديدات في المنطقة. ونحن لدينا اليوم أسباب أكثر تحدو بنا لرفض هذه الآراء والنظريات وبإمكاننا تقديم البراهين الدالة على مدى خطورة الانسياق وراء هذه النظريات. أي إننا إذا أذعنّا أننا واقعون في وهم المؤامرة، وما هنالك حقاً من مؤامرة، سنفتح أعيننا ذات يوم لنرى أننا غارقون في مستنقع الديون، أو الدوران في حلقة نماذج التنمية المستوردة من القوى الأجنبية، وهذا ما يمكن أن يعرّض للخطر أكبر هدية وأمانة قدّمتها لنا الثورة، وأعني بذلك استقلالنا.

 

وإذا ما نظرنا إلى الشرق الأقصى، فهناك من الخبراء الاقتصاديين في المؤسسات والقطاعات المختلفة من درس بعض تلك النماذج واقترح علينا السير على خطى كوريا واندونيسيا، وكان من ضمن المواضيع التي يضعونها على الدوام في مواجهة النماذج والمثل الأخرى هي وجوب النظر إلى مدى التقدم والنمو الذي أحرزه الشرق الأقصى حينما فتح أبوابه على مصراعيها أمام الاستثمارات الأجنبية. في حين أننا رأينا في الأشهر الأخيرة كيف استطاع الغرب تقويض هذا البلد بحركة سياسية واقتصادية واحدة، وكيف استطاعوا خفض القدرة الشرائية لشعوب بعض البلدان إلى النصف أو حتى إلى أدنى من ذلك في بلدان أخرى مثل أندونيسيا، وساقوا هذه البلدان نحو الإفلاس النقدي والمالي والسياسي، وأرغموها في آخر المطاف على الخضوع لتوصيات وأوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأدخلوها تدريجياً تحت نفوذ هيمنتهم.

 

هل يمكن القول بعد هذا أن العالم خال من المؤامرات وأننا نعيش حالة من الوهم؟! من الطريف أنّ زعيم أحد بلدان الشرق الأقصى أشار في حديث له مؤخّراً، أن العالم ليس بمكان آمن للتحدّث. أي إننا تفوّهنا ببضع كلمات أكثر من اللازم بشأن استقلال بلدنا، فأدّبتنا أمريكا.

 

لا يُستبعد من هذه السياسات أفراز مخاطر من قبيل خطورة تقويض استقلال البلد. وأعتقد أنّ جانباً من شغفنا بمثل هذه النماذج وسبل الحل ناجم عمّا نستشعره لدينا من قوّة ومن نظام راسخ ومما تجاوزناه من مخاطر وما اكتسبناه من ثقة بأنفسنا، ونحن نشعر عبر وجود هذه الثقة العالية بالنفس أنّ التآمر الأجنبي ضدنا قد تضاءل، أو أن الأعداء لم يعودوا حالياً كما كُنا نتصورهم أول الثورة، أنهم أقوياء وخطرون، أو أن العدو عاجز عن تكثيف جهوده ضدّنا.

 

الانعكاسات السلبية لنظرية «وهم المؤامرة» ثقافياً:

 

أما في مجال الغزو الثقافي فالقضية واضحة، ولا أُريد هنا التحدث حولها؛ يكفي أن تتصوروا ما ستؤول إليه الأوضاع ومدى التغيير الذي يطرء على ثقافتنا والتعليم العالي والقيم والمعتقدات، فيما لو تقبّلنا فكرة ان ما نحمله تجاه الغرب، أي اتجاه أوربا وأمريكا، من تصورات انّما هي أوهام، وليس هناك من تآمر يُدبّر ضدّنا.

 

كان لدينا في بداية الثورة ـ ويوجد حالياً أيضاً ـ أشخاص يحملون أهدافاً سامية إلى درجة أنهم لا يرتضون أدنى من مرتبة «لقاء الله»، فمقاتلونا وأبناء حزب الله وأعضاء المؤسسات الثورية جعلوا لأنفسهم مثل هذه الأهداف والمثل النبيلة. فهل يجب علينا حالياً الإعراض عن تلك المثل المقدسة والتوجه صوب مبدأ أصالة اللذة والنزعة الاستهلاكية وهما السمتان البارزتان للمجتمعات الغربية المعاصرة، ولاسيّما إذا وضعنا هذه القضية إلى جانب السياسة الاقتصادية الإستهلاكية القائمة على مثل هذه الفكرة وإشاعتها. من الطبيعي في مثل هذه الحالة أنّ نفس الأسئلة التي تثار، والقيم التي تطرح هناك ـ أي أصالة اللذة والنزعة الاستهلاكية ـ ستشيع في مجتمعنا أيضاً، وتنتهي تلك السياسة بما تشتمل عليه من جوانب اقتصادية وثقافية إلى أن تطرح هنا نفس تلك الشعارات التي تطرح في الغرب، ولكن مع وجود حالة من التناقض هنا.

 

فالغرب بما لديه من إمكانيات مادية واقتصادية، حينما يطرح مبدأ أصالة اللذة، فهو قادر على تلبيتها، ولديه القدر الكافي من الملاهي والسينمات ونوادي الخمور والأقمار الصناعية والبضائع الاستهلاكية والضمان الاجتماعي والغذاء، وبإمكانه أغناء الطبقات المحرومة أو خفض عددها إلى أدنى ما يمكن على حساب نهب ثروات العالم، أو أن تكون لديهم طبقات متوسطة وغنية، أو الوصول بمستوى التفاوت الطبقي في بلدانهم إلى حد مقبول.

 

أما مشكلتنا فتكمن في إننا إذا أردنا طرح نفس تلك الشعارات والقيم، فلن نكون قادرين عملياً على الاستجابة لمتطلبات تطبيق هذه السياسة. أي أننا نكون قد فتحنا آفاق تطلعات شعبنا على النزعة الاستهلاكية وأصالة اللذة، والاستمتاع ما أمكن بما في هذا العالم وبكل ما يبتدعه الإنسان وكل ما يأتي من الغرب، في حين لا يتيسّر لا لإقتصادنا ولا لثرواتنا ولا لقوانا تلبية هذه التطلعات. ونكون قد أوجدنا هنا هوّة عميقة بين الآفاق التي يتطلع إليها أبناء شعبنا، والإمكانيات القادرة على إشباع هذه التطلعات. ومثل هذه الهوة يُحتمل أن تنطوي على الكثير من التناقضات والفوضى وعدم الاستقرار، وهذا ما ينبغي اجتنابه. إضافة إلى مسائل كثيرة أخرى لا مجال لذكرها، ولأنني أريد هنا استخلاص نتيجة عامّة.

 

النتيجة:

 

إذا نحن تلقينا فكرة (وهم التآمر) على هذا النحو وبلا مبالغة فيها فهي مفيدة لنا. إلا أنني لا أُريد الخوض في هذا الموضوع أساساً. وهذا هو ما كان سماحة الإمام(رض) يدعو إليه عملياً على الدوام في كلماته للقوى الثورية؛ حيث كان يدعو إلى العمل وإلى الثورة، وليس إلى الهروب من الثورة، ويدعو إلى المجابهة والنشاط والتجديد والإبداع والخلاقية ويرفض فكرة «أنّ تكليفنا ومصيرنا يُلقى إلينا من الخارج، وعلى هذا فلابد من اتخاذ موقف انفعالي والاستسلام بانتظار المصير». فليس لدينا شيء من هذا القبيل.

 

إلا أنّ المقالات الأساسية ونمط الدعاية التي تتضمنها لا تجري نحو هذه الغاية؛ بل تجتمع بأسرها على معنى واحد وهو أننا في نظرتنا للغرب وأمريكا وإسرائيل مصابون بما يُسمّى بـوهم التآمر، في حين لا يوجد في الواقع الخارجي أي تآمر، وعلينا أن نكون مطمئني البال في هذا المجال. وأنا أشبّه هذا الموقف بالجراثيم التي تدخل جسم الإنسان وتقضي على مناعته.

 

فحينما تدخل جرثومة (أج، آي، دبليو) إلى الجسم يفقد الإنسان مناعته حتى أمام الزكام، وقد تقضي عليه حتى إصابة بسيطة بالانفلونزا، ويصبح عرضة للإصابة بجميع أنواع الأمراض. أي حينما ينهار نظام المناعة يعجز الجسم تلقائياً عن مقاومة أنواع البكتريا والمكروبات والتقلّبات الجوية والمناخية المختلفة.

 

الشعب الذي لا يستثيره ما يقوم به الأقوياء من استعراض للعضلات في هذا العالم المتلاطم بالأمواج، وينساق وراء فكرة «أن هذا كله وهم»، سيفقد أول ما يفقد جهاز مناعته ويصبح بعده ضعيفاً أمام أية مؤامرة أو تهديد أجنبي، وتكفي أزمة واحدة شبيهة بأزمة أفغانستان أو العراق أو الخليج الفارسي، أو على حدوده، أو أزمة داخلية كالمخدرات أو ما شابه ذلك على سلبه ثقته وخلق مشاكل أساسية له. فيكون حاله أشبه ما يكون بالملاكم الذي نلقي به في داخل حلبة ونزع عنه واقياته ونقول له: لا تخف شيئاً فان خصمك سيوجّه لك ضرباته وفقاً لاتفاق مسبق. فالملاكم الذي يدخل حلبة الملاكمة بمثل هذه الحالة من حسن النيّة، سيقضى عليه طبعاً ويكون مصيره الهزيمة.

 

وفي العلاقات الدولية يشكل التحسس من التآمر الأجنبي نظاماً وقائياً اكتسبه شعبنا على مدى مائتي سنة من تجارب الدم والنار والخداع والمكر والخيانة. وهو لم يحصل على مثل هذه التجربة بثمن بخس؛ فنحن قد ضحّينا في سبيل هذه القضية بأشخاص مثل أمير الكبير، وقائم مقام، ولدينا تجربة تحريف ثورة الدستور، ولدينا تجربة التسلط الدكتاتوري على هذا البلد في عهد رضا شاه ومحمد رضا، ولدينا تجربة النفوذ الأمريكي والمستشارين الأمريكيين ونهب ثروات شعبنا، وواجهنا عبر المائتي سنة الماضية الاستهانة والتحقير في كل لحظة ووجهوا لنا الصفعات أمام العالم كلّه، فكان من الطبيعي أن نخلق في ذاتنا آلية وقائية جاءت كنتيجة لما قدمناه من شهداء وما واجهناه من عناء ومصاعب.

 

وعلى الرغم من كل هذا يدعوننا في ضوء هذه الفرضية إلى التخلّي عن هذه الآلية الوقائية وعن هذه التجربة التاريخية، ولا نعوّل على ما لدينا من تجربة تاريخية عمرها مائتي سنة، وان لا ننظر إلى الأمور نظرة واقعية!

 

أنا شخصياً لا أعتبر القول بوجود تآمر أجنبي قضيةً مبالغاً فيها؛ وإنما أرى أنها عين الواقعية، والعدول عنها بمثابة سقوط وانزلاق في مخاطر كبرى. بيد أن هذه القضية ـ كما سبقت الإشارة ـ لا تتناقض على الإطلاق مع إقامة علاقات خلاقة ومتكافئة مع جميع العالم. والنقاش يدور هنا حول نمط النظرة إلى الأمور.

 

نموذجان فكريان:

 

أود في ختام بحثي هذا قراءة مقتطفات من أقوال شخصيتين؛ أعتبر أولاهما نموذجاً فكرياً يعكس السياسة الرسمية على مدى المائتي سنة الماضية، والشخصية الأخرى هو الإمام الخميني(رض) الذي سأكتفي بقراءة شيء من أقواله وكلماته.

 

الشخصية الأولى التي استشهد هنا بكلماتها هو الميرزا ملكم خان، وستلاحظون بعد قراءتي للنص انه ينطوي على فكرة غريبة، ولا تختص بفرد فقط، وإنما كانت تمثل أساس نهجنا الاقتصادي والثقافي طوال المائتي سنة الماضية. فهو يقول:

 

«السبب الأساسي لعداء وكراهية الشعوب الأوربية لدول آسيا هو أنهم يقولون: أنّ دول آسيا غطت القسم الممتاز من الكرة الأرضية ببحر من الخزي والعار على بني الإنسان، بسبب عدم توفيرها الأمن للأموال والأنفس. إلا أنّ الدول الأوربية وفّرت ـ بما لديها من علوم ـ أسباب الأمن على الأموال والأنفس، وبذلك جعلت احتلال كل بلدان آسيا حقّاً سماوياً وواجباً حقّاً عليها.

 

ولا يمكن لدول أوربا التجارية ترك آسيا على حالها من الركود والتخلّف؛ لأن تقدّمها ونموها يتوقّف على نمو وتقدم جميع بقاع العالم. ولهذا السبب تحرص الدول الأوربية بكل صدق على تقدّم إيران. وليست للشعوب الأوربية مآرب وأغراض في دولنا على الإطلاق إلا لأجل زيادة عمرانها واتساع تجارتها، وأوربا لا تتحمل بقاء الدول المتخلّفة على حالها. وحينما تحتل دول أوربية بلداً آسيوياً فليس غايتها نشوة النصر والنهب، بل أكبر غايتها التجارة والمصلحة المتبادلة. فالضرائب التي تجبى في الهند لا يذهب منها إلى خزانة بريطانيا درهم واحد. وعلى هذا النحو، يمكن اعتبار القضاء على البلدان المتخلّفة حكماً عادلاً وتقديراً إلهياً».

 

هذا نمط من التفكير، يقابله نمط آخر يتضمنه المقطع التالي من أقوال الإمام الخميني (قدّس سرّه الشريف):

 

«لا أدعوكم إلى عدم الاقتباس من الحضارة الأوربية، إلا أنّ ما يريدون تقديمه لنا ليس حضارة، وإنما هو شيء يقودنا نحو الدمار حيث قدّموا لنا (بوابة الحضارة الكبرى) لقد أساء لنا الغرب كثيراً؛ لقد دمّرنا»

 

كان هذا القول لسماحة الإمام. وأعود مرة أخرى إلى ذكر كلمة أخرى لذلك الشخص الذي عاش في العهد القاجاري، لأن هذا التفكير «قالب» يمكن مشاهدة نظائر له حالياً، ونظرية وهم التآمر تستلزم وجود مثل هذا القالب الفكري. فهو يقول:

 

«يجب استقدام شركات من الخارج لإعمار إيران. إلا أن عقلاء إيران لازالوا يعتقدون أنّ الشركات الأجنبية ستستحوذ على إيران. في حين أنّ مثل هذا الاعتقاد ينطوي على جهل كبير؛ فوجود الشركات الأجنبية لا ضرر ولا كلفة فيه أكثر من وجود الشخص الأجنبي.

 

وإذا شاءت إيران البقاء على عزلة لوحدها وإغلاق حدودها كما فعلت «خيوه» و «بخارا» سيتّضح لها فيما بعد أنها لا تستطيع البقاء في منأى من الهجوم والعدوان؛ لأن السارق يستطيع الدخول حتى إلى الدول المحصنة والخاضعة لرقابة صارمة. وعلى هذا يجب على أولياء الدولة العليّة تفويض سكك الحديد، والمعادن، والمصارف، وجميع الأعمال والإنشاءات الحكومية للشركات الأجنبية بلا تردد».

 

ثم يقول بعد ذلك ببضعة أسطر:

 

«يجب على الحكومة الإيرانية تقديم أكبر ما يمكن من الامتيازات للشركات الأجنبية. ويجب أن لا يُنظر إلى هذه الامتيازات وكأنها تلطف ومكرمة، بل على العكس إذ يجب على الحكومة الإيرانية إبداء امتنانها وسعادتها لقبول الشركات الأجنبية بالمجيء إلى إيران وتوظيف استثماراتها في أرضها. ويجب أن يبقى مثل هذا الامتنان سائداً على جو المفاوضات كافة».

 

لاحظوا إننا بدلاً من أن نجد في هذا التفكير أطروحة نابعة من متطلبات بلدنا وقدراته وطاقاته الكفوءة والمبدعة، نراه يدعو إلى الانفتاح التام على الأجانب. ومن المؤسف أنّ هناك خبراء يفكرون على نفس الطراز الذي كان يفكر به الميرزا ملكم خان.

 

لا أعني من كلامي هذا أن لا نرتبط بالعالم مالياً ونقدياً. فالبحث يتضمن في هذا المضمار رؤيتين متفاوتتين كلياً ويتعلّقان بكيفية النظر إلى هذه الثروات، ومن أية زاوية ينظر إلى هذه الأطروحات، وما هي المقاصد الكامنة وراءها.

 

كان هذا الرجل يوصي كل من كان يريد الحصول على امتياز من الحكومة الإيرانية، ـ وكتب هو أيضاً في ذلك ـ بما يلي: «الحكومة تقول عادة: كم تدفعون لنا؟ فالحكومة في أغلب الأوقات تحرم إيران من مائة لون من المنفعة في آن واحد؛ إذ لا ينبغي تأمّل الحصول على منفعة فورية من أي امتياز؛ لأن كل امتياز يعود على البلد برفاه ومنفعة لا حد ولا حصر لها. ولا ينبغي للحكومة المطالبة بحصة من فوائد الاستقراض في حقل الثروات الطبيعية؛ لأن فوائده تعود بشكل غير محسوس على الدولة والشعب».

 

حسناً، هذا رأي. ولدينا كذلك رأي آخر نقتبسه أيضاً من كلمات سماحة الإمام ونختم به حديثنا. وهو بالإضافة إلى كونه يعكس وجهة نظر، يمثل أيضاً طريقاً للحل، وهو من الكلمات القصيرة التي يمكن تطبيقها في كافة حقول السياسة. وأنا أرى في العبارة التي أنقلها عنه في ما يلي أساساً لأي نوع من العلاقات مع القوى الكبرى.

 

يقول سماحته: «يجب أن تعتبر الشعوب الإسلامية أنّ أساس تعامل القوى الكبرى معها قائم على العداء والمخادعة، إلا إذا لمسوا وشاهدوا ما يخالف ذلك عياناً وعملاً».

 

والعبارة الأخيرة التي أنقلها عنه هو قوله رحمه الله: «كانت هزيمة أمريكا أكبر من هزيمة الآخرين، ولهذا فهي تتآمر أكثر منهم».

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته