خطب آية الله الشيخ عيسى قاسم فذكر بالابتلاء وأملّ بقرب الفرج وشدّد على أنّ أي إرادةٍ بشريةٍ لا يصح أن تتحكم في إرادةٍ بشريةٍ أخرى، منتقدا تواطؤ الطائفيين بقوله: لا يحمل روح الدين من وقف مع الظالم ضد المظلوم.

 

في الجمعة الثانية منذ دخول قوات خليجية للمساهمة في قمع الشعب البحريني المظلوم خطب آية الله الشيخ عيسى قاسم بمسجد الإمام الصادق(ع) بالدراز، حيث ابتدأ خطبته بما يتناسب وهذا البلاء الذي تعيشه البحرين، فاستشهد بقوله تعالى: ﴿الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ...﴾ وقول الله عزّ وجلّ: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين﴾، ثم قال:تُجلينا الحياة بمختلف ابتلاءاتها، بشدتها ورخائها، بسرائها وضرائها، بالألوان المختلفة من امتحاناتها وفتنها على حقيقتنا، ومن هو أحسن عملا وأسوء عملا، ومن هم الصادقون ومن هم الكاذبون، ومن هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير.

 

وأضاف: الشدائد لا تبقى، والعسر لا يدوم، والأيام لا تثبت على حال، والأزمة لابد أن تنفرج، وكلما تضيّقت حلق البلاء قرب الفرج، وليس آنس للنفس المستوحشة من العسر المتأزمة للضيق إذا كانت مؤمنة من قوله سبحانه : ﴿ فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا﴾.

 

وقد جاء ضيق أزمة تنفرج، وإذا كان البلاء لابد منه فلابد من الصبر، ولا يعفى أحدٌ من الناس من البلاء ـ لا مؤمن ولا كافر ـ، ولكن يتفاوتون في الربح والخسارة، ولا سبيل للنجاح في الامتحان إلا بالصبر والاستقامة على منهج الدين، والأخذ بالشريعة والتقيد بأحكامها، وإخلاص القصد لله والرضا بما حكم.

 

وانتقل سماحته بعد ذلك إلى توصيف الواقع، مذكرا ببعض الحقائق،قائلا:في الناس منصف وغير منصف، وعادلٌ وظلوم، وفي المسلمين جميعاً مدرك وغير مدرك، ومُشفقٌ على الأمة ووحدتها وغير مُشفق، وحريصٌ على عزتها وكرامتها وغير حريص، ومن يحب الخير لكل أبنائها ومن لا ينظر إلا إلى مصلحته، ومن لا يفرق في الحقوق والواجبات الاجتماعية بين أهل مذهبٍ ومذهب، وبلدٍ وبلد، وقوميةٍ وأخرى، ومن يؤمن بالتفريق ويصر عليه.

 

ودعا:علينا أن نجاهد أنفسنا، لنكون المسلمين الواعين المخلصين لدين الأمة وأبنائها ووحدتها وعزتها وكرامتها، لا ندعو لفرقة ولا نستجيب لها، ولا تغيرنا الخطوات المستفزة على طريقها.

 

وإذا قلنا هيهات منا الذلة، علينا أن نقولها نفياً لها عن كل مسلم، وطلباً للعزة والكرامة له. فنحن لا نقول هيهات منا الذلة لنثبت الذلة لمسلمٍ آخر.

 

واستطرد بالقول:علينا أن نكون طلاباً للعزة والكرامة والخير لأنفسنا ولكل مسلمٍ ولكل إنسان.

 

وفي رؤية عميقة لما تمر به البحرين من محنة قال آية الله قاسم: رؤيتنا أن أي إرادةٍ بشريةٍ لا يصح أن تتحكم في إرادةٍ بشريةٍ أخرى، وأن الناس إما مُسلّمٌ لحكم الله سبحانه وإما غير مُسلّم، والأول مذعنٌ لحكم ربه حاكماً كان أو محكوما، والثاني شخصاً كان أو قبيلة أو حزباً، أو من أهل دينٍ معين أو مذهبٍ معين، أو كان قطراً أو قومية، لا يكون حكمه في الناس إلا برضاً وتوافقٍ وتعاقد. ولا يصح حكم الغاب وأن تُمضي الإرادة البشرية ـ بما هي إرادةٌ بشرية ـ رأي متسلطٌ ـ بما هو رأي متسلط ـ على الآخرين.

 

لو كانت إرادة الرسول (صل الله عليه وآله) إرادةً بشرية، ما كان له الحق أن يفرضها على إرادةٍ بشريةٍ أخرى، وإنما لأن إرادته من إرادة الله ولأن رأيه من حكم الله كان على الناس أن يستجيبوا لطاعته.

 

وهذا هو فكر الدنيا كلها اليوم، والآخذُ في الانتشار، والتمكن في جميع الأقطار وبقاع المعمورة، لا يستوحشه من شعوب العالم شعبٌ من الشعوب، ولا يعاديه منصف في الناس.

 

وفي رد غير مباشر على اتهامات الطائفية في الحراك البحريني قال سماحته:كم فرح هذا الشعب لفرح الشعوب المسلمة الأخرى، وكم تألم لألمها، لا يفرق بين شعبٍ وشعب، وبلدٍ وبلد، وأهل مذهبٍ وآخر.

 

وأضاف: فرحنا للنصر الانتخابي الذي تحقق لجبهة الإنقاذ في الجزائر، وتألمنا كثيراً لضربها، وآذتنا آلام الصومال وتمزقاتها، وأوجعتنا مصائب الشيشان وكوارثها، وفرحنا لثورة إيران وتحررها، وهزنا ما جرى في العراق من مظالم ومذابح قبل صدامٍ وبعده، واحتج هذا الشعب على الغزو الأجنبي للعراق رغم ما كان عليه صدام من ظلم ورغم معاناة الشعب المسلم هناك من مظالمه واعتصارنا له، وتألمنا كثيراً لتمزقات لبنان وحربها الأهلية، ثم فرحنا لإنتصار لبنان على (إسرائيل)، وتألمنا لإنتزاع الجنوب السوداني في المؤامرة الدولية، وأطربنا انعتاق تونس ومصر بعد العنت الطويل والمعاناة الشاقة والإذلال للشعبين المسلمين الكريمين.

 

وتطلعنا لا ينقطع لفرج كل شعبٍ مسلمٍ يعاني من ظلم ظالم وطغيان طاغية.

 

وكم كانت آلام هذا الشعب طاغيةُ وطافحةً وعميقةً لمأساة غزة، ولما عليه حال القدس وفلسطين عامة، ولا زالت تأكل هذه الآلام من النفوس.

 

وأضاف سماحته:ضمير هذا الشعب يقف مع كل مظلومٍ في الأرض، مسلماً كان أو غير مسلم، ويحب السلم والسلام، والعدل والخير، والإستقامة والسعادة لكل شعوب العالم.

 

شعبٌ هذا شأنه، حقّ له أن تفرح الشعوب لفرحه، وتحزن لحزنه، وتتألم لألمه، وأن تكون له في الحق لا عليه، وأن تضم صوتها إلى صوته المطالب بحقوقه.

 

وواصل قاسم استعراضه للمشهد الثوري البحريني قائلا: وكل حركات الساحة العربية سجلت درجةُ عاليةُ من السلمية، وإن اخرج بعضها عنف السلطة وقسوتها إلى أسلوب آخر يواجه القوة بالقوة، والتحرك في البحرين وبرغم كل الآلام والضحايا والانتهاكات لم يغادر خط السلم، وهو مصرٌ على التزامه، ولا يصح له غير ذلك.

 

لينتهي إلى نتيجة طبيعية: وهذا يزيد في وجوب تأييد هذا الشعب، ودعم هذا الشعب، وتأييده والوقوف معه، لا أن يكون الآخرون عليه أو يقفوا موقفاً غير مبالٍ من محنته.

 

وكم كان قول آية الله قاسم حكيما حين وضع الوجوه المسودة أمام مرآة الدين وهو يقول: ولا يحمل روح الدين من وقف مع الظالم ضد المظلوم لأن الأول نصراني والثاني مسلم، أو لأن الأول مسلم والثاني نصراني، أو لأن الظالم شيعي والمظلوم سني.. أو العكس. وليكن هذا المجافي في موقفه للحق من أشد الناس إحاطةً بفهم الدين واستيعاباً لفقهه، فما دام مناصراً للظالم على المظلوم فهو مع دين الله في تعارضٍ واصطدام.

 

وعن منطق القوة التي حُشدت للتنكيل بشعب البحرين ومآلاته يقول سماحته: واعني بالقوة هنا، القوة الباطشة، المنفلتة، المستبيحة، المسرفة، المعرضة عن لغة الحق والعدل، المستبدلة عنها بلغة الرصاص، والقنص، والإرهاب، والإختطاف، والسب والشتم، والكلمة الساقطة البذيئة الدنيئة..هذه لغة الغاب التي لا مكان لها في العالم اليوم، والتي لا يمكن لها الاستمرار وأن يستعاض بها عن الاعتراف بالحقوق والكرامة، هذه اللغة تزيد في استحكام الأزمة وتتصاعد بها، وتسد كل منافذ الحل الذي لا يحتاجه طرفٌ دون طرف، ولا بديل عنه لأحدهما.

 

وأنهى سماحته خطبته بالدعوة إلى التكافل الاجتماعي، وقال:كونوا مجتمعاً متكافلا، يتحسس بعضه حاجة بعض، ولا يترك للحاجة أن تفترس بعضه، أو تضر به، أو يقع في ذلها، وتنهش من صحته أو دينه أو نفسيته، أو تنال من عزته وكرامته. وبهذا تكونون محل نظر الله ولطفه ورحمته.