أحكام المؤبّد ودعوة الحوار:

 

كلّنا ألم وتأثّر وشعور كئيب بالحكم بالسجن لمدة خمس سنوات ولمدة خمسة عشر سنة وبالسجن المؤبّد لنخبة من أبناء الوطن، فيهم العلماء الأجلاّء والرموز السياسية المرموقة. ولا نمرّ بمناقشة هذه الأحكام ومقدّماتها المعروفة، ولكننا نعلم بأن صدمتها كبيرة قاسية على جماهير عريضة واسعة من أبناء الشعب، وقد تلقّتها رسالة مؤذية لضميرها مستفزّة لمشاعرها، وقرأتها على أنها ضربة موجعة موجّهة لها في الصميم.

 

وهذا ما نطق به ردّ الفعل العفوي السريع للحادث، ولا يمكن لأحد مهما كانت له من قدرة فائقة على الإقناع أن يجعل الجماهير تقرأ الرسالة غير هذه القراءة.

 

أحكام نستنكرها، ونرى فيها إساءةً للحرّية والوطن والجماهير، ونطلب بالتخلّي عنها وإبطالها قضائياً لخسّة المقدمات.

 

هذا واقع من واقع البلد، وإلى جنبه دعوة للحوار.

 

وإذا كان هناك من يبحث عن حلٍّ لأزمة البلد أو عن طريق مؤدٍّ للحل، فليس أحوج ولا أحرص من هذا الشارع المكتوي بالأزمة، والناس الذين يخسرون أولاداً وإخواناً لهم ذهبوا ضحايا حق ودين ووطن، ومن تمتلئ بهم السجون، ومن تسدّ عليهم أبواب المعيشة ويحرمون لقمة العيش الشريفة، ومن يفتقدون الأمن في ليلٍ أو نهارٍ ليس أحوج من أولئك من أحدٍ لقضية الحلّ ولقضية الطريق الصادق للحلّ.

 

وقد بحّ الصوت من هذا الشارع ورموزه وهم ينادون بالحوار ويدعون إليه، على أن يكون حواراً جادّاً ومؤدّياً إلى الحلّ، ملبّياً لما تقضي به الضرورة من المطالب ويحتاجه الإصلاح.

 

والحوار طريق وليس هدفاً، وقيمته من قدرته على تحقيق الهدف، والهدف دائماً الإصلاح، والإصلاح الصادق القادر على الإقناع ونيل الرضى والثبات، على أن مباشرة الإصلاح عملاً من القادرين عليه هو الطريقة الأمثل، والتي لا يمكن لأحد أن يشكّك في جدّيتها، وليس فيها تطويل ولا مجادلات وتوترات.

 

وليس هناك ردّ لدعوة الحوار في أصلها، ولا استخفاف بها ولا استعلاء عليها، ولا إدارة ظهر لها من أناسٍ يبحثون عن الحلّ ويحرصون عليه، ولكن هناك أجواء ومقدّمات وملابسات وإجراءات عملية وتصميم خاص لقضية الحوار، وإعلام محارب للشارع، وإلهاب ظهرٍ متواصلٍ للمعنيّ الأوّل فيما يجب لدعوة الحوار، وتهميش واضح لهذا الطرف، وكل ذلك تيئيس له من قيمة الحوار، وطرد له من ساحة الحوار، فماذا يفعل اليائس المطرود بعد ذلك؟![1]

 

توجد دعوة للحوار وواقع على الأرض، والعلاقة بينهما علاقة مشرّقٍ ومغرّبٍ لا يلتقيان.

 

هناك دعوةٌ للحوار، ولكن هناك سدّ لبابها عملاً وطرد لمدعوّين للحوار!!

 

دعوةٌ للحوار والأحكام المشدّدة على أبناء الشعب ونخبه ورموزه تتوالى!![2]

 

دعوةٌ للحوار يهّمش فيه أوّل طرف معنيّ به، حتى كأنه لاحقة من اللواحق الصغيرة، وزعنفة من الزعانف، ونقطة في الهامش[3].

 

دعوةٌ للحوار مع استمرار عمليات القتل، والسجن، والتحقيق، والفصل من الأعمال، والسبّ والشتم، والاتهام، والتحقير العلني، والإعلام المعادي!!

 

دعوةٌ لحوارٍ لا يبشّر شيء من مقدّماته وأجواءه بنتائج إيجابية ملموسة!!

 

دعوةٌ لحوارٍ تصاحبها خطوات محبطة للجماهير وهي المعنيّ الرئيس في الحوار!!

 

حوارٌ يضع المسؤولون بالدرجة الأولى عن إنجاحه العصا في عجلته قبل أن يتحرّك!!

 

حوار يقال عنه غير مشروط، ولكن هناك شرط فيه على الطرف الرئيسي في الخلاف، ذلك أن يتلقّى استمرار الضربات الموجعة، وكل الإهانة والتحقير والتهميش، وسيل الاتهامات الظالمة، وألوان التعدّيات برحابة صدر، ويدخل الحوار بوجه بشّ وابتسامة عريضة وقهقهة عالية وصدر منشرح حتى لا تتعكّر أجواء الحوار!!

 

ادخل الحوار مظلوماً، مقهوراً، مشتوماً، مسبوباً وأنت تضحك!![4]

 

واضح أن لكلّ أمر مقدّماته، ولكل نتيجة أسبابها، ولا يطلب الأمر من مقدمة نافية له ولا النتيجة من سبب يقود إلى عسكها. مقدمات الحوار في بلدان آخرى تمهيدات إيجابية، وقدر من التداركات والتصحيح والإصلاح، أما المقدمات عندنا فمختلفة.

 

أرأيت من أراد أن يخفّف من غليان مرجل على النار يزيد في قوّة الاشتعال تحته؟ ومن أراد أن يهدأ الخواطر يثيرها؟ ومن أراد سيادة أجواء السلم يصرّ على لغة الحرب؟ من الصعب التوفيق بين ما يجري على الأرض وبين دعوة الحوار.

 

وبعيداً عن الكلام عن الحوار، أؤكّد على أن لنا (نعم) و (لا).

 

نعم.. لإصلاح جدّي يحفظه دستور عادل يوافق عليه الشعب، وينهي حالة التهميش له، ويعترف له بكونه مصدر السلطات في تعبير واضح عن ذلك بمواد وبنود محدّدة تمثّل ترجمة صادقة لهذا الوصف..

 

نعم.. لإيقاف كل الانتهاكات والتعدّيات على حقوق الإنسان المتّفق عليها عالمياً وبصورة فورية..

 

نعم.. للإنهاء السريع لكل آثار الحلّ الأمنيّ وإنصاف المتضرّرين..

 

و(لا)...

 

لا.. لتهديد الأمن من أيّ طرف..

 

لا.. لتهديد الوحدة الوطنية..

 

لا.. للإعلام المستهتر الفاحش البذيء الفتنة..

 

لا.. ولو للشمّة الطائفية..

 

هذه (نعم) و (لا)، بلا تحدٍّ ولا مغالاةٍ ولا تزيّد.

 

ثم كلمة.. كيف يريد التخلّف عن الحوار بقصد إفشاله[5] من لا يستقيم تخلّفه عن الحوار الجادّ الصادق وحاجته في الإصلاح وأيّ مقدمة من مقدماته؟

 

نحن نعرف أن أطراف الأزمة كلها متضرّرة، ولكن ليس هناك طرف أكثر تضرّراً منا، فكيف يسمح لنا عقلنا أو ديننا لو رأينا في الحوار جدّية وصدقاً، وأنه يمثّل حلاًّ فعلاً أن نتأخّر؟ تأخّرنا لأن الحوار يعلن عن نفسه بأنه فاشل.

 

ـــــــــــــــــــ

 

[1] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.

 

[2] هتاف جموع المصلّين: نطالب بالإفراج عن المساجين.

 

[3] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.

 

[4] هتاف جموع المصلّين: لن نركع إلاّ لله.

 

[5] متّهمون بأنّنا نتخلّف عن الحوار لإفشاله.