البحرين

 

خطبة الجمعة: 24 ربيع الأول 1433هـ - 17 فبراير 2012م  

 

لغة الذكرى:

 

انقضى عام على الرابع عشر من فبراير للعام الميلادي الحادي عشر بعد الألفين، والبداية للحركة الإصلاحية العارمة في حلقتها الجديدة، والمتّسمة بالتصاعد والاتّساع، والضاربة في التجذّر، والممتنعة على التراجع والتقلّص والانحسار.

 

وجاء يوم ذكراها يوم الرابع عشر من فبراير من عامنا هذا عام الثاني عشر بعد الألفين الميلادي، ليعلن ناطقاً بلغة عملية فصيحة لا تقبل التشكيك، بأن المسافة بين الحكومة والشعب تتباعد ولا تتقارب وذلك على خلاف المطلوب والمتمنّى، وأن الحكومة على عنادها ومقاومتها لمطالب الشعب وتمسّكها بالعنف والردّ بالقوة، وأن الشعب على إصراره وإيمانه الراسخ بضرورة مطالبه وحقّه فيها وعدم تنازله عن شيءٍ منها، واستعداده المفتوح للتضحية من أجلها، هذه هي اللغة الصريحة التي حملتها أحداث الأيام القريبة التي مرّت من خلالها الذكرى، وخاطبت بها الداخل والخارج على السواء.

 

لغة من الحكومة خاطبت الداخل والخارج، ولغة من الشعب هي كذلك خاطبت الداخل والخارج. إذن لا أساليب الالتفاف والخداع السياسي، ولا تخريجات الحلول السياسية الفارغة التي مارسها النظام عاماً كاملاً، ولا المناصرة العسكرية للمحيط الخليجي، ولا التشجيع الرسمي العربي، ولا الصمت الدولي أجدى شيئاً، ولا أيٌ من أساليب الإرهاب والقمع التي صبّت على الشعب من قبل الحكومة فأذاقته صنوف الويلات قد فلّت من عزيمته[1]، أو نالت من تصميمه على نيل حقوقه بعضَ نيل، وإنما ضاعفت عزيمته وزادت من تصميمه ووسّعت شارع المعارضة وقوّت صفوفها، وإن بقيت الجهة الرسمية على ما هي عليه من تصلّب وعناد لحد الآن، إذا ما غضضنا النظر عن لغة الوعود الإعلامية الباهتة، والتصريحات المخادعة المؤقتة التي لا تلتقي مع الواقع، وتتنافى مع العمل، ويرافقها من قرائن المواقف على الأرض ما يؤكّد عدم جدّيتها.

 

ما قاله الرابع عشر من فبراير هذا الشهر للوضع الرسمي المحلي، أنه يمكنكم أن تبيدوا هذا الشعب المعارض حتى آخر رجل منه وآخر امرأة وآخر طفلة وطفل من أبنائه وبناته، أنتم تملكون آلة الفتك الكافية لذلك، ولكن لن تملكوا إسكات صوته وتعطيل مقاومته في سبيل حقوقه[2]. لن يمكنكم ذلك مادام شخصٌ واحدٌ منهم يمشي على قدم أو يمكن أن يرتفع له صوت[3].  

 

وما قاله الرابع عشر هذا للمجتمع الدولي، عليكم أن تشرّعوا للوضع الرسمي في البحرين أن يأتي على آخر رجل وامرأة وطفل وطفلة من أبناء المقاومة وبناتها هنا، أو تحملوه على الإصلاح الذي يرضاه الشعب، ولا خيار ثالث أمام الوضع الرسمي والمجتمع الدولي غير ما ذكرناه.

 

أما الخيارات الأخرى، فهي من التلاعب المكشوف، ولن تكسر إرادة هذا الشعب، ولن تستغفل إرادته.

 

إذا كان الخيار الأول - خيار الإبادة - هو الخيار الرشيد، أو ترون أن له نصيباً من الوجاهة الدينية والإنسانية أو الحضارية والحقوقية، فلتأخذوا به جميعاً، ليتسجّل في التاريخ أن شعباً قد أبيد بقرار حكومته وتشريع دولي لأنه طالب بحقوقه وحرّيته وكرامته. لكم أن تأخذوا بذلك فيشرف بذلك تاريخكم وتاريخ حضارتكم وتاريخ الإنسان على الأرض.

 

فلتستحي الدول الكبرى، ولتستحي كل الدنيا من هذه المظلومية القاتمة، والسحق لكرامة الإنسان وهدر دمه في هذا البلد، والمجتمع الدولي يسكت على كل ذلك بل يباركه.

 

إن هذا الشعب ليس بصدد المقاتلة لعساكر الدولة، ولا يملك آلة المقاتلة، ولا يتّجه هذا الاتجاه، ولا يتبنّى هذه السياسة، ولا يسعى على طريقها، والناصح لا ينصحه بذلك، وهو نفسه أشفق على وطنه من أن تقوم على أرضه حرب طاحنة، أو يستهدف هذه الأرض سوءٌ من الداخل أو الخارج، ولكنه يملك يقيناً بحقّانية قضيته وعدالة مطالبه، ويغنى بروح التضحية العالية في سبيل أمنه واستقراره وحرّيته وعزّته وكرامته.  

 

ولنسأل: ما هو الأبقى لأنظمة الحكم التي تحرص على البقاء، هل هو خنق حرية الشعوب حتى تتفجّر الشعوب غاضبة؟ هل هو التمييز بين أخوة الدين والوطن، وحتى بين الفئات الاجتماعية المختلفة ديناً أو قوميةً لخلق الفتن؟ هل هو تشديد التضييق الديني والسياسي والمعيشي على الشعوب، حتى تكفر بقيمة الحياة في ظل الأنظمة الضاغطة؟ هل هو في الردّ القاسي على احتجاجات الشعوب ومطالبتها بالعدل والحق واحترام إنسانيتها، وتمتّعها بحقوق المواطنة الكاملة، بأزيز الرصاص وهدير المدافع وقصف الدبابات، وبإسقاط مزيد من الشهداء؟

 

من تصوّر أن هذا هو طريق البقاء المريح والمستقر للأنظمة الحاكمة، فهو يحاول أن يُصمّ سمعه عن لغة الواقع القائم، ويصغي للغة أخرى من وحي الخيال، وينسى دروس الحياة الصارخة.

 

وأي حكومة مسلمة لو رأت واهمةً أن بقاءها مرهونٌ بممارسة الظلم والقهر والعسف والقتل الحرام، لكان لها لو انسجمت بعض الشيء مع الإسلام حاجزٌ من إسلامها وخوف الله من الدخول في الظلم فضلاً عن التمادي فيه، والإسراف في دماء المسلمين من أجل بقاء حكمها.

 

ليس أبقى للأنظمة من أن تتصالح مع شعوبها، وتنصف الناس من نفسها وتعدل بينهم، وتنال مودّة من تحكم، ولا يكون ذلك إلا بإعطاء الحقوق، والاعتراف بقيمة الشعوب وإشراكها في أمرها، بل إرجاع أمرها إليها واعتبار الشعوب الأصل، والنظر إليهم بما هم أصحاب الثروة ومحطّ الاهتمام الإيجابي المخلص للسياسة.

 

ما نريده لعالمنا الإسلامي والعربي ولمحطينا الخليجي ألاّ يبقى على تخلّفه، وألاّ يُظلم فيه إنسان، ولا تُهمّش شعوبه، وأن ينتهي فيه التمييز والتضييق الديني والدنيوي، ويعترف للشعوب بحقوقها في ممارسة دورها الإيجابي وتحديد مصيرها، وألاّ تكون مجتمعاته مساحة للنزاعات، وصراع الشعوب والحكومات، وألاّ تتفتّت لحمته، وألاّ تدخل الحكومات في هذا العالم[4] في قتالٍ بينيٍ لمصلحة الأجانب.

 

وهذا سؤال آخر: لمن البحرين؟

 

البحرين لأبنائها كل أبنائها من شيعة وسنة، من كان في موقع من مواقع الحكم ومن لم يكن من كبير وصغير وذكر وأنثى، هي لهم جميعاً بكل حبّة رملٍ فيها، وبكل خيرها، وبكل ما يفرض كونها وطنٌ لهم جميعاً من حقوقٍ وواجبات، هذا هو المنطق الصحيح وما يجب أن يجد تطبيقه على الأرض، أما أن يقول قائل أيّاً كان أن البحرين وطنٌ لفئة دون فئة، لطائفة دون أخرى، لعائلة دون عائلة فهو من كلام الخيال، ومنطقٌ سقيمٌ مردودٌ على صاحبه بكل المقاييس، ولا يراد به إلاّ الفتنة والتمزيق.

 

ـــــــــــــــــــــ

 

[1] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.

 

[2] هتاف جموع المصلّين: لن نركع إلا لله.

 

[3] هتاف جموع المصلّين: الله أكبر، النصر للإسلام.

 

[4] عالمنا الإسلامي والعربي والخليجي.