تستعد مدينة قم لاستقبال قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي في زيارة تعتبر وبكل المعايير زيارة تاريخية، فقد مرّت سنوات عدة عن آخر زيارة قام بها القائد لقم، فقد اقتضت مصلحة الثورة والدولة معا؛ أكثر مما اقتضى العارض الصحي الذي أصاب الإمام الخميني (رضوان الله عليه) بعد إقامته في قم في بداية انتصار الثورة؛ أن تكون طهران هي عاصمة الثورة ومقر إقامة الإمام الراحل ومن بعده مقر سماحة القائد مدّ الله في عمره.

 

هذا الاقتضاء الثوري والدولتي انعكس في بعض أوجهه سلبا على مدينة قم مقر الحوزة العلمية، التي تباطأ فيها بشكل ملحوظ ومضطرد إيقاع المواكبة لمشروع الدولة وهي تعبُر من مخاضات الأسئلة الجديدة والطارئة دون أن تجد في الأفق الاجتهادي في قم منسوبا كافيا يستجيب لحاجاتها المتجددة في فقه الدولة؛ سياسة واقتصادا واجتماعا وقضاءًا وما إلى ذلك.

 

نعم ظلت بعض المواقع والمؤسسات والشخصيات العلمية مهجوسة بأسئلة المعاصرة ومتطلبات وتحديات المشروع الإسلامي الثوري في كل أبعاده، وسعت لأن تكون في مستوى اللحظة التاريخية وترفد المشروع ببعض متطلباته الفقهية، لكن الحقيقة أيضا أن قطاعا حوزويا معتبرا ظل تراثيا وتقليديا في انشغالاته واهتماماته، بل لاحظنا كيف أنّ بعض المواقع لم تجد في مناخ الحريّة الذي أمنّته الثورة سوى فرصة تاريخية للاستغراق في الإطار المذهبي الضيّق والسعي لخلق وعي مذهبي مغلق ومنقطع عن السياق الإسلامي الثوري الذي بلورته الثورة.

 

وفي تقديرنا المتواضع فإنّ هذه الزيارة التي تكتسي أهمية بالغة من المفترض أن تتعرض للمحاور التالية؛ نقول ذلك من منطلق التحليل والقراءة لا من منطلق معطيات تبقى بعيدة على من هم في مثل مقامنا البسيط.

 

استيعاب تداعيات الأزمة السياسية:

 

الزيارة تأتي بعد انحسار مظاهر التوتر السياسي الذي أعقب الانتخابات الرئاسية قبل أكثر من سنة، وهي الأحداث التي امتدت بتأثيراتها إلى الحوزة العلمية في قم، فأحدثت بعض الشرخ بفعل بعض الاصطفافات الانفعالية المتسرعة، فضلا على الارتباك الذي طبع مواقف جهات معينة كانت محسوبة على خط الثورة؛ خذلها وعيها السياسي السطحي فطفقت تزايد بمواقف أضرّت بوضعها وأسهمت من حيث لا تدري على زيادة التشويش عند الناس. ومن هنا يمكن القول وبعد أن تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض في هذه الأزمة، وتكشفت حقائق وأبعاد.. فإنّ الزيارة ستتيح فرصة لرأب الصدع وإعادة شدّ اللحمة بين الخطوط التي تباينت مواقفها من هذه الأحداث، ولعل المعطيات الخطيرة التي لدى دائرة القرار السياسي إن كُشف عن بعضها فسيكون وحده كافيا لإسقاط الغشاوات عن الأعين، ولا أقل تذكير البعض بتلك الحكمة الأثيرة؛ الصمت - في موارد الجهل- من ذهب.

 

ربط الحوزة باستحقاقات المرحلة محليا وعالميا:

 

لا شك أن دور السياق حاسم في قضية التموضع، والحوزة ليست بمنأى عن هذه الضرورة، فهناك مشروع البناء الذاتي الذي تخوضه إيران من خلال تحقيق أهداف المخططات التنموية والارتقاء بالمشروع الإسلامي إلى سقوفه الممكنة، وهناك تحديات البناء الاجتماعي وما يتصل به من مقدمات وشروط..وعالميا هناك الصراع المتواصل مع جبهة الاستكبار على واجهات متعددة ومتنوعة، وهناك مخططات العدو المتربص شرا بهذه التجربة، كما هناك في المقابل دور إقليمي متعاظم، واختراقات سياسية وثقافية على الصعيد الدولي ذات قيمة إستراتجية. كل هذا السياق ستحضر عناوينه الأساسية في الزيارة بما يوسع من أفق الرؤية لدى الحوزة ويسهل إعادة تموضعها في سياقات البناء والمواجهة.

 

مواصلة مطلب الإصلاح الحوزوي:

 

سبق لقائد الثورة الإسلامية وفي مناسبات عديدة أن طرح مشروع الإصلاح الحوزوي، والقصد من كلمة إصلاح تطوير وإعادة تأهيل المنهج الدراسي الحوزوي ليتكيف مع المطالب الجديدة والإمكانات المتاحة. وليس هناك من تعبير عن فكرة الإصلاح مثل القول بتفعيل الجدل بين الأصيل والمتجدد.

 

ولعل الحاجة إلى الإصلاح لا يقتضيها انفتاح التشيّع على تجربة الدولة فحسب، بل لأن منطق العلوم يقتضي التجديد ويتطلبّه ويكفي التذكير في المقام أنّ علوما دقيقة تطورت وفق ما يسمى بالقطيعة الابستمولوجية (أو المعرفية) أي أنها لم تنقض البناءات السابقة فحسب بل انطلقت من معطيات جديدة تماما ومختلفة، أما ما تحتمله العلوم الدينية بحكم خصوصياتها فليس أكثر من الممارسة النقدية واستئناف النظر في الموروث، وافتتاح مجالات تفكير جديدة موازية للجديد المتدفق في التجربة الإنسانية بشكل عام.

 

ومن مفردات الإصلاح التي يدعو لها القائد؛ التأكيد على العلاقة بين الحوزة والجامعة، انفتاحا وتعاونا وتفاعلا،  ولطالما دعا إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية والإفادة من مناهجها ومعطياتها في مجال إنتاج المعرفة الدينية.

 

وهو المشروع الذي من المتوقع أن نقف على أبعاد جديدة فيه في ضوء ما تحقق من خطوات في الإصلاح إلى الآن.

 

تعزيز توجهات الوحدة الإسلامية في الحوزة:

 

من المتوقع أن يحظى هذا العنوان باهتمام كبير في برنامج الزيارة، فلقد مثلت الوحدة الإسلامية إحدى التوجهات المبدئية والإستراتجية للثورة الإسلامية، لكن للأسف فإن بعض المواقع في قم تمكنت من تطويق هذا العنوان دون أن تتمكن من مصادرته طبعا، واستفادت في ذلك من واجهة الاشتباك التي فتحها الوهابيّون لتقوم بالتحشيد المذهبي.ما نتج عنه للأسف تقزيم لمجمل الآفاق التي على فتحت عليها الثورة الإسلامية.

 

ولعل اللوم يتجه هنا إلى التيار الوحدوي والتقريبي الذي ظل شاهدا على الفقاقيع الفتنوية السوداء وهي تحاول أن تغمر الأفق دون أن تكون لديه خطة أو برنامج أو تحرك مع ما لدية من إمكانات ومواقع كان يجدر به أن يستثمرها في تعزيز فكرة الوحدة.

 

المؤامرة على وحدة الأمة الإسلامية هي في مرحلة الخطر الشديد الآن، والمخطط لا يشرف عليه الغلاة بل خبراء انجليز وأمريكان وصهاينة من خلال غرف سوداء، ومشروع الفتنة يخترق الآن أكثر من ساحة في العالم الإسلامي، وأكيد أنّ قائد الثورة الإسلامية لديه من المعطيات ما يجعل كل متعصب ينظر إلى الأرض التي يقف عليها ليرى ظلالا للعلم أمريكي وصهيوني.

 

ومن المؤسف أن نضطر للحديث عن موضوع الوحدة في علاقة بالعدو ومخططاته، مع انّه أصل قرآني ونهج سار عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام.

 

وأخيرا.. فأكيد أنّ قلوب أهالي قم تهفو للقاء قائدها، ولا شك أنّ مشهدا وجدانيا وعاطفيا منقطع النظير سيحف بالزيارة الميمونة، وأكيد أيضا أنّ الزيارة ستشكل قوة دفع خاصة للحوزة وفضلائها وطلابها، ويبقى الأمل في أن تنفتح العقول على القول السديد وعلى الحكمة التي هي سمة بارزة في خطابات القائد، وأن تنهض همم الرجال بمسؤولياتها، فالنهوض بالمشروع الإسلامي مسؤولية الجميع.