علمٌ يتبعه نورٌ
إنَّ الإسلام الذي سُلّم إلينا وصَلَنا بعد تحمٌّل آلام ومرارات. وإذا تفكّرنا في حياة أمير المؤمنين عليه السلام رأينا الحياة البسيطة التي كان يعيشها عليه السلام، سواء على المستوى الفردي أم الاجتماعي، أو تفكّرنا في أحواله عليه السلام سنرى كم تحمّل من الآلام في سبيل الإسلام، وكم تلقّى عليه السلام من الطعنات والضربات، وكم تجرّع من المرارات، وكم خاض من الحروب. الإسلام وصلنا بعد كلّ ذلك، وسلّم إلى أيديكم أيها السادة المحترمون.
*العلم يحتاج إلى التهذيب
وإنكم لمسؤولون، فإذا انصبَّ اهتمامكم - لا سمح الله - خلال الدارسة على فهم دقائق الأمور العلمية دون الاهتمام بتهذيب أنفسكم وتأديبها بآداب الله ونبيه، فلن تنتفعوا من العلم، ولن تحصلوا على ذلك النور الذي "يقذفه الله في قلب من يشاء". هذا العلم يستتبع النورانية.
العلم الذي هو نور يهبه الباري تبارك وتعالى، لا يشمل كل القلوب، ولا يليق به أي قلب. فإن لم يُهذَّب القلب، ولم يُفرَّغ من الخلق السيئ والعمل السيّئ، ولم يتوجّه ويسلّم إلى الله سبحانه وتعالى بالكامل، فإنه جلّ وعلا لن يقذف النور فيه، فهذا الأمر لا يتم عبثاً، ولا يتم من خلال الحرص على المعرفة بدقائق العلوم.
الغزالي مثلاً، كان عالماً جيداً، وكذا كان أبو حنيفة وكثير غيرهما، كانوا علماء، وهناك الكثير ممن يحيطون بدقائق العلوم أفضل من الجميع، لكن الباري تبارك وتعالى لم يتلطَّف عليهم بذلك النور الذي يقذفه في قلب من يشاء. فذلك النور يحتاج إلى التهذيب، ويسلتزم بذل الجهد والرياضة.
*لا بد من ترويض النفس
أيها الإخوة، لا بدّ لكم من التريّض وبذْل الجهد وعليكم مراعاة بعض الأمور.
على كل واحد أن يحاكم نفسه. في المساء، حينما تنتهي من أعمالك، ابدأ بمحاسبة نفسك وانظر عدد المعاصي التي ارتكبتها في ذلك اليوم، إن شاء الله لا يكون هناك معاص. انظر كم شخصاً اغتبت، وعلى كم عالم تجاسرت. هل تعلمون أنه إذا وُجّهت إلى أحد مراجع الإسلام كلمة واحدة كانت إهانة؟ وسيكون الإنسان بذلك مبارزاً لله، لأن هؤلاء أولياء الله.
عليك مع كل خطوة تخطوها في سبيل تحصيل العلم، أن تخطو، في مقابلها، خطوة واحدة على الأقل - إن لم نقل خطوتين - في سبيل تهذيب الأخلاق، وتحكيم العقائد، وترسيخ الإيمان في القلب. وذلك يحتاج إلى التفكير والمحاسبة والمراقبة.
*راقبوا أنفسكم وأعمالكم
على الإخوة المحترمين أن يراقبوا أنفسهم، من الصباح إلى المساء، فنفس الإنسان منفلتة بطبيعتها، وإذا غفلنا عنها - نعوذ بالله - تجرّنا إلى الكفر وليس إلى الفسق فقط. فالشيطان لن يقنع منا بالفسق وحده، إنه يريد أن ينتهي بنا الأمر إلى الكفر، ويريد للجميع أن ينتهي بهم الأمر إلى الكفر. إن غاية ما يقوم به الشيطان أنه يدفع الإنسان نحو ارتكاب المعاصي الصغيرة، ثم يلج به نحو الأكبر والأكبر والأشدّ، ليصل به - لا سمح الله - إلى الانحراف التام عن الإسلام.
أيها الإخوة، عليكم أن تراقبوا أنفسكم، من قبل أذان الفجر حينما تنهضون، وحتى الليل. يجب مراقبة النفس، في التجمعات الثنائية والرباعيّة أو حتى المئويّة، ويجب الحرص على احترام الكبار، واحترام المؤمنين بصورة عامة. وعلى الإنسان تحاشي الدخول في المناقشات، والكلام غير المجدي.
لو فرضنا أن أحداً قام بعمل أو امتنع عن عمل، وكان بذلك مسيئاً في نظركم، فليُحْمَل على الصواب، ولا يتجاسر دون أيّ تدبّر على أحدٍ من المؤمنين أو المسلمين، فضلاً عن أن يكون أحد العلماء أو أحد المراجع. هذه أمور يجب مراعاتها. لذا، على الإنسان أن يراقب نفسه، وأن يحفظ هذه الحدود حتى ينال التوفيق.
*مسؤوليتكم خطيرة
إن مسؤولية العلماء خطيرة، فإن أصبح أحدكم عالم مدينة ما، فسيكون مسؤولاً عن تلك المدينة، وقد يصبح أحدكم عالم بلاد بأسرها، فيتحمل بذلك مسؤولية تلك البلاد، وقد يصبح مرجعاً لأمة بكاملها، فيكون بذلك مسؤولاً عن تلك الأمة. عليكم وضع الأساس لذلك، من الآن، كي تستطيعوا أداء دوركم في تحمل تلك المسؤولية بالشكل المشرّف أمام أنفسكم، وأمام دينكم. عليكم الاهتمام بهذا الأمر منذ الآن.
أمّا أنْ تقولوا: "نحن الآن نهتم فقط في دروسنا، وبعدما نبلغ سن المشيب نهتم حينها بتهذيب أخلاقنا إن شاء الله!" فهذا لا يمكن، لن تستطيعوا ذلك، حينها لن يتحقق للإنسان إلا ذلك القدر من التهذيب الذي حصل عليه في سن الشباب، وإذا لم يهذّب نفسه في أيام شبابه - لا سمح الله - فمن الصعب جداً أن يستطيع ذلك حينما يصبح شيخاً عجوزاً، فحينها ستضعف الإرادة ويقوى العدو. ففي زمن المشيب تضعف إرادة الإنسان، ويقوى جنود إبليس في داخل النفس، ولن يمكن حينها تحقق التهذيب، وإن أمكن فإنه سيكون أمراً صعباً جداً.
*القضيّة هي الاقتراب من الموت
اهتموا بهذا الأمر من الآن، اهتموا به منذ الشباب، إن كل قدم تخطونها الآن تقودكم نحو القبر، فلا مجال للتأخير أبداً، وليس هناك ما يمنعكم من ذلك أبداً، كل دقيقة تمر من أعماركم الشريفة تقربكم من القبر ومن المكان الذي ستتعرضون فيه إلى المساءلة، وكلكم ستُسألون، وأنتم تقتربون تدريجياً، فكّروا في أن القضية هي الاقتراب من الموت، وأن أحداً لم يضمن لكم أن تعمروا مائة وعشرين سنة، فليس متعارفاً بيننا أن يعمر أحدنا مائة وعشرين سنة، فالإنسان قد يموت وهو في الخامسة والعشرين من عمره أو في الخمسين أو الستين، ليس هناك من ضمان، لعل الأجل يحل بنا الآن - لا سمح الله - فلا ضمان، ويجب أن تفكروا وتتأملوا في هذه الأمور.
هذّبوا أخلاقكم، هذبوها أكثر - إن شاء الله - ولتكن أعمالكم مطابقة للإسلام، مطابقة لأحكام الإسلام، لكي توفقوا -إن شاء الله– إلى التنعم بأنوار العلم الذي يرضي الله تعالى، العلم الذي هو نور، العلم الذي يقربكم من الله تبارك وتعالى.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار