نهى عبد الله
عندما تأتي من بلاد لم تعرف زعماء حقيقيّين، سيصعب أن تتعلّق بقائد أو ترضى به، فكيف إذا عرفتَ قائداً يغيّر فيك كلّ هذه المفاهيم ويُربّيك بين يديه لتقول بزهو متعالٍ جدّاً إنّك تفخر بأنّك عشت في زمنه؟!
كثيرون منّا عادوا من بلاد لم تعرف هؤلاء القادة، لكنّنا في مقاومتنا حظينا بهم.
* 17 أيلول 1995م
يومها، كانت عائلتيّ عائدةً من المغترب حديثاً، فمرّت بي قريبةٌ واصطحبتني لحضور احتفال شهداء 17 أيلول الذين استشهدوا تحت جسر المطار خلال مظاهرة تنديداً بمشروع معادٍ. اجتمعت الحشود وحضر شابٌّ ثلاثينيّ محاطاً بحرسه الشخصيّ واعتلى المنبر. هتفت الحشود، وهبّوا وقوفاً احتراماً له، أشارت قريبتي لي بأن أقف أيضاً، فاستنكرت ذلك وقلت لها: “الزعامة وحدها لا تكفي لأقف”، هزّت رأسها بسخرية وقالت: “ما زلتِ لم تعرفيه!”. نعم، لم أكن قد عرفته ولا عرفت هذا النوع الخاصّ جدّاً من القادة، فعالمنا العربيّ مليء بنقيضه.
أنهى الكلمة التي لامس الصدق فيها مشاعري، فقد تخلّلها تبيانٌ للحادثة، وموقف واحترامٌ كبير للشهداء، ومودّة لم أعهدها في حديث قائد. شعرت أنّه يسير على الأرض مع الناس. يومها، تولّد داخلي احترام لزعيم لم أشعر به سابقاً.
* عناقيد الغضب
عام 1996م، ظهر وجه آخر لهذا القائد؛ وضع المعادلات بحسم وشدّة، وأطلق وعداً صعباً، وكان سريعاً في الوفاء به: “أرضنا ستعود إلينا، أهلنا في الشريط سنحرّرهم ونعيدهم إلى الوطن، أهلنا خارج الشريط سندافع عنهم وسنحميهم”. كان لكلامه أثرٌ عميقٌ في استنزال السكينة في قلوبنا، وبثّ الرعب في قلوب أكثر من 100 ألف محتلّ في المستوطنات المتاخمة لحدود لبنان. يومها، لم نكن ندرك شيئاً عن معادلات الحروب، لكنّ إطلالات سماحته وتبيانه الأحداث المعقّدة والعسكريّة بأسلوبه السلس والسهل الممتنع، أشعر الصغير والكبير منّا أنّه شريكٌ في تلك الحرب.
* طائر أيلول المهاجر
17 أيلول 1997م، ذلك يومٌ لا يُنسى. كنّا على موعد مع خطابه السنويّ عن شهداء أيلول، لكنّ المقاومة الإسلاميّة نعت عبر قناة المنار ثلاثة شهداء في عمليّة بطوليّة في الجبل الرفيع بينهم الشهيد السيّد هادي، نجله البكر، بضعة قلبه الذي قدّمه قرباناً في سبيل الله. توقّعنا نحن المُحبّون أن يُلغى الخطاب ويتفرّغ الأمين لتلقّي التعازي فقط، وخلافاً للتوقّعات، أُعلن أنّ خطاباً سيُلقى بين الناس بفارق ثلاث ساعات فقط.
مشهد المحبّين الذين غصّت بهم باحة الشورى ما زال يسكن في قلوبنا. اعتلى الأمين منصّةً صغيرة ووقف بين الجموع، حامداً الله على اختيار شهيد من عائلته، وتوجّه إلى عوائل الشهداء: “كنت أخجل من النظر إلى عيونكم عند زيارتكم، فالحمد لله الذي اختار ابني شهيداً لأكون منكم ومعكم”. بكينا نحن ولم يبكِ هو، تمالك جأشه ونعى الشهداء وتلا تفاصيل العمليّة وقلوبنا تراقبه متى سيبكي! لم يطلق أنّة وجع واحدة، مع أنّه كان أباً فقدَ ولده للتوّ، وعلم أنّ جثمانه وقع أسيراً في يد الأعداء. ومن دون اتّفاق مسبق، ارتفعت القبضات عالياً في لحظةٍ واحدة، وهتف المُحبّون: “كُلّنا هادي يا أبا هادي”.
يومها، اتّخذ السيّد في قلوبنا جميعاً مقعداً حُسينيّاً، وبدأنا نشتمّ منه نسيماً كربلائيّاً في الصبر والإيثار والثبات.
* الآداب المعنويّة للصلاة
لم يغفل ذلك القائد عن استثمار لحظات الاستقرار التي مرّت بنا، فكان يُخصّص من وقته وقتاً لإلقاء المحاضرات والدروس الدينيّة في مفاهيم القرآن والعقيدة والأخلاق والتوجيه الاجتماعيّ. ومن أكثر ما انطبع في داخلي دروسه الأسبوعيّة في شرح كتاب “الآداب المعنويّة للصلاة” لسماحة الإمام الخمينيّ قدس سره، التي عقدها في مسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي كان حديث الإنشاء آنذاك. عرض موضوع المحافظة على الخشوع بطريقة بسيطة، وهو يدرك أنّ الشباب الذين يستمعون إليه بحاجة ماسّة إلى من يعطيهم مفاتيح العلاقة بالله تعالى من خلال الصلاة، عمود الدين. لم نشعر أنّ كتاب الإمام الخمينيّ قدس سره ينطوي على أيّ صعوبة. ذكّرنا أنّنا ننطق بالعربيّة، وأنّنا نتمكّنُ من فهم ماذا تعني “الحمد لله ربّ العالمين”، والسرّ في أن نحمد الله قلبيّاً ونحن نتلوها، وأنّ نستحضر معنى كلّ ذكر نلفظه ببساطة. وهكذا يبقى تركيز المُصلّي إلى آخر الصلاة. بالفعل، إنّ أفضل صلاة أدّيناها كانت بعد تلك الدروس. وأذكر سرّاً أذاعه سماحته للحاضرين وقتذاك، أنّه يتمنّى أن يعود مدرّساً فقط دون مسؤوليّات أخرى ليتفرّغ لشرح كتب الإمام الخمينيّ قدس سره وخطابات السيّد على الخامنئيّ دام ظله. وكثيراً ما ردّد أنّه جنديّ في هذه المسيرة في أيّ موقع كُلّف فيه.
* التحرير
عرّفنا سماحته المجاهدين والاستشهاديّين في حديثه. حدّثنا قائدنا عن صلاح غندور وهيثم دبوق وعلي أشمر. أذكر يوم حدّثنا عن عمّار حمّود الصائم، آخر الاستشهاديّين، وكان ذلك في يوم القدس، حيث وقف المحبّون وصفوف المجاهدين بعد العرض العسكريّ، مشدوهين بكلماته، فخورين بإنجازات المقاومة، سعداء بوقوفهم أمام سيّدهم الحسينيّ. يومها، فاجأتنا أمطارٌ غزيرة، فأخذ السيّد بالاعتذار من الحشود والمجاهدين، لكنّنا جميعاً لم نعبأ بالأمطار ولا بنزلات البرد التي عدنا بها إلى المنازل؛ فإطلالته تشفي الأرواح.
قاد إنجازات المقاومة وحرص على نقلها إلينا، حتّى حانت ساعة التحرير وهتفت قلوب الناس مع بنادق المقاومين، وقاد ذاك النصر إلى بنت جبيل في خطاب تاريخيّ عظيم: “حرّرنا أرضنا ولن نهدأ حتّى نحرّر كلّ شبر من لبنان”.
* تمّوز والوعد الصادق
بدأ أوّل خطاب له بمفاجأة عظيمة: “البارجة الحربيّة التي روّعت أهلنا في الجنوب والضاحية، انظروا إليها الآن في عرض البحر، إنّها تحترق”. دُهشنا ولم نصدّق، مقاومتنا تُغرق بارجة؟! أيّ نصر الله أنت؟
كان يكفي أن تروّع تلك البارجة قلوب الناس ليأمر المجاهدين عبر البثّ المباشر بقصفها. لم يُطل الغياب عنّا، كان يخرج ليسقي قلوبنا سكينةً، ويبثّ الرعب في قلوب الأعداء. يومها، نزحنا إلى الشام، فكنّا والدمشقيّين نترقّب كلماته، صورته تملأ الشاشات في الطرقات والشوارع، وصوته يصدح من كلّ المنازل، كنّا نزهو عندما يُعلن عن مفاجأة في جعبة المجاهدين. كان سيّد المفاجآت وسيّد الانتصارات، وكأنّما اشتقّ النصر من اسمه، وهو الذي قال عنه الشهيد الصدرقدس سره: “أرى النصر معقوداً على جبينه”. في كلّ كلمة يترحّم على الشهداء، ويدعو للجرحى، ويشكر الناس على صبرهم واحتضانهم المقاومة ومساندتهم لها. يومها، خاطبهم بـ”أشرف الناس وأطهر الناس”، بلسم أوجاع الغربة والنزوح بصدقه وعاطفته، وعالج غضبهم على الأعداء بشدّة بأسه عليهم. حدّثنا عن أبطال المقاومة: “رأيتم على الشاشات كيف دمّر أبناؤكم المجاهدون مجموعة من دبّابات الميركافا التي وقعت في كمين وادي الحجير”، وبطرافته المعهودة سخر من العدوّ: “رأيتم كيف تحكّموا بها مثل لعبة (أتاري) بسيطة”. أطلّ علينا قبل أن تضع الحرب أوزارها ليخبرنا أنّ النصر قريب، وأنّ جنوبنا والضاحية سيعمّران بمال نقيّ طاهر لا شبهة فيه، وأنّ البيوت ستعود أجمل ممّا كانت. لكنّ حرصه على الناس ومصيرهم كان الأجمل في عيوننا.
صدق وعده وانتصرنا وكسر صورة العدوّ “المتفوّق”، وظهر بين الجموع في الضاحية، وأعلن أنّ زمن الهزائم قد ولّى وبتنا في زمن الانتصارات.
* عاشوراء الحسين عليه السلام
أمّا عن أيّام الحسين عليه السلام، فكانت تبدأ بخطاب له وتنتهي بخطابَين متتاليين. كنّا نترقّب حديثه صغاراً وكباراً، عرفنا منه الحسين عليه السلام وعرفانه وذوبانه في الله، وصبر زينب عليها السلام، وأولويّات الحياة والراية والرسالة والتوكّل على الله. عرفنا منه كظم الغيظ ودعاء زين العابدين عليه السلام والمضيّ كما يخطُ الوليّ، عرفنا منه بأس العبّاس، ومتى يُغمد السيف وفي وجه من يُشهر.
عرفنا منه تاريخ الرسالة وصراع الأنبياء مع المتغطرسين. عرّفنا الدنيا مسجداً والآخرة مقرّاً. حدّثنا عن الحشر وأسباب العذاب، وعن الجنّة وصفات أهلها. عرّفنا الحجّة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعلّمنا أن نؤدّي أعمالنا في سبيل التمهيد له.
عرّفنا كيف نكون حسينيّين في كلّ زمان، وكيف تتكرّر الاختبارات والتحدّيات، وكيف تكون الشهادة تغييراً لواقع صدئ، وكيف نكون لائقين بالنصر.
كان سيّد العاشر، يشحن كلّ خطابات عاشوراء ليوظّفها في أحداث زماننا، فيعيد ترتيب الحكاية ورصّ الصفوف لنقف بقلوب مجتمعة عهداً مع سيّد الشهداء ألّا نخذله أو نتركه.
سيّدي أبا هادي، ماذا عن عاشوراء القادمة؟ ألن تطلّ علينا لتخبرنا عن الحسين عليه السلام، أم أنّك آثرت لقاءه واكتفيت من الكلام؟
ماذا عن النصر؟ من سيلقي خطابه علينا؟
لم يرضَ هذا النصر إلّا بمهر غالٍ، لم يرضَ إلّا بدمك ودم ثلّة من رفاق دربك المخلصين. لم يرضَ إلّا بشهادة السيّد محسن والحاج عبد القادر أب المجاهدين، وصفوة الرضوان والشيخ نبيل قاووق، والحاج “أبو الفضل” والحاج ماجد و”أبو زينب”؟
كنا ندعو بطول العمر لك، ونقول: “فداؤك نحن” لكنّك قلت: “أنا فداؤكم”. كنت رهاننا واليوم نحن رهانُك.
فبحقّ من كلّل اسمك بالنصر، أبناؤك سينجزون الوعد، ويحفظون الأمانة. أنتم القادة كتبتم التاريخ، وأبناؤكم سيعيدون ترتيب الحاضر والمستقبل.
وسنحدّث الأجيال أنّنا حظينا بأن نعيش في زمن نصر الله.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار