في ذكرى ميلاد عالم آل محمد (ص)
هو ثامن الأئمة الاثنی عشر الذين نص عليهم النبي الأكرم صلی الله عليه واله وسلم وهو: علي بن موسی، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين. وكانت اشراقة مولده القدسية 11 ذي القعدة سنه 148 للهجرة النبوية الشريفة، أي نفس السنة التي استشهد فيها جده الإمام الصادق عليه السلام علی قول أكثر العلماء والمؤرخين. وكان خير أهل الأرض وأعلمهم واعبدهم واتقاهم.
عاصر الإمام علي بن موسی الرضا عليه السلام عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد عشر سنوات ثم ابنه الأمين ثم المأمون وقد اتسمت تلك الفترة بالقسوة والظلم والإرهاب وممارسة أشرس أنواع التنكيل والتعذيب والقتل بحق أبناء أهل البيت عليه السلام.
عاش الإمام الرضا (ع) المرحلة الصعبة التي مر بها والده الإمام الكاظم (ع)، ولما استشهد أبوه عليه السلام وانتهت الإمامة إليه، فقد جاء، أن الرشيد قال ليحيی بن خالد البرمكي، حين حرضه الأخير علی الإمام الرضا (ع): (يكفينا ماصنعاه بأبيه).
ومع ذلك فإن الإمام الرضا (ع) لم يكن ليحيی بعيدا عن الصراع العلوي مع العباسيين دون أن يصيبه الأذی وتحل به الكروب والمحن.
وبرز الإمام الرضا (ع) علی مسرح الحياة السياسية الإسلامية كألمع سياسي عرفه التاريخ الإسلامي في عصره.
إن تردي الأوضاع السياسية قد انعكس علی طبقات الأمة كافة، فلم يسلم منه احد سواء العامة والجمهور أو قادة الرأي وأقطاب المجتمع والعلماء، لذا كان الرأي العام قد اتجه بشكل قوي نحو أهل البيت عليهم السلام، حيث إن قادة أهل البيت وأئمتهم أمثال الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام كانوا هم المفزع للأمة وملجأ الاستغاثة. وقد اشتد هذا الميل لأهل البيت والتعاطف معهم وبلغ شانه أيام الإمام علي بن موسی الرضا عليه السلام فكانت الثورات العلوية تتفجر وجماهير الأمة وبعض الوزراء يميلون لأهل البيت، والدولة العباسية تمر بمرحلة صراع داخلي حاد بين الأمين والمأمون، وشخصية الإمام الرضا(ع) تقوی وتتركز باعتباره الإمام من أهل البيت والأنظار تتجه نحوه والقلوب تهفو إليه.
بعد أن انتصر المأمون علی أخيه الأمين وتسلم السلطة واجه ثورات متتالية قادها العلويون، فالسياسة العباسية وظروف المطاردة والاضطهاد كانت تدفعهم إلی التحرك المسلح وإعلان الثورة والدفاع عن الحق بقوة. وكان المأمون يحمل نفس الرأي الذي يحمله آباؤه عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، فقد عاش المأمون وضعا مضطربا، عاش صراعا مريرا بينه وبين أخيه الأمين وعاش ثورات وانتفاضات علوية في طول البلاد وعرضها.
لم يجد المأمون من المناسب استعمال العنف والتصدي للإمام الرضا عليه السلام بنفس الوسائل التي تصدی بها الرشيد للإمام موسی الكاظم عليه السلام، فقد انتهی إلی نتيجة سياسية لم يجد مناصا منها، وهي مهادنة العلويين والاعتراف لهم بحق الولاية لامتصاص النقمة وإقناع الرأي العام بالاعتدال وكسب الأنصار.
فأخترع المأمون مشروعا سياسيا لتطويق الإمام الرضا عليه السلام وهو المبايعة له بالخلافة وولاية العهد من بعد المأمون باعتباره الإمام من أهل بيت النبوة عليهم السلام والقائد البارز والسيد العالم في عصره.
ونستطيع أن نوجز أهداف المأمون وما كان يتوخاه من اخذ البيعة للرضا عليه السلام وولاية العهد بعد علی النحو التالي:
الهدف الأول: أن يأمن الخطر الذي كان يهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضا عليه السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.
الهدف الثاني: أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة والواعية من قرب من الداخل والخارج ليمهد الطريق من ثم القضاء عليه، ولهذا زوجه ابنته ليجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو.
ولم يكتف بذلك بل وضع علی الإمام الرضا عليه السلام عيونا آخرين يخبرونه بكل حركة من حركاته وكل تصرف من تصرفاته ..
الهدف الثالث: أن يجعل الإمام (ع) قريبا منه ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية وبما منحه الله إياه من العلم والعقل والحكمة، ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له الذي كان يتزايد باستمرار سواء في خراسان أو في غيرها .. انه كان يريد عزل الإمام عن شيعته ومواليه وقطع صلاتهم به وليقطع بذلك آمالهم ويشتت شملهم ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره وما قد يكون له اثر كبير علی مستقبل المأمون وخلافته. وبذلك يكون أيضا قد مهد الطريق للقضاء علی الإمام الرضا عليه السلام نهائيا، والتخلص منه بالطريقة المناسبة وفي الوقت المناسب ..
الهدف الرابع: إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام درعا يتقي به سخط الناس علی بني العباس من نقمة الجمهور والشارع، ويريد أيضا أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت - والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه الأمين -ويوظف ذلك في صالحه هو وصالح الحكم العباسي بشكل عام وان يحصل علی قاعدة شعبية واسعة وقوية.
الهدف الخامس: إن المأمون كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم.
الهدف السادس: ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أن يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات قد أتي الأمة بمفاجئة مثيرة، من شانها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري حولهم ما يحدث وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها وما أكثرها، كما هو متبع في الوقت الحاضر علی مستوی السياسات العالمية.
الهدف السابع: أراد المأمون أن يخدع الناس بأنه يريد الخير للأمة من خطوته هذه، وان قتل أخاه لم يكن من اجل الحكم والرئاسة بقدر ما كان من اجل خير المسلمين والمصلحة العامة.
الهدف الثامن: لقد كان من نتائج اختياره الإمام والبيعة له بولاية العهد - التي كان يتوقعها- ان اخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.
الهدف التاسع: كما انه ببيعته للإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد، وقبول الإمام (ع) بذلك .. يكون قد حصل علی اعتراف من العلويين علی اعلی مستوی بشرعية الخلافة العباسية.
الهدف العاشر: يضاف الی ذلك، انه يكون قد حصل علی اعتراف ضمني من الإمام الرضا عليه السلام بشرعية تصرفاته طيلة فترة ولاية العهد وليعطي للناس - من ثم - الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم وليؤكد للملأ اجمع أن الحاكم هذا هو سلوكه وهذه هي تصرفاته من كان ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا الی حكومة احد علی أن بها شيئا جديدا ولا أن ينظروا الی جهة علی أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم والمخرج من الظلمات الی النور حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم وان يكون سكوت الإمام عليه السلام في فترة ولاية العهد عن تصرفات الهيئة الحاكمة دالا علی رضاه بها ويعتبر إمضاء لها.
الهدف الحادي عشر: هذا ...وبعد أن يكون المأمون قد حصل علی كل قدمناه وحقن دماء العباسيين واستوثقت له الممالك ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته وقوي مركزه وارتفع من الحضيض المهين الذي أوصله إليه أسلافه الی أوج العظمة والتمكن والمجد .. ولتفرغ الی تنفيذ الجزء الثاني من مخططه الإرهابي وهو الاهم الا وهو القضاء نهائيا علی الامام علي بن موسی الرضا عليه السلام.
وكان الإمام الرضا عليه السلام يدرك الخطة السياسية للمأمون وأهدافه غير المعلنة، فرفض ما عرضه المأمون عدة مرات إلا انه اضطر لقبوله بعد أن هدده المأمون بشكل صريح وواضح بالقتل.
وكان الإمام عليه السلام يعرف ما تؤول إليه الأمور وينتهي إليه تفكير المأمون وأوضح ذلك لخاصته. واضطر الإمام عليه السلام تحت التهديد لقبول البيعة، ولكي لا يتحمل شيئا من تبعات الحكم فانه اشترط القبول الرمزي دون التدخل في شيء .. أو حتى تحمل أية مسؤولية في الدولة.
وحين قبل الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد راح المأمون يعلن هذا النبأ العظيم وينشره في أرجاء البلاد الإسلامية ودعا الناس الی بيعة الإمام. وحين تمت البيعة وأعلنت علی الناس في مجلس حافل طلب المأمون من الإمام الرضا عليه السلام أن يخطب بالناس، فقام الإمام وتحدث بكلمات وجيزة بليغة جامعة تحمل في طياتها طبيعة موقف الإمام الرضا عليه السلام وعدم تجاوبه مع السلطة أن انسجامه معها فقد قال:
(بعد حمد الله والثناء عليه، إن عليكم حقا برسول الله صلی الله عليه واله وسلم ولكم علينا حق به، فإذا أديتم ذلك وجب علينا الحق لكم). في رحاب أهل البيت (ع) السد محسن الأمين / ج2 / القسم الثاني.
إن خطبة الإمام عليه السلام خير دليل علی موقفه وعدم قناعته بمستقبل البيعة لذا أورد في خطبته إشارة دقيقة: (فاذا اديتم ذلك وجب علينا الحق لكم)
وذكر الشيخ المفيد عن المدائني: (لما جلس الإمام الرضا علي بن موسی عليه السلام في الخلع بولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء وخفقت الألوية علی رأسه فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا عليه السلام انه قال: كنت بين يديه في ذلك اليوم فنظر الي وأنا مستبشر بما جری فأومأ الی أن ادن، فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر له فأنه شيء لا يتم). الشيخ المفيد الإرشاد.
فالمأمون ليس ذلك الشخص الذي كان زاهدا في الملك والسلطة، فقد قتل أخاه الأمين من اجلها وقتل من خدموه وخدموا سلطة أبيه الرشيد أمثال طاهر بن الحسين والفضل بن سهل وآخرين ممن ساهموا في تنفيذ خطط المأمون وتثبيت دعائم وقواعد سلطته.
فكان طبيعيا أن يلقي الإمام الرضا عليه السلام مثل هذه المعاملة وهو من أكثر الناس خطرا وأشدهم فاعلية في مجری حوادث المرحلة السياسية التي عاشها يضاف الی ذلك ما كان للصراع والوشايات والوقيعة التي كانت تمارسها الحواشي وضغوط رجالات بني العباس ضد أهل البيت عليهم السلام.
لذلك فان التاريخ يحدثنا أن المأمون قد دسم السم الی بعض طعام الإمام الرضا عليه السلام (في عنب أو رمان) فاغتاله.
هذا وأسفرت مدرسة الإمام الرضا عليه السلام العلمية عن تخرج كوكبة من العلماء الذين كان عددهم يناهز الثلاثمائة.
وقد مدحه أبو نؤاس - الشاعر المشهور- الذي ترك مدحه إعظاما له، وقد أجاد فيما قال، حين عوتب علی عدم مدحه الإمام الرضا عليه السلام بعد توليته لولاية العهد مجيبا:
قيل لي أنت أوحد الناس طرا *** في فنون من المقال النبيه
لك من جوهر الكلام نظام *** يثمر الدر في يدي مجتنية
فلماذا تركت مدح ابن موسی *** والخصال التي تجمَعن فيه
قلت: لا أهتدي لمدح إمام *** كان جبريل خادما لأبيه
وأخيرا .. قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم: ستدفن بضعة مني بأرض خراسان ما زارها مكروب إلا نفس الله كربته ولا مذنب إلا غفر الله ذنوبه ..فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيَا .
تعليقات الزوار