الشيخ محسن آراكي

خطوات نحو التقريب

الدكتور السيد جعفر شهيدي[*]

دعوة المسلمين إلى الوحدة وعدم التفرق ليس وليدة العصر، ولا من مخترعات دار التقريب أو مجمع التقريب، بل بدأت منذ أن أنزل الله تعالى على قلب نبيه العظيم قوله عز من قائل: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}[1] وحذرهم من الشقاق، وحثهم على عدم التخاصم، وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}[2].

أمّا دعوة المسلمين إلى الاتحاد، وترك الخلافات المذهبية جانباً، أو الغمض عن الخلافات بالمعنى الأدق، والأخذ بما يقره الكتاب والسنة، وقيامهم جميعاً في وجه الأعداء فهذه بدأت منذ قرنٍ ونصف حينما تسلط المستعمر الغاشم على المسلمين واستولى عليهم، وسليهم كل ما في يدهم من الإمكانات، حتّى الاطمئنان على دينهم

الإلهي، ولغتهم القومية، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت! عند ذلك تداركتهم رحمة الله تعالى، وقام غير واحدٍ من رجال الدين يبلغون كلمات الله ويحذرون المسلمين من الخطر الذي أحدق بهم.

فطفقت الشعوب تهب من نومتها شيئاً فشيئاً، وتحركت النفوس، وتبصرت الفرق بأن أعداءهم يشنون الغارات عليهم من كل جانب، ويحتلون أراضيهم ويستغلون مصادر ثرواتهم، وتفطنوا إلى أن هذا الاستيلاء لم يتحقق إلاّ من جهة تشتتهم، فلا تبالي أمة بما يجري على الأخرى!!

وأخطر وأهم من هذه الهجمة العنيفة أن العدو المسيطر كان قد تقدم في ميادين العلم أشواطاً واسعةً، في حين أنّ الأمة الإسلاميّة  على اختلاف أجناسها وبيئاتها كانت تخوض في المباحث غير اللازمة، والمناقشات التي تنتهي إلى الاشتباكات الدامية أحياناً!.

عند ذلك قام بعض ذوي الغيرة على الإسلام من العلماء ودعاة الدين بدراسة الشعوب وإلفات أنظار العلماء خاصة، وطلبوا منهم أن يدرسوا الموقف درساً عميقاً ليصلوا إلى نقاطٍ مشتركةٍ، ويواجهوا العدوّ، ويثبتوا قبال التيارات التي تهدّد كيان الإسلام.

ولم يكن مع الأسف لهذه الدعوة صدى عميق وإن استجاب لها عدد من الشخصيات البارزة من جملتهم: العلماء والكتاب، وكان السبب هو تفكك الأمة إلى وحداتٍ متباينةٍ من ناحية الميزات العنصريّة والأشكال الإقليميّة والمناقشات العقائدية، ولم يكن ذلك يفسح المجال لتؤثر الدعوة أثرها المطلوب فتصل إلى الآفاق البعيدة.  

وبعد ما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وبعد ما ذاقت الأمة الإسلاميّة  ألواناً مرةً من الهدم والنهب والقتل، وبعد ما تنبهت الشعوب إلى أن تلك الخسائر التي تحملتها لم تكن إلاّ نتيجة التفكك وعدم التفاهم بين أتباع المذاهب، قام عدد من علماء الأزهر الشريف مع عددٍ من علماء إيران والعراق، وأنشأوا دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة  لتبصير الأمة بمختلف شعوبها، وتحذيرهم من عواقب هذا التفرق، ووجوب التخلص منه، ولزوم تعارف المذاهب، والأخذ بما يقره القرآن الكريم والسنة النبوية.

ورحب بهذه الدعوة عدد كبير من علماء مصر وإيران والعراق والبلاد الإسلاميّة  الأخرى، واعتنق الفكرة آلاف من المسلمين، وإن سمعنا بجانبها نعرات تردد: إن دار التقريب تريد أن يترك المسلمون مذاهبهم ويدينوا بمذهبٍ جديدٍ! ليضعوا التقريب ـ بزعمهم الفاسد ـ في قفص الاتهام، ومع الأسف لم تكن صفقتهم خاسرة كلياً، وظهرت في الأسواق كتيبات كتبها بعض المتطفلين على موائد الكتابة ليشتروا بها ثمناً قليلاً. وأمّا أعداء الإسلام والمسلمين والمستعمرون الذين يريدون أن يسيطروا على الأمة الإسلاميّة  فإنهم اتخذوا من هذه الخلافات أبواباً يلجون منها إلى التدخل في شؤون هذه الأمة.

والآن وبعد ما مضى على إنشاء دار التقريب خمسون عاماً نشهد إنشاء (مجمع التقريب) في طهران بأمر قائد الثورة الإسلاميّة  العظيم وتحت رعايته، وبمشاركة جماعةٍ من قادة العلم والدين من مختلف المذاهب الإسلاميّة.

إنهم رأوا من واجبهم الديني أن يدعوا المسلمين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الإسلاميّة  لقطع أسباب الخلاف والتفرقة، ولكن نرى في نفس الوقت أن ثمة أياد أثيمةٍ أخذت تتلاعب بالأذهان الخالية والأفكار الساذجة، وتنفث في آذانهم: أن مجمع التقريب يريد أن يحث طوائف المسلمين على ترك مذاهبهم والدخول في المذهب الشيعي! ونرى أيضاً بعض إخواننا الشيعة يقولون: إن الغرض الأصلي للمجمع رفض التشيع وإلزام المسلمين باعتناق المذهب السني!.

فتبين إذاً أن أول شيء حال بين دعاة دار التقريب ومجمع التقريب، وبين الوصول إلى أمنيتهم هو: عدم وقوف كثيرٍ من أتباع المذاهب على معنى التقريب، وهذا هو الذي لم يسمح لدعاة التقريب بالنجاح في ميدان العمل الديني منذ أعوام؛ لأن جهل بعض الشعوب يستلزم خواراً في إرادتها، وهذا ما يفسح المجال أمام الأعداء،فإن قام عدد من العلماء بالدعوة فإنهم سوف لا يستطيعون والحال هذه أن يحصلوا على مساعدين كثيرين يطمأن باستقامتهم وإخلاصهم لمبادئ هذه الدعوة.

لذا فالذي يقع على عاتق مجمع التقريب كوظيفةٍ إسلامية ـ لو أراد توسيع دائرة العواطف المشتركة ـ هو أن يقوم عاجلاً بالأعمال التالية:

أولاً ـ الصلة الدائمة بين المكتب الرئيسي وأعضاء اللجنة العليا للمجمع عن طريق اللقاء والمكاتبة واستطلاع آرائهم والاستخبار عن نشاطاتهم.

ثانياً ـ إكثار الصلات بين أعضاء اللجنة وبين علماء المسلمين من جهة، وبين العلماء والشعوب من جهة أخرى، لتبادل النظر والبحث عن الخطط التي تنتهي إلى التقريب.

ثالثا ـ الإعلان لعامة المسلمين عن طريق أجهزة الإعلام بأن الغرض من التقريب ليس نسخ المذاهب الإسلاميّة  معاذ الله، بل الغرض تعرف كل مذهب على الآخر.

رابعا ـ الإعلان لعامة المسلمين بان الخلافات المذهبية لا تضر بالوحدة. مادام المسلمون يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويصلون إلى قبلة واحدة.

ولقد كان الخلاف موجوداً بين أئمة المذاهب الإسلاميّة  المختلفة في الفتاوى، ولم نسمع أن أحداً منهم أفتى ببطلان المذهب لآخر وقد روي عن الامام الشافعي أنه قال: (مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب) ويحكي لنا التاريخ أن المسلمين قاموا بنشر الدعوة الإسلاميّة  في عصر الخلفاء، وفتح الله عليهم مشارق الأرض ومغاربها وتفتحت القلوب لدعوتهم ولم يكونوا في ذلك العصر على مذهب فقهي واحد.

إن التقارب المطلوب هو: أن يفهم أتباع كل مذهب الآخر، لا أن يدين جميع الفرق بمذهب واحد وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند خروجه لحرب بني قريظة (من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلا يصلي العصر إلاّ في بني قريظة فانطلقوا، فلما أدركهم العصر في الطريق صلى بعضهم وأصر البعض الآخر على ألا يصلوا إلاّ في بني قريظة، واختلفوا، فلما عادوا إلى الرسول واحتكموا إليه قال لكل فريق منهما: أصبتم).

خامساً: ليكن معلوماً: أن الوحدة التي نحن نطلبها ونريد دعمها هي: الوحدة بين الشعوب الإسلاميّة، لا بين الزعماء وذوي السلطات السياسية.

سادساً ـ إن الوحدة التي نأمل أن نصل إليها هي: الأخذ بما ترتضيه جميع الشعوب الإسلاميّة  على اختلاف عناصرها وبيئاتها.إن الوحدة الإسلاميّة  التي أوجدها المسلمون في صدر الإسلام وبلغت بالمجتمع الإسلامي إلى  ذروة العز والمنعة إنما حصلت كنتيجة للإيمان، إيمان المسلم بنفسه، إيمانه بربه، إيمانه بمجتمعه. وأظن أن مجتمع اليوم أشدّ حاجة إلى بث هذه الدعوة الإسلاميّة  الإنسانية من الوقت الذي أظهر فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في بطن مكة إذ اليوم العالم بطوله وعرضه وبما بلغ من التقدم الصناعي ومع أن الإنسان مس بقدميه سطح القمر ـ لم يذق بعد طعم العيش الرغيد والحياة السعيدة ـ فلتكن أول وظيفةٍ يقوم بها مجمع التقريب وأعضاؤه إبلاغ هذه الرسالة الإسلاميّة  الإنسانية من جديد.

 سابعاً ـ إفهام الشعوب الإسلاميّة  بان مجمع التقريب لا يريد أن يتحد المسلمون بالمعنى السياسي للكلمة، بأن تحكم عليهم حكومة واحدة، حتى يستلزم ذلك إلغاء الحدود والقرارات السياسية التي تكون بين الحكومات الإسلاميّة.

ثامناً ـ إن الغرض من التقريب: أن تتحرك الشعوب وتقف في وجه المستعمر والاستعمار، حتى تخلع الربقة وتتخلص عن الرقية، فإنهم إذا تخلصوا من شباك المستعمرين أمكنهم أن يصلوا إلى الحرية التي كانوا يتمتعون بها في ماضي الأعوام، إن الله تعالى يريد منا ـ نحن المسلمين ـ أن نكون أمة واحدة ويحذرنا عن التفرقة.

وهذه الوحدة تنحصر في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وفوق العنصريات والإقليميات.

فإذا أردنا أن نسلك المنهج الذي ينتهي بنا إلى التخلص من هذه المشاكل ونصل إلى الضالة المنشودة التي نطلبها يجب علينا ان نتمسك بما هو المسلم المقطوع به بيننا وندع الخلافات.

ولا شك أن هناك صعوبات وعراقيل تحول بيننا وبين أمنيتنا هذه، ولكن لنعتمد على الله ونستعين به، فقد قال عز من قائل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}[3].

------------------------------

[*] أستاذ الأدب العربي بجامعة طهران، وعضو المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب

[1] آل عمران: 103.

[2] الأنفال: 46.

[3] العنكبوت: 69.