الغدير

الغدير.. حادثة وشواهد

 لم يكن الغدير مجرد «قطعة من الماء يتركها السيل» كما في المنجد، ولا «مستنقع الماء؛ ماء المطر» كما يعرّفه لسان العرب، ولا «القطعة من الماء يغادرها السيل» كما في مختار الصحاح..بل هو حادثة وقعت في الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، فاشتق اسمها من ذلك المكان الذي جمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المسلمين فيه ليبلغهم أمراً مهماً جاء به الوحي، وذلك المكان هو (غدير خم).

ولقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حذراً من ردود الفعل التي تحدث نتيجةً لجهل أو تجاهل بعض الناس بالأوامر الإلهية ولم يتمكن بعضهم أن يدرك معنى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى*إنْ هو إلاّ وحي يُوحى)[1] ولذلك جاء التطمين الإلهي من جهة بأن الله سيحفظه ويعصمه من كيد الناس، والتحذير من جهة أخرى بأن تبليغ الرسالة يستدعي الافصاح عن الأمر، وإلاّ فكأنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يبلّغ الرسالة ! وهذا ما يدلل على خطورة الأمر وأهميته..فلقد نزل الوحي مخاطباً النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)[2]؛ فما كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلا الاستجابة للأمر الإلهي ودعوة القوافل العائدة من الحج إلى التجمهر لدى (غدير خم).

«وكان سبب نزوله في هذا المكان نزول القرآن عليه بنصبه أمير المؤمنين عليه السَّلام خليفةً في الأمّة من بعده، وقد كان تقدم الوحي إليه في ذلك من غير توقيت له فأخّره لحضور وقتٍ يأمن فيه الاختلاف منهم عليه، وعلم الله سبحانه أنه إن تجاوز غدير خم انفصل عنه كثير من الناس إلى بلادهم وأماكنهم وبواديهم، فأراد الله تعالى أن يجمعهم لسماع النص على أمير المؤمنين عليه السَّلام تأكيداً للحجة عليهم فيه؛ فأنزل جلّت عظمته عليه: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك)؛ يعني في استخلاف علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السَّلام والنص بالإمامة عليه(وإن لم تفعل فلما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)، فأكّد به الفرض عليه بذلك، وخوّفه من تأخير الأمر فيه، وضمن له العصمة ومنع الناس منه.

فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المكان الذي ذكرناه، لما وصفناه من الأمر له بذلك وشرحناه، ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، فأمر عليه السلام بدوحاتٍ هناك (فقُمّ) ما تحتها، وأمر بجمع الرِّحال في ذلك المكان ووضع بعضها على بعض، ثم أمر مناديه فنادى في الناس بالصلاة؛ فاجتمعوا من رحالهم إليه، وإن أكثرهم ليلفّ رداءه على قدميه من شدّة الرمضاء. فلمّا اجتمعوا صعد عليه وآله السلام على تلك الرحال حتى صار في ذروتها، ودعا أمير المؤمنين عليه السَّلام فرقى معه حتى قام عن يمينه؛ ثم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأمّة نفسه، فقال عليه واله السلام: «إني قد دُعيت ويوشك أن أجيب، وقد حان منّي خوفّ من بين أظهركم. وإني مخلّف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي؛ وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض».

ثم نادى بأعلى صوته: «ألستُ أولى بكم من أنفسكم» ؟ فقالوا: اللّهمّ بلى. فقال لهم على النسق، وقد أخذ بضبعَيْ أمير المؤمنين عليه السَّلام فرفعهما حتى رُئي بياض إبطيهما، وقال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه؛ اللّهمّ والِ من واله، وعادِ من عاده، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

ثم نزل صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وكان وقت الظهيرة ـ فصلّى ركعتين، ثم زالت الشمس، فأذّن موذنه لصلاة الفرض، فصلّى بهم الظهر، وجلس صلّى الله عليه وآله وسلم في خيمته، وأمر عليّاً أن يجلس في خيمةٍ له بإزائه، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنِّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلّهم، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن.

وكان ممّن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب، فأظهر له المسرّة به، وقال فيما قال: «بِخٍ بِخٍ يا عليّ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

وجاء حسان إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا رسول الله، ائذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله. فقال له: «قل يا حسان على اسم الله». فوقف على نَشَز[3] من الأرض، وتطاول المسلمون لسماع كلامه، فأنشأ يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيُّهـمْ                         بخمٍّ وأسمعْ بالرسول منـــاديا

وقال فمن موالكم ووليّكم                       فقالوا ولم يُبدو هناك التعاميا[4]

إلهُك مولانا وأنـت وليُّنـا                           ولن تجدنْ منّا لك اليومَ عاصـيا

فقال له قم يا عليُّ فإنتـني                    رضيتُك من بعدي إماماً وهاديـا

فمن كنتُ مولاه فهذا وليُّه                      فكونوا له أنصار صدق مواليـا

هناك دعا اللّهمّ والِ وليـَّه                      وكن للذي عادى عليّاً معاديـا

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا تزال ـ يا حسان ـ مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»[5].

ولقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق عن اكثر من ثلاثين راوياً، وكان عدد الروايات (90) رواية كلها تتحدث عمّا كان يوم الغدير وعن مناشدة الإمام علي عليه السَّلام للناس عن هذا الأمر وعن قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[6].

أما العلاّمة الأميني فقد أحصى في كتابه (الغدير) عدداً كبيراً من المؤرخين وأئمة الحديث والمفسرين والمتكلمين وعلماء اللغة والشعراء الذين تناولوا وتداولوا هذا الأمر..وكتاب الغدير هذا يتألف من (11) مجلداً، وهو من أغنى المصادر بالشواهد المتنوعة الدالّة بجميعها على ما جرى يوم الغدير.

كما ذكر الحادثة الحسكاني في شواهد التنزيل ج 1، ص 187 ـ 193 بثمانية طرق. فراجع.

ويبدو أن حادثة الغدير لم تكن خافية على المؤرخين أو المفسّرين، بل أصبحت من المسّلمات لدى من له أدنى اطّلاع على التاريخ الإسلامي؛ فمن شاء فليراجع الكتب المعتبرة والتفاسير، واليك بعض الشواهد:

...عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم، قال: لمّا رجع رسول الله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقُممن، ثم قال: «كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

ثم قال: «الله مولاي، وأنا وليّ كل مؤمن».

ثم أخذ بيد عليّ فقال: «من كنت مولاه فهذا وليّه؛ اللّهمّ والِ من ولاه، وعادِ من عاداه».

فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ؟

فقال: ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينيه وسمعه بأذنيه[7].

... عن رياح بن الحارث، قال: كنّا مع عليّ عليه السَّلام في الرحبة، إذ جاء ركب من الأنصار فقالوا: السلام عليك يا مولانا. فقال: كيف ذا وأنتم قوم من العرب؟[8] قالوا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم يقول: «من كنت مولاه فعليّ مولاه». ثم انصرفوا. فقلت: مَن القوم ؟ قالوا: قوم من الانصار، وفينا أبو أيّوب الانصاري[9].

...عن أبي هريرة، قال: من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كُتب له صيام ستين شهراً. وهو يوم غدير خم لمّا أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بيد علي بن أبي طالب، فقال: «ألست ولي المؤمنين» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه». فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب ! أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله: (اليوم أكملت لكم دينكم)[10].

وقوله: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم)، قال ذلك لمّا نزلت ولاية أمير المؤمنين، وأمّا قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، فانه حدّثني أبي عن صفوان بن يحيى عن العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: آخر فريضة أنزلها الله الولاية، ثم لم ينزل بعدها فريضة، ثم أنزل، (اليوم أكملت لكم دينكم)[11].

ذكر السيد عبد الله شبّر بعد تفسيره للآية (يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)[12] هذه الرواية:

عن أهل البيت وابن عباس وجابر: إن الله أوحى إلى نبيه أن يستخلف علياً، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فنزلت، فأخذ بيده، فقال: «ألست أولى بكم من أنفسكم» ؟ قالوا: بل.

قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

وقال بعد تفسيره لقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم)[13].

روى العامة والخاصة أنها نزلت بعد نصب النبي عليّاً خليفة يوم غدير خم.

وقال في تفسيره : (سأل سائل بعذاب واقع)[14].

نزلت لمّا قال بعض المنافقين يوم الغدير: اللّهمّ إن كان هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ! فرماه الله بحجر فقتله[15] والمنافق هو النضر بن الحرث. فراجع.

---------------------------

[1] النجم: 3 ـ 4.

[2] المائدة: 67.

[3] النشز: المكان المرتفع.

[4] في الاصل (التعاديا).

[5] الارشاد، للمفيد: ج 1، ص 175 ـ 177. ط 1 /مؤسسة آل البيت عليهم السَّلام لاحياء التراث ـ قم 1413 هـ.

[6] راجع (ترجمة الإمام علي عليه السَّلام من تاريخ دمشق): ج 2، ص 5ـ 90.

[7] البداية والنهاية لابن كثير: ج 5، ص 228. ط 1/ دار احياء التراث العربي ـ بيروت 1992.

[8] أي: لماذا قلتم يا مولانا ؟

[9] المناقب لابن المغازلي: ص 22 ط / طهران 1394 هـ .وقد روى حديث الغدير بـ (16) طريقاً .

[10] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 8، ص 290. ط/ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

[11] تفسير القمي (علي بن إبراهيم) : ج 1، ص 162. ط 3/ قم ـ 1404 هـ .

[12] المائدة: 67.

[13] المائدة: 3.

[14] المعارج: 1.

[15] تفسير السيد عبد الله شبر. ط 3 / دار احياء التراث العربي 1997م.