1

حديث الغدير في ضوء الكتاب واللغة

 

مصادر حديث الغدير:

قبل البحث في دلالات حديث الغدير أجد من الضروري إلقاء نظرة على صيغة الحديث في مصادره عند الشيعة والسنّة، ليحصل الاطمئنان بأنه من الأحاديث المتواترة الثابتة في كتب الفريقين، وللتأكيد بأنّ اللفظ وهو (المولى) الذي نستدل به على جعل الإّمامة لعليّ عليه السلام من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، موجود في جميع الصيغ الواردة في كتب علماء الفريقين.

حديث الغدير في مصادر أهل السنة:

1 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم؟ فقلنا: بلى، يا رسول الله. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاده»[1].

2 ـ وعن زاذان أبي عمر قال: سمعت عليّاً في الرحبة، وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟

فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه»[2].

3 ـ «إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم غدير خم: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه» قال ـ ربما الراوي ( وهو أبو مريم أو غيره) ـ فزاد الناس بعد: والِ من والاه وعادِ من عاداه»[3].

وفيه: إنّ هذه الزيادة ليست من الناس، بل هي رواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن زيد عن رسول الله في حديث رقم 18522 في مسند أحمد.

ثم إن هذه الإضافة موجودة في مصادر الحديث الأخرى عند الطائفتين، فلا إشكال في ثبوت صدورها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ثم إن مورد الاستشهاد إنما بصدر الحديث أي قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه». وليس بذيله، أي: «اللهم والِ من والاه...».

4 ـ وعن أبي سرحة أو زيد بن علي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[4].

5 ـ وقال سعد بن أبي وقاص لمعاوية بن أبي سفيان بعد أن نال الأخير من عليّ عليه السلام: «تقول هذا لرجلٍ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه»[5].

6 ـ «وعن عامر بن سعد عن سعد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خطب فقال: أما بعد، أيّها الناس فإني وليكم قالوا: صدقت، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها ثم قال: هذا ولييّ والمؤدي عني، والِ اللهم من والاه، وعادِ اللهم من عاداه».

7 ـ وعن عائشة بنت سعد عن سعد قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيد علي فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألم تعلموا أني أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: نعم، صدقت يا رسول الله. ثم أخذ بيد علي فرفعها ـ فقال: من كنت وليه فهذا وليه وإن الله ليوال من والاه ويعادي من عاداه»[6].

8 ـ «وعن عائشة بنت سعد عن سعد أنه قال: كنا مع رسول الله بطريق مكّة، وهو متوجه إليها، فلما بلغ غدير خم الذي بخم وقف الناس ثم ردّ من مضى ولحقه من تخلف فلما اجتمع الناس قال: أيّها الناس هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال: أيها الناس هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد ثلاثاً (ثم قال) أيها الناس من وليكم؟

قالوا: الله ورسوله ـ ثلاثاً ـ ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فأقامه فقال: من كان الله ورسوله وليه فإن هذا وليه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»[7].

9 ـ «روى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله، قال: لما بلغ عليّاً عليه السلام أنّ الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتفضيله إياه على الناس، قال عليه السلام: أنشد الله من بقي ممّن لقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وسمع مقاله في يوم غدير خم إلاّ قام فشهد بما سمع؟

فقام ستة ممن عن يمينه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وستة ممن على شماله من الصحابة أيضاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك اليوم وهو رافع بيدي علي: من كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله، وأحبَّ من أحبَّه وأبغض من أبغضه»[8].

«وفي مكان آخر من كتاب النهج ينقل ابن أبي الحديد هذه القطعة الإضافية «وأنس بن مالك في القوم لم يقم: فقال له يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها؟

فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت. فقال: اللهم إن كان كاذباً فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.

قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضوح به بعد ذلك أبيض من عينيه»[9].

10 ـ «قال صلّى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه،11 اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»[10].

11 ـ «وقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم خطيباً وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: بلى يا رسول ـ الله صلّى الله عليه وآله وسلم ـ

قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»[11].

ـ وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في عودته من حجّة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»[12].

حديث الغدير في كتب الشيعة:

ومن الواضح أن جميع كتب الشيعة التي تعرضت لسيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أو لفضائل علي عليه السلام ومناقبه، أو التي تعرضت لمسائل الإمامة ذكرت حديث الغدير، ونحن هنا نشير إلى بعض ما سجله علماء الشيعة في نقل حديث الغدير كنموذج لذلك:

1 ـ فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[13].

فنادى الناس فاجتمعوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس، مَن وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟

فقالوا: الله ورسوله.

فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ـ ثلاث مرات ـ»[14].

2 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «إني قد دعيت ويوشك أن أجيب، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم وإني مخلف فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.

ثم نادى بأعلى صوته: ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟

قالوا: اللهم بلى.

فقال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»[15].

3 ـ وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا وإني أشهدكم أني أشهد أنّ الله مولاي وأنا مولى كلّ مسلم وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهل تقرّون لي بذلك وتشهدون لي به؟

فقالوا: نعم، نشهد لك بذلك.

فقالوا: ألا من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله»[16].

4 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه»[17].

5 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[18].

6 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»[19].

وأثبت المحدث هاشم البحراني 88 حديثاً في الغدير من طرق العامة و36 رواية من طرق الشيعة[20].

ولقد أحصى السيّد المحقّق الطباطبائي في كتابه (الغدير في التراث الإسلامي) 164 كتاباً صنف حول واقعة الغدير.

معاني حديث الغدير:

وبعد أن ألقينا ضوءاً كافياً على أصل الحديث، واهتمام رواة الحديث وأرباب السنن بنقله، نتناول دلالة حديث الغدير على ثبوت امامة علي بن أبي طالب عليه السلام بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ونستعرض أهم الشبهات التي أُثيرت على ذلك، وحاولت ـ بعد التسليم بصدور الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ـ تفسيره بمعانٍ لا تساعد عليها اللغة والاستعمال والقرائن العامة التي حفّت بالحديث.

استعمال لفظ المولى:

استعملت لفظة المولى في القرآن الكريم في اللغة في معانٍ عديدة:

1 ـ فقد وردت بمعنى (الأولى) في تفسير قوله تعالى (فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[21].

واختاره أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه في القرآن (المجاز)، في تفسيره الآية المتقدمة، واستشهد ببيت لبيد:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه        مولى المخافة خلفها وأمامها[22].

وقال به الزجاج والفراء أيضاً.

2 ـ ووردت بمعنى المتصرف بالأمر في تفسير قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ)[23].

قال الفخر الرازي في تفسيره ناقلاً عن القفال:

هو مولاكم: سيدكم والمتصرف فيكم[24].

3 ـ وردت بمعنى المتولي في الأمر في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا)[25] كما اختاره أبو العباس[26].

4 ـ وردت بمعنى الناصر في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ)[27] كما ذكر ذلك الشيخ المفيد قدس سره[28] وفسر لفظ المولى بمعنى الولي أيضاً كما عن الحاكم الحسكاني[29].

5 ـ ووردت بمعنى الوارث كما في تفسير قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ...)[30] «وقال السدي: إنّ الموالي بمعنى الورثة وهو أقواها»[31].

6 ـ ووردت بمعنى الصاحب في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)[32] كما اختاره الطبرسي في تفسيره[33].

7 ـ ووردت بمعنى المالك كما في تفسير قوله تعالى:

 (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ)[34].

كما أشار إليه ابن الجوزي في تذكرته[35].

8 ـ وجاءت بمعنى العبد، وقيل: ابن العم[36] في تفسير قوله تعالى:

 (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ)[37].

9 ـ ووردت بمعنى ابن العم، قال الفضل بن العباس في ذلك:

مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا   لا تظهرون لنا ما كان مدفونا[38]

10 ـ ووردت بمعنى الحليف، حيث قال الشاعر:

موالي حلف لا مــوالي قرابة               ولكن قطينا يسألون الاتاويا[39]

11 ووردت بمعنى الربّ ومنه قول القائل:

«وقد وكل كلم إلى المولى الكافي» أي الرب[40].

12 ـ ووردت بمعنى السيد،13 فقد ورد في مجمع البحرين: «وتنكيل المولى بعبده بأن يجذع أنفه»[41].

وقال الخليل الفراهيدي:

والموالي بنو العم، والموالي من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من يحرم عليه الصدقة.

والمولى: المعتق والحليف والولي[42].

والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما، يُقال في معنى الفاعل أي الموالي وفي معنى المفعول أي الموالي يُقال للمؤمن هو ولي الله ولم يرد مولاه[43].

وقد يُقال: بأنه إذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أراد أن ينصب علياً إماماً للمسلمين من بعده، فلماذا لم يذكر ذلك بلفظ يكون نّصاً في المعنى، فلا يقع النزاع بعد ذلك؟

والجواب:

إنّ حديث الغدير وما تقدمه من كلام وما تأخر عنه يدل دلالة واضحة على مراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في تعيين علياً إماماً بعده، فإذا أمكن النقاش في دلالة حديث الغدير; ودعوى عدم وضوحه في إفادة المعنى، فإنه يمكن النقاش في كل نص يرد لا يحتمل معنى آخر غير معنى الإمامة على تقدير صدوره من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، كما ردّ طلب النبي ـ وهو على فراش الموت ـ في أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده أبداً، حيث رفض عمر بن الخطاب ذلك الطلب وقال: إنّ الرجل ليهجر[44] أو غلب عليه الوجع كما روى ذلك البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وجعه قال: إئتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده قال عمر: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غلب عليه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال صلّى الله عليه وآله وسلم: قوموا عني ولا ينبغي عندنا النزاع، فخرج ابن عباس يقول: الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين كتابه[45].

وفي رواية أخرى روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله[46].

هذه أهم موارد استعمال لفظة (المولى) التي جاءت في القرآن الكريم وفي كلمات العرب وشعرهم، ولكن علماء الحديث والعقائد ذكروا للفظ المولى معانٍ أُخر غير التي ذكرناها، فقد ذكر ابن الجوزي: أن علماء العربية قالوا: إن لفظة المولى ترد على عشرة وجوه وهي:

الأول: المالك، ومنه قوله تعالى:

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَؤْلاَهُ).

أي على مالك رقه.

والثاني: بمعنى المولى المعتق بكسر التاء.

والثالث: بمعنى المعتق بفتح التاء.

والرابع: بمعنى الناصر ومنه قوله تعالى:

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ).

أي لا ناصر لهم.

والخامس: بمعنى ابن العم قال الشاعر:

مهلاً بني عمـنا مهلاً موالينا            لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقال آخر

هم المــوالي حتفوا علــينا              وإنــا مـن لـقـائهم لـزور

وحكى صاحب الصحاح عن أبي عبيدة أن قائل هذا البيت عني بالموالي بني العم، قال: وهو كقوله تعالى (ثم يخرجكم طفلاً).

والسادس: الحليف قال الشاعر:

موالي حلف لا موالي قرابة             ولكن قطينا يسألون الاتاويا

يقول هم حلفاء لا أبناء عم قال في الصحاح وأما قول الفرزدق:

ولو كان عبد الله مولى هجوته         ولكن عبد الله مولى موالينا

فلأنّ عبد الله بن أبي إسحاق مولى الحضرميين، وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف والحليف عند العرب مولى، وإنما نصب المواليا لأنه رده إلى أصله للضرورة، وإنما لم ينون مولى لأنه جعله بمنزلة غير المعتل الذي لا ينصرف.

والسابع: المتوالي لضمان الجريرة وحيازة الميراث، وكان ذلك في الجاهلية ثم نسخ بآية المواريث.

والثامن: الجار وإنما سمي به لماله من الحقوق بالمجاورة.

والتاسع: السيد المطاع وهو المولى المطلق قال في الصحاح : كل من ولي أمر أحد فهو وليه.

والعاشر: بمعنى الأولى، قال الله تعالى: (فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذْ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ) أي أولى بكم[47].

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري في كتابه في القرآن المعروف بـ(المشكل):

«والمولى في اللغة ينقسم إلى ثمانية أقسام:

المنعم، المعتق، والمعتق بالفتح ـ، والاولى بالشيء والجار، وابن العم، والصهر والحليف، وقد استشهد على كل قسم من أقسام المولى بشيء من الشعر»[48]، وجعلها شيخنا الامين قدس سره في غديره سبعة وعشرين معنى[49].

معنى لفظ المولى في لغة العرب:

وهكذا يتضح أنّ لفظ المولى في اللغة استعمل في عدة معانٍ، ولكن نسأل هل اللفظ موضوع ـ لغةً ـ لمعنى الأولى، واستعمل في سائر المعاني على نحو المجاز كما في استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع بمناسبة شجاعته، فيكون الاستعمال فيها مجازاً وفي الأولى على نحو الحقيقة، أو أن تلك المعاني أيضاً معانٍ حقيقية للفظ المولى، فالاشتراك معنوي، أو أن الاشتراك في اللفظ بنحو الاشتراك اللفظي؟

هل لفظ المولى مشترك لفظي؟

عُرف المشترك اللفظي بـ:

«أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنيين، أو لمعانٍ بأوضاع متعددة كلفظ العين للباصرة والجارية والذهب»[50].

وقد عرفه أهل الأصول بعبارة أوضح: «اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل اللغة»[51].

ومن الواضح أنّ لفظ المولى ليس كذلك، إذ معانيه ليست متباينة، إنما فيها معنى مشترك، وإن كان يوجد تفاوت في نسبة صدق المعنى الواحد عليها بنحو سواء، كما أنه من تتبع معاني لفظ المولى يستشعر أنّ اللفظ لم يوضع لتلك المعاني بنحو الوضع المستقل لكل معنى عن وضعه للآخر.

هل لفظ المولى حقيقة في الأولى مجاز في غيره؟

عرف المعنى الحقيقي بأنه: «استعمال اللفظ فيما وضع له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب».

وعرف المعنى المجازي بأنه: استعمال اللفظ في غير ما وضع له في أصل تلك المواضعة للعلاقة[52].

وعرف أيضاً بأنّ المعنى الحقيقي هو: «استعمال الكلمة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب».

أما المجاز فهو: «استعمال الكلمة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب»[53] والتعريفان متطابقان في المضمون.

وهذا التعريف لا ينطبق على لفظ المولى في معانيه المتعددة، وذلك لأنه كما استعمل في معنى (الاولى) بلا قرينة، كذلك أستعمل في سائر المعاني بلا قرينة أيضاً، مع أن الاستعمال المجازي للفظ لا يصح بلا قرينة، وهذا يدل على أن بقية المعاني هي أيضاً معاني حقيقة للفظ المولى.

هل لفظ المولى مشترك معنوي؟

المشترك المعنوي:

«هو أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنى كلي كالانسان للحيوان الناطق»[54].

وحيث إنّ هذا التعريف ينطبق على لفظ المولى للأدلة التي سنذكرها لاحقاً، يكون لفظ المولى موضوعاً ـ في اللغة ـ لمعنى الأولى، غاية الأمر أن الأولوية تختلف في كل مورد عن المورد الآخر فمثلاً النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مولى المؤمنين يعني: هو أولى بهم من أنفسهم في أمورهم، وله الأمر والنهي، وله عليهم حقّ الطاعة، والمولى بمعنى الوارث، يعني أن الابن أو غيره من الورثة أولى من أي شخص آخر بمال مورثه المتوفى، والمولى بمعنى الناصر، كأن يُقال العباس بن علي مولى الحسين عليه السلام يعني: أن العباس عليه السلام أولى الناس بنصرة الحسين عليه السلام من غيره لمعرفته به، وهكذا يكون معنى الأولوية موجوداً في جميع معاني لفظ المولى مع اختلاف في مصداق الأولوية كما يطلق لفظ إنسان على زيد وعمرو وبكر فإنهم جميعاً يصدق عليهم لفظ إنسان مع اختلاف كل مصداق عن المصداق الآخر ببعض الأمور.

والصحيح هو: إنّ لفظ المولى مشترك معنوي بدلالة تبادر معنى الأولوية منه رغم تعدد كيفيات الأولوية، وبدليل صحة استعمال لفظ الأولى مكان المولى، فيصح القول: «النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أولى بالمؤمنين» بدل قولنا «النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مولى المؤمنين» ويصح القول: (الاب أولى بالولد) بدل قولنا: (الاب مولى ولده) وهكذا، وهذا يدل على أن لفظ المولى يعني الأولى.

برهان المعاني الباقية:

ويمكن الاستدلال على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أراد معنى الأولى من لفظ المولى بالقول: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يريد بالمولى المعتق أي مالك الرق الذي يملك المولى عبده وله أن يبيعه ويهبه، إذ ليس كل من ملكه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ملكه علي. ولا يريد به العبد.

ولا يقصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من لفظ المولى (ابن العم)، لأن من كان ابن عم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو ابن عم علي عليه السلام بلا حاجة إلى تجشم عناء بيان ذلك تحت أشعة الشمس الحارقة وإبلاغ المسلمين بذلك.

وكذلك لا يقصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بلفظ المولى (العاقبة) إذ لا معنى له في جملة «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه».

ولا يمكن أن يريد به معنى الناصر; لأن المسلمين كلهم أنصار لمن نصره النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فلا معنى لتخصيص علي عليه السلام بالنصرة عن جماعة المسلمين.

ولا يقصد به صلّى الله عليه وآله وسلم معنى الحليف، لأن علياً حليف لجميع حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

وكذلك لا يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من لفظ المولى أن علياً وارث لكل من يرثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

أما معنى المتولي بالأمر والمتصرف فيه، فإنه لو قصد هذا المعنى فإنه يقصد الأولى; لأن المتولي للأمور والمتصرف فيها إنما يكون للأولى بالتصرف في الأمور، أي من له حق الأمر والنهي والطاعة... وكذلك لا يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سائر معاني المولى نظير الصاحب والشريك والرب والجار ويظهر ذلك بأدنى تأمل في سياق الرواية، وفي القرائن العامة، فيبقى المعنى الوحيد المحتمل وهو الأولى بالمسلمين من أنفسهم فيجب حمله عليه.

ويدل على أولويّة علي عليه السلام بالخلافة من جميع الأنصار والمهاجرين اعتراف هؤلاء بأولوية علي عليه السلام منهم في ذلك، إلاّ أنهم طعنوا ذلك ببعض الأمور.

ففي شرح النهج لابن الحديد المعتزلي ورد:

«أن عمر قال: يا بن عباس، أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّا خفناه على اثنين... فقلت: ـ أي ابن عباس ـ : وماهما يا أمير المؤمنين؟

قال: خفناه على حداثة سنّه، وحبّه بني عبد المطلب»[55].

وفيما يلي بعض الشواهد على أن المراد بلفظ المولى في حديث الغدير معنى الأولوية دون غيرها من المعاني:

الشاهد الأول: شعر حسان بن ثابت:

ما نظمه حسان بن ثابت شاعر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد فراغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من واقعة الغدير، حيث فهم منه حسان أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد نصب علياً عليه السلام ولياً للمؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم كما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كذلك ـ أي ولى بالمسلمين من انفسهم ـ حيث إنّ حسان بن ثابت استأذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يقول شعراً في الواقعة، فأذن له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأنشد أبياتاً منها:

فقال له قم يا عــلي فإنني               رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

«ويروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لحسان بعد أن فرغ من شعره: لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا أو نافحت عنا بلسانك»[56].

وكذلك ما قاله الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة الانصاري:

وعلــي إمـامـنا وإمـام            لســوانا أتى به التنــزيل

يوم قال النبي من كنت مولاه            فهذا علي خطب جليـل[57]

الشاهد الثاني: كلام ابن منظور الديلمي

قال: أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي (إمام الكوفيين في النحو واللغة والادب) في كتاب (معاني القرآن): الولي والمولى في كلام العرب واحد وفي قراءة عبد الله بن مسعود:

«إنما مولاكم الله ورسوله مكان وليكم»[58] وإنما يكون الولي ولياً، إذا كان أولى من كل أجد في الأمر والنهي والطاعة من قبل الآخرين.

الشاهد الثالث: كلام ابن الجوزي

ما نقله ابن الجوزي:

«قال أحمد في الفضائل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حبيش بن الحرث بن لقيط النخعي عن رياح بن الحرث قال: جاء رهط إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: السلام عليك يا مولانا ـ وكان بالرحبة ـ فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟

قالوا: سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه. قال رباح: فقلت: من هؤلاء؟

فقيل: نفر من الانصار فيهم أبو أيوب الانصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم[59].

الشاهد الرابع: تهنئة عمر بن الخطاب لعليّ عليه السلام.

ما ورد عن الخليفة الثاني أنه قال لعلي بعد حديث الغدير: «هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة»[60].

ومن الواضح أنّ عمر لا يريد أن عليّاً أمسى ناصراً أو محبّاً لكل مؤمن ومؤمنة، إذ هذا المعنى صادق على الصحابة الأخيار (رضيَ الله عنهم ) بل يريد ثبوت الولاية له من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا المعنى هو الذي يستحق التهنئة عليه إذ مجرد الحب والنصرة لا يوجب تهنئة الشخص عليها، فلا بد أن يكون المراد بالمولى هو المعنى العظيم لها وهو الأولوية والإمامة على المسلمين، وهو المعنى الذي يستوجب التهنئة عليه، وإن كان في الحقيقة مسؤولية عظيمة.

الشاهد الخامس: احتجاج علي عليه السلام بحديث الغدير:

احتجاج علي عليه السلام على جماعة الشورى بعد وفاة عمر بن الخطاب، حين رأهم قد عزموا على مبايعة عثمان، حيث قال لهم عليه السلام:

«نشدتكم بالله هل منكم أحد نصبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم بأمر الله تعالى فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه غيري؟

قالوا لا»[61].

فقد استشهد علي عليه السلام بهذا الحديث على أنه أولى من غيره (عثمان وغيره) بمقام الولاية، وليس هذا إلاّ أنّ حديث الغدير يدل على ذلك، وأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نصبه إماماً للمسلمين في يوم الغدير.

المخاض الأخير:

وهكذا يتضح أن لفظ المولى من المشترك المعنوي، وأن معناه (الأولى) محفوظ في جميع مصاديقه المتعددة.

ولكن حتى لو قلنا ـ مع القائلين ـ بأن لفظ المولى من المشترك اللفظي، وأنه يحتمل أن يراد به معنى الناصر، أو المحب، أو أحد المعاني الأُخر غير معنى (الأولى)، فإنّا يمكن أن نبرهن على أن لفظ المولى في كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث الغدير استعمل في خصوص المعنى الاول وهو: (الأولى) دون سائر المعاني، وذلك بقرائن كثيرة نذكرها فيما يلي:

القرينة الاولى: دلالة المقدمة على المعنى:

لا شك في أن حديث الغدير قد بدأه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمقدمة استفهامية هي:

«ألست أولى بكم من أنفسكم»[62] ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» وفي ضوء ذلك نقول: لا شك في أن الأولى في المقدمة يراد به الأولى في الطاعة، وحق الأمر والنهي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم على الأمة بالدليل النقلي والعقلي، فلا بد أن يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من لفظ المولى في قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، المعنى الثابت في المقدمة أي الأولى، دون سائر المعاني للمولى، حيث جرت عادة اللغة على تفسير اللفظ الذي يحتمل معاني متعددة، والمعطوف على نفس اللفظ السابق عليه، والذي هو ظاهر في معنى محدد من المعاني الكثيرة بالمعنى السابق، والذي عطف عليه اللفظ الذي يحتمل معاني متعددة، فمثلاً لو قال المتكلم (بعت كتابي إلى عمي زيد) ثم قال بعد ذلك متصلاً: (وعمي موجود الآن في بيتي)، فإن العم في الجملة الثانية يحتمل أنه أراد به العم الذي اشترى الكتاب ويحتمل أن يريد عمّاً آخر، وحيث إن المتكلم عطف الجملة الثانية على الأولى حيث قال:

(بعت كتابي إلى عمي زيد وعمي موجود في بيتي) فإن العرف يفهم أن العم الموجود في البيت هو نفس العم الذي اشترى الكتاب أي هو زيد، وإن كان يحتمل أن يريد بالعم في الجملة الثانية عمّاً آخر غير زيد الذي اشترى الكتاب، وكذلك لو قال: مطرت السماء البارحة مطراً عظيماً; وأنا احتفظت بشيء من ماء المطر، فإن العرف يفهم أن ما احتفظ به من ماء المطر هو من مطر البارحة، وإن كان يحتمل أنه احتفظ بماء مطر اليوم الماضي أو الشهر الماضي، والحقّ أنّ مثل هذا الاحتمال بعيد جدّاً.

القرينة الثانية: آية التبليغ:

حدّث الحافظ الكبير الحسكاني الحنفي النيسابوري بسنده المتصل إلى ابن عباس في قوله عز وجل:

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)[63] إنها نزلت في علي.

أمر رسول الله أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»[64].

وحدث الحافظ الحسكاني بسنده إلى أبي صالح «عن بن عباس وجابر ابن عبد الله قالا: أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله أن يقولوا حابا ابن عمه يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: «يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك... فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بولايته يوم غدير خم»[65].

وقال علي بن إبراهيم: «إن هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...) نزلت في علي عليه السلام»[66].

وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في حق علي عليه السلام في غدير خم، فقد نقل المالكي في الفصول المهمة عن الإمام أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول رفعه إلى أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب، ورواه صاحب فتح القدير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابي سعيد الخدري، وكذلك في تفسير الدر المنثور للسيوطي[67] ومع هذا فإن السيوطي في لباب المنقول في أسباب النزول قال: أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية (والله يعصمك من الناس) فأخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله. في هذا الحديث دليل على أنها... أي الآية ليلية فراشية! أي والرسول في فراشه»[68].

ولم تذكر عائشة أم المؤمنين شيئاً عن الشطر الأول من الآية، ولا عن الشيء المهم الذي إذا لم يبلغه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فكأنه لم يبلغ شيئاً!! وكأن الآية الواحدة نزلت شطرين!.

القرينة الثالثة: آية إكمال الدين

روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي هريرة، قال: «لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين؟

قالوا: نعم، يا رسول الله.

قال: فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم.

قال: فأنزل الله عز وجل (اليوم أكملت لكم دينكم).

قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام كتب الله له صيام ستين شهراً»[69].

القرينة الرابعة:

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبل فقرة إثبات المولوية لعلي عليه السلام: كأني دعيت فأجبت، أو أنه يوشك أن أُدعى فأجيب[70] ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فإن تلك المقدمة تلقي ضوءاً على غرض الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من لفظ المولى، وتعّين أن المراد به معنى يرتبط فيما بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلم ومن الواضح أن هذا المعنى هو إمامة علي عليه السلام وولايته على أمته من بعده.

المولى ترادف الولي:

وقد تثار شبهة وهي: حتى لو اتفقنا على أن معنى المولى هو الأولى، لكن الأولى لا تعني الولي. فلو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد قال: «فمن كنت وليه فعلي وليه» لكان هذا اللفظ يدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم جعل علياً إماماً للمسلمين بعده.

والجواب:

أولاً: إذا كان إطلاق لفظ الولي على علي عليه السلام يرفع الشبهة، فإن القرآن الكريم أنزل في حق عليّ مدحاً ووصفه بأنه ولي المسلمين، وذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[71].

فقد روى الحافظ الكبير النيسابوري بسنده إلى ابن عباس: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال: نزلت في علي بن أبي طالب»[72] وبسنده عن عطاء بن السائب: «إنما وليكم الله ورسوله قال: في علي مرّ به سائل وهو راكع فناوله خاتمه»[73].

وإن قيل: إنّ لفظ الذين آمنوا عام فكيف خصصت في علي؟ قيل: «إن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة وأهل السنة على أن الآيتين نازلتان في أمير المؤمنين بما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، فالايتان خاصتان غير عامتين»[74].

وثانياً: إن لفظ المولى والولي معناهما واحد «فقد قال الفراء في كتاب معاني القرآن: الولي والمولى في كلام العرب واحد في قراءة عبد الله بن مسعود: (إنما مولاكم الله ورسوله) مكان وليكم[75].

ومع كل ذلك فقد كتب عباس محمود العقاد ـ وهو يتحدث عن علاقة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعلي ـ:

إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان «يحبه ويمهد له وينظر إلى غده، ويسره أن يحبه الناس كما أحبه، وأن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه....

وكل ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول... ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة... وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة.

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك، ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع...

وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره. إنهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنهم إن أرادوه لا يستطيعون بين جماعة المسلمين، وإنهم إن استطاعوا لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين...

فكل أولئك ليس بالممكن، وليس بالمعقول[76].

ولا أدري هل جعل الولاية لعلي[77] بنص النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من قبيل إجتماع النقيضين، أو الضدين حتى يكون ذلك غير ممكن وغير معقول!

وإذا كان جعل الإمامة لعلي ليس فيه استحالة عقلية، فلماذا لا يمكن أن يجعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعلي، وهو المعروف بسابقته وقربه وجهاده وإخلاصه وعلمه وشجاعته؟ فلماذا لا يمكن أن يجعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولياً للمسلمين بعده، وهل القرب من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوجب حرمانه من مقام يستحقه دون سائر الأصحاب، أو القرب من النبي موجب للفضيلة كما استدل أبو بكر على الأنصار بأن الخلافة في قريش، لأنهم أقرب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم من الأنصار؟

بعد الذي عرفت من وضوح أن لفظ المولى معناه (الأولى) أو على أقل تقادير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم استعمله في هذا المعنى للقرائن اللفظية والمقامية التي حفت بالحديث، بعد ذلك نذكر عدة تفسيرات أُخرى لحديث الغدير تستهدف تجريده عن دلالته الثابتة له بموجب اللغة:

التفسير الأول: شكاية أهل اليمن على علي عليه السلام

إنّ المراد من لفظ (المولى) هو الناصر أو المحب، وذلك الحديث صدر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد شكاية أهل اليمن علياً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ويرشد بذلك أنه أشاد في خطابه بعلي خاصة فقال: من كنت وليه فعلي وليه وبأهل البيت عامة فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فكان كالوصية لهم بحفظه في علي بخصوصه وفي أهل بيته عموماً وقالوا: ليس فيها ـ أي بالوصية وفي حديث الغدير ـ عهد بخلافة ولا دلالة على إمامة»[78].

نقل الواقعة:

ومن المفيد أن ننقل أولاً الواقعة من سيرة ابن هشام ثم نعلّق عليها:

«قال ابن إسحاق: وحدّثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: لما أقبل عليّ رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمكة تعجّل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حُلّة من البزّ الذي كان مع عليّ رضي الله عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحُلل قال: ويلك اما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملّوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. قال: فانتزع الحُلل من الناس، فردّها في البزّ، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صُنع بهم»[79].

والغريب أن صاحب كتاب المغازي محمد بن عمر بن واقد، نقل القصة بتمامها، ثم كتب: «إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتُهم؟ قسمتُ عليهم ما غنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك، وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً: يُنفلون من أرادوا الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك فسكت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم»[80].

ولم يذكر الواقدي ما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تعليقاً على شكاية أهل اليمن، والذي ذكره ابن هشام في سيرته من مدح عليّ، وأنه يغضب لله، وأنّه قوي من ذات الله تعالى.. ولا أدري لماذا لم ينقل كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حق علي في تلك القصة؟!

ردّ التفسير الأول:

إن قصة أهل اليمن لا يمكن جعلها قرينة على حمل لفظ (المولى) على الناصر، أو المحب وما شاكل وذلك:

أولاً: إن أهل الشكاية إنما شكوا علياً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبل التاسع من ذي الحجة، وواقعة غدير خم في يوم الثامن عشر منه، فالذي ينبغي ـ لو كان الدافع إلى حديث الغدير هو تلك الواقعة ـ أن يأتي مدح علي بذلك الحديث في وقت وقوعها، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عقيب الشكاية في رواية ابن هشام:

«يا أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله من أن يشكى».

ولم يتكلم صلّى الله عليه وآله وسلم بكلام آخر غير هذا.

وثانياً: إن مدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ إذا كان على أثر هذه الواقعة ينبغي أن يكون مناسباً مع المقام، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه لأخشن في ذات الله»، وما شاكل ذلك، ومن الواضح أن حديث الغدير وما حفّ به من قرائن وعلائم قرن فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين العترة والكتاب، وجعل علياً مولىً للمسلمين، كما أنه صلّى الله عليه وآله وسلم مولى لهم. وهذا يناسب جعل علي عليه السلام إماماً على الأمة، ولا يريد صلّى الله عليه وآله وسلم أن يدفع عن علي عليه السلام اتهامات أهل اليمن إنما يريد إثبات مقام عظيم له، وهو مقام الإمامة بعده صلّى الله عليه وآله وسلم.

وثالثاً: وقع خلط في تاريخ الشكاية على عليّ عليه السلام، إذ إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث علياً إلى اليمن مرتين الأولى في السنة الثامنة، والأخرى في السنة العاشرة من الهجرة، والذي نقل في كتب التاريخ أن الشكاية على عليّ إنما كانت في البعث الأول أي السنة الثامنة الهجرية وليس في البعث الثاني أي: السنة العاشرة الهجرية، فقد روي أنه بعث رسول الله بعثين إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: إذا التقيتم فعلي على الناس، وإن افترقتم فكل واحد منكما على جنده، قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن، فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه، وقال بريدة: فكتب معي خالد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يخبره بذلك، فلما أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دفعت الكتاب، فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا تقع في علي فإنه مني، وأنا منه، وهو وليكم بعدي وإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي»[81].

التفسير الثاني: الحديث جواب لأسامة بن زيد:

ونقل بعض أن حديث الغدير إنما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على أثر نزاع شخصي بين أسامة بن زيد وبين علي عليه السلام حيث قال أسامة لعلي عليه السلام: لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال صلّى الله عليه وآله وسلم بعد أن سمع بالنزاع: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[82].

والجواب:

أولاً: إن أراد اُسامة أن علياً ليس مولاه، بمعنى ليس أولى به من نفسه، وأنه ليس كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقبل أن يثبت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إمامة علي على المسلمين. فإن هذا المعنى صحيح; لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد لم يجعل الولاية (الظاهرة) حسب الفرض إذ إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد لم ينطق بذلك الكلام. وإن أراد به أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقط سيده وأسامة عبد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأن علياً ليس سيده فمن الواضح أن أُسامة ليس عبداً رقاً للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو لعلي. وإن أراد أنه يطيع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقط ولا يطيع علياً عليه السلام أو غيره، فمن الواضح أن علياً عليه السلام لم يتأمر على اُسامة ولم يتأمر على أحد إذا لم يؤمّره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

وثانياً: حتى لو فرضنا أن منشأ كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث الغدير المرتبط بعلي عليه السلام هو النزاع الذي وقع بينه وبين أُسامة، فإن ذلك لا يوجب صرف معنى (المولى) عن معناه الظاهر فيه وهو الأولى إلى غيره، بل لعل هذا النزاع وكلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عقيبه يؤكد مولوية علي عليه السلام على أُسامة وغيره قبل يوم الغدير وبعده!! إذ معناه أن أولوية علي ثابتة على أُسامة حين النزاع وأن اُسامة تجاوز حده في رعاية حق علي عليه السلام.

التفسير الثالث: حديث الغدير كان جواباً لبريدة:

أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة[83] فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يتغير فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: يا بريدة! ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه»[84].

والجواب:

أولاً: ما تقدم سابقاً من أنه لم ترد شكوى على عليّ في بعثه الثاني إلى اليمن، إنما الشكاية كانت في البعث الأول أي السنة الثامنة، وحديث الغدير في السنة العاشرة من الهجرة، فلا يمكن أن يكون حديث الغدير جواباً لشكاية بريدة على علي عليه السلام التي تقدمت قبل عامين.

وثانياً: حتى لو سلمنا: أن قوماً، أو بريدة شكا علياً إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عند العود من بعثه إلى اليمن، فإن ذلك لا يوجب صرف معنى المولى إلى غير معناه الثابت أي: أولوية علي عليه السلام بالمؤمنين من أنفسهم كما هي ثابتة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، نعم لو كان النزاع والشكاية قرينة لفظية تصحح صرف لفظ (المولى) عن معناه وهو الأولى إلى معنى آخر من معانيه المتعددة لأمكن رفع اليد عن معنى الأولى المدلول للفظ المولى، ولكن من الواضح أن مجرد النزاع والشكاية على علي عليه السلام ليست قرينة لفظية توجب صرف اللفظ عن معناه.

التفسير الرابع: علي الأولى بالتفضيل:

وقيل: حتى لو اتفقنا مع الشيعة بأن لفظ مولى يعني الأولى، لكن إنما يصح الاستدلال بالحديث على إمامة علي عليه السلام على تقدير القول بأن الأولى هنا لا يراد به الأولى بالتفضيل والتعظيم والاحترام، وإنما يراد به الأولى من أنفسهم في أمرهم ونهيهم وتدبير أمورهم وشؤون حياتهم، ولكن إذا قلنا بأن المراد بالأولى هنا هو الأولى بالتعظيم والاحترام، فإن ثبوت هذه الأولوية لعلي عليه السلام لا يساوق ثبوت الإمامة له.

ويرد عليه:

أولاً: إن الظاهر من الأولى عند استعمالها مطلقاً ـ أي من غير قرينة لفظية أو مقامية ـ أن المتكلم يريد الأولى بأن يأمر وينهى فإن أُضيفت الأولى إلى الغير; وقيل مثلاً: الحاكم أولى من رعيته، فإن المراد به أن الحاكم أولى من الرعية في الأمر والنهي وإدارة أمورهم، وهذا المعنى يساوق معنى الإمامة.

وثانياً: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صدّر كلامه بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ألستُ بأولى من المؤمنين بأنفسهم؟» ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».

وهذا الصدر في كلام النبي فيه دلالة على أن المراد بالأولوية الثابتة لعلي في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» إنما هي الأولوية التي تناظر الأولوية الثابتة له صلّى الله عليه وآله وسلم وصرح بها في صدر كلامه، إذ المفروض أن جملة «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» معطوفة على صدر كلامه صلّى الله عليه وآله وسلم الذي ثبتت فيه أولويته على المؤمنين من أنفسهم، فيكون صدر الكلام دالاً على الأولوية الثابتة وأنها كأولوية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

التفسير الخامس: علي عليه السلام إمام بعد البيعة:

يرى ابن حجر في الصواعق أن علياً عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وله عليهم حق الأمر والنهي والطاعة، إنما ذلك بعد البيعة له ـ أي بعد الخليفة الثالث ـ وإلاّ لكان أولى بالطاعة والأمر والنهي في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وهذا مما لا يمكن الالتزام به[85].

والجواب

أولاً: إن هذا المعنى للحديث ـ أي أن علياً سيكون إماماً أولى بالمسلمين من أنفسهم بعد عقد البيعة ـ يعني أن علياً ليس مولى للذين ماتوا قبل البيعة له في خمسة وثلاثين من الهجرة، وهذا ينافي عموم مولوية علي عليه السلام لجميع المسلمين، سواء الذين ماتوا قبل البيعة لعلي والذين عاشوا بعدها.

ثانياً: أما ما قيل: بأنه لو حملنا الحديث على فعلية الإمامة لا الصلاحية أو الشأنية، فهذا مما يتنافى مع فعلية أولوية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالأمر والنهي والطاعة، فإن ذلك صحيح لو قلنا بأن المراد بإمامة علي إمامة مستقلة في عرض وجود النبي صلّى الله عليه وآله وسلم; ونحن لا نقول ذلك بل إنما نرى أن ولاية علي عليه السلام في طول ولاية النبي على الأمة وفي امتدادها، وليس في عرضها.

وثالثاً: لو كان مفاد حديث الغدير هو: أن علياً له حق الأمر والنهي والطاعة على الأمة وأنه أولى بالمسلمين من أنفسهم ولكن بعد البيعة، فإن هذا المعنى يشترك فيه كل من يظفر بالبيعة على وفق النظرية السياسية للمذاهب الأربعة السنية، فإن كل شخص تبايعه الأمة يكون أولى بالمسلمين من أنفسهم بعد البيعة، فلا يتميز علي عليه السلام بشيء، ولا معنى أيضاً لكلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث الغدير، وحاشاه عن ذلك، لأنه يريد فقط أن يقول: إذا بايعت الأمة علياً فهو صالح للإمامة، فيكون معنى كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وحاشاه ـ: لو صار علياً إماماً فهو صالح للإمامة!!!

وهذا المعنى صادق على كل شخص تبايعه الأمة للإمامة، بل هذا ـ على وفق المذهب السياسي لأهل السنة ـ يكون عبثاً في الكلام، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم يتنزه عن ذلك، فما هي ميزة علي عليه السلام عن الآخرين حتى يخصه النبي بذلك الخطاب تحت الشمس الحارقة، ولماذا هذه الآيات التي نزلت بلزوم التبليغ، ولماذا نزلت آية إكمال الدين بعد حديث الغدير؟!!

التفسير السادس: تقديم المفضول على الفاضل:

وهذا التفسير ما يستظهر من كلمات المعتزلة الظاهرة في التسليم بأن عليّاً أفضل الصحابة، وبالتالي هو أولى بمقام الإمامة لو لم تقم مصلحة تستوجب تقديم غيره عليه.

والجواب:

أولاً: لو كانت ثمة مصلحة من هذا القبيل لكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أولى من غيره بدرك تلك المصلحة، ولاقتضت تلك المصلحة تسمية الخليفة الأول لإمامة الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أجل استيفاء تلك المصلحة... وتكون تسمية علي بأنه مولى المسلمين بمعنى أنه إمام المسلمين فعلاً قبيحاً يتنزه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن فعله.

وثانياً: إنا نعتقد بأن تنحية علي عليه السلام عن مقامه فتح على الأمة ألوان المحن والبلوى، حيث افترق المسلمون إلى طوائف وفرق تتناصر على السلطان والمال كالجاهلية الأولى. وأية محنة وبلوى أكبر من هذه التي وقع فيها المسلمون نتيجة تنحية علي عليه السلام عن مقامه. ـــــــــــــــ

[1] مسند أحمد،2. رقم الحديث 915.

[2] مسند أحمد،4. رقم الحديث 906.

[3] مسند أحمد،6. رقم الحديث 1242.

[4] مسند الترمذي،8. كتاب المناقب ـ رقم الحديث 3646.

[5] سنن ابن ماجة،10. رقم الحديث 118.

[6] خصائص الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: 176 حديث رقم 94 و 95.

[7] ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 2: 53.

[8] شرح ابن أبي الحديد 2: 287.

[9] شرح نهج البلاغة 4: 4.

[10] الصواعق المحرقة: 122.

[11] تاريخ اليعقوبي 2: 112.

[12] المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين،18. المجلد الرابع: الخلفاء الراشدون:443.

[13] سورة المائدة: 67.

[14] الأصول من الكافي 1: 295.

[15] الارشاد،22. للمفيد: 94.

[16] الخصال: 166 حديث رقم 98.

[17] كمال الدين وتمام النعمة: 103.

[18] التوحيد: 212 ـ باب أسماء الله تعالى.

[19] معاني الاخبار: 63 حديث رقم1.

 [20] راجع كتاب كشف المهم في طريق خبر غدير خم.

 [21] سورة الحديد: 16 ـ 15

 [22] الشافي 2: 177.

 [23] سورة الحج: 78.

[24] تفسير الرازي 6: 210.

[25] سورة محمد: 11.

[26] الغدير 1: 367

[27] سورة محمد: 11.

[28] عدة رسائل: 186 للشيخ المفيد.

[29] شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 2: 174.

[30] النساء: 33; راجع تفسير الميزان 4: 363.

[31] التبيان في تفسير القرآن 3: 186.

[32] سورة الدخان: 42 ـ41.

[33] مجمع البيان 9: 101.

[34] سورة النحل: 76.

[35] تذكرة الخواص: 37.

[36] مجمع البيان 7: 528.

[37] سورة الاحزاب: 5.

[38] التبيان في تفسير القرآن 3: 187.

[39] تذكرة الخواص: 38.

[40] البداية والنهاية 6: 334.

[41] مجمع البحرين 4: 373.

[42] كتاب العين 8: 365،50. للخليل الفراهيدي.

[43] مفردات غريب القرآن: 523.

[44] على ما أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة كما روى ذلك ابن أبي الحديد 2: 20،53. طبعة مصر راجع كتاب الفصول المهمة في تأليف الأمة،54. للسيد شرف الدين: 105.

[45] صحيح البخاري 1: 37.

[46] صحيح البخاري 5: 137.

[47] تذكرة الخواص: 37 ـ 38.

[48] الشافي 2: 181.

[49] راجع الغدير 1: 362.

[50] جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 1: 118.

[51] هامش كتاب مبادئ الوصول إلى علم الأصول عن كتاب المزهر 1: 369.

[52] مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 76.

[53] تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: 262.

[54] جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 1: 118.

[55] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 20.

[56] تذكرة الخواص: 39.

[57] الغدير 1: 340. وراجع كتاب (خصائص الأئمة) للشريف الرضي: 43.

[58] تلخيص الشافي 2: 180.

[59] تذكرة الخواص: 36،70. وراجع شرح ابن أبي الحديد 3: 208.

[60] مسند أحمد،72. حديث رقم17749.

[61] الاحتجاج1: 136.

[62] وقد روى هذه المقدمة 1 ـ أحمد بن حنبل 2 ـ ابن ماجة. 3 ـ النسائي. 4 ـ الترمذي. 5 ـ الطبري. 6 ـ الذهبي. 7 ـ الدارقطني وخلق كثير من المحدثين العلماء.

[63] سورة المائدة: 67.

[64] شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 1: 189.

[65] شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 1: 192. وراجع الاحتجاج: 57.

[66] تفسير القمي 1: 171.

[67] تفسير الميزان 1: 60.

[68] تفسير الجلالين: 216.

[69] تاريخ دمشق فقرة رقم (569) من ترجمة علي بن أبي طالب عليه السلام وراجع شواهد التنزيل 1: 158.

[70] الغدير 1: 375.

[71] سورة المائدة: 55.

[72] شواهد التنزيل 1: 161.

[73] شواهد التنزيل 1: 168.

[74] الميزان في تفسير القرآن 6: 5.

[75] الميزان في تفسير القرآن 6: 5.

[76] مجموعة العقاد 2: 128.

[77] المراجعات: 202،90. كما ورد على لسان شيخ الازهر الشيخ سليم البشري وهو يحاور السيد عبد الحسين شرف الدين.

[78] السيرة النبوية لابن هشام 4: 603.

[79] سيرة ابن هشام 4: 603.

[80] المغازي 3: 1081.

[81] المراجعات،95. للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: 153.

[82] الغدير 1: 383.ش

[83] ولعل الجفوة ما تقدم في حديث خمس اليمن من حلل غنمها علي عليه السلام في غزوته حيث إن جيش علي عليه السلام لبس الحلل في ذهابه إلى لقاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثم يرى فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رأيه،98. أو تكون الجفوة منه لأنه لا تأخذه في طاعة الله ورسوله لومة لائم.

[84] راجع الغدير 1: 384.

[85] المراجعات: 206