الكعبة

مشاهد في طريق الحج الأخير

 

المشهد الأول:

في شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة اعلن النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم عزمه على حج بيت الله الحرام، وحملت نسائم الصحراء انباء الفرح، فراحت القبائل العربية تنثال الى المدينة لتنضوي تحت لواء آخر الأنبياء في التاريخ.

فتدفق عشرات الآلاف تاركين قراهم ومدنهم ومضارب قبائلهم.

و في الخامس والعشرين من الشهر نفسه تحركت القوافل باتجاه مكة مهوى الافئدة، وشهدت الصحراء لأول مرة تجمعات بشرية ضخمة بلغت مئة ألف انسان تطوي المسافات وهي تسير الهوينى صوب بيت بناه ابراهيم واسماعيل.  وفي الخامس من ذي الحجة الحرام دخل النبي مكة من باب السلام، وطاف حول البيت العتيق سبعة اشواط ثم انطلق الى جبلي الصفا والمروة، وهو يتمتم بآي القرآن الكريم: ان الصفا والمروة من شعائر الله، فسعى بين الجبلين، في حركة تذكر بام اسماعيل يوم كانت تبحث عن قطرة ماء لوليدها اسماعيل.

وارتقى جبل الصفا فأطل على الكعبة العظمى وهتف معلنا انتهاء الوثنية:

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي‏ء قدير. . . لا إله إلا الله انجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده.

و في عرفات وقف النبي خطيبا وراح يبين للمسلمين ثقافة الاسلام ومبشرا بعهد السلام:

ايها الناس اسمعوا مني أبين لكم فاني لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

ان دماءكم وامواكم حرام عليكم ان تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.

ثم اعلن الغاء العنصرية وتكريم الانسان.

ـ ايها الناس ان ربكم وحده وان أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.

ثم راح يؤسس لعهد جديد يسوده السلام والمحبة والوئام.

من كانت عنده امانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

ـ وان ربا الجاهلية موضوع، وان أول ربا أبدأ به هو ربا عمي العباس ابن عبد المطلب، لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.

وان دماء الجاهلية موضوعة، وان اول دم ابدأ به دم عامر بن ربيعة ابن الحرث بن عبد المطلب[1].

وكان يختم بياناته قائلا:

ـ ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

ولم ينس النبي أن يوضح ولو بشكل عام حقيقة كبرى هي الطريق الذي يتعين على المسلمين سلوكه بعد غياب آخر النبوات في التاريخ:

ـ ايها الناس انما المؤمنون اخوة ولا يحل لأمرى‏ء مال أخيه إلا عن طيب نفسه فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض فإني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

البلاغ المبين

انطوت أيام الحج الأكبر وآن لقوافل الحجيج ان ترجع الى ديارها، وراح اهل مكة يرقبون باعجاب وأمل، الجموع وهي تغادر الارض المقدسة حيث هبط جبريل يحمل آخر رسالات السماء .

وغادر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم مكة ونفسه مطمئنة لانتشار الاسلام الذي اضحى في مدة وجيزة الدين الأول في منطقة واسعة من العالم.

وصلت القوافل منطقة الجحفة حيث مفترق الطرق، كانت الشمس تتوسط السماء وتصب لهيبها على رمال الصحراء فتتوهج ذرات الرمال.

وفي تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله هبط جبريل يحمل البلاغ الاخير:

ـ يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.

ويبدو من خلال لهجة الخطاب القرآني التي اتخذت شكل الانذار ان هناك امرا خطيرا يتوجب على النبي ابلاغه الى الامة التي ولدت قبل اعوام.  فوجئت قوافل الحجيج بدعوة النبي بالتوقف في ارض جرداء قاحلة، فلا شجرة يستظل بها المسافر، ولا نبع يرتوي منه الظامى‏ء، وطافت علامات تعجب واستفهام عن بواعث الأمر النبوي!

لا يستطيع المرء أن ينفي هو اجس الرسول (صلى الله عليه وآله) وسلم في مصير الرسالة الاسلامية بعد رحيله، خاصة وانه بات يشعر بأن ساعة الرحيل قد أزفت ولم يبق له في الدنيا سوى مشوار قصير، وقد آن لآخر الانبياء أن يغمض عينيه ويغفو بسلام.

تطلع المسلمون الى النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم وهو يرتقي دوحات اعدها له بعض اصحابه، ووقف يتطلع الى عشرات الألوف من الذين آمنوا به واعتنقوا رسالته، وعيناه تحدقان في الآفاق البعيدة، الى حيث الغد الذي ينطوي على أسرار وحوادث لا يعلمها إلا الله.

وانسابت كلمات الرسول هادئة مؤثرة:

ـ كأني قد دعيت فأجبت... وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.

وكان علي بن أبي طالب قريبا منه، فاستدعاه وأمسك بيده وقدمه الى العالم بأسره قائلا:

ـ أ لست أولى بالمؤمنين من انفسهم، وازواجي امهاتهم.  فانطلقت الصيحات مؤيدة من هنا وهناك: 

ـ بلى يا رسول الله.

فهتف النبي وقد رفع يد علي عاليا كأنه يخاطب التاريخ والاجيال:

ـ من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه.

وادى الرسول رسالته، وهبط جبريل يعلن بشارة السماء:

اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا.

وتفجر نبع من الفرح في تلك الصحراء الملتهبة، واهتز حسان بن ثابت طربا وانطلق يردد ممجدا تلك اللحظات السماوية:

يناديهم يوم الغدير نبيُّهـمْ           بخمٍّ وأسمـعْ بالرسـول مناديا

وقال فمن موالكم ووليّكم           فقالوا ولم يُبدو هناك التعاميـا

إلهُك مولانا وأنت وليـُّنا            ولن تجدنْ منّا لك اليومَ عاصيا

فقال له قم يا عليُّ فإنـني           رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنتُ مولاه فهذا وليُّه           فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهـمّ والِ وليَّه          وكن للذي عادى عليّاً معاديا

ـ لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. ونهض الصحابة يحيون عليا ويهنئونه قائلين:

ـ بخ بخ لك يا علي اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!

وكان يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام يوم عيد وفرح، فقد كمل الدين وتمت النعمة .

المشهد الثاني:

وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم يوم النحر من حجة الوداع خطيبا:

ـ « اما بعد ايها الناس اسمعوا مني ما ابين لكم فاني لا أدري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، ان دماءكم واموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم وبلدكم هذا...».

«ايها الناس انما المؤمنون اخوة ولا يحل لأمري‏ء مال اخيه إلا عن طيب نفسه، فلا ترجعوا كفارا بعدي يضرب بعضكم اعناق بعض فأني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي ابدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي...».

انطوى موسم الحج، وغادر سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) وسلم مكة ومعه مئةألف أو يزيدون، التاريخ يشير الى يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة.

قوافل الحجيج تهوي في بطون الأودية، الشمس في كبد السماء وقد بدت وكأنها تتشظى لهبا، القوافل تصل مكانا [2] قريبا من الجحفة، حيث مفترق الطرق.

وغمرت النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم وهو على ناقته« القصوى» حمى الرسالات لقد هبط جبريل يحمل بلاغ السماء، وتوقف النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم وهو يتشرب انذارا سماويا:

يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.

وتوقفت عشرات الألوف وهي تتسائل عن السر في توقف النبي، في هذه البقعة الملتهبة من دنيا الله.

وانبرى بعض الصحابة يصنعون للنبي مرتفعا فلديه كلمات تامات يريد ابلاغها لعشرات الآلاف من الصحابة. . . والأجيال القادمة. . . والتاريخ.

كلمات الحمد والثناء لله تنساب من بين شفاه آخر الأنبياء كان علي واقفا قرب الإنسان الذي رباه صغيرا وعلمه كيف يحيا، قال النبي وعشرات الالوف تتطلع إليه:

ـ ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم؟

وجاء الجواب من عشرات الحناجر:

ـ بلى يا رسول الله.

وأذ النبي بيد علي ورفعها عاليا:

ـ من كنت مولاه فهذا علي مولاه...

و رفع آخر الأنبياء يديه إلى السماء:

ـ اللهم وال من والاه. . . وعاد من عاداه. . وانصر من نصره. . . واخذل من خذله.

وهبط جبريل يبشر محمدا (صلى الله عليه وآله) وسلم أنه قد ادى رسالته وقد آن له أن يستريح، لقد اكتمل الدين وتمت النعمة وقيل الحمد لله رب العالمين.

تلألأ الجبين الازهر عرقا. . تألقت حبات العرق كقطرات الندى وقد انطبعت كلمات السماء فوق شغاف قلب وسع الدنيا والتاريخ:

ـ« اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» .

المشهد الثالث:

وتمر الأيام. . وينطلق رسول السماء الى حج بيت الله. . . واختارت السماء« غدير خم» في طريق العودة وهبط جبريل:

ـ يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته.

ـ والناس؟

ـ الله يعصمك من الناس.

الرمال تشتعل لهيبا لا يطاق. 

وتوقف النبي فتوقف معه مئة ألف أو يزيدون، وعلامات استفهام ترتسم على الوجوه وتوقف التاريخ يصغي لما يقول آخر الأنبياء:

ـ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

بلى يا رسول الله.

من كنت مولاه فهذا علي مولاه. . . أيها الناس ستردون علي الحوض وأنا سائلكم عن الثقلين.

ـ وما الثقلان يا نبي الله؟

ـ كتاب الله وعترتي أهل بيتي.  ومضى التاريخ لا يلوي على شي‏ء. . . وعادت قوافل الحج الأكبر تستأنف رحلة العودة إلى الديار وقد دخل الناس في دين الله أفواجا وهبط جبريل يتلو على الرسول آخر آيات السماء..

ـ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا.

وشعر النبي ان مهمته في الأرض قد انتهت وآن له أن يستريح ولكن...

ـــــــــــــــ

1ـ ورد في السير ان قبيلة هذيل كانت قد اعتدت عليه وقتلته.

2ـ غدير خم.