دور الثورة الحسينية في نهضة الأمة الإسلامية
إن الثورة التي قادها الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الحاكم الجائر (يزيد بن معاوية) مغتصب الخلافة الإسلامية وراثةً عن أبيه كانت ثورة هادفة إلى إصلاح مسيرة الأمة بعد الفساد الذي طرأ عليها، وكانت قمة الانحراف قد حصلت وتحققت من خلال استلام يزيد للخلافة وإدارة شؤون الأمة الإسلامية مع ما هو عليه من مواصفات الكفر والنفاق والزندقة والانحراف عن الصراط المستقيم. وقد أوضح الإمام الحسين (عليه السلام) رفض مبايعته ليزيد بالخلافة بالنص المشهور عنه وهو (إنّّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ فاسق فاجر شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة (ومثلي لا يبايع مثله)[1]. هذا الموقف الحسيني الرائع المنطلق من عمق الرسالة الإسلامية أدّى إلى أن يستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) ومن معه من أهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه المخلصين ويدفعوا حياتهم ثمناً لهذا الموقف الرسالي الإيماني الجهادي. والموقف الذي اتخذه الإمام الحسين (عليه السلام) من يزيد ليس موقفاً من شخص يزيد، بل هو موقف من كل حاكم ظالم لا يطبّق شرع الله وقانون المسلمين في إدارة شؤون العباد والبلاد الإسلامية، وقد استَشهَد الإمام الحسين (عليه السلام) بالنصوص الواردة عن جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الذي رواه عنه والذي جاء فيه: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله(صلى الله عليه وآله) )[2]. وهذا المقطع هو ما أضافه الإمام الحسين (عليه السلام) كتطبيق لكلام جده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإظهار فساد النظام الأموي ووجوب الثورة عليه حفظاً للإسلام ولمسيرة الأمة وإيقاظاً وتنبيهاً للمسلمين من الأخطار المحدقة بهم مع خليفة كيزيد كما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) نص آخر يبرز فيه مصير الأمة التي يحكمها يزيد فيقول: (عليه السلام) (إنَّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليَت الأمة براع مثل يزيد)[3]. وهكذا سار الحسين (عليه السلام) إلى موطن استشهاده في كر بلاء وارتحل إلى الله تعالى مقدماً صورة رائعة وزاهية ومشرقة عن التضحية والفداء والإيثار في سبيل دين الله ورسالته، وقدّم يزيد وجلاوزته وجلادوه أبشع صورة عن الحاكم الظالم المستبيح لكل الحرمات والحدود في سبيل الحكم الدنيوي الزائل. ولهذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الحديث المعروف: (كُلُّ أَرْضٍ كرْبَلاء وكُلُّ يَوْمٍ عَاشُورَاء)، لأن كل أرض تسفك فيها الدماء المحرًّمة على أيدي الجبارين الظالمين هي كربلاء لأن كربلاء صارت أرض الرمز والمثال لكل بقعة من العالم تراق فيها دماء الأبرياء على يد السفهاء، وكل يوم يُسفَك فيه الدم الحرام وتُزهَق فيه أرواح الشرفاء علي يد أهل الكفر والنفاق هو يوم عاشوراء، لأن ذلك اليوم صار رمزاً خالداً لكل الأيام التي يسقط فيها أهل الحق على أيدي أهل الباطل. فالإمام الحسين (عليه السلام) ومن استُشهد معه من أهل بيته وخالص أصحابه عندما قاموا بتلك التضحية، فهي بلا شك لم تكن بلا هدف أو غاية، بل لا شك أن كل ذلك كان من أجل هدف عظيم ونبيل ومشرق وهو (تصحيح مسار الأمة والحاكم ليتوافق مع الصراط المستقيم الذي أمرنا الله بالسير عليه) وهذا ما أوضحه الإمام الحسين (عليه السلام) عندما قال معبراً وموضحاً لأهداف ثورته (ألا وإنّي لَمْ أَخرُج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين). وهكذا صار الإمام الحسين (عليه السلام) القدوة والمثال والنموذج الحي الخالد لكل الثوَّار والمجاهدين والأحرار في العالم، ولكل من رفع رايةً لقتال الظالمين، يضع نصب عينيه تضحية الحسين (عليه السلام) لكي يقوي عزيمته ويشد إرادته ويصمم على المضي في سبيل الجهاد حتى نيل الشهادة كالحسين (عليه السلام) أو تحقيق النصر المبين على الكفر والكافرين، وبذلك بقي الحسين (عليه السلام) حياً في القلوب والنفوس والعقول، ولم يغب منذ كربلاء وإلى اليوم لحظة من وجدان الناس وضمائرهم وحواسهم ومشاعرهم. وما يهمنا من هذا الموضوع اليوم هو، توضيح الصورة التي ينبغي أن نقيم فيها عاشوراء، وكيف نحييها، وكيف نحولها إلى فعل ثوري جهادي ينبض بالحياة والحيوية والقدرة على تحريك الجماهير لتثور ضد الظلم والعدوان والاحتلال وضد كل من يحاول قهر إرادة الناس والجماهير ليستقوي عليهم ويصادر حريتهم وقرارهم ويجعل حياتهم حياةً مليئة بالذل والهوادة والخنوع. إن الذي يحقق التفاعل مع الثورة الحسينية ومع شعاراتها هو، تحويل ذلك التفاعل إلى جهاد وصبر وإرادة وعزيمة وقوة وقدرة وبأس وشدة على أعداء الإسلام والأمة الإسلامية وعلى رأسهم في منطقتنا الإسلامية الكيان الغاصب للقدس الشريف ولفلسطين، وفي العالم الشيطان الأكبر (أمريكا) التي تريد الهيمنة والتسلط على العالم وفرض إرادتها على الشعوب من دون احترام لتاريخهم أو حضارتهم مع السعي لإذلالهم واحتقارهم. وقد رأينا كيف استطاعت المقاومة الإسلامية المظفَّرة في لبنان أن تقهر العدو الإسرائيلي وتجبره على الانسحاب ذليلاً منهزماً وذلك بشعار (هيهات منّا الذلَّة) وهو شعار (الحُسَيْنُ) وبشعار (مَوْتٌ في عِزّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ في ذُلٍّ)[4] وهو شعار آخر للحسين (عليه السلام). ورأينا كيف أن المجاهدين من أبناء هذه المقاومة كانوا يتسابقون للجهاد والشهادة لكي تدركهم ويلتحقوا بالركب الحسيني من الشهداء والمجاهدين ولكي يكونوا أفراداً وجنوداً في جيش الشهداء الذي يقوده الحسين (عليه السلام) يوم القيامة على مرأى من الجمع الكبير للناس يوم الحساب، وهناك يتمنى كل إنسان لو كان مجاهداً واستشهد ليكون في ذلك الجيش العظيم الذي بذل جنوده أرواحهم في سبيل الله عز وجل. من هنا ينبغي أن نهتم لأمر الثورة الحسينية المباركة التي أنتجت لنا كل هذا العز والفخر والشرف والكرامة وسموّ المنزلة عند الله وعند الناس، وأن نحافظ على نقاوتها وصفائها، وأن نعرضها على الناس بالطريقة التي تشدهم إلى الحسين (عليه السلام) وإلى التأسي به والإقتداء بنهجه وسيرته وجهاده وتضحياته. ومن هنا أيضاً ينبغي الابتعاد عن كل مظهر سلبي من مظاهر إحياء هذه المناسبة الجليلة، لأن المظاهر السلبية تنفر الناس وتبعدهم عنها وهذا يخالف وصية الأئمة الذين (عليهم السلام) قالوا لنا: (كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا)، (أَحْيُوا أَمْرَنَا رَحِمَ الله ُمَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا)[5].
-------------------------------
[1] ـ اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس الحسيني ص17. [2] ـ بحار الأنوار 44: 381. [3] ـ بحار الأنوار 44: 326. [4] ـ مناقب آل أبي طالب ج3 ص224. [5] ـ وسائل الشيعة 12: 20.
تعليقات الزوار