نظرية الجهاد عند الإمام الخميني - قراءة وتأملات
بقلم: خالد توفيق
ليس من باب الإطراء والمديح المجاني، أو من باب المصادرة على المطلوب أن أسمح لنفسي باستحضار عدد من النصوص التي تمارس لحظة إنارة مكثّفة للمشهد الذي يدور من حوله البحث.
فعن فرادة مرجعية الإسلام، واستحواذها على الفعل التغييري على الأرض، وعمق الحضور الخميني في إذكاء المكنون الديني وتفجير طاقات الفاعل الإسلامي على امتداد الرقعة الإسلامية، نقرأ قي نص دال: "نلاحظ أنّ ملايين المسلمين في إندونيسيا والهند وبنغلادش وباكستان وتركيا يجدون الإسلام ملاذاً ومرجعاً. ولكن مما لا ريب فيه أنّ انتصار الخميني في إيران هو الذي أشاع الموضوعاتية الدينية ورسّخها وجعلها تحلّ محل الاتجاهات العلمانية للثورة العربية والاشتراكية"[1].
على أنّ معاني هذا النص تسفر عن وجهها أكثر حين نقرأه مجدولاً مع نص آخر يكشف عن محنة المسلمين مع الغرب، هذا الغرب الذي "يعرّفنا كما يشاء، وهو بقدرته الفائقة على تسمية الأشياء، إذ يسمّينا، يحدّد ماهيتنا: من نحن وما نحن؟ وبالتالي يقرر موقعه وأسلوب معاملته لنا... وفي كل الأحوال هدفه بالنسبة إلى الآخر هو أن يخصيه بالمعنى الفرويدي للكلمة كشرط للهيمنة عليه كليّاً"[2].
ما العمل؟ وكيف يُصار للعرب والمسلمين مواجهة فعل الخصي الغربي الذي يتم بالاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام؟ أثمّة كابح ينزع الصاعق ويعطّل هذا الداء المستشري كالوباء؟ نقرأ في تتمة النص السابق: "من هذا المنظور تبدو الردّة البطركية الجذرية الخمينية، على أنها الردّة الوحيدة الفعّالة والقادرة على حماية الهيئات السياسية، على مجابهة هذه الهجمة ووضع حدّ لعملية الخصي التي يمارسها الغرب كثقافة وقوة وإعلام"[3].
هذا النص سبق حرب الخليج الثانية وتداعياتها على المنطقة، كما سبق ما راح يواجهه العالم، ولاسيّما منطقتنا بعد تفجيرات العمق الأمريكي في أيلول عام 2001م، ومن ثم فهو يكتسب حاضراً أهمية مضاعفة ولا تقلّل من قيمته اصطلاحات من قبيل "البطركية" و"الردة" التي استعارها هشام شرابي من علم الاجتماع الغربي الذي يبسط هيمنته على العقول!
على هذه الخلفية يأتي هذا المقال، وهو يقدم خطوطاً عريضة في فكر المواجهة ونظرية التحريك عند الإمام الخميني, بعيداً عن ادّعاء التنظير, ومن دون أن يزعم الإحاطة، إيماناً من صاحبه بأنه رغم الإنهاك الموجع والانكفاءات الكبيرة المدمّرة، فلا يزال بمقدور المنظومة الخمينية فكراً وممارسة، أن تقدّم بدائل أخرى غير تلك التي توحي بها الأجواء المحمّلة بالإحباط واليأس على كثرة دواعيها.
1- تجاوز المستحيل الغربي
تتجه آليات الوضع في ظلّ التحوّلات الحاضرة في المنطقة والعالم، إلى تأكيد روح الهزيمة وترسيخ حالة الركود لدى الشعوب، في مقابل تضخيم متواصل في هيبة القوى الغربية ولاسيّما أمريكا وركيزتها "إسرائيل" في منطقتنا. على أنّ أوضاع المنطقة نفسها تغري بتغذية هذه الحالة ومدّها بما يعززها؛ نتيجة الإخفاقات المتراكمة.
إلى جوار ذلك تأخذ بعض أنماط الثقافة دورها الكبير في إشاعة حالة العجز، كما هو حاصل في التضخيم المُبالغ به للعولمة وما شابه ذلك؛ مما يوحي بعدم جدوى أي عمل في زمن يوصف بأنه "زمن الإنهاك السياسي والتراجع"، ويدلهمّ الأفق تماماً فيتمخض عن "إجماع جديد" فحواه: "لا بدائل أخرى"[4] عن الواقع الحاضر، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما هو كائن.
ثم إذا كان العالم "يبدو في عيون الشباب أقل فتنة وسحراً، وبين الأوروبيين والأمريكيين الناعمين بالرخاء تبدو آفاق المستقبل كئيبة بائسة"[5] فما بالك بمجتمعاتنا وشبابنا التي يطحنها الاستبداد وينخر بها اليأس الناشئ عن تغييب الكرامة وفرص العمل والرفاه المعقول واحتكار السلطة وتراكم الثروات بِيَد أقلّية وشيوع الطبقات الطفيلية وازدهار الثقافة إلى آخر ما تضمّه اللوحة الكئيبة لمشهد الحياة من حولنا!
في جوّ مُكفهر معتم مثل هذا، محاط بأسيجة رفيعة من التنظير لـ "النهايات"، نهاية التأريخ، نهاية الإنسان، نهاية العمل، نهاية الطبقة المتوسطة، نهاية الرفاه، نهاية الأيدلوجيا، نهاية الدولة إلى آخر القائمة، مبهور بـ "ما بعد" زاخر بجنوح متطرّف وطفولي إلى القطيعة مع "ما قبل"، كما هو الحال في صيحات ما بعد الحداثة، ما بعد العقل، ما بعد الإنسانية، ما بعد السياسة، ما بعد المجتمع، ما بعد الدولة، ما بعد الدين؛ في أجواءٍ كهذه مغرمة بحديث النهايات والمابعديّات تزدهر جزمية واحدة اسمها أحادية الخيار الغربي وبالذات الأمريكي، وتترعرع ثقافة استحالة التغيير فضلاً عن المواجهة فالانتصار.
هذه الصورة التي قد يظنّ بعضهم أننا بالَغنا في رسم ملامحها، هي أول ما يواجهها الفكر النهضوي للإمام الخميني، وقد كانت بالفعل الشرارة الأولى في نهضته التي أطلّت علينا كإنجاز مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي.
فحين أطلق الإمام مبادرته كان "اليأس والسواد [يُريان] فوق كلّ شيء، ولغة المستحيل هي خطاب الأمة الهامس والجاهر"[6] كما الآن. لذلك جاء التحدّي عنيفاً يجسّده إصرار الإمام وعزمه في قوله: "يجب أن نُخرج من عقول الشّعب كلمة (اللا ممكن) ونحل محلّها كلمة (الممكن)"[7].
التحليل الخميني باختصار، يقول:
1ـ بإمكان المواجهة وجدواها، وبهذا "حطّمت إيران مقولة أنه لا يمكن لأي دولة الخروج عن طاعة القوى الكبرى، وأثبتت أنّ إرادة الشعوب أقوى من الشيطانين الكبيرَيْن، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، اللذين حاولا شقّ الخلاف بين السنّة والشيعة وبين الإثنيّات المختلفة من أكرادٍ وتركمان وغيرهما"[8].
2ـ بإمكان التغيير وتحقيق الانتصار.
3ـ ويؤسس أصلاً من أصوله عبر التمييز بين القوّة والهيبة فيولي أهمية للهيبة.
أمريكا مثلاً قوية ليس في ذلك ريب، إلا أنّ هيبتها أكبر من قوّتها، وهي تحقق بهذه الهيبة أكثر مما تحقق بالقوة نفسها، والمطلوب خمينياً وعي ذلك، والتركيز على كسر الهيبة أكثر من مواجهة القوة.
4ـ يقول التحليل الخميني أيضاً بقوّة اسمها "قوّة الضعفاء" قادرة على خلخلة بُنى قوّة الأقوياء، عبر النفوذ من ثغراتها وما أكثرها. وهذا هو الخيار الأكثر جدوى في أوضاع العالم الإسلامي ومجمل الرقعة الموسومة بالعالم الثالث.
5ـ غير أنّ لذلك كله شروطه التي تنطلق من تحليل يفيد: أنّ فاعليّة الإنسان المسلم -بل أي إنسان- مكبّلة بالشلل الروحي والمعنوي، ومقموعة بعقدة الخُواف أو الخوف المضخّم. وأول مُنطَلقَين على الطريق تحرير الإنسان روحيّاً ومعنوياً ثم تطهيره من عقدة الخُواف، ثم تتوالى العناصر الباقية لكي يأخذ كل واحد منها موقعه في منظومة الفكر الخميني.
ركود الطاقة الروحية
ينظر الإمام الخميني في زاوية هذا التحليل، إلى أنّ المشكلة الأساسية للشعوب تكمن ـ أولاً ـ في ركود طاقاتها الإنسانية والروحية؛ لذلك فإن إرادتها مكبّلة بفعل قيود السلطات المحلية وثقافات الغرب المنحرفة (التغريب)، وأنّ حواجز الخوف والتهيّب من الأنظمة المحلية والقوى الكبرى تشلّها عن الحركة، بل وحتى مجرد التفكير بتغيير أوضاعها؛ بمعنى أنّ افتقاد أو ركود الطاقة الإنسانية والروحية يلعب في الفكر النهضوي للإمام دوراً معادلاً لِمْا أطلق عليه المرحوم مالك بن نبي: "القابلية للاستعمار" في سلسلة تحليلاته عن المشكلات الحضارية للمجتمعات الإسلامية.
مقولات الفكر النهضوي الخمينيّ أكّدت كثيراً وطوال ثلاثة عقود متوالية على هاتين النقطتين تحليلاً وكشفاً لهما. وفي مقابل ذلك تحرّكت نهضة الإمام لمعالجة هاتين النقطتين من خلال حلّين يستهدف الأول: إعادة بناء الإنسان معنوياً وإنسانياً، وذلك إزاء الطاقة المهدورة، فيما يستهدف الثاني: بعث العزم في إرادة التغيير والحركة عبر كسر حاجز الخوف.
والملاحظ أنّ ثمّة جدلاً واضحاً (علاقة ترابط) بين التشخيصَيْن والحلَّين.
فالإنسان الخالي من الطاقة الروحية والمعنوية لا يستطيع أن يُعمل إرادته في التغيير والحركة؛ وبذلك سيكون أرضاً خصبة لتلقّي حاجز الخوف، حيث تنمو لديه وتكبر عقدة الخوف بشكل مضخّم، وتستحيل في حساب إرادته أية حركة أو حتى مجرّد النية في التغيير.
وبالعكس، فإن الإنسان أو الشعب الذي تتدافع داخله القوّة المعنوية والطاقة الروحية والإنسانية، فإن زخمها لابدّ أن يحرّر إرادته من قيود الخوف الوهمي المضخّم.
لذلك وجدنا أنّ مقولة هذا التحليل تمثّل في فكر الإمام النهضوي خطاباً مركزياً، حيث تُشيّد أسسه على اكتشاف هاتين العقدتَين المعيقتين الحركة والنهضة, والتوفّر على معالجةٍ نظرية- عملية لهما.
من هنا نرى أنّ نصوص النهضة تفيض في الكشف عن هذه المعاني، وهي مكثّفة في حمل هذه الدلالات. ففي أهمية الطاقة الإنسانية وقيمتها يواجهنا نصّ خميني: "إنهم كانوا يخشون الطاقة الإنسانية. لقد جرّبوا -في التجارب السابقة- أنه ربما وقف إنسان واحد أمامهم ومنعهم من إهدار مصالح الشعب. ولذلك فإن تخطيط الأجانب الذين يريدون استغلالنا، هو أن لا يوجد إنسان".
في نص آخر يطالعنا سماحته بالقول: "من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلّفة، ويحولوا دون إصلاحها ونموّها". وفي المقابل يضيف الإمام، فإن: "من أعظم الخدمات أن يسمحوا لطاقتنا الإنسانية بالتكامل والنمو".
من هذه الزاوية بالذات تتمثّل مهمة الإسلام، كما يقول الإمام في أنه "يربّي الإنسان ليكون إنساناً في جميع الحالات". لذلك انصبّت جهود الأنظمة المحلية والثقافات الغربية على تدمير الإنسان وتفريغه من الداخل؛ لجعله مشلول الإرادة، مسكوناً بالقلق والخوف والعجز، وبالتالي مذعناً مستسلماً لإرادتهم ومناهجهم وسياستهم.
وعليه، يكون الإنسان في نصوص النهضة الخمينية، وكما يشير لذلك الإمام مكرراً، هو مركز الهزيمة أو النصر.
الإنسان الصالح العامر بالطاقة المعنوية والروحية قادر على تغيير العالم بأجمعه؛ هذه الحقيقة بقدر ما جسّدها الإمام في وجوده المبارك، وبقدر ما تجسّدت في وجود الصالحين من الأسلاف، فإن سماحته عبّر عنها بقوله: "يمكن لإنسان صالح واحد أن يربّي عالَماً بأكمله. ويمكن أن يجرّ إنسان فاسد طالح، العالم إلى الفساد".
التبعية الروحية
في ضوء ما سلف يقرر الإمام أنّ "من الممكن القضاء على التبعية العسكرية خلال شهر أو بضعة أشهر. وهكذا فإن التبعية الاقتصادية يمكن تلافيها. إلا أنّ القضاء على التبعية الروحية والإنسانية صعب جداً "لاحظوا دقّة التعبير، وأغلب الظن أننا لم نلتق أبداً في أي تحليل لمفكر أو مثقف أو رائد للنهضة والإصلاح بمصطلح "التبعية الروحية والإنسانية".
وبذلك يدخل المصطلح في جملة الإبداعات التي يختصّ بها الفكر النهضوي للإمام الخميني. هذا عن العقدة الأولى التي تقف عقبة كَأْداء في حركة التغيير والنهوض. وسبيل تجاوزها أن يعمر وجود الإنسان وحياة الشعب بالطاقة الروحية ويحيا من خلالها وتتأكد ذاته الإنسانية بها.
عقدة الخوف المضخّم
أما بالنسبة إلى العقدة الثانية، أي عقدة الخوف المضخّم، وهي الحالة التي يصطلح عليها علم النفس بـ "الخُواف" التي تنتج بالنسبة إلى الشعوب من الإرهاب المنهجي المبرمج، فأمامنا النص الآتي المثقل بالدلالات والذي أدلى به الإمام للطلاب السائرين على نهجه بعد احتلالهم السفارة الأمريكية في طهران، حيث قال سماحته: "من الخطط التي مارستها القوى الكبرى، وتابعتها الدول الصغيرة في ذلك، هي إخافة الشعوب للوصول إلى مآربها. فلقد شهدتم شائعات السافاك في عهد غصب السلطة من قِبَل محمد رضا المخلوع، حتى كانت كل عائلة تظن بأنها إذا تفوّهت بكلمة واحدة عن الشاه فستعاقب على ذلك. وأشاعوا أن السافاك متواجد في كل مكان".
الطريق الأفضل لتجاوز عقدة "الخُواف" وإلغاء مفعولها، يتمثّل كما يحدّده الإمام الراحل، بإعادة بناء طاقة الشعب الروحية والمعنوية، ثم دفع الشعب في مواجهة شاملة ضد النظام لإسقاط هيبته، وتجاوز حالة "الصنمية أو الوثنية" التي ترمز إليها. يشير الإمام لذلك بقوله: "إذا أرادت الشعوب التصدّي لحكومة (ظالمة) أو قوة كبرى، فيجب عليها أن تحطّم الأوثان، تحطّم أولئك "الظُلاّم" الذين تصدّروا الزعامة".
بناءً على ذلك نجد الإمام يختزل القيم المتعددة في نهضة الشعب الإيراني، ويعود بها، على هذا الصعيد، إلى قيمة واحدة هي الأصل الذي تتفرّع منه القيم الأخرى. يقول سماحته في التعبير عن هذه القيمة: "المهم أننا نملك شعباً واعياً حطّم الخوف وأزاله. وإنه اليوم لا يخشى شيئاً، بينما كان يخشى في العهد البائد شرطياً.
إنّ هذا الشعب استطاع بصرخاته العالية أن يحطّم القوى ويطيح بالطاغوت الحاكم في إيران بعد أن أبعد الخوف عنه".
نخلص في نهاية المطاف إلى أنّ التحليل الخميني لمشكلة النهضة وانبثاق حركة التغيير نحو الإسلام تكمن -على صعيد الموضوع الذي نتناوله- في استلاب الإنسان والشعب وفراغهما أو ركود طاقتهما الروحية والمعنوية، ووقوعهما في الخطوة الثانية ضحية عقدة "الخُواف" أي الخوف المضخّم. لذلك لا سبيل أمام الإنسان المسلم والشعوب المسلمة سوى بناء طاقاتهما الروحية وتجاوز عقدة الخوف المضخّم.
هذا هو جوهر الخطاب النهضوي وأساس المقولة التغييرية في فكر الإمام على صعيد إحياء الشعوب لذاتها وابتعاثها لهويتها؛ لتتحرك في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستكبار الخارجي، ولكي تنطلق على قاعدة الاستقلال نحو البناء، بناء الذات والمجتمع والمستقبل.
كسر الهيبة
في حديث لقائد النهضة الراحل مع "الطلاّب السائرين على نهج الإمام" -وهم الطلبة الجامعيون الذين ارتبط اسمهم باحتلال السفارة الأمريكية بطهران- أعاد سماحته تأكيد فلسفة النهضة من خلال تجاوز حاجز الخوف، بل ارتقى بقيمة الإنجاز الإسلامي المعاصر إلى مستوى وجود شعب متحرّر من عقدة الخوف واعٍ لمسؤولياته، فقال: "المهم أننا نملك شعباً واعياً حطّم الخوف وأزاله من الوجود، وإنه اليوم لا يخشى شيئاً، بينما كان يخشى في العهد البائد شرطياً. إن هذا الشعب استطاع بصرخاته العالية أنّ يحطّم الطاغوت الحاكم في إيران ويطيح به، بعد أن أبعد عنه الخوف"[9].
ما ينبغي الانتباه إليه على نحوٍ دقيق أنّ الإمام الخميني يؤمن بأن عناصر التحرّر في كل شعب كامنة فيه، بَيْدَ أنها قد لا تظهر وتحتجب في بعض الفترات الزمنية؛ نتيجة الخوف والاضطهاد والإنهيار المعنوي الناشئ عنهما، لكن على أهل النهضات ورجالها وقادة التغيير أن لا يُوجموا إذا مرّت الشعوب بركود مؤقت. فالنهوض والجمود يخضعان لسنّة الإدبار والإقبال, بحسب توافر شروطهما الموضوعية.
على سبيل المثال كان بمقدور الاتحاد السوفيتي السابق أن يحتل بآلته العسكرية الثقيلة بلداً مسلماً كأفغانستان، وهذا ما حصل، بَيْدَ أنّ آلة السيطرة والقمع لم تستطع أن تقتلع إمكانات النهوض النفسية الكامنة في الشعب الأفغاني المسلم، بل كان بحاجة إلى مفتاح يحرّض هذه الإمكانات ويفجّرها، ويحوّل حالة الاتّقاد الباطن إلى اشتعال ظاهر وبركان يبثّ الجهاد والمقاومة في كل الأرجاء.
هنا يأتي دور العمليات التضحوية والفدائية الاستشهادية التي يصفها الإمام بقوله: "قيمة الأعمال الفدائية التي يقوم بها الشعب الأفغاني تتمثّل بتحطيمه الصنم الذي صنعوه للأفغانيين، صنم التخويف الذي يلوّح بالموت لكل من ينبس ببنت شفة ضدّ السوفييت"[10].
عن أمريكا يطالعنا نص جديد يميّز فيه الإمام على نحو دقيق بين حدود القوّة الاستكبارية وفضاء هيبتها، فيحرّك عبر هذا التمييز الإرادة الإسلامية المتحررة ويحرّضها ضد القوة المتدثّرة بالهيبة: "ينبغي للمسلمين أن لا يهابوا الضجيج والطبول الفارغة والدعايات المغرضة، إذ إنّ قصور الاستكبار العالمي وقدراته العسكرية والسياسية أشبه ببيت العنكبوت، هشّ سهل التمزّق". على ضوء ذلك قدّم الإمام معطيات واسعة تأتي كثمار ونتائج لتحرير إرادة الإنسان, ثم قدرتها على منازلة مرتكزات القوة الأمريكية، بعد إقصاء هيبتها من النفوس والعقول والأرض.
في إطار هذا الفهم نستعيد حادث احتلال السفارة الأمريكية في طهران، إذ لا تعنينا الآن دلالته السياسية وملابساته الأخرى، وإنما تكمن أهميته عبر قراءة مدلولاته من خلال التمييز الذي يقيمه الإمام بين القوة والهيبة، وكيف أنّ ضرب الثانية يعدّ خطوة لا محيد عنها لإعادة التوازن المفقود في معادلة المسلمين -الغرب.
لذلك كله كانت المنهجية الخمينية في التحريك والمواجهة تعتمد أساساً قبل كل شيء، على قاعدة ضرب هيبة الولايات المتحدة في التكوينات النفسية والشعورية للشعوب، من خلال الطَرق العنيف على مرتكزات مختارة بعناية من مراكز قوّتها تتكثّف فيها دلالات الزهو والهيبة، حيث يقود ضرب هذه المرتكزات إلى انفعالات واسعة في المركز الأمريكي، نفسه، وأصداء عميقة في الوسطَيْن السياسي والشعبي.
في هذا السياق تندرج واقعة احتلال السفارة الأمريكية في طهران، وتفجير السفارة الأمريكية في لبنان، وضرب مقرات مشاة البحرية (المارينز)، وقضية ماكفارلين وقصة الاتصال الأمريكي الفاشل بطهران منتصف الثمانينات.
أما على نطاق العالم الإسلامي فيمكن تقديم تجربة حزب الله في لبنان ووقائع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وما رافقها من عمليات استشهادية، بوصفهما من أفضل النماذج التي استجابت لمبدأ المواجهة من ضربات متوالية وعنيفة على مواقع الهيبة, لخلخلة القوة وإعادة التوازن المفقود على الأرض بين المستضعفين والمستكبرين.
على أنّ الإمام بقي متمسّكاً بهذا النهج؛ لاستيعاب تطورات الأشهر الأخيرة في الحرب العراقية-الإيرانية عندما أطلّت بوادر التدويل برأسها من خلال استدعاء بعض الأنظمة الإقليمية لمظلة الحماية الأمريكية، إذ كان رأيه، بالنص، في اجتماع للقيادة العسكرية-الإيرانية: "لو كنت مكانكم لضربت أول سفينة أمريكية تدخل المنطقة".
كان الإمام يفكّر بتوجيه صفعة عنيفة لطلائع القوة الأمريكية في المنطقة، ولماّ لم يحصل ذلك لأسباب لسنا بصددها، بادرت أمريكا إلى استخدام المبدأ نفسه، من خلال التصدّي العنيف والشرس لبعض مرتكزات الوجود الإيراني الاقتصادية والعسكرية وأخيراً المدنية عبر إسقاط طائرة الإيرباص، مما كان له أثره البليغ مع عوامل أخرى في تحديد النهاية التي انتهت بها الحرب فعلاً.
2- جدلية الداخل/الخارج
يعيش الإنسان في العالم الإسلامي محنة مزدوجة بين استبداد الأنظمة وقمعها, وضغط القوى الكبرى ونهبها وطغيانها، خاصة أمريكا وركيزتها "إسرائيل" التي تهدد بالمزيد في ظل الاستخذاء الرسمي وتواصل الانهيار الداخلي. هذه بديهة لا مجال للشك فيها.
ما العمل؟ ومن أين ينبغي أن تنطلق حركة التغيير، من مواجهة الأنظمة أم مواجهة القوى الغربية وتل أبيب؟ يطرح الفكر الخميني وجهَي العُملة معاً، ويواجهنا تحليل الإمام: بأن الإنسان في العالم الإسلامي محاصر من الجانبَين، وأنّ عملية التغيير تواجه التناقض الداخلي مع الأنظمة في الداخل والتناقض الخارجي مع قوى السيطرة الدولية والتحديات الصهيونية من الخارج، ومن ثم لا مجال لكسر هذا الحصار وإطلاق فعل التغيير وتحريره من التعطيل إلاّ بالمبادرة إلى حل هذين التناقضين الأساسيين.
ولهذا يقدم الفكر الخميني على هذا الصعيد جملة من المبادئ، هي:
1ـ ينبغي للشعوب أن تحل تناقضها الداخلي مع الأنظمة؛ لتصل إلى حدّ أدنى من التوافق يسمح لتحشيد الطاقات ضدّ التحدّيات الخارجية.
2ـ إذا لم تستجب الأنظمة للشعوب ـ وهي في الأغلب لا تستجيب ـ فلا يبقى أمام الشعوب إلا أن تخوض المواجهة مع الداخل أولاً، حتّى إذا ما تحررت من التناقض الداخلي بات بمقدورها أن تتجه صوب التناقض الخارجي.
3ـ لا معنى للحديث عن مواجهة الخارج منطقياً، ولا يمكن ذلك عملياً وموضوعياً، والشعوب مكبّلة داخلياً بقمع الأنظمة وبطشها، ومن ثم تتقدم مشكلة الأنظمة على مشكلة الغرب السياسي وتل أبيب على مستوى العمل، وإن كان ينبغي أن لا يغيب الخطر الأمريكي والإسرائيلي عن وعي المسلمين حتى وهم يخوضون المواجهة الداخلية، سواء أخذنا بنظرية النيابة أو التبعية أو المركز والأطراف أو أي نظرية أخرى في تحليل وضع هذه الأنظمة.
4ـ بقدر ما يتعلّق الأمر بإيران كنموذج عملي على فاعلية فكر الإمام في النهضة، يلحظ أنه لم يدخل في مواجهة مع نظام الشاه من أول لحظة، بل جرّب خيار الإصلاح الداخلي للسلطة عبر النصيحة والوعظ وما سوى ذلك على أعلى مستوى، مجمّداً –مؤقتاً- لوازم نظريته في ولاية الفقيه وما تمليه من عدم مشروعية نظام الشاه، حتى إذا استنفد هذا الخيار طاقاته انتقل إلى خيارات أقوى في الضغط على النظام، قبل أن يصل معه إلى خيار اللاعودة والمواجهة الشاملة بعد أن وصل النظام نفسه إلى القطيعة الكاملة مع شعبه، فكان لابدّ من تفجير التناقضات الداخلية للسلطة ضدّ الشعب تفجيراً جذرياً يتجاوز خيارات المصالحة وأنضاف الحلول ومبادرات الإصلاح التي لم تعد ذات جدوى. وهكذا أصبح هدف النهضة داخلياً هو إسقاط النظام واستئصال مرتكزاته من الجذور.
الفقرة الأخيرة هذه تضعنا أمام مبدأ مهم جداً في العمل التغييري، فليس المطلوب، بدءاً ودائماً، الدخول في مواجهة مع أنظمة الداخل إذا كان في الإمكان تحقيق معايشة بين الشعب والسلطة، تضمن مديات الحدّ الأدنى في عمل الداخل وتسمح بمواجهة التحديات الخارجية، لاسيّما الأمريكي والصهيوني، ومن ثم فإن تغيير الأنظمة الداخلية لا يعد، موضوعياً، وعلى صعيد الوجود الخارجي، مبدأً حتمياً مطلقاً لابدّ منه مادامت التناقضات الداخلية، خاصة تناقض السلطة ـ الشعب لم يبلغ ذروته القصوى، وإن كان كذلك نظرياً، إذ لا مكان لمشروعية هذه الأنظمة على ضوء منظومة الفكر السياسي للإمام الخميني وخاصة نظرية ولاية الفقيه.
بعد هذا الاختزال الذي نرجو أن لا يكون مخلاًّّ ننتقل إلى النصوص، ونفتتحها بنص مبكر سعى فيه الإمام إلى تدارس مشكلات المسلمين مع ممثليهم ممن حضر إلى طهران في إحدى المؤتمرات الفريدة التي لم تتكرّر بعدئذٍ، من حيث مستوى الحضور ونوعيته.
ففي مؤتمر القدس الذي عقد بطهران في آب/1980م، تحدث الإمام إلى ضيوفه منبّهاً إلى أنه: "ينبغي أن نفكر في جذور المشكلات التي تعمّ المسلمين ونجد لها الحلول اللازمة"[11]. ثم راح يثير بين أيديهم الأسئلة الصريحة التالية: "لماذا ظل المسلمون في أنحاء العالم يرزحون تحت سطوة الحكومات والقوى الكبرى؟ ما هو السبيل إلى حل موضوعي لهذه المشكلة؟ أين يكمن سرّ قوة المسلمين للتغلب على هذه المشكلات لتتحرر من ثمَّ القدس وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟"[12].
عند ما ينتقل إلى الجواب لا يُخفي الإمام انحيازه إلى الشعوب، بل تبرئتها بما تصمه به تحليلات النخبة على اختلاف مشاربها، حتى الدينية منها، من أوصاف ترمّيها بالجهل والغيبية واللاعقلانية لتبرئة ذمتها وتخليص نفسها من المسؤولية. المشكلة بنظر الإمام تقع خارج دائرة الشعوب: "تكمن مشكلة المسلمين الأساسية في الحكومات المسيطرة على مقدّراتهم. إنها الحكومات التي أدّت بالمسلمين إلى هذا الوضع الذي هم عليه الآن.
إنّ مشكلة المسلمين لا تكمن في الشعوب، فهذه الأخيرة قادرة على حل مشاكلها بفطرتها الذاتية، بل هي تكمن بالحكومات المتسلّطة على رقابهم"[13].
ما الحل؟ وكيف تتجاوز الشعوب مشكلة الأنظمة، أبالمواجهة أم بغيرها؟ يقول الإمام في حديثه إلى المؤتمر نفسه: "إذا عادت الحكومات مع الشعوب إلى الإسلام الأول فَبِها، وإلا فإنه يتوجّب على الشعوب أن تفصل مصيرها عن حكوماتها... إنّ المشكلة لا تنحل إلا بإزاحة هؤلاء"[14].
هذا من حيث المبدأ النظري، أما من حيث العمل فدعونا نقف هنيهة مع النموذج الإيراني، وكيف سار الإمام في العلاقة مع النظام الملكي، من النصيحة والإصلاح إلى التغيير الانقلابي الشامل، بعد أن بلغت تناقضاته طريق اللاعودة والقطيعة الكاملة مع الشعب.
الثنائيات المتناحرة وتناقضات الداخل
عمل نظام الشاه على غرز الثنائيات المصطنعة في جسم المجتمع وتفكيكه على شكل توزيعات متناقضة متباينة تقوم على التضاد والتناحر ونفي بعضها بعضاً؛ وذلك أسوة ببقية الأنظمة التابعة في عالمنا الإسلامي التي جاءت إلى السلطة إثر مرحلة سايكس-بيكو.
وربّما كانت أبرز الثنائيات المصطنعة التي عطّلت إرادة الأمة وكرّست الأوضاع الرسمية للأنظمة التابعة، بل كانت بمنزلة عوامل حيوية ساهمت في مركزة أوضاع السلطة وشلّ الفاعلية الخصبة للمجتمعات، هي الثنائيات الآتية:
أولاً: الجيش ـ الشعب.
ثانياً: المثقفون ـ الحوزويون.
ثالثاً: الأغنياء ـ الفقراء.
رابعاً: السلطة ـ الشعب.
خامساً: الإثنية أو الانتماء المديني ضدّ الإثنيات والمدن الأخرى.
هذه الأشكال هي من الثوابت المشتركة التي يمكن أن نلحظها في المجتمعات الإسلامية كافة. وفي الوقت نفسه بمقدور التحليل النظري أن يسجل إضافات لثنائيات تناحرية أخرى يشهدها كل مجتمع على نحو خاص تأتي بالإضافة إلى ما هو مشترك بينها، ففي إيران مثلاً أشاع الشاه تناقضية الفرس ـ العرب، وفي إطار النسيج الاجتماعي فضّل العنصر الفارسي على بقية القوميات، رغم أنّ في إيران ست قوميات أساسية وأنّ العنصر التركي فيها يفوق عددياً العنصر الفارسي. وكتناقضية تمزّق الوحدة المذهبية التي تنتظم انتماء الأغلبية الاجتماعية، حيث شجّع النظام نمو وازدهار الحركة البهائية كمعادل موضوعي للتشيّع!
بالنسبة إلى نموذج المجتمع الإيراني، الذي كان طوال عقود التبعية ضحية هذه الاستقطابات المصطنعة وصريع فعلها التناقضيّ المدمّر الذي أسست له السلطة التابعة، نحتاج إلى بعض الإيضاحات على مستوى بعض الثنائيات.
فإذا كانت ثنائية الجيش ـ الشعب راسخة في وعي أبناء العالم الإسلامي وهي كذلك بالنسبة إلى الشعب الإيراني، فمن المهم أن نشير إلى أنّ الوعاء العام لثقافة إيران يقوم على أساس الإسلام، وفي البلد قدم راسخة لحوزة علمية ذات حضور تاريخي استطاعت أن تقود العمل الثقافي خلال عقود مديدة.
بَيْدَ أنّ تمحور الجهد الثقافي حول الحوزة لا يعني نفي الجهود الثقافية من خارجها، ولكن النظام أسس لعلاقة النفي والقطيعة تحت رعاية الغرب من خلال نخبة متغرّبة صُنعت على عينيه وجُعلت في مقابل الحوزة، وبالنهاية في مقابل المجتمع نفسه.
على أساس هذه الثنائية وفي صعيد توالداتها ترسّخت علامة الانفصال ونمت القطيعة بين المثقف ورمزه الطالب الجامعي، وبين الحوزوي الذي يرمز لأصالة ثقافة المجتمع ويؤشّر لتأريخيتها.
والعجيب الذي يبعث على الدهشة أنّ مثقفي النخبة لم يكونوا في علاقة نفي مع الحوزة وحدها فحسب، بل هم منفيّون اجتماعياً باغترابهم الاجتماعي.
هذا النمط من التجزئة دمّر البنية المنسجمة المتنوّعة بغير تناقض للمجتمع الإيراني؛ لذلك انصبّت جهود الإمام الراحل على معالجتها في سياق مشروعه لوحدة المجتمع. من الملاحظات أيضاً أنّ التجزئة المنبسطة في ثنائية الأغنياء ـ الفقراء لم تكن من طراز الثنائيات الطبقية فحسب، إنما تغلغلت في عمق العلائق الاجتماعية وأخذت تعيد صياغة البنية الاجتماعية على نحو آخر.
طهران العاصمة مثلاً ومعها كل المدن الكبيرة انقسمت إلى شمال الأغنياء وجنوب الفقراء، وأضحى الفارق شاسعاً في كل شيء بين الشمال والجنوب.
المراكز الثقافية، المراكز الخدمية والترفيهية، رياض الأطفال، الحدائق العامة، السينما، المدارس، المستشفيات، الشوارع، الأبنية، درجة النظافة، فخامة المحلات التجارية، الأسواق، لهجة التحدّث وطبيعة الأداء الاجتماعي كلها، وغيرها كثير، عادت لتتموضع على أساس الانفصال بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب، على طريقة الثنائيات المتناحرة التي ينفي بعضها بعضاً، وقد تنامى النفي -وهو شكل خطير من أشكال التجزئة- على أسس تنظيرية وثقافية خطيرة ساهمت بشكل مهم مع العوامل الأخرى، في الدفع نحو الانفجار الثوري.
أخيراً نلحظ أنّ كافة أشكال التجزئة وسياقاتها الآنفة، تعود في نهاية المطاف إلى تكريس قوة السلطة ضدّ الشعب، وفصل بعضها عن بعض، حتى نستطيع القول: إنَّ أمّ الثنائيات التجزيئية ومركزها تمثّلت في السلطة ضدّ الشعب.
غني عن القول أنّ تراكم آثار الثنائيات التجزيئية الآنفة لن يُمكّن من حلّها سلمياً خصوصاً بعد أن تجمّعت في ثنائية السلطة ضد الشعب، فلا وعظ الإمام الخميني للشاه وبِطانته قد نفع، ولا أفادت إرشاداته المتوالية طوال الفترة التي سبقت عملية التغيير الشامل.
كذلك لم يكن الحل ممكناً من الداخل من خلال الاندماج في بنية السلطة وتصحيح أوضاعها بما يضمن نزع فتيل الانفجار والقضاء على الثنائيات المصطنعة، فنظام الشاه لم يكن ليسمح لأحد بأن يخترق منظومته السلطوية، وبالتالي لم يسمح بتصحيح العلاقة مع الشعب, بل عمد بدلاً من ذلك إلى القمع والإرهاب والقتل ومصادرة الصوت الآخر.
التفجير أم الاستيعاب
لم يكن الحل ممكناً إذاً إلاّ بالتغيير النوعي، من خلال تفجير البنية السياسية التي يقوم عليها النظام نفسه، والتي تحتضن الثنائيات المصطنعة، والقضاء على الأرض التي تنمو عليها، لإعادة اللحمة إلى المجتمع من خلال الوحدة التي تضمّ المتنوّعات وتطرد التناقضات والصراعات.
لذلك تحرّك الإمام نحو تفجير وضع السلطة نفسها (مركز التجزئة والخلاف) وقد حرص على الخطوات التالية في طريق تنفيذ هذا الهدف:
أولاً: يدرك الإمام بثاقب وعيه أنّ السلطة لم تكن مركزاً للتجزئة, ولم ينصبّ جهدها على اصطناع الثنائيات المتناحرة، إلا لكونها أداة للغرب وتابعة لأمريكا؛ لذلك ارتكز مشروعه الوحدوي على وعي هذه النقطة ومعالجتها بتدمير السلطة المحلية (نظام الشاه) وقطع التبعية للخارج، للتلازم الضروري القائم بين العملَين، وإلا فإن إفناء السلطة المحلية لا يقضي -مع الإبقاء على التبعية- على عوامل التجزئة والثنائيات المتناحرة.
ثانياً: في الوقت الذي بقيت فيه السلطة المحلية هدفاً للإمام فإن جهوده لم تقتصر عليها، بل تحرك في جهد موازٍ نحو السلطة وثنائياتها معاً. فعالج -والسلطة لم تسقط بعد- قضية إعادة الوحدة بين المثقف الجامعي والعالم الحوزوي، وتحرك في خط مواز آخر للإخاء بين الجيش والشعب، وبقدر ما استطاع بين الأغنياء والفقراء، وكان كلما اقترب نحو الأمام خطوة في هذا الاتجاه، ضعّف السلطة ونزع أسلحتها الواحد تلو الآخر.
وفي اللحظة التي انهارت فيها السلطة كانت الثنائيات المصطنعة مستعدة للتحرك بالاتجاه الجديد، خلا استثناءات وبقايا قليلة.
ثالثاً: لم يلغ الإمام الخميني التنوّع، بل رام أن يطهّر المجتمع من الاستقطابات والثنائيات التجزيئية وعلاقات النفي والتناحر القائمة فيه. فالجيش ضرورة ولكن في غير فصام مع الشعب، ودور المثقف مطلوب ولكن بغير قطيعة مع الأصالة الثقافية، والتكنوقراط (ذوو الاختصاص) حاجة لا يمكن الاستغناء عنها ولكن في غير قطيعة بين العلم والدين.
والأغنياء موجودون في كل مجتمع، ولكن يفترض أن يكون وجودهم بغير مركب طبقي يطوي في داخله ثقافة خاصة منفصلة وتكوين اجتماعي متباين مع البناء الاجتماعي العام.
وما يُلحظ من رواسب حالة التجزئة والثنائيات المصطنعة إنما هي أمور لا تملك المشروعية في خط الإمام، ولا تمتّ إلى خط الثورة الإسلامية بصلة، ولا إلى القيم المُرادة للمجتمع الجديد، والخط كما نعلم هو المعيار وهو الحاكم على الممارسة وليس العكس.
خلاصة الكلام في منهج الإمام لإعادة المجتمع الإيراني إلى خط الوحدة: أنه دمّر السلطة التي هي مركز التجزئة والتناحر، بوصفها المرجعية الأخيرة التي تحتمي في إطارها كل خطوط التجزئة والثنائيات المصطنعة. ثم قطع مع الخارج، مع الغرب وأمريكا التي كان النظام يدين لها بالتبعية، مع تحصّن بمفهوم الاستقلال الكامل عن الشرق والغرب للحذر من الوقوع في تبعية بديلة عن التبعية للغرب.
وفي الداخل أراد للمجتمع أن يتحرك باتجاه المؤاخاة وفكّ الثنائيات والقضاء على علاقات النفي والتناحر. عن أخوّة الجيش مع الشعب في مسار العلاقة الجديدة، يقول الإمام: "أسأل الله أن يوحّد بينكم أنتم أبناء القوات المسلحة، وبينكم وبين الشعب أكثر من أي وقت مضى".
وفي نص طويل نسبياً يتحدّث الإمام عن خلفية العلاقة التجزيئية بين المثقفين وعلماء الدين، ويطالب بتوجيهها نحو سياق آخر، فيقول رحمه الله: "إنّي أحذّر علماء الدين المحترمين في أي مكان كانوا، من أنّ الشياطين قد يبدءون ببثّ الدعايات ضدّ الشباب الجامعي وغيرهم.
إنّ على علماء الدين أن يعلموا أنّ الواجب يدعو اليوم بأن تتحد جميع طبقات الشعب ضدّ القوى الشيطانية؛ لأن مخطط الطامعين وعملائهم في عهد الطاغوت كان يهدف إلى الفصل بين هاتين الفئتين، وقد نجح في مسعاه مع الأسف, مما أدى إلى جرّ البلاد إلى الضياع.
إنهم يزمعون تنفيذ هذا المخطط مرّة أخرى، وإنّ أية غفلة ولو صغيرة سوف تؤدي بنا إلى الضياع، إنّي آمل أن لا تغفل فئات الشعب وخاصة هاتين الطبقتين المحترمتين عن المؤامرات والدسائس، وأن تعمل على إحباط مخططات الأعداء بوحدة الكلمة".
هذه هي الخطوط النظرية في مشروع الوحدة الخمينية, وفي طبيعة التحليل الذي يقدمه للتجزئة على الصعيد الاجتماعي. ونجاح المشروع يتوقف على الممارسة العملية, وما يحققه التطبيق من إنجازات واقعية، والخط في نهاية المطاف حاكم على التجربة العملية وليس العكس. والوحدة خارج الثنائيات ليست أمنية بل هي بصيرة نظرية ومثابرة سلوكية تبرز القدوة والنموذج، وألا يتحوّل كل شيء إلى شعار يسقط قيمة المشاريع والأفكار.
3- عقدة الحقارة ومركّب النقص
لقد كانت واحدة من كبريات أسس الحضور الغربي في معركة النهضة، هي غرسه لعقدة الحقارة على المستوى النفسي والشعوري في العالم الإسلامي، أو ما يطلق عليها بعقدة الخواجة أو عقدة الشعور بالحقارة والإحساس بالدونية إزاء الآخر، عزّزتها عوامل داخلية وقوّاها طول الأمد بمحنة التخلّف الضارب بشعابه في كل شيء تقريباً.
العقدة هذه لم تبقَ في إطار الشعور النفسي والإدراكي, وإنما كان لها أثرها في الوعي الفكري وفي السلوك الاجتماعي أيضا.
بمقتضى هذه العقدة عاشت الشعوب الإسلامية خلال العقود الأخيرة وهي تشعر بأزمة إزاء ذاتها، وتحسّ بالضعف والعجز والاستلاب أمام الغرب. لقد أدّت العقدة هذه إلى أن يقعد المسلمون أو جلّهم لانتظار كل شيء من الغرب، وباتوا في شكّ ليس في قدرتهم وحقهم في الحياة وفي مواقع الحضارة العالمية فحسب، وإنما في حقّهم بوجودهم، وبأن يحققوا ذاتهم من خلال إسلامهم!
في إطار هذه العقدة وفي ظل أجوائها وما أنبتته من أفكار، وأشاعته من مفاهيم ذابت الكثير من القدرات وتلاشت، وعُطّلت ممكنات الحركة، وانغرست في المقابل، الأنظمة السياسية والاتجاهات الفكرية التغريبية التي أوصلت المسيرة الغربية إلى الغايات التي تنشدها، حتى أصبح المسلمون -كما ذكرنا آنفاً- في شك من كل شيء حتى من وجودهم ومن حقّهم في هذا الوجود!
العقدة في نصوص الإمام
القول النهضوي للإمام الخميني حلل العقدة في سياقها التأسيسي وفي مراحل نموّها وصعودها تاريخياً وصولاً إلى الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي.
لدينا من نصوص الإمام الراحل ومواقفه وفرة كافية لمتابعة الظاهرة (عقدة الخواجة أو عقدة الشعور بالحقارة) وما يقترحه سماحته من حلول لتجاوزها، وفيما إذا كانت الشعوب المسلمة عاجزة حقاً عن تحقيق ذاتها وتحقيق تقدّمها في إطار مشروعها الذاتي كالأمم الأوروبية أو أنها تعيش وَهْم العجز فقط؟
يواجهنا ابتداءً نص خميني في المقصود من عقدة الخواجة يقول فيه الإمام: "لقد نسي (المسلمون) الشرقيون مفاخرهم كلها ودفنوها ووضعوا الآخرين مكانها". ثم يضيف رحمه الله واصفاً الحالة: "كل هذه ظلمات والطاغوت هو الذي نقلنا من النور إليها، الطواغيت في العصور الأخيرة وفي زماننا أشعلوا هذه الفتن الغربية فنسبوا كل شيء إلى الغرب.. نقلوا إلينا كل موضوع من الغرب. وحتى جامعتنا في ذلك الزمان (زمان الشاه بالنسبة إلى إيران) كانت جامعات غربية. ثقافتنا واقتصادنا كانا غربيَّين لقد نسينا أنفسنا حقاً وأجلسنا مخلوقاً غربياً في مكاننا!".
بعد أن يعطي هذا النص الخميني للفكرة وضوحها ينتقل الإمام على صعيد البيان إلى مثال طبيعي يقول فيه: "أتذكّر أنّ أحد أقرباء محمد رضا (بهلوي) الملعون أصيب بالتهاب في اللوزتين وأحضروا له طبيباً من أوروبا لإجراء العملية الجراحية، إنّ هذا الأمر يفهمنا بأن الذي احتل رئاسة البلاد غصباً -ويعرف بإسم الشاه-! يعتقد بعدم وجود طبيب إيراني لإجراء عملية اللوزتين في كل إيران!؟".
ثم يعلّق الإمام الراحل على آثار هذه الواقعة وكبير قدرتها في تعميق عقدة الاستلاب والعجز أمام الشعب في اختصاصاته ومؤسساته الطبية فيقول: "تعرفون جيداً تلك الضربة التي لحقت بالطبّ الإيراني بهذا العمل. يالها من خيانة لشعب إيران أن يجعل الشعب يعتقد بعدم وجود طبيب يتمكن من إجراء عملية اللوزتين في جميع أرجاء إيران!!". ثم يضيف رحمه الله: "كم يساعد هذا العمل الاستعمار والغرب وكم يقضي على كرامة شعبنا؟".
وبعد أن يضرب الإمام الراحل مثالاً آخر لعقدة الحقارة التي من معانيها الإنبهار الأعمى, والإعجاب الغبي بكل ما هو غربي وتجاهل كل ما هو ذاتي ومحلي، مع شعور بالعجز عن العطاء والاستجابة للتحدّي, وعدم تفهمّ حقّنا كمسلمين في الوجود والحياة، بعد كل ذلك يأسف الإمام الراحل لعمق تغلغل الظاهرة في وجودنا، وما تؤدي إليه من شلّ لقدراتنا، بحيث يجعل الاستقلال والتحرّر، والتقدم والتطوّر، أموراً مستحيلة، فيقول: "عندنا الأطباء، ولكن عقولنا غربية وحتى أطباؤنا فإن عقولهم غربية أيضاً! عندما تراجعهم يقولون: اذهب إلى أوروبا! لقد فقدوا أنفسهم. لقد فقدوا وفقدنا قدرتنا وقضينا على كرامتنا ووطنيتنا، فإن لم يتحرر هذا الشعب من التأثّر بالغرب، فإنه لن ينال استقلاله، مادام مؤلفونا بهذا الوضع؛ إذ عندما يبحثون عن موضوع ويريدون أن يضربوا مثلاً، فلا يستشهدون إلاّ بقول فلان الغربي الأجنبي! ما دامت هذه التبعية موجودة فلن تحصلوا على الاستقلال!".
العقدة على مستوى العالم الإسلامي
لا تقتصر "عقدة الخواجة" أو عقدة الشعور بالحقارة والنقص أمام الغرب، والإنبهار الغبي بكل ما هو غربي، والتنكّر الجاهل الأحمق لكل ما ينتمي إلى عقيدتنا ووجودنا وتقاليدنا وأعرافنا الحياتية وموروثنا التاريخي والحضاري، لا تقتصر على بلد من بلاد المسلمين دون آخر، وإنما هي حالة سادت -ولا تزال- تسود الشعوب الإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة.
والإمام الخميني حين ينتقل بالظاهرة من حدود إيران إلى مجال العالم الإسلامي، نراه يقول: "إنّ مخطط نزع البلدان المستعمرة عن هويتها، وتغريبها وتشريقها، هو من المخططات التي كان لها -مع الأسف- تأثير بالغ على البلدان وعلى بلدنا العزيز، وقد بقيت نسبة كبيرة من آثارها حتى عادت هذه البلدان لا ترى نفسها ولا ثقافتها وقوّتها بشيء، وترى في القطبَين القوييَّن الغرب والشرق، العنصر الأفضل، وثقافتهما هي الأسمى وأنهما قِبلتا العالم"!
لقد ولدت "عقدة الخواجة" في أوساط الشعوب الإسلامية عبر مخطط طويل استغرق عقوداً مديدة من عمل الغرب من خلال أجهزته المباشرة، ومن خلال الفئات التي تعيش بيننا بأجسادها لكنها تفكّر بعقول غربية.
أحسّت الشعوب الإسلامية بهذه العقدة يوم انتبهت إلى قوة أوروبا وتفوُّق الغرب في مجالات الحياة المختلفة، في الصناعة والتكنولوجيا وفي المناهج والنظريات، فيما أصيب المسلمون بالتخلّف والعجز عن مواكبة التقدم وتحصيل أسبابه. وقد رسّخت هذه الحالة في المسلمين -أو قطاع مهمّ منهم- استلاباً خطيراً انطبع عملياً بالإحساس بالعجز عن إنجاز أي شيء، والإنبهار بكل ما هو أجنبي، إضافة إلى تنكّر قاسٍ لذواتهم وشعوبهم وعقائدهم. وكان للنخب الثقافية دورها في جميع ذلك.
مسلكان للعقدة نفسي وثقافي
سرت "عقدة الخواجة" في أوساط المسلمين بمساريَن متوازييَن في المستوى مختلفيَن في العمق. فعلى المستوى الأول تحركت العقدة من خلال فئة المثقفين المتغرّبين الذين تنكّروا لكل ما يمتّ إلى الإسلام بصلة، وعاشوا مثلهم الأعلى من خلال الغرب. وعلى المستوى الثاني نفذت العقدة عبر تكوّنها في حالة نفسية عامة سادت الشعوب الإسلامية، وأخذت تعبّر عن نفسها بعجز هذه الشعوب عن الإبداع وإحساسها بالخجل لِما له صلة بواقعها الديني وأعرافها المحلية وتقاليدها الخاصة.
لقد شهدت الشعوب الإسلامية بتأثير الغرب وضغط ثقافته, وبالدور الفعال الذي لعبته النخب المتغرّبة انقطاعات كبيرة عن الإسلام، وعن ثقافتها الخاصة حتى على صعيد الملبس والمأكل وباقي ظواهر السلوك الإنساني الأخرى.
فالنخب المثقفة التي قادت بعض مسارات التغيير أو كان لها على الأقل دور في ذلك، كانت نقطة بدايتها أن جعلها الغرب تعيش حالة الخجل من أية رابطة تصلها بالدين وبالشرق.
وكأمثلة على هذه الاتجاهات، التي سرعان ما تحوّلت إلى تطلّعات وحركات لها وزنها في العمل السياسي والاجتماعي، يمكن أن نذكر الكمالية في تركيا والبورقيبية في تونس، وأخذت النزعة ذاتها تزدهر وتنمو في إيران منذ أواخر العهد القاجاري وخلال العهد البهلوي بمرحلتيه.
على أساس الإحساس بهذا الخجل من الإسلام والانقطاع عن الشرق، يعلل المثقف العربي القومي "منح الصلح" تأييد الغرب لأمثال هذه الحركات، إذ يقول عن الكمالية والبورقيبيّة، مثلاً: "لقيت هاتان الحركتان من تفهم الغرب وإعجابه ومساندته ما فاق كل حد. والسبب أنّ هاتين الحركتين تنطويان على الخجل من التراث الإسلامي والرابطة مع الشرق"[15].
هذا الشعور الذي حمله المثقفون المتغرّبون لم يبق في نطاق الدائرة النفسية والإدراكية، بل تحوّل إلى تنظير، وإلى تيار فكري. ففي الساحة العربية كان الشرط الأول لكي يندرج الإنسان في الدائرة الثقافية، ولكي يمارس العمل الثوري، هو أن يعلن أولاً تنصّله من الإسلام. لنرجع إلى منح الصلح الذي يعيد هذه الظاهرة بصراحة إلى تأثير الاستعمار، فنراه يقول: "وقد نجح الاستعمار في إقناع بعض (المثقفين الثوريين) بأن الثورة في الحياة العربية إنما تبدأ بأن تكون ثورة على شعائر الإسلام وطقوسه... فعلى الثوري في منطق هؤلاء أن يبدأ عمله بإعلانه إلحاده، أو لا إسلامه على الأقل". ثم ينسب هذه الظاهرة في مكان آخر إلى الاستعمار الثقافي، حين يقول: "نجاحان حققهما الاستعمار الثقافي: المثقف الذي يؤمن أن لا سبيل إلى التقدم إلا على أنقاض الإسلام و..."[16] كان من نتائج هذه الحالة انقطاع هذه الفئات عن الإسلام ومحاولتهم قطع مجتمعاتهم عنه أيضاً، وزجّها بشكل كامل في أتون العلاقات والنظم الغربية.
في إيران، أخذت هذه الدعوة بالانخراط الكامل في الغرب وإعلان الإفلاس والانكسار أمامه، تتجلّى في التيار المتغرّب (غرب زده، بحسب المصطلح الإيراني الشهير) الذي يكتب أحد رموزه نصاً: "ما تحتاج إليه إيران اليوم، وما يجب بذل الجهود لتحقيقه، وتقديمه على الأمور الأخرى، هو أشياء ثلاثة هي: أولاً: قبول الحضارة الأوروبية والترويج بها بلا قيد أو شرط. ثانياً: التسليم المطلق لأوروبا. ثالثاً: أخذ جميع الآداب والعادات والرسوم والتقاليد الغربية، مع أصول التربية والصناعة والحياة وكل ما يمت إلى أوضاع الغرب بصلة دون أي استثناء. ثم يعود هذا الكاتب المتغرّب ليلخّص ما يريده وهو يعيش عقدة الحقارة إزاء الغرب، بقوله: يجب أن تكون إيران متغرّبة ظاهراً وباطناً وجسماً وروحاً"![17]
لقد عمد هذا التيار إلى تخدير المجتمعات وإقناعها بالعجز عن أيّ إنجاز, ودفعها لتسليم كل شيء بيد الأجانب، كما يعبّر عن ذلك قطب آخر من أقطاب التيار المتغرّب في إيران، وهو يكتب: "من الصعب إصلاح إيران، بل من غير الممكن تحقيق ذلك، إلا بواسطة الأجانب"![18]
العلمانية نبتت على هذه الأرضية النفسية والإدراكية، كما كانت هذه الحالة هي الباعث إلى بلورة وعي شعبي جماهيري رافض للنخب المثقفة، حينما أتيحت للجماهير فرصة إدراك المرامي الخطيرة التي تحرّك التيار التغريبي في أوطانها.
وفي كل الأحوال، عاشت الفئات المثقفة بثقافة التغريب والشعوب المصابة بعقدة الخواجة، تناقضاً كبيراً في حياتها أقضّ مضاجعها، وجعلها تحسّ بتمزّق مدمّر في ذاتها، فبينما هي تعيش على أرضية إسلامية، وتنتمي إلى تربة شرقية، نرى أنّ تطلّعاتها وعقولها مشدودة نحو الغرب، دون أن تتمكّن من الإندماج به والتواصل المطلق معه؛ لأنه موضوعياً -ورغم كل شيء- يمثّل النقيض الحضاري والثقافي والسياسي لها، على الأقل في القرنين الأخيرين.
وحالة الانقطاع هذه عن الإسلام والتواصل المتوتر غير المنتظم ولا المنسجم مع الغرب، عبّرت عن نفسها من خلال مظاهر شوهاء بليدة ومضحكة تظهر عقدة الخواجة.
بدوره يعبّر الإمام الخميني الراحل عن البعد النفسي للظاهرة ويكشف تالياً عن آثارها الموضوعية، حين يشير سماحته بأن مخطط القطبين: "أوجد في أنفسنا حالة عميقة من الرهبة تجاه مظاهر تقدمهما وقواهما الشيطانية، حتى لم تعد لنا جرأة على المبادرة إلى أي إبداع، فعدنا مُسَلّمين لهما جميع أمورنا، حتى مقدراتنا ومقدرات بلداننا، منقادين لهما انقياداً تاماً".
لقد تعدّت مظاهر هذه العقدة التي ضربتنا حدود التقليد إلى الإنبهار الأعمى، إذ يقول الإمام الراحل في وصف ذلك: "وهذا التعطيل المفتعل للطاقات الإبداعية جعلنا لا نعتمد على فكرنا وعلمنا (معرفتنا) إزاء أي أمر مهما كان، وإنما أصبحنا مقلّدين للشرق والغرب تقليداً أعمى، بل راح الكتّاب والخطباء والمتغرّبون والمتشرّقون الجهلة ينقدون هازئين، ثقافتنا وتقاليدنا، وحتى صناعتنا وما قد نبدعه، وسعوا ولا يزالون لكبت طاقاتنا الذاتية، وبعث اليأس فينا، وترويج التقاليد الأجنبية مهما كانت مبتذلة وبذيئة، بسلوكياتهم وخطاباتهم وكتاباتهم، وبمدحها وتحسينها سعوا ولا زالوا لتثبيتها لدى الشعوب".
ثم ينتقل رحمه الله إلى ضرب الأمثلة للحالة فيضيف: "فعلى سبيل المثال يتلقّون بإعجاب أي كتاب أو مقالة أو خطبة تضمّ عدداً من المصطلحات الإفرنجية، دون الالتفات إلى المحتوى، ويصفون الكاتب أو الخطيب بأنه عالم مثقف واع! إنّ كل ما نراه في حياتنا من المهد إلى اللحد، إنما يكون مستحسناً ومن مصاديق التمدّن والتقدّم، إذا ما ألصقت به مفردة غربية أو شرقية، وأما إذا كان يحمل شيئاً من مصطلحاتنا فهو منبوذ وبالٍ ورجعي!".
وعن تغلغل الظاهرة -العقدة في النُشّأ والأطفال الصغار يقول الإمام الخميني: "أطفالنا يفخرون إذا كانوا يحملون أسماء غربية، وإلا فيشعرون بالضعة والتخلّف! وينبغي أن تطلق أسماء أجنبية على الشوارع والأزقة والمحالّ التجارية والشركات والصيدليات والمكتبات، وكذا على الأقمشة وسائر البضائع الأخرى، وحتى لو كان إنتاجها محلياً فيجب أن تطلق عليها أسماء أجنبية؛ كي تحظى برضا الناس وإقبالهم!".
ثم يخلص سماحته بعد ذلك إلى تلخيص هذه الحالة الضاربة بأعماق وجودنا وجوانب حياتنا المختلفة، فيقول: "أصبح التغريب الكامل في العلاقات الاجتماعية والمعاشَرة وجميع شؤون الحياة سبباً للتفاخر والتعالي، ودليلاً عن التمدّن والتقدّم، أما الالتزام بثقافتنا وتقاليدنا فهو تحجّر وتخلّف!".
الاستقلال الحضاري والتطهّر من العقدة
نصل في الخاتمة إلى السؤال التالي: هل تعبّر عقدة الاستلاب والإحساس بالحقارة والعجز أمام الغرب، عن عجز حقيقي في تكويننا أم أنّ الظاهرة تنطوي على وَهْم وخيال كبيرَيْن ناتجين عن هيبة القوى الكبرى التي تظهرها في سياستها وثقافاتها وقدراتها ونظم حياتها؟
ربما احتاجت الإجابة عن السؤال إلى تقصّي جهود الغربيين في المنطقة الإسلامية، وإلى متابعة تاريخ وأحداث العقود الأخيرة، بَيْدَ أننا نستطيع أن نختزل جميع ذلك بنصّ خميني مباشر يملك دلالات حاسمة في الموضوع، إذ يقول سماحته: "إنّ الجنس الآري والعربي لا يقلّ عن جنس شعوب أوروبا وأمريكا وروسيا، وإذا اكتشف ذاته، وأبعد اليأس عن نفسه، ولم يتطلّع إلى غير ذاته، فإنه قادر على إنجاز أي عمل، وصنع أي شيء على المدى البعيد".
بَيْدَ أنّ التحرر من عقدة الخواجة وتجاوز الحالة الإفرنجية والتحرر من ثقافة التغريب، ليست أمنيات فحسب، وإنما هي عملية في جهود تغييرية مضنية وشاقّة، إلاّ أنها ليست مستحيلة. وبقول الإمام الراحل وهو يُتمّم النص الآنف: "وبذلك ستصلون إلى ما وصل إليه أمثال هؤلاء، شريطة التوكل على الله تعالى والاعتماد على النفس وقطع التبعية للآخرين، وتحمّل الصعاب من أجل تحقيق حياة كريمة والخلاص من تسلّط الأجانب".
بشكل عام تواجهنا نصوص الإمام الخميني ومواقفه في النهضة بثلاث خطوات أساسية, تكفل للمسلمين التطهّر من العقدة، والتخلّص من آثارها، وهذه الخطوات، هي:
أولاً: العودة إلى الذات وتحقيق الانتماء الفاعل والأصيل إلى الهوية الإسلامية. وهذه الخطوة تؤلّف المعادل النفسي البديل الذي يقضي على المحتوى النفسي للعقدة ويجهز عليه ويحل محله؛ أي يحل محل الاعتزاز بالغرب والشوق إليه وإلى حمل هويته.
ثانياً: مواجهة الغرب ومقارعته على كافة مستويات التبعية المنهجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بل حتى المعنوية كما ينص على ذلك الإمام الراحل. وفي هذه الخطوة يتحوّل الغرب إلى محور للعداء من خلال الانتباه لِما يمثّله من ظلم وهيمنة واستغلال، وذلك بدلاً من حالة الإنبهار القائمة، وعوضاً من دعوات التصالح والاندماج.
ومن الضروري أن يتحرّك المسلمون على صعيد هذا الموقف؛ لضرب مرتكزات مهمة تتركّز فيها هيبة الغرب، إذ المطلوب إسقاط الهيبة؛ لأنها خطوة تُجرّئ المسلمين للتحوّل إلى الجهاد والكفاح ضد التبعيات.
ثالثاً: عملية القضاء التام على العقدة وثقافة التغريب وحالات الإفرنجية لا تتم بشكل فاعل وكامل إلا عبر تحقيق البلد الإسلامي لاستقلاله السياسي الكامل، وإلا ستبقى المعالجات جزئية وغير ذات شأن إذا تمّت في إطار نظام سياسي تابع، تتمثّل إحدى وظائفه الأساسية بتكريس حالة الإنبهار بالغرب وترسيخ العجز لدى المسلمين.
ومسألة إعادة بناء طاقات الأمة وتركيزها حول الإسلام ينبغي أن تتجاوز الشعار إلى ممارسة تنبض بالحياة والعطاء، وإلا فمجرد رفع شعار الإسلام هو عمل يستوي فيه المخلص والمغرض، وبالتالي فإن مصداقية الخيار الإسلامي لا تقتصر على جانب الرؤية والمفهوم فقط، وإنما تحتاج إلى المثال والنموذج الذي يظهر عبر التطبيق الصحيح المستبصر لدين الله، وهذه مهمة شاقّة لا يؤتاها إلا ذو حظٍ عظيم.
4ـ الغرب والقطيعة
يحمل فكر الإمام الخميني وكذا ممارسته النهضوية في عهدَي الثورة والدولة دلالة واضحة، صريحة وقاطعة، تدعو المسلمين إلى قطيعة الغرب كشرطٍ للنهضة والتحرر ومجاوزة حالة التخلّف والتبعية.
وقد لاحظت أثناء النقاش والتجوال عبر القراءة في وجهات النظر الأخرى، أنّ المفهوم التَبَسَ رغم وضوحه -بل ربما لشّدة وضوحه وبداهته- حتى على الإسلاميين أنفسهم، بل حتى على بعض من يتبنّى خط الإمام.
ومرَدّ الالتباس يعود إلى عدة أسئلة، منها: هل تعني القطيعة نفي الغرب وتحطيمه ليقتصر العالم على الوجود الإسلامي وحده، وهل تعني انغلاقاً على الذات وعزله عن العالم, وانكفاء يمنع المسلمين من الانفتاح على ما هم أشدّ الحاجة إليه مما لدى الغرب من علم وفكر وتكنولوجيا ومعطيات أخرى؟ ثم إذا كان المراد تحقيقه هذا المعنى أو غيره، فهل نملك في واقع الإمكانات الحاضرة للعالم الإسلامي تحقيق هذه القطيعة، وإعادة تكييف المفهوم بغاياته، تنظر -مع الإمكانات الراهنة- على نحو عقلاني، أم أنّ المسألة برمّتها لا تتجاوز الأمنية والطموح والشعار أو المشروع النظري في الحد الأعلى؟
وحين نصل إلى الغرب، فهل ننظر إليه كلاً موحّداً، أم نجزّئه إلى غرب سياسي تتصاعد أدوات قمعه وإلغائه للآخر الإسلامي في ضوء حالة "المركزية العالمية" التي يحاول أن يتلبّسها ويتعامل من خلال مقاييسها، وغرب ثقافي يمكن أن ننفتح عليه ونتعاطى وإياه عبر حالة "المثاقفة" وغيرها؟
هكذا تخلص الرؤية إلى أنّ الموضوع ينطوي على عدّة إشكالات نظرية تعود إلى عدم تحديد المفاهيم، وأخرى عملية تكمن فيما نملكه من خيارات عقلانية قادرة على أن تدفع للتنفيذ ما نحسمه نظرياً.
ما سنقتصر عليه هو معالجة الالتباسات الناشئة عن غياب المفهوم النظري بإعادة تأسيسه عبر نصوص الإمام الخميني الدالّة عليه. الحقيقة أنّ المعنى المباشر لمفهوم قطيعة الغرب هو نفي التبعية له والتحرر من هيمنته. لذلك ستأتي القطيعة لدى الإمام في مستوى النظرية والموقف، إنجازاًَ ومشروعاً، شاملة وجامعة لكل المستويات المتصورة لأبعاد الغرب. فليس أمام المسلمين والعالم الإسلامي مهما طال المدى سوى أن يقطعوا مع الغرب سياسياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وروحياً دون أن تستدعي هذه القطيعة الشاملة انعزالاً أو تعالياً أو تبريراً للإبقاء على التخلّف والضعف والعجز.
على مستوى آخر، أن ينطلق الإمام الخميني في المشروع والإنجاز من الإسلام، فذلك معناه أن يقطع كاملاً مع الغرب، إذ لا مكان لتعايش المشروعَين الإسلامي والغربي على أرض المسلمين، ولا مجال إلا أن يكون أحدهما دون الآخر مشروعاً لنهضتهم.
ووعي الذات هو من قسمات القطيعة، وهو شرط أساس لاستقلال الشعوب العربية والإسلامية إذ "ليس باستطاعة الشعوب الشرقية (الإسلامية) أن تنال الاستقلال ما لم تدرك أنّ لها كياناً كسائر الشعوب, وأنّ للشرق وجوداً كسائر الأماكن" كما يقول الإمام.
ولأنَّ ذاتنا مستلبة حاضراً في غير موقع وحقل، وخاضعة لسلطة الذات الأخرى (الغربية) فلا بدّ من لمّها وتحريرها بالقطيعة الشاملة, ولِمْا ينتهي إلى اكتشاف الهوية، بحسب قول الإمام: "يجب على المسلمين الملتزمين المعتقدين بالإسلام، الذين يريدون أن يخدموا الإسلام، البحث عن هويتهم ليعثروا على أنفسهم وذواتهم وعلى أمتهم".
وحينما تكون القطيعة الشاملة أساساً لتحقيق الذات واستئناف الأصالة والحركة باتجاه النهضة الشاملة فهي لا تستوجب تصحيح الوضع الإسلامي وعلاقة المسلمين بالغرب فحسب، وإنما هي في الجوهر والأساس تنطوي على إعادة تصحيح الخريطة العالمية ومفاهيم القوة وتكتلاتها ومحاورها. ومع ذلك فإن للقطيعة حدوداً وقيوداً سنقف عليها في فقرة لاحقة. لكن قبل ذلك نحاول أن نضيء المفهوم الخميني عبر عدد من شهادات الواقع العربي نفسه.
مثال من الواقع العربي
سنقصر المثال على أزمة عاشتها المنطقة قبل عقدٍ من السنوات إثر احتلال الكويت والحرب الأمريكية التي نشبت فيها. لقد شهد الوجدان والضمير العربي اهتزازاً كبيراً لم يقتصر على المواقف الشعورية والوجدانية العفوية للجماهير إزاء الغرب، وإنما امتدّ إلى النخب المثقفة وحتى السياسية (بعضها على أقل تقدير)، في حالة أشبه ما تكون بخلخلة بنى الوعي السائد وتحريكها نحو مواقف أكثر فاعلية في إدراك الخطر الغربي وطبيعة الموقف منه، وإن كانت هذه المواقف لا تزال بحاجة إلى بنى نظرية تسندها على مستوى الوعي والعلم، وإلا ستذوي وتزول, أو لا يكون لها قيمة أصلاً في حساب المواجهة الفاعلة.
دلالات هذه الحالة مبثوثة بكثافة في مئات الصفحات التي كتبتها أقلام المثقفين تعبيراً عن مواقفهم وما زخرت به الساحة في اللحظات الساخنة لتوالي الأزمة، بَيْدَ أننا سنختار مصدراً واحداً نلتقط منه الدلالات، والمصدر الذي نعنيه هو ندوة مركز دراسات الوحدة العربية التي عقدت في القاهرة وصدرت أعمالها ومناقشاتها في كتاب بعنوان "أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي"[19].
فهذه الندوة حضرها جمع من المثقفين الذين تتفاوت انتماءاتهم وتتوزّع بين الاتجاهين العلماني والإسلامي، بَيْدَ أنها مع ذلك سجّلت في الغالبية العظمى من حواراتها تأكيداً مكثّفاً على أنّ الإطار الحاضن لمفردات الأزمة يتلخّص بمقولة: "نحن والغرب"، ثم كادت أن تجمع على جدوى موقف القطيعة, بل وضرورته كخيار لابدّ منه يعبّئ الأمة ويوفّر لها سبل المواجهة الفاعلة للغرب وتجاوز الأزمة.
فهذا برهان غليون يذهب إلى أنه "ينبغي تحليل نتائج حرب الخليج" من منظور أنها تعبّر عن "موضوع مواجهة استراتيجية شاملة وتاريخية" يستجمع فيه الغرب قواه لضرب عالمنا.
والغرب يندفع لهذه المواجهة العدائية لأربعة أسباب والسبب الرابع هو كما يكتب غليون: "الحسابات التاريخية الحضارية المعلقة منذ قدم، والتي لم تنجح حقبة الاستعمار، والانتقام الذي تميّزت به، من تصفيتها في وعي الغرب، بل زادتها تعقيداً" ثم يضيف: "العنصر الأكثر حساسيّة في هذا الحساب هو الإسلام الذي يشكل اليوم في العالم أجمع أكبر قوة مقاومة للهيمنة السياسية والثقافية الغربية، والذي كان ولا يزال، المرتكز الأول والأعمق لحضور العرب الحضاري وتماسكهم الذاتي وتوحيد منطقتهم روحياً وثقافياً وتحويلهم بالتالي إلى تكتل حضاري واسع، والى فاعل تأريخي قادر في الحوض المتوسط والعالم. ولذلك، فإن الجانب الذي يرتكز فيه العداء للغرب كأعنف ما يكون هو الهجوم على الإسلام بوصفه رديف العرب التاريخي ومرتكز هويتهم جميعاً، ومحاولة تشويه صورته وتنحية الخجل منه، ودعم كل من يتنكّر له من أهله أو يدعو إلى التنكّر له".
حين نضمّ هذا النص التحليلي إلى نصوص أخرى لعالم الاجتماع العربي برهان غليون يتبيّن أنّ موقف القطيعة لدى هذا المثقف المرموق يستند إلى أساس نظري ويتجاوز حالة الانفعال ولحظة الحماس العابر.
في الاتجاه الواعي نفسه تأتي كلمة المثقف الكويتي المرموق (خلدون النقيب) وهو يتحدث عن العناصر الدائمة للأزمة فيسجل اختراق الغرب العميق للمنطقة، وهو الاختراق الذي نحتاج للقطيعة كموقف للتحرر منه، يقول: "الحقيقة الصارخة في هذا كله هي أنّ البلدان العربية جميعها مخترقة اختراقاً كاملاً من الغرب".
أما وزيرة الإعلام الأردنية السابقة (ليلي شرف) فقد أوضحت في معرض تحليلها للاتجاه غير الرسمي الذي ساد الأردن، بأن المواقف تجاوزت حيثيات الأزمة إلى إطارها الماثل في مواجهة الغرب، فكتبت في ورقتها للندوة: "ومع أنّ العدد الأكبر من المثقفين لم يكن يؤيد العراق في احتلاله للكويت، فقد أخذ بعضهم يطرح تصوراته للأزمة من منطلق المواجهة مع الغرب وبمنظار تاريخي". وهذا الإطار الجديد الأوسع للأزمة (مواجهة الغرب) هو الذي يفسر ـ برأي الوزيرة ـ "القفزة النفسية ـ العقلية فوق الأسباب المباشرة للأزمة" والتي جاءت "تحت ضغط المواجهة مع الغرب".
في خط مواز تحدّث (محمد المتوكل) وهو وزير يمني سابق، عن الأجواء التي سادت اليمن وتحركت باتجاه ضرب ركائز التبعية للغرب وتعزيز سلوك المقاطعة،حيث جاء في وثيقة صدرت في شباط/1991 الدعوة لـ "محاربة كل أشكال التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية" ثم "الرفض والمحاربة لكل قيم الاستهلاك البذخي، والانحلال السلوكي، والنظرة الذاتية الضيّقة، وكل قيم الإمبريالية التي تشجّع الفساد والإفساد وتبديد الثروة، والتقليد الأعمى للقيم الغربية التي تنمّي روح الذيلية والعمالة".وفي الواقع تؤشر هذه المعاني بمجموعها إلى أبرز دلالات القطيعة على الصعيدين النفسي والعملي.
من الأردن أيضاً سجّل النائب (ليث شبيلات) رؤيته على نحو قاطع حين قال: "كل فكر قومي أو إسلامي لا يرى ولا يعالج هذا العداء الغربي اليومي لأبناء وطنه يكون ترفاً فكرياً في الصالونات".
وإذا كان برهان غليون عاد مرة أخرى في الفقرة الأخيرة من الندوة التي تحمل عنوان: "ما العمل؟" إلى الفرز بين رؤية تقوم على الاستلام والتكيّف مع الأمر والواقع، ورؤية أخرى تقوم على "فإن الرؤية ذاتها فرضت على المحامي اللبناني (عصام نعمان) أن لا يرى بُدّاً من هذا المسار، حيث المسألة مرتبطة برمّتها بـ "علاقة العرب بالغرب، خاصة الغرب الانكلوسكسوني" وأنّ الغرب هو في الحساب النهائي "عدو حضاري قوي، شرس وطامع ونحن فوق ذلك أمام عدو عنصري" فكيف نتصرف إزاءه؟
يقول (عصام نعمان) إنه "لا التصدّي الناقص نجح ولا التقليد الكامل أفلح في مواجهة هذا التحدي" وبذلك "يستبين لنا أنّ النهج الأفضل هو المواجهة بكامل قوّتنا في إطار مشروع العصر".
هذا النهج يتطلّب "الانتماء إلى الذات، وليس الانكفاء؛ والإنماء المستقل بالاعتماد على النفس، والتفاعل مع الغرب وفق معيار مدروس هو الإفادة منه بمقدار ما يخدم ذلك مشروعنا القومي (الشمولي) الديمقراطي الحضاري، والتمايز معه في كل ما من شأنه مساعدته على استتباعنا"[20].
وسؤالنا: هل يعني موقف القطيعة أكثر من تأكيد هذه الدلالات في النهضة بصرف النظر عن طبيعة المشروع البديل وفيما إذا كان قومياً أم إسلامياً؟
خلاصات في المعنى والدلالة
استطاع منهج القطيعة الكاملة مع الغرب لدى الإمام الخميني أن يحقق لإيران استقلالها رغم الصعوبات والتضحيات الباهظة، وهذه القطيعة هي نفسها أساس لقطيعة إسلامية أعم وأشمل مع الغرب، تكون قاعدة لنهوضنا المطلوب وشرطاً لخوض تجربة المواجهة وكسب القدرة على محور القوة العالمية.
والقطيعة بهذا المعنى تعني ما يلي:
أولاً: إنها تعني النفي الكامل لتبعيات الغرب والتحرر من سلطانه.
ثانياً: لا تستدعي كما ينظر البعض إفناء الآخر الغربي ولا تدميره ومحوه، فمثل هذا المفهوم لا يصدر في الوعي الإسلامي إلا إزاء "إسرائيل" ككيان لا يملك في الأصل مشروعية وجوده، وإنما تعني أن يكتسب المسلمون موقعهم الطبيعي ويزيحوا التمدد الغربي من على أجسامهم وكيانهم.
ثالثاً: ليست القطيعة موقفاً غائياً للإسلامي وإنما هي لحظة على خطّه.
ما مقدار هذه اللحظة وكم تمتد؟ هذا السؤال يرتبط بكل تجربة على حدة، واليقيني هو أن يتلاشى الالتزام بلحظة القطيعة كلما استكملت الذات شروط وجودها الحر الطليق المتحرر من سلطات الآخر وضغوطاته، وحين تصل الذات الإسلامية إلى مستوى من القدرة والتفوّق لا تحتاج مطلقاً إلى القطيعة، بل لن يكون للقطيعة بعد ذلك أي مفهوم أو موضوع في الأرض الإسلامية.
بهذا المعنى تُعدّ القطيعة لحظة ضرورية في شروط النهضة لدى الإمام الخميني، الذي كتب في وصيته: "وأوصيكم بأن تنقضّوا لقطع دابر التبعيات بإرادتكم الصلبة وجهدكم الدؤوب، واعلموا أنّ الجنس الآري أو العربي لا يقل عن جنس شعوب أوروبا وأمريكا وروسيا، وإذا اكتشف ذاته وأبعد اليأس عن نفسه ولم يتطلع إلى غير ذاته، فإنه قادر على إنجاز أي عمل".
5 - محورية أمريكا و"إسرائيل"
الحقيقة كان يمكن لهذه النقطة أن تندرج في النقاط السالفة، لولا أنّ الهدف هو إبراز محورية أمريكا دولياً و"إسرائيل" إقليمياً في المواجهة الحاضرة التي يعيشها المسلمون.
النص الخميني حافل بدلالات مكثّفة على مواجهة الاستكبار بصرف النظر عن هويته، سواء أكان غربياً أو شرقياً، رأسمالياً أو شيوعياً، إذ المطلوب مواجهة كل ضروب التبعية ومقاطعتها: "دافعوا حيثما كنتم عن إسلامكم ووطنكم، وقاوموا عدوكم المتمثل بأمريكا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى الشرقية والغربية"[21]. كذلك تساؤله أمام مجموعة من الضبّاط الباكستانيين الذين زاروا سماحته في شهر محرم 1400هـ: "إلى متى نبقى تحت سلطة الأجانب؟ إلى متى يحكمنا المستشارون العسكريون الروس والأمريكيون؟ وإلى متى يحكمنا عريف روسي أو أمريكي أو بريطاني؟"[22]. وربما كان أوضح من ذلك كله كلام الإمام ربيع عام 1980م: "إننا نعادي الشيوعية العالمية بقدر مناهضتنا القوية للمستعمرين الغربيين بزعامة أمريكا والصهيونية وإسرائيل. أصدقائي الأعزاء: اعلموا أنّ خطر الشيوعية ليس بأقل من خطر أمريكا... لأن كلتا القوّتين المتجبّرتين متأهّبتان للقضاء على الشعوب المستضعفة"[23].
بَيْدَ أنّ ذلك كله لا يمنع من قراءة الواقع وإعادة ترتيب الأولويات بدقة لرؤية الأخطار التي تحدق ببلاد المسلمين. ولا ريب أنّ قراءة كهذه تفيد أنّ أمريكا هي الخطر الأول الذي راح يواجه العالم الإسلامي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإلى جوارها ركيزتها "إسرائيل"، خاصة مع وجود الحصانة النفسية والوجدانية التي تتحلّى بها الشعوب بإزاء المذهبية الماركسية ونظامها السياسي والاجتماعي ورؤيتها الثقافية والاقتصادية.
أما في ظل التطورات الحاضرة التي تسارعت في منطقتنا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيّات القرن الماضي، فلم يعد الخطر الأمريكي-الصهيوني موضع شك أو تردد من أحد.
على هذا، من المنطقي أن يكون الخطاب النهضوي الخميني منسجماً مع نفسه، حين يحذّر من مركزية التهديد الأمريكي وخصوصيته لإيران والعالم الإسلامي، دون أن يهمل مخفرها الأمامي في منطقتنا (إسرائيل): "ألا فليعلم العالم بأسره أنّ جميع مصائب شعب إيران وبقية الشعوب الإسلامية إنما مصدرها الأجانب المستعمرون خاصة الأمريكان"[24].
كذلك وعلى نحو دال، تصريحات سماحته:
"إنّ كل مصائبنا اليوم هي من أمريكا وإسرائيل، فإسرائيل جزء من أمريكا"[25].
"بالأمس كانت البلاد الإسلامية عامة تئنّ من وطأة الاستعمار الإنجليزي وحكم أذنابهم، واليوم تئنّ من قبضة الأمريكان الاستعمارية وعملائهم المحليين"[26].
"أمريكا هي التي تتعامل مع المسلمين بهذا الشكل الهمجي...أمريكا هي التي تعد الإسلام عدواً وخصماً لها"[27].
مع أنّ الفكر الخميني يدخل في قطيعة شاملة مع التبعيات مهما كان لونها ومرجعها الدولي، لكن ذلك لم يمنع أن تكون وجهة النهضة و"وجهة الشعب الإيراني المسلم ضرب المصالح الأمريكية والإسرائيلية والقضاء عليها"[28].
"لقد أصبحت بلادنا سوقاً لأمريكا"[29].
يحرص الإمام في الأغلب على الجمع في نصوصه بين الخطر الأمريكي والخطر الصهيوني، انسجاماً مع فهمه الذي يرى فيه "إسرائيل" جزءاً من أمريكا نفسها؛ حتى لنستطيع القول باطمئنان: إنّ العالم الإسلامي لم يشهد في العقود الأخيرة رائداً من روّاد النهضة ورموز الإحياء أولى الخطر الأمريكي والإسرائيلي كل هذا الاهتمام.
فيما تبقى من مساحة هذه الفقرة، نمرّ على عدد من النصوص الدالّّة تاركين التفاصيل إلى الملفّات المختصّة التي غطّت هذا الجانب من فكر الإمام[30]:
{يذهب الإمام إلى أنّ المشروع الاحتلالي الاستيطاني الصهيوني ولد نتيجة حالة توافق استراتيجي دولي بين الشرق والغرب. فقوى الغرب والشرق على تنافسها في ما بينها هي متّفقة في أطماعها بالعالم الإسلامي، لذلك لم يكن غريباً أن تلجأ إلى زرع ما دأب الفكر السياسي للإمام على تسميته بـ"الغدة السرطانية"، حيث يقول: "لقد كانت ولادة إسرائيل نتيجة طبيعية للتوافق الفكري بين دول الاستعمار الشرقية والغربية. حيث عملوا بإيجادها على استغلال العالم الإسلامي واستعماره واقتسامه وتدميره، واليوم نرى بوضوح دعم كل الأطراف الاستعمارية لها"[31].
(عندما انطلقت حرب رمضان عام 1393هـ (1973م) عبّر الإمام عن تأييده لها بحماس منقطع النظير، إذ لم نلمس لعلماء المسلمين على كثرتهم مثل اهتمامه بموضوعها: "الآن وقد اشتعلت نار الحرب مرة أخرى، وهبّ المسلمون من إخواننا يضحّون بأنفسهم في ساحات القتال وميادين الشرف ببطولة نادرة ومشرّفة من أجل استئصال جذور الفساد ومن أجل تحرير فلسطين، فإن واجب جميع الدول الإسلامية ـ وخاصة الحكومات العربية، وبعد الاتكال على الله وقدرته الأزلية ـ هو تعبئة جميع طاقاتها وقواها والمبادرة إلى مساعدة الرجال المضحّين على خط النار، فُهُم متطلّعون إلى أمّتهم الإسلامية بكل أمل، وأن تشترك في تحرير فلسطين وبعث كرامة الأمة وعظمة الإسلام في هذا الجهاد المقدس)[32].
عن زيارة السادات للقدس عام 1977م ومرحلة كامب ديفيد، قال سماحته: "اتفاقية كامب ديفيد ليست إلا خدعة ولعبة سياسية لمواصلة الاعتداءات الإسرائيلية ضد المسلمين، وإنني قد أدنت إسرائيل في كلماتي وبياناتي منذ أكثر من (15) سنة، ودافعت عن الشعب الفلسطيني وأراضيه"[33].
عندما احتلَّت قوات العدو الصهيوني الجنوب اللبناني في ربيع 1978م أدان الإمام تحالف النظام الملكي في إيران مع تل أبيب ودعمه لها، ثم قال محذراً: "أكثر حكومات البلدان الإسلامية تقف متفرّجة أمام هذا الأمر المصيري، غافلة عن أنها لو استمرت في تقدمها هذا فستعامل الدول الأخرى بنفس الأسلوب"[34].
"منذ ما يقارب العشرين سنة أعلنت في كلماتي والبيانات الصادرة عنّي عن مخالفتي لعلاقة الشاه بإسرائيل، كما أعلنت عن دعمنا ونصرتنا لقضايا الأمة العربية والفلسطينية المشروعة الحقة ولثورتهم ضدّ إسرائيل"[35].
"منذ سنوات طويلة كنت قد تحدثت مراراً عن إسرائيل وجرائمها وقلت إنها غدة سرطانية زرعت في زاوية من زوايا العالم الإسلامي، وهي لا تكتفي بالقدس بل تريد التوسّع أكثر، وسياستها تابعة للسياسة الأمريكية"[36].
بتاريخ 10/11/1979م التقى مراسل تلفزيون ألمانيا الغربية بالإمام الخميني وسأله: "من مطالبكم القضاء على إسرائيل، فما هو مصير اليهود فيما لو انتصر الشعب الفلسطيني وقضي على إسرائيل؟ فأجاب سماحته: "إنّ حساب اليهود منفصل عن حساب الصهاينة، فإذا ما انتصر المسلمون على الصهاينة، فسيكون مصير اليهود كمصير اليهود عندنا بعد القضاء على الشاه المخلوع. فلا شأن لنا باليهود، إنهم أمة كسائر الأمم الأخرى ولهم حقّ في الحياة"[37].
أما الحل فلا يخفي الإمام أنه يمثّل بالقضاء على "إسرائيل" ككيان سياسي احتلالي، وإلا فما لم "تجتث الأمة الإسلامية جرثومة الفساد هذه من الجذور، فلن يهدأ لها بال ولن يستقر فيها حال"[38].
6 - المسألة الثقافية
لكي نتوفّر على رؤية مباشرة وواضحة في نظرة الإمام الخميني للثقافة، سنتحاشى الدخول في جدل المعنى واختلاف التعريف[39]، ونعتمد على المعنى العرفي المتداول على مستوى الوعي العام.
كما يمكن لمحصّلة النقاط التي سنعرض لها لاحقاً أن ترسم لنا تحديداً للثقافة التي يتحدث عنها الإمام. وبرغم اعترافنا بتعقيد جوانب المسألة الثقافية عندما نريد أن نطلّ عليها من فكر النهضة على وجه التحديد، إلاّ أنّ ذلك لا يمنعنا من متابعة أساسيات تعريف الإمام للمسألة الثقافية من منظور الثورة التي انطلقت في إيران، أو النهضة التي يراد لها أن تتحرك في العالم الإسلامي.
ومع كثافة هذه الأساسيات وامتدادها سنركّز على أربعة منها؛ ربما لأنها عناصر مشتركة, أو هموم موحّدة تشغل الوعي الإسلامي التغييري على امتداد رقعة العالم الإسلامي من مغربه حتى مشرقه.
وهذه الأساسيات التي نعنيها، هي:
1ـ الثقافة كأصل.
2ـ هوية الثقافة.
3ـ الأصالة ونفي التغريب.
4ـ البعد المعنوي في الثقافة.
الثقافة كأصل
تفيد نصوص الخطاب النهضوي للإمام بمركزية الثقافة في النهضة بشكل عام وفي حركة الثورة بشكل خاص. لذلك نجد أنّ الميراث الذي تركه الإمام تحتل فيه الثقافة حيّزاً كبيراً.
عندما نسجّل أنّ الثقافة تحتل موقعاً مركزياً في النهضة، فإن ما نعنيه هو توفّر رؤية الإمام على عناصر تحليل ومخاطبة لا تقتصر على أوضاع إيران الثقافية، بل تمتد لتشمل أوضاع العالم الإسلامي بشكل خاص، والشعوب المستضعفة بشكل عام.
إنّ المقولات التي أطلقها الإمام بشأن مركزية الثقافة، الاستقلال الثقافي، التبعية الثقافية، الهوية الثقافية، هي مقولات يتجاوز مداها الشأن الإيراني والإسلامي لتعمّ شعوب الأرض جميعاً من دون استثناء، بصرف النظر عن طبيعة الموقف الفكري الأيديولوجي والعملي منها.
ما يمكن أن نلمسه في نصوص الإمام ورؤاه ومواقفه الثقافية هو هذه السعة والامتداد والعراقة، حيث اقترن انشغاله بالمسألة الثقافية مع بواكير حياته العامة، إذ كتب "كشف الأسرار" في العقد الثالث من حياته. وهذا الكتاب علاوة على أنه ردّ نقضي على صاحب كتاب "أسرار عمرها ألف عام"، فهو ينطوي على رؤى نافذة في المسألة الثقافية، بَيْدَ أنّ الذي يؤسف له، أنه لم ينل حتى اللحظة العناية الكافية التي يستحقها.
الثقافة إذاً أصل. وعندما نعود للنصوص الدالة نقرأ على لسان الإمام بعد مدة وجيزة جداً من الانتصار وتحديداً في 9/7/1933هـ قول سماحته: "الثقافة على رأس الأمور كلها". هذا الأصل يقرره الإمام بدايات الانتصار ليتحوّل إلى أساس في بناء الدولة الإسلامية.
لكي يدلل سماحته على أولوية المسألة الثقافية في الثورة -داخل إيران- يلفت نظر المسؤولين إلى هذا الواقع بقوله: "إنّ ثقافتنا ومدارسنا كانت منذ أول يوم مورد اهتمام المخالفين؛ لأنهم يعلمون أنّ كل ما يحدث هو بسبب الثقافة".
أما على مستوى خطاب النهضة العام الذي يتجاوز إقليم الثورة ويشمل العالم الإسلامي فالإمام يقرر مسألة على غاية الخطورة في قضية الثقافة حين يقول: "إنّ طريق إصلاح بلد ما يمرّ من إصلاح ثقافته. ولابدّ أن يبدأ الإصلاح من الثقافة".
يعود تاريخ هذا النص إلى ما يزيد على الثلاثة عقود من الآن وبالتحديد لتاريخ 1/5/1384هـ. ولهذا دلالته على صعيد الإشارة إلى عنصر الثقافة وموقعها المبكّر في الحركة الإحيائية للإمام.
كما أنّ الثقافة حين ترتقي لتكون أصلاً فهي تتجاوز في محتواها المعلومات المجردة والمعارف المحضة وحتى حصيلة الوعي الاجتماعي إلى ما يقاربها بمعنى الحضارة. وإذا صحّت هذه المقاربة فهي تعيد إلى الأذهان إلى ما كان يلحّ عليه المرحوم مالك بن نبي في عظيم تأكيده على الحضارة وهو يصيح: "إنّ مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارية".
أما الإمام فيرى أنّ المشكلة هي مشكلة الثقافة و "أنّ كل ما يحدث هو بسبب الثقافة" و "طريق إصلاح أي بلد يمرّ عبر إصلاح ثقافته" لذلك "لابدّ أن يبدأ الإصلاح من الثقافة".
لكن ينبغي لهذه الرؤية أن لا تصنّم الثقافة من جهة، كما عليها من الجهة الثانية أن لا تسقط في المثالية النظرية بإلغائها الواقع وتسطيحها لعوامل التعويق الخطيرة التي يكتنزها.
ثمَّ ملاحظة أخرى: فعندما نشير إلى أنّ الثقافة أصل في حركة الإحياء الديني التي قادها الإمام، فلا نعني بذلك ما يساوي الاستخدام الحديث للعقل -مثلاً- كأصل, وإنما تقوم الثقافة بوظيفة إجرائية، ولكن أيضاً لا بالمعنى الفني لكلمة إجرائي ووظيفي, فهي أقل من الأصل القائم بذاته المنفصل عن غيره المهيمن على ما سواه، وبالتالي فهي ليست سلطة ولا مرجعاً سلطوياً قامعاً ومهيمناً، كما لا تختزل أيضاً بكونها مجرد أداة إجرائية لا تعي لنفسها وظيفة إلا في سياق السلطة التي تحركها، إنما هي حد وسط بين الأصل القامع والوجود التابع.
هوية الثقافة ومرتكزها
الثقافة مصطلح عام والجدل ما يزال يشغل العالم العربي والإسلامي, بل العالم أجمع حول المسألة الثقافية من زاوية ما تكون عليه من تنوّع وخصوصية، فثمة من يذهب إلى أنّ الثقافة الإنسانية واحدة لا تتجزأ وهي تعمّ البشر جميعاً، فيما يذهب البعض الآخر إلى خصوصية ثقافة كل مجتمع وفئة وأمة.
هناك في العالم العربي والإسلامي من يتبنّى الحالة المنطلقة من مفهوم "المثاقفة" الذي يعني به الاحتفاظ بالخصوصية والانفتاح على ثقافة الآخرين.
وعندما نعود بالمسألة إلى رؤية الإمام نلاحظ أنه يعيد بناءها عبر جدل معيّن وعلاقة تنتظم مجموعة عناصر تجمعها إلى بعضها لصياغة الرؤية الأخيرة.
الإنسان لدى الإمام هو أساس الهزيمة والنصر، وعلى حدّ قول سماحته: "جميع الانتصارات والهزائم تنطلق من الإنسان".
لكن من يبني الإنسان ويصوغه؟ يجيب الإمام: "الثقافة مصنع الإنسان". هذا المعنى لدور الثقافة يتقارب بل يتطابق مع المعنى الكانتي للثقافة ودورها وعلاقتها بالإنسان، إذ يقول كانت (ت: 1804): "إنّ كل التقدم الثقافي يمثل تعليم الإنسان... وأكثر الموضوعات أهمية بالنسبة للثقافة هو الإنسان الذي وُهب العقل"[40].
إذا توفّر الإنسان أمكن للنهضة أن تنطلق. وبحسب نصوص الإمام: "إذا صنعنا الإنسان فإن وطننا ينمو ويتكامل"، وفي نص آخر يقول: "إنّ مصير البلاد بيد الإنسان" وإذ يتضح دور الثقافة والإنسان الذي تبنيه، فإن السؤال الأساس يبقى معلّقاً على معرفة ماهية هذه الثقافة والمرتكز الذي تقوم عليه.
عند هذه النقطة يواجهنا النص الخميني التالي: "المدارس الإلهية والتوحيدية هي التي تصنع الإنسان [و] إذا وجد الإنسان في بلد فإنه يجلب له الحرية والاستقلال الفكري والاستقلال الروحي والاستقلال الإنساني".
إذاً فالتوحيد هو مرتكز الثقافة المنشودة وماهيتها، والإسلام هويتها، على هذا المنوال نؤسس خصوصيتنا في مسألة الثقافة عندما نطرح موضوع الثقافة الإسلامية كمصنع لإعداد وبناء الإنسان القادر على إيجاد النهضة.
بَيْدَ أنّ المشكلة أنّ الإمام في صدد نهضة، والنهضة موضوع منوّع، من جدلية البناء والهدم والمواجهة والتحدّي؛ لذلك فإن مجرد تقرير هوية ومرتكز وماهية للثقافة لا يعني غلق المسألة وحسم الموضوع، لاسيّما أنّ العالم الإسلامي مستباح بجلّه للغرب منهك بالاستبداد الداخلي، بعبارة أوضح: إنّ طرح مقولة خصوصية الثقافة الإسلامية كأصل من أصول النهضة والإحياء في إيران والعالم الإسلامي لا ينهي المشكلة، ففي العالم الإسلامي الآن أنظمة تعمل ضد الثقافة الإسلامية، والشعوب الإسلامية تعيش ارتهانات وتبعيات موغلة للغرب، منها التبعية الثقافية، فكيف يصار إذاً إلى تعميم الثقافة الإسلامية بمواجهة ثقافة التغريب؟
ثمَّّّّّ إنّ الثقافة الإسلامية ذاتها عنوان عام يحتمل ـ بل يطوي ـ الكثير من الاحتمالات والتأويلات التي تجعلها صيغاً وأنماطاً متضاربة أحياناً؛ لذلك سينبثق سؤال عن خصائص الثقافة القادرة على بناء الإنسان وصياغته وانطلاق النهضة.
في منهج الإمام أثناء تعاطيه مع الهمّ الثقافي في الكثير من النقاط التفصيلية التي توفّر إجابة عن الأسئلة الآنفة وغيرها، ولَمّا كان المكان لا يتيح أكثر من استعراض الأساسيات، فسنتابع اثنين من أخطر التحدّيات التي تثار بوجه الثقافة الإسلامية، وبالتحديد ثقافة النهضة والتغيير.
الأصالة ونفي التغريب
يحتفظ النص النهضوي والإحيائي للإمام بقيمة حيوية في معالجة قضايا التغريب في الثقافة الإسلامية وواقع المسلمين, ولعل أحد أبرز أسباب هذه الحيوية تكمن في أنّ نهضة الإمام انطلقت في ظرف تعيش فيه الأمة استلاباً خطيراً إزاء الغرب، وفي وقت بلغت فيه سطوة الغرب ذروتها على العالم الإسلامي.
الأصالة الإسلامية ونفي التغريب حقيقة شديدة الحضور في فكر الإمام ونهضته.
يقول سماحته مخاطباً المسلمين في نداء الحج لموسم سنة 1400هـ: "اعتمدوا على الفكر الإسلامي وحاربوا الغرب والتغرب وقفوا على أقدامكم واحملوا على المثقفين الموالين للغرب الشرق واكشفوا هويتهم". هذا النص للإمام هو نص نهضة عبر ما ينطوي عليه من شمولية وعموم للمسلمين كافة, كما أنه يحمل الدلالتين معاً، دلالة استعادة الهوية واكتشافها من خلال الأصالة، ونفي التغريب.
هذا النص ينُصّب الهوية أصلاً إزاء تيارات الغرب والشرق ومنهجياتهما، لاسيّما أنّ العادة جرت على استخدام مصطلح التغريب كعنوان دال على كافة المؤثرات التي تتموضع في بنية الثقافة الإسلامية ومضمونها من الشرق والغرب معاً.
عندما تتحوّل الثقافة إلى سلطة تقمع وتلغي وجود الثقافات الأخرى أو على الأقل تشوّهها وتهمّشها، مستفيدة من ألوف المعارف البشرية والأرضية شرقية وغربية، ستكون عندئذٍ أُمّ الأمراض, أو بتعبير الإمام في وصفها: "إنّ الثقافة الاستعمارية التي تزداد يومياً هي أُمّ الأمراض"، بل يذهب الإمام إلى أنّ سقوط العالم الإسلامي بدأ أولاً من خلال التسلط الثقافي الغربي وإن أكبر التبعيات التي تسود الشعوب الإسلامية والمستضعفة هي التبعية الفكرية.
في نصّين متوازيين يعبّر الخطاب الخميني عن هذه الحقيقة بقوله: "إنّ أكبر التبعيات هي تبعية الشعوب المستضعفة الفكرية للقوى الكبرى وللمستكبرين, وجميع التبعيات تنبع من التبعية الفكرية هذه، ومادام الشعب لم يحصل على الاستقلال الفكري فلا يمكنه أن يستقلّ في الأبعاد الأخرى".
وفي النص الثاني يقول سماحته مخاطباً وفداً من لبنان زاره سنة 1400هـ: "إنّ السبب الأساس في تسلّط الغرب أو الشرق على جميع الأقطار الإسلامية هو التسلّط الثقافي".
الحقيقة أنّ هذا الفهم لم يعد غريباً حتى في تيارات الفكر العربي المعاصر المهموم بقضايا تغيير الأمة، فهذا أحد رموز هذا الفكر يكتب نصّاً: "فقد كان من أهداف الاستعمار القضاء على الهويّات الثقافية للشعوب كمقدمة للقضاء على الهويات القومية؛ حتى يسهل عليه السيطرة العسكرية والهيمنة الثقافية.
وكانت حجة الاستعمار في الاستمرار أنه لا توجد هويات قومية أو ثقافية للمستعمرات! وما زال الغزو الثقافي مستمراً بالرغم من تغيّر أشكاله بما في ذلك نقل التكنولوجيا"[41].
إنّ حاجة العالم الإسلامي اليوم للتحرّر من التبعيات، وتحقيقه ذاته، واستعادته هويته الإسلامية التوحيدية تدعوه بشكل ملحّ إلى دراسة أطروحة الإمام في المسألة الثقافية ولاسيّما البعد الذي يرتبط بالتغريب.
البعد المعنوي في الثقافة
الثقافة مصطلح عام وعنوان يشتمل على مفردات واسعة، وينطوي على تنوّع كبير حتى في حال انتساب الثقافة للإسلام.
الإمام يحدد سمات الثقافة الإسلامية المنشودة في النهضة، ويعطي الهدف والقيمة لها من خلال قدرتها على تربية الإنسان وتزكيته، ولو بقيت الثقافة كعنوان عام بدون قيود وضوابط ومحددات تصير أداة هدم أو لا تؤدّي غرضها على الأقل.
يقول سماحته في هذا المضمار: "العالم الذي لا يقترن علمه بتهذيب الأخلاق والتربية الروحية، فإن علمه يستوجب ضرراً للشعب والوطن يأتي أكثر من ضرر الذين لا يعلمون". وفي نص آخر لا يعبأ الإمام بالقيمة المعرفية لأشرف العلوم، إذا انسلخت عن هدفها الإلهي وانفصلت عن قاعدتها الأخلاقية، حيث يقول: "التعليم والتعلّم، الفقه والفلسفة، وعلم التوحيد، ما دامت لا تكون باسم الله فإنها لا تنفع".
إذا كان البعض لا يفقه هذه المعاني أو يستغربها وينسبها للتطرّف والمثالية، فإن ما يجب أن ننتبه إليه أنّ حركة الإمام وأفكاره في النهضة هي جزء من حركة الإحياء الديني، وبالتالي هي حركة تنفتح على الغيب أولاً وتستمدّ منه قبل كل شيء؛ وهي في هذا المعنى تلتقي مع الأساس المتين لعقيدة المسلم الذي لا يصحّ منه إسلامه دون هذا الانفتاح العميق على الغيب والاستمداد منه.
وهذا هو جوهر الحركة الإحيائية للإمام وأصل خطابها النهضوي سواء أكان ثقافياً أو غير ثقافي.
7- الشعب أم المؤسسة؟
مَن الذي يُبرز حركية التعبئة في بلاد المسلمين الشعب أم المؤسسة؟ تكشف قراءة التجربة الخمينية في إيران واستلهام منطلقاتها النظرية أنّ الإمام رفض إخضاع المسألة إلى خيارين هما الشعب أو المؤسسة، فالأصل هو الإنسان و الشعب، والمؤسسة العسكرية، أو الجهادية أو التعبوية هي مجرد إطار أو وسيلة تمليها الحاجة إلى إدارة فعل المقاومة أو المواجهة أو الدفاع.
بناءً على أصالة الأصل شهدت التجربة الإيرانية ثلاث صيغ مؤسسية للقوة العسكرية هي الجيش والحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية، من دون أن يكون أي واحد منها بديلاً للأصل المتمثّل بالشعب نفسه، ولا ينبغي أن يحصل ذلك، وإلا فهي الكارثة ونهاية التجربة ذاتها!
على هذا نعتقد أنّ سؤال: هل تومئ التعبئة في فكر الإمام إلى فئة عسكرية ومؤسسة خاصة أم أنها تمثل مفهوماً عاماً يطوي خللاً منهجياً؟ ففكر الإمام يتناول بالدرجة الأولى والأخيرة حالة الشعب بشكل عام، وإذا أراد أن يتخصص بفئة، فإن ذلك يعود إلى ارتباط هذه الفئة بالبنية الاجتماعية العامة.
بمعنى أنّ الإمام عندما يتحدث عن الجامعة كمفهوم أو ظاهرة، وعن المثقفين كفئة، فلا يقصد التعامل الميكانيكي مع هذه الظواهر بوصفها وجودات مستقلة قائمة بذاتها، الواحدة فيها بمعزل عن الأخرى، بل ينظر إليها سماحته كبنى مترابطة تدخل بشكل متواصل في تكوين النسيج الاجتماعي العام أو ما نطلق عليها حالة الشعب.
وفي غير هذا الاتجاه من النظر سيقع دارس نهضة الإمام الخميني في خلل منهجي خطير تسقط معه أول ما تسقط القيمة التغييرية في فكر الإمام.
فالإمام قبل كل شيء هو داعية الإسلام الذي يعنيه أن يدخل حالة الشعب -وحال الأمة في مستوى آخر- بمفهومها العام والشامل ليقطع صلتها مع كل ما هو غير إسلامي، ويعيد صلتها بالإسلام.
قضية التعبئة لا تخرج عن هذا الفهم، فمقتضى القيمة التغييرية لفكر الإمام تفرض أن يدخل سماحته المفهوم (التعبئة) في الحالة الاجتماعية العامة ليخلص إلى بناء حالة عسكرية متخصصة.
لا ريب أنّ الترابط القائم بين الاثنين واضح بينهما، فليس بمقدور الأمة الراكدة المخدرة أن تنتج حالة جهادية تعبوية عسكرية فاعلة، ،خاصة كالحالة الواسعة التي شهدتها الثورة الإسلامية.
فعملية توجّه مئات الآلاف من المقاتلين من كافة الفئات الاجتماعية إلى جبهات القتال وحضورهم الفاعل ـ الرادع طوال سنوات الحرب الثماني، لم يكن أمراً ممكناً لو لا أنّ الشعب ذاته خضع بدرجة وأخرى إلى حركية مفهوم التعبئة وتفاعل مع القيم الجهادية لهذا المفهوم.
ما ينبغي الإشارة إليه في نهاية هذا التوضيح أنّ من دأب الإمام ودأب منهجه التغييري أن يتوجّه نحو الأمور الكلية العامة فيكسر بناءاتها القديمة ويعيد تشييدها مرة أخرى على أساس الإسلام ووفق مفاهيمه وأحكامه.
إذاً، بدأت التعبئة حالة اجتماعية ـ شعبية عامة قبل أن تتخصص بقوات التعبئة المعروفة في إيران بـ(البسيج) ومؤسستهم. بل لم يكن لظاهرة البسيج (التعبئة) أن تولد وتنمو بالسعة والعمق اللذين شاهدناهما بها، خلال سنوات الحرب الثماني من دون أن يكون خلفها وفي قاعدتها التحتية أمة معبّأة مستعدة للتضحية والعطاء.
نصوص الإمام الراحل وفيرة وواضحة في هذا الاتجاه، ففي حديثه مع ضيوف الجمهورية الإسلامية بمناسبة الذكرى الخامسة للإنتصار، قال سماحته معبّراً عن الروح الشاملة لمفهوم التعبئة: "قبل الثورة الجبارة والقاصمة التي وقعت في إيران، وقعت في داخل الجماهير ثورة تمثّلت في توجه جميع الشعب نحو الإسلام الذي كان إلى هذا العصر، وخصوصاً في القرون الأخيرة، في طيّ النسيان، ولم يبقَ منه سوى طقوس جامدة لا أثر لها على أحوال الشعوب".
يطالعنا هذا النص بعد إثباته التعبئة كمفهوم عام يعمّ الشعب جميعاً، بأن مضمون التعبئة يقوم على الإسلام دون غيره، وأنَّّّ قيمة التعبئة الأساسية تكمن في الفداء والتضحية.
بعد هذه الإشارة الوجيزة نعود مرة أخرى إلى الإمام، وهو يعرض لحالة التعبئة العامة التي اجتاحت الشعب على أساس الإسلام، فيقول: "وهذا الشعب بمشيئة الله تبارك وتعالى وألطافه الخاصة انقلب في البداية في الجوانب المعنوية، الشباب عاد عن حاله السابق إلى الإسلام، وعرف كيف ينبغي أن يكون، وماذا يعمل، وإثرها جاءت هذه الثورة، ولولا ذاك التغيير الداخلي لما اختلف حال هذه الثورة عن باقي الثورات، فالثورة الداخلية لهذا الشعب وتعرّفه على الإسلام وتوجّهه نحو الله تعالى، هذه الأمور مجتمعة هي التي أثمرت هذه الثورة، وهي التي حفظتها وأوصلتها إلى الانتصار، وأسفرت عن تعاظم حضور هذه الجماهير والتزامها، وهذه الثورة الداخلية هي أيضاً ما كانت لتكون في هذا البلد إلا بألطاف الله تبارك وتعالى.. فلنبحث عن الانتصار في ثورة أعماق الجماهير".
يتّضح من هذا النص أنّ التعبئة حالة جهادية حركية عامة سادت الشعب وعملت على نقله من الركود إلى الحركة، ومن الأنانية إلى التضحية والعطاء. وحركية التعبئة وروحها العامة ومضمونها قائم على أساس الإسلام، والتعبئة سبقت الثورة ومهّدت لها فأنتجتها بوصفها أرضاً لانتصارها، وهي بعد ذلك ضمانة لديمومتها وحفظها وتحصينها ضد التحدّيات الخارجية والمنزلقات الداخلية.
وهذا ما يضعنا أمام أصل آخر من أصول النهضة يتمثّل بإشراك الشعب في المواجهة والاستمداد من طاقاته الجبارة، وعدم قصر المقاومة على الأطر المؤسسية حتى لو كانت في أعلى درجات الكفاءة والتخصص.
8 - تفعيل قانون القلة
من الأصول الأخرى التي أعادت الروح التعبوية تشييدها في الأمة وتفعيلها فيها، من خلال منهج الإمام الجهادي، هي إعادة دور القلّة المؤمنة في بحر الضلال والانحراف.
فخطورة التصحيح والتغيير ومستقبلهما تكمن في الخطوة الأولى التي غالباً -بل دائماً- ما تكون من نصيب قلّة قليلة تقود حركتها إلى تجميع القوى الخائفة والمترددة والراكدة من ورائها, وبدون القلة، التي تكسر حواجز الخوف وتنزع الهيبة الراكزة في نفوس الكثرة وتبني الأفكار، فإن عملية التغيير يقضى عليها أن تبقى تمنّيات حالمة ونظريات في مطاوي الكتب، وبحسب تعبير الإمام: "الأفكار تبدأ صغيرة، ثمَّ تكبُر، ثمَّ يتجمّع حولها الناس، ثمَّ تكتسب القوة، ثمَّ تأخذ بيدها زمام الأمور"[42]. هذه قاعدة مطّردة هي أقرب ما تكون إلى السنّة الشاملة التي لا تستثني أحداً: "ففي كل العالم على مرّ العصور كانت الأفكار تتفاعل عند مجموعة من الأشخاص، ثمَّ يكون تصميم وتخطيط، ثمَّ بدء العمل ومحاولة نشر هذه الأفكار وبثّها من أجل إقناع الآخرين تدريجياً"[43] والمبادرة هي أبداً بِيَد قلّة تزرع الأمل بإمكان التغيير, وتُمسك بِيَدها زمام المبادرة.
وفي إشعاع نور صاعد يستلهم الإمام أفق العمليات التغييرية الكبرى على مسرح تاريخ النبوات وتاريخ الإسلام، فيسجّل في نغم يوصل بين الحاضر والماضي: "السلام على إبراهيم خليل الله الذي هاجم الأصنام وعبّادها وحده، ولم تخفه الوحدة أو ترعبه النار، والسلام على موسى الذي رفع عصاه في وجه الفراعنة ولم يخشَ أحداً، والسلام والتحيات على محمد حبيب الله الذي انتفض وحده وحارب الكفار الظالمين حتى آخر ساعات حياته، ولم يشكِ من قلّة العدد والعدة، والسلام على مسلمي صدر الإسلام الذين هاجموا سلاطين الروم وإيران الجائرين بقليل من الإمكانيات ولم يسمحوا للخوف أن يتغلغل لقلّة الناصر, والسلام الخالد على علي بن أبي طالب الذي حارب الجلاّدين المتلبّسين بلباس الإسلام والقداسة دون أن يخشى قوةً ما، والسلام على الحسين بن علي الذي ثار بأنصاره المعدودين للقضاء على ظلم الغاصبين للخلافة ولم يفكر بمساومة الظالم على الرغم من ضآلة العدد والعدة".
بعد مقاطع أخرى يوصل الإمام الحاضر بالماضي، ويؤسس لحركة الأمة التعبوية الجهادية الحاضرة بالتواصل مع جذورها العميقة في انموذج النبوات وأصول الإسلام، فيصحح ما كان مقطوعاً في الأذهان والنفوس وفي واقع المسلمين، فيقول: "إنّ أصحاب الدنيا يعتبرون ما صدر من أولياء الله العظام هؤلاء، مخالفاً للعقل والشرع، فعقلهم يرفض الثورة بالعدة القليلة وشرعهم لا يسمح بذلك".
أما نهج الإمام في التحريك والنهضة، فقد أعاد هذا القانون إلى حيّز الفاعلية والحضور.
أهمية هذا القانون أنه يلغي تلك الأحكام المتسرّعة العجلى التي بادرت وتبادر إلى إلغاء الفاعليات الحركية والحزبية والتجمّعات النخبوية. فكل هذه الوجودات تتحوّل إلى ضرورة لا مناص عنها لإطلاق شرارة الحركة في الشعوب وتفجير طاقاتها المخزونة، بشرط أن تعي دورها هذا ولا تتخلّى عنه، والأدهى أن لا تتحوّل أداة لتجميد الأمة والحؤول دون انطلاقها أو إلى وجودات بديلة للشعوب ذاتها، كما حصل ذلك لبعضها فعلاً، فقاد إلى أحكام متسرّعة وعجلى بضرورة التخلّي عن هذه الكيانات بالكلية.
تفتح هذه النقطة أفقاً واسعاً لمعالجة الوجودات الحركية والحزبية الإسلامية في بلاد المسلمين، من زاوية الإثارة التي بين أيدينا أو من زوايا أخرى؛ وهو ما يستدعي بحثاً مستأنفاً ليس هذا محله.
9 -عنصر التضحية
تقوم فكرة التضحية والفداء والاستشهاد في الدين الإسلامي على مرتكز اعتقادي يؤمن بفناء هذه الحياة الدنيا والخلود في الحياة الأخرى، لذلك تُهدُّ الشهادة ـ وهي من مراحل الفداء المتقدمة ـ فوزاً، وفي ذلك يحدّثنا الإمام بعد استشهاد المفكر مرتضى مطهري في 2/5/1979م، بقوله: "إنّ أحد دروس العقيدة الإسلامية ومدرسة التوحيد هو أنّ رجال هذه المدرسة يعتبرون الشهادة فوزاً عظيماً لهم (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً)".
ثم يتقدّم الإمام خطوة إلى الأمام، وهو معلّم الأخلاق العظيم، وفاتح دروب الشهادة والفداء أمام قوافل الشهداء في عصرنا الإسلامي الحاضر، فيقول إنهم "يستقبلون الشهادة؛ لأنهم يعتقدون بأن وراء هذا العالم المادي عوالم أسمى وأنور من هذا العالم.
هذا العالم سجن المؤمن، وبعد الاستشهاد يخرج المؤمن من السجن، هذا هو أحد الفروق بين مدرستنا، مدرسة التوحيد، وبقية المدارس الأخرى، فشبابنا يتمنّون الشهادة وعلماؤنا الأعزاء يتسابقون إلى الشهادة".
ثم ينقل الإمام هذه القيمة الاعتقادية إلى حيّزها العملي في تجربة الدولة الإسلامية، ويطلق إرادة التحدّي فيقول: "الذين لا يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر يجب أن يهابوا الموت، يجب أن يخافوا من الشهادة. نحن تلاميذ مدرسة التوحيد لا نهاب الشهادة، فليجرّبونا كما جرّبوا بالفعل".
كلما تحين فرصة للحديث عن الثورة الإسلامية في خصائصها ومزاياها نرى الإمام يحرص على تبيان خصوصية دوافعها مقارنة بغيرها من الثورات والانقلابات السياسية، ففي الذكرى الثامنة للانتصار، وبعدما تحدّث عن الثورتين الفرنسية والروسية وأبان دوافعهما المادية، انتقل سماحته إلى الثورة الإسلامية فقال: "فالثورة التي قمنا بها وقام بها شعبنا، كانت منذ اليوم الأول، ومنذ الهتاف الأول فيها، من أجل الإسلام، لا من أجل الوطن ولا من أجل الشعب ولا من أجل السلطة، بل جاءت من أجل إنقاذ الإسلام من شر القوى الكبرى والمجرمين الأجانب... هذا الدافع الإسلامي ملحوظ بوضوح عند شبابنا وعند عامة الناس إلا ما شذّ وندر، فعند ملاحظة هذا التسابق نحو الشهادة بكل شوق لدى عامة الناس في هذه النهضة، وعندما نسألهم وهم متوجّهون إلى الجبهات وكلهم شوق وحماس: لماذا تذهبون إلى الجبهة؟ يجيب كل واحد منهم: نذهب من أجل الإسلام وفي سبيل الله. ولكن إذا وجّهنا هذا السؤال إلى جندي روسي مثلاً، فسيجيب: أقاتل من أجل السيطرة على هذا البلد، أو من أجل أن أبسط نفوذي".
تتجسّد القيم والدوافع في الفهم الإسلامي من خلال المواقف والأعمال، وأفضلها ما يكتسب القدرة على التغيير العام، كما حصل في إيران حينما تجلّت القيمة التغييرية للتضحية في إنهاء عهد الطاغوت وانتصار الثورة الإسلامية, وبعد النصر عملت الروح ذاتها في فعلها التغييري والحركي على إدامة النصر ودفع المخاطر ومواجهة التحدّيات، بدءاً من مشكلات الداخل وانتهاءً بالأشكال الإقليمية والدولية التي اكتسبت فيها عدوانية السنوات الثماني موقعاً كبيراً ومتميزاً.
هذه العلائق والجدل المحكم القائم بين هذه الأصول يعبّر عنه الإمام الراحل في حديث له في الذكرى الثامنة للانتصار، فيقول: "إنّ شباب إيران إنما يتوجّهون إلى الجبهات طالبين الشهادة؛ لأنهم يرون الشهادة فوزاً عظيماً، وإنّ اعتبارهم الشهادة فوزاً عظيماً ليس لأنهم يموتون وينالون الشهادة قتلاً، إذ إنّ الطرف الآخر يُقتلون أيضاً، ولكن المقصود هو الدافع الإسلامي لديهم، فعندما يكون القتل من أجل الإسلام عند ذلك يشعر الإنسان باللذة لا بالحزن".
في المناسبة ذاتها أضاف الإمام لضيوفه موضّحاً: "أنتم تشاهدون أنّ إيران تتعرّض كل يوم للقصف ويسقط الكثير من الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين قتلى، تتهدّم البيوت على رؤوسهم، لكن بالرغم من ذلك تراهم عندما يخرجون من تحت الأنقاض يهتفون بوجوب استمرار الحرب حتى النصر". تحدّيات قاسية مثل هذه يرافقها ضغوطات اقتصادية وخلل كبير في الخدمات كالماء والكهرباء والهاتف، من الممكن أن تدفع الشعب نحو النكوص والتقهقر لولا رصيده من انتمائه العقيدي وهويته الدينية والدافع الإسلامي للحركة.
نحن الآن نكتب هذا الكلام في أجواء مفعمة بالأمن والاسترخاء ووفرة الخدمات، في حالة أشبه ما تكون بالميوعة إذا ما قورنت بتلك الأجواء، لكن عندما كانت مشاهدها تمرّ في لحظة الفعل ومن خلال الميدان، فقد كانت تبعث ـ وقد كنّا شهوداً على ذلك ـ بنبض المقاومة والحركية والمواجهة في جسد الشعب، وتجعل العالم الخارجي ينظر باندهاش وذهول، حتى صرّح أكثر من مراقب أجنبي بأن ما كان يجري هو "الجنون" بعينه، ووصفه بعضهم بـ"جنون الخمينية"، أما نحن فلم نَرَ فيه إلا الإسلام وروح الاستشهاد وذلك النزوع الحسيني المتجذّر الوضّاء.
ربما كانت هذه المشاهد هي من بين العوامل التي كوّنت غربة العقل الغربي في إدراك جوهر نهضة الإمام وماهية الحركة التي أطلقها في هذا الشعب، وحركيات الدفع الهائلة لقيادة الإمام وحضوره في الساحة حتى كتب أحدهم في مجلة (ديرشبيغل) الألمانية مرة ناصحاً أمريكا والدول الأخرى أن لا تقوم بأي "حركة في إيران مادام الخميني حياً؛ لأنه يتمتع بقوة خفيّة تفوق كل القوى الموجودة في العالم"[44].
هذه الغربة منظوراً إليها من خلال قيمة التحوّل الذي شهده الشارع الإيراني على مستوى الاستعداد للتضحية والعطاء، هي التي أشار إليها الإمام الخميني نفسه في لقائه الصحفي مع مراسل مجلة "تايم" الأمريكية "فان فورست" في السابع من يناير عام 1980م، عندما قال له: "النقطة المهمة التي ينبغي أن تتركّز في أذهاننا أنّ هناك فهماً جديداً.
فإيران اليوم ليست تلك التي كانت تحت حكم الشاه، معجزة حدثت, في النظام السابق شرطي واحد كان يجبر كل التجار في السوق المركزي أن يرفعوا أعلاماً للإعلان عن عيد ميلاد الشاه، هؤلاء الناس أنفسهم وقفوا ضدّ الدبابات والمدافع بأياديهم الخالية، ولا يزالون يلبسون الأكفان حتى الآن. تعال إلى هنا، إلى قم ليكون بمقدورك أن تتكلم فيما بعد عن استعدادهم للشهادة.
إنّ أمة تغيّرت على هذا النحو لن تُهزم، السيد كارتر لم يفهم هذا التغيير بعد"[45].
الإمام رجل نهضة، هو صانعها وهو قائدها؛ لذلك يحرص في كل فكرة وموقف على التكامل والشمول والامتداد عبر المساحة الإسلامية الكاملة لشعوب الأمة، وعندما لا يتعلق الأمر بخصوصية معيّنة، فإن خطابه النهضوي يمتد إلى شعوب العالم المستضعفة في أقاصي الأرض, هذا المعنى نجده واضحاً في حديث سماحته إلى ضيوف الذكرى الثامنة للانتصار حيث حمّلهم (رحمه الله) مسؤولية نقل الروح التي تسري في النهضة الإسلامية بمفاهيمها ومعانيها السامية إلى شعوبهم، وفي ذلك يقول سماحته: "عليكم أيها الضيوف الأعزاء أن تنقلوا هذه المفاهيم، وهذه المعاني السامية لشعوبكم، وتوضّحوا لهم الأمور، قولوا لهم: إنّ شباب إيران إنما يتوجّهون إلى الجبهات طالبين الشهادة". وبعد أن يتحدّث عن الروح التضحوية لدى شباب الجبهات من المدافعين عن الإسلام يقول الإمام مخاطباً ضيوف الذكرى الثامنة للانتصار: "ومن هنا أدعوكم إلى الإمعان في حالة هذا الشعب وانقلوا لشعوبكم ما تشاهدونه من أحوال هذا الشعب عسى أن تتشبّع فيهم هذه الدوافع الإلهية فيتخلّصوا من هيمنة القوى الأجنبية".
لنتمعّن كيف يقرن الإمام الراحل بين إلهية الدوافع وبين الانعتاق والتخلّص من الهيمنة، وكيف يكون الدافع الإلهي أرضية للتضحية، والتضحية أرضية للتغيير والنصر. وهذا هو عين ما نعنيه بالبعد التغييري ـ النهضوي في رؤية الإمام التضحية والفداء.
10- الإطار القُدسي
تتعامل بعض الاتجاهات الفكرية والتغييرية مع الإسلام في العالم العربي والإسلامي بوصفه أيديولوجية نضال، تستفيد من قدراته على التجييش وبثّ الحراك الاجتماعي؛ لتسقط بذلك قيمته الوحيانية (من الوحي) وموقعه بوصفه آخر رسالات السماء إلى الإنسان.
يضمُر الجانب الغيبي والتعبّدي في هذه الاتجاهات، ويصار إلى تقسيم الإسلام إلى حقل "رجعي جامد" يضمّ الغيبيات والعباديات، وآخر "تقدّمي متحرّك" يضمّ الاجتماعيات والثوريات, كما تختفي في إطار هذه النظرة لغة القربة والتكليف والواجب الشرعي والثواب والعقاب، على حساب تضخيم جوانب الحركة والمواجهة والجهاد، ويتحوّل الإسلام نتيجة هذا النمط من التعامل وما يستتبعه من تعضية إلى ساحة مفتوحة على قراءات لا حصر لها، ماركسية راديكالية وليبرالية وعلمانية غربية مستمدة من واقع العلوم الاجتماعية وما تفرزه من منهجيات، بعد أن صار جزءاً من الموروث الاجتماعي للأمة ومفردة في هويتها الثقافية وتكوينها الحضاري الحاضر، وليس دين الله الموحى به إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
ليست قليلة هي الدراسات التي تعاملت مع الإنجاز الخميني على مستوى المواجهة والثورة ثم الدولة والنهضة من هذا المنظور العملياتي (البرجماتي)، ولم تَرَ في الإمام الخميني إلا قائداً سياسياً واجتماعياً "أحسن" توظيف موروث شعبه الديني والثقافي متمثلاً في الإسلام والقيم المذهبية الشيعية؛ لتحريك مواجهة ناجحة مع النظام الملكي بلغت إلى درجة إسقاطه، ثم إقامة نظام سياسي بديل راح يتقاطع مع المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة[46]، تماماً كما حصل للإمبراطور الياباني الشهير ميجي (1868- 1912) في إرساء البنية الحديثة لليابان باستثمار الموروث البوذي وقيم طبقة الساموراي، ولماوتستونغ في الصين والمهاتما غاندي في الهند وهكذا.
أقول باختصار: إنّ هذه قراءات متعضية للإسلام وللإنجاز الخميني، أقل ما يقال فيها إنها مخاتلة تحجب ما لا تريد وتكشف ما تريد، ومن ثم فهي لا تقدم إلاّ صورة زائفة غير أمينة للإنجاز. ومادام الغرض من هذا المقال هو تقديم خطوط عريضة ومادة خام فحسب، فسنكتفي بعدد من الأصول والمبادئ والمرتكزات التي تؤطّر الإنجاز الثوري والنهضوي للإمام الخميني، من خلال نصوصه مباشرة:
1ـ نهضة الإمام وفعله الثوري عملان دينيان صرفان ينطلقان من الإسلام ويتحرّكان على أساسه، ويفرزان أطرهما في الفعل والحركة من خلال مبادئه العقيدية والتشريعية، خاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (داخلياً)، والدفاع الشرعي عن المظلومين والانتصاف لهم ومجاهدة المعتدي (خارجياً).
يقول في وقت مبكّر من انطلاق مواجهته للنظام الملكي عام 1963م: "يجب أن يكون هدفنا محدداً، إنه الإسلام"[47]. والأوضح منه قوله: "فالثورة التي قمنا بها وقام بها شعبنا منذ اليوم الأول، والهتاف الأول كان من أجل الإسلام، لا من أجل الوطن ولا من أجل الشعب ولا من أجل السلطة،بل جاء من أجل إنقاذ الإسلام"[48].
بَيْدَ أنّ الإمام يعي تماماً أنّ صورة الإسلام تنصرف في ذهن البعض إلى تلك الموروثات التاريخية الماثلة في استغلال الحكام والسلاطين والأمراء والخلفاء والعلماء من صنف وعاظ السلاطين، فتجعله متماهياً بالأنظمة الاستبدادية ورموزها موصولاً بوعاظ السلاطين والمتحجّرين ورؤاهم وفتاواهم، فترتد صورتهم في وعيهم إسلاماً قامعاً متخلّفاً متحجّراً حامياً الأنظمة ومعطّلاً للإنعتاق من التبعيات، ومعيقاً لمقاومة الشعوب ونهضتها، مكرّساً التخلّف والجمود، وغير مطاوع لتيارات العصر ومستجدّاته. على هذا كله دعا الإمام إلى الإسلام المتحرر من هذه الأثقال والقيود، المعبّر عنه في خطاب الإمام بـ "الإسلام المحمدي" دون "إسلام أمريكا" أو "إسلام وعاظ السلاطين" أو "إسلام آل سعود" أو "إسلام رضا بهلوي" أو "إسلام صدام" أو "إسلام هارون الرشيد" أو "إسلام بني أمية"، وكلها صيغ في التعبير مستخدمة في نصوص الإمام وواردة في خطابه.
2ـ عندما يكون الإسلام هو المنطلق وهو الهدف، فستنتظم علاقة الإمام بفعله الثوري وحركته النهضوية في إطار التكليف والواجب الشرعي، وكذا من يتحرّك في فلك النهضة؛ فهو يتحرّك لمواجهة النظام الملكي نصحاً في البدء ومواجهةً شعبية دموية في النهاية تفضي إلى إسقاطه واستئصاله على هدي لغة التكليف والواجب الشرعي، وكذا في كل حركة وسكنة: "إنني وتنفيذاً للواجب الشرعي أحذّر الأمة الإسلامية والشعب الإيراني من الخطر المحدق بالقرآن الكريم، وأعلن أنّ الإسلام في خطر"[49]. كما قوله أيضاً: "إنني بحكم أدائي لواجبي الشرعي أذكركم بمصائب..."[50].
هذه اللغة تخفف بعض الشيء من وطأة حسابات النصر والهزيمة بمفهومها المادي الصرف، لتجعل الواجب الملقى على الإنسان المسلم هو العمل والسعي الدؤوب دون توقف حتى وهو يواجه أخطاراً جساماً كالتضحية بالنفس، لكن من دون أن تلغي تماماً الحسابات الموضوعية التي تقرّها سيرة العقلاء وتدخلها الشريعة في حسابها, والأهم من ذلك أنها توفّر مقياساً للحكم على القائد نفسه، إذ من غير المعقول أن يتحدّث القائد للآخرين بلغة التكليف والواجب الشرعي ويجعل نفسه خارج هذا المنطوق وبمنأى عمّا يمليه من لوازم، حيث يحدّثنا الإمام بقوله: "هل يقدر الخميني وأمثاله أن يقولوا شيئاً يخالف مصلحة الإسلام الذي كابد لإحيائه نبي الإسلام، وضحّى لأجله أئمة الهدى...؟ إنّ الخميني يخطئ فيما لو أراد الحديث بما يخالف الدين الإسلامي"[51] وذلك في إشارة منه إلى أجواء المساومة التي غطّت فعل السلطة الشاهنشاهية في التعامل معه عشية انتفاضة خرداد وبعدها.
هذه اللغة هي الأقدر من غيرها لكي تفسر لنا الفَرادة المتميزة في هذه الشخصية وصلابتها الهائلة وإصرارها الكبير في المواجهة، وإمساكها زمام المبادرة دون خوف أو تردد: "إنّ الخميني سيواصل طريق الجهاد ضدّ الكفر والظلم والشرك وعبادة الأصنام حتى لو ظلّ وحيداً، وسيسلب النوم من أجفان المستكبرين والعملاء بعون الله تعالى"[52]. هذا الحزم والإصرار الذي يصدر عن شيخ أشرف على التسعين، وليس من شابٍ في أواسط عمره وعنفوان شبابه، هو وليد لغة التكليف ومنطق الواجب الشرعي.
3ـ تخضع لغة التكليف لأطرها الشرعية متمثّلة تحديداً بالتكييفات الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصفها أسمى الفرائض وأساسها في حفظ كينونة المجتمع داخلياً، ثم بمبادئ الدفاع الشرعي والجهاد الابتدائي وضوابطهما، بوصفهما التكييف الفقهي لممارسة فعل المقاومة والحفاظ على كيان المجتمع والشعوب والأمة بأزاء ما تواجهه من تحدّيات متمثّلة اليوم بالاستعلاء الأمريكي والعدوانية الصهيونية.
أكتفي بهذا الإلفات إلى الأطر الشرعية لممارسة الفعل التغييري الثوري دون الدخول في تفصيلات تكييفاته الفقهية وما تثيره من تفاصيل[53].
4ـ ما نفهمه من المنطق الإسلامي حاجة الفعل الثوري والتغييري إلى المنطلق الفقهي الذي يصدر عنه، وهذا ما تؤمنه مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل الدفاع والجهاد الابتدائي, أما آليات الفعل وبرامج الممارسة ووسائل التنفيذ فهي تدخل في الموضوعات المتروكة للمكلف وللشعب وللأمة، تختار منها ما يناسب إمكاناتها وما يسمح به التقدم في عصرها، شريطة أن تبقى هذه الآليات والوسائل رهينة الصحة الشرعية بحيث لا تخرج من دائرة المباح إلى الحرام وما إلى ذلك.
بَيْدَ أنّ الثابت مع ذلك أنّ وسائل الدفاع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما كانت مألوفة للأمة كانت الجدوى من الفعل أكبر، والنتائج أعمق وأشمل؛ لهذا كله سعى الإمام الخميني إلى تفعيل ما هو مألوف ثقافياً واجتماعياً لدى شعبه, بحيث تجتمع عليه الأغلبية دون إحساس بالغربة، فكان تركيزه في تجييش الطاقات الشعبية واستثارتها على دور العلماء والمساجد والحوزات، وصلاة الجمعة والجماعات، وموسم الحج، وشهر رمضان ويوم القدس، باثّاً في أثناء ذلك الروح في قيم عليا بقيت مقصيّة في مداها الاجتماعي العام، مثل الشهادة والتواصل أو التآخي الاجتماعي، والإيثار والصبر، بل مفهوم التكليف نفسه ولغة الواجب الشرعي.
لكن ما بقي متألّقاً على طول الخط بدءاً من انتفاضة خرداد، مروراً بأحداث ثورة شباط، ثم مخاضات بناء الدولة وما مرّت به من مواجهات داخلية وخارجية، لاسيّما الحرب العراقية-الإيرانية، هو واقعة الطف وكربلاء ويوم الحسين في عاشوراء الذي تحوّل إلى "ثابت" له حضوره الضخم في الخطاب الخميني في كل الأدوار، حتى لم ينسَ أن يحثّ على عدم التخلّي عنه في وصيّة الختام: "من ذلك، أن لا تغفل [الأمة] عن مراسيم عزاء الأئمة الأطهار، وبخاصة سيد المظلومين والشهداء حضرة أبي عبد الله الحسين... ولتعلم أنّ تعاليم الأئمة عليهم السلام لإحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية... إنما هو بأجمعه يمثل صرخة الشعوب البطولية بوجه الحكام الظلمة على مرّ التاريخ وإلى الأبد... وهي صرخة بوجه ظلَمَة العالم"[54]. وهذا ما انتبه إليه عدد كبير من الدراسات حول النهضة والإمام وإن لم يحسن بعضها فَهْم ذلك ولم يقوَ على هضمه[55].
5ـ عندما يكون الإسلام هو المنطلق والهدف ولغة التكليف والواجب الديني هي الإطار، فإن إيران تتراجع في النهضة لتتقدم عليها هموم المسلمين ومصائب البلاد الإسلامية، بل هموم المستضعفين ومشكلاتهم. وإذا ما تمّ الحديث عن استقلال إيران وبنائها، فذلك يحصل من أجل خدمة الإسلام وقضايا المسلمين، ولكي تتحوّل إلى قاعدة صلبة في مشروع النهضة الشاملة: "علينا أن نصنع من إيران بلداً مستقلاً سياسياً وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً، ومتحرراً من الاتّكاء على أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا، هذه القوى الطامعة"[56].
بَيْدَ أنّ هذا البناء الرصين لا يعطي الإقليم الإيراني ميزة على غيره من بلاد المسلمين، وإنما المفروض أن يتحوّل إلى نقطة ارتكاز لتوسيع دائرة النهوض: "نحن لا نفرق بين إيران وسائر البلدان الإسلامية، ونرى الدفاع عن جميع المسلمين واجباً دينياً، وسنتصدّى إذا تمكّنا لكافة الجبابرة في العالم، وإننا لا نستطيع أن نفرق بين مسلم حبشي وآخر إيراني؛ لأن الإسلام لا يقرّ ذلك، ولا فضل لأحد إلا بالتقوى"[57].
ما دامت قضية دعم المسلمين -كل المسلمين- هي استحضار لواجبٍ ديني، فلا معنى لتخلّف هذا الواجب أو تعطّله تحت أية ذريعة كانت؛ لذلك عاد الإمام يركّز هذا المنطق في لحظة عصيبة ربما كانت هي الأكثر حراجة فيما واجهه خلال السنوات العشر الأخيرة من عمره, ففي الذكرى السنوية الأولى لمجزرة البيت الحرام بمكة المكرمة، وبعد يومين اثنين من موافقة إيران على القرار (598) القاضي بوقف إطلاق النار على جبهة الحرب العراقية-الإيرانية، وجّه الإمام بياناً سياسياً أعاد فيه تأكيد قواعد الموقف الإسلامي للنهضة إزاء عدد كثير من القضايا, عن دعم المسلمين مثلاً قال سماحته: "إنني أعلنها صريحة أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران تقف -وبكل وجودها- إمكاناتها لأجل إحياء الشخصية الإسلامية للمسلمين في كافة أرجاء المعمورة"[58].
أجل، لا موضوعية لإيران، بل الهدف هو الإسلام، والهمّ الإسلامي يسع المسلمين بأجمعهم، ويمتد ليشمل دائرة المستضعفين من غير المسلمين، بل هو همّ إنساني بالمطلق، حيث كان الإمام يطمح إلى بناء جبهة عريضة وعامة تضمّ في قاعدتها المسلمين والمستضعفين في مواجهة العلو الغربي: "علينا أن نعد أنفسنا لتكوين جبهة قوية إسلامية-إنسانية بنفس اسم ومميزات إسلامنا وثورتنا، لمواجهة جبهة الشرق والغرب المتحدة، فنحتفل بسيادة المحرومين والحفاة في العالم"[59]. إذا ما بدت هذه النصوص غريبة أو ناشزة مع مساحةٍ ما من منطق الدولة التي تركها الإمام، خاصة مع ازدهار استراتيجيات اقتصاد السوق بوجهه الاستهلاكي القبيح والانفتاح على مقولة "المجتمع المفتوح" بمعناه الرأسمالي الاستهلاكي، وما قاد إليه ذلك من تخلخل في القيم ونمو لنزعة قومية تعلن عن قناعتها صراحة ودون مواربة "إيران للإيرانيين"[60]، فإن الأمانة في البحث تدعونا أن نعلن أنّ هذه هي الجوانب المُحكمة في نهضة الإمام التي أراد لإيران أن تتحرك على هديها، إذ ماذا نفعل وبين أيدينا نص يسجّل فيه الإمام: "إنّ هذه الثورة قد قامت بالدرجة الأولى من أجل العالم الإسلامي، وبالدرجة الثانية من أجل المحرومين والمستضعفين... وبهذا المعنى أن الثورة الإسلامية الإيرانية ليست فريدة ومقتصرة على نفسها، بل هي بداية ثورات تماثلها في الهوية والميزات"[61].
6ـ في ظاهرة الإسلام السياسي تحوّل إنشاء الدولة وبلوغ السلطة إلى هدف، بل تحوّلت أطروحة الدولة الإسلامية في بعض أدبيات وأعمال تيارات هذه الظاهرة ورموزها إلى وثن يحجب الحالة الدينية ويغيّبها. بديهي أنّ المشروع الخميني لا يلغي أطروحة الدولة ولا ينفي وجوب السعي لإنشائها: "علينا... أن نسعى لوضع حجر الأساس للدولة الإسلامية"[62]، بل يجعل وجودها رهناً بتنفيذ أوامر الله وبسط العدل، وإذن فهي وسيلة يراد بها "تنفيذ أمر الله وإقرار النظام العادل"[63].
مع ذلك كله تبقى الغاية هي الإنسان وتحريره من الأغلال، والأمة وفتح طريق التكامل أمامها، وما إقامة العدل إلا هدف متوسط لهدف أعلى وغاية أسمى هي الانغمار في حركة معرفية تكاملية تصعد بالإنسان نحو الله: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾[64].
بتعبير واضح ليست الغاية من وراء رسالات السماء وبعث الرسل والأنبياء تشييد الحكم الديني وإقامة القسط، بل الحكم وسيلة وإقامة العدل هدف متوسط لغاية أكبر تتمثّل بتفجير طاقات الإنسان وسَوْقه صوب التكامل.
أجل، الأنبياء جاءوا "يبسطون العدالة، والعدالة الاجتماعية هي رهن أيديهم، وجاءوا ليؤسسوا الحكومة، الحكومة العادلة، بَيْدَ أنّ ذلك ليس هو المقصد، إنّ هذه كلها وسيلة لكي يبلغ الإنسان مرتبة أعلى، ومن أجل ذلك جاء الأنبياء"[65].
هنا بالتحديد يكمن ختام القصيدة بالمطلع، فالأساس "لمقصود الأنبياء العظام، وللتشريع والشرائع وتأسيس الأحكام ونزول الكتب السماوية خاصة القرآن الشريف... هو نشر التوحيد"[66]، كذلك أيضاً: "الدعوة إلى معرفة الله وبيان المعارف الإلهية، من الشؤون الذاتية والأسمائية والصفاتية والأفعالية، والأهم من ذلك كله توحيد الذات والأسماء والأفعال"[67].
هذه هي الغاية التي عبّر عنها الإمام في واحد من أهم بياناته للأمة قبل أقل من عام من وفاته، بقوله: "نحن عازمون على إعلاء كلمة لا إله إلا الله على قمم الكرامة والمجد الشامخة"[68].
الخاتمة
1ـ أعرف تماماً غربة هذه المبادئ والأصول في ظل الأجواء التي ترين على مساحة واسعة من الأفق في العالم العربي والإسلامي، ولاسيّما على مستوى المنتديات الحكومية والرسمية، وأتّفق تماماً مع النص الذي يسجّل فيه صاحبه: "ما أشد حاجتنا إلى الثوار وما أكثر حديثنا عن الثورات.
في عصر غاب فيه الثوار ينظر فيه إلى الثورية كظاهرة اجتماعية غير مستحبة ونزعة فكرية شاذة، حتى خلت الساحة من الثوار"[69] أللهم إلاّ تلك الومضات التي تشعّ بها الأعمال الجهادية في هذه البقعة وتلك، وهي قليلة على كل حال ولا تقاس بحاجة الأمة في ظل تراكم الظلم والتخلّف ولا تنسجم بالتالي مع دواعي التغيير.
2ـ هذه التي مرّت ليست بلاغات ثورية ولا أمنيات أو تطلّعات حالمة، كما أنها ليست أفكاراً نظرية لمشروع مرتقب في التغيير والنهضة -وما أكثرها- وإنما هي تعبير عن مُنجز قد تحقق, وواقع كنّا بأجمعنا شهوداً عليه.
فقيه ينطلق من حاضرة العلم الإسلامي بمدينة قم الإيرانية، وقد شارف على الستين، يدخل في مواجهة محدودة مع النظام المركزي في طهران تنتهي بحريق شعبي يلهب مراكز بعض المدن الكبرى وتؤدي إلى اعتقال القائد الناهض ثم نفيه.
لم يستكن الفقيه الثائر ولم يستسلم بل بادر إلى العمل الجاد الدؤوب من منفاه، تستوطنه عزيمة لا تلين ويعلوه إصرار الأنبياء وصبرهم، فحرّك شعبه في نهضة عارمة لم يشهد لها العالم الإسلامي مثيلاً خلال عقود، تحوّلت إلى ثورة جارفة تعدّ بحقّ واحدة من أندر الثورات الشعبية خلال قرنين، أسقطت عرش الطاووس وأنهت حكم نظام تابع هو من أصلب الحلقات في أنظمة التبعية وأقواها، لتستبدله بنظام بديل انبثق عنه دستور ومؤسسات لدولة دينية عصرية, ترتكز إلى تكييفات اجتهادية فقهية متنوّرة وأصيلة.
على أنّ الأهم من إنجاز الدولة وبناء أطرها دستورياً ومؤسسياً هو النهضة التي انطلقت بموازاتها في العالم الإسلامي، ولم تكد توفّر إقليماً من أقاليمه إلا وشملته بنبضها الحركي ووهجها الوضّاء، واستقطبت إليها الجميع وتركت تأثيراتها الفكرية والشعورية على التيارات المهمومة بالنهضة والتغيير من الاتجاهات كافة: "خلقت الثورة الإيرانية تغييراً في المنطقة كلها، حتى أنّ التنظيمات الفلسطينية والليبراليين واليساريين من الكتّاب والمثقفين ابتداءً من أدونيس حتى عالم الاجتماع المصري القبطي اليساري سابقاً أنور عبد الملك، جميعهم شاركوا الإسلاميين إعجابهم بالثورة الناجحة، وبأبعاد التغيير الثوري في العالم العربي والإسلامي"[70].
إذاً نحن أمام منجَز تحققَ على أرض الواقع, وليس بأزاء بلاغات ثورية أو مشاريع نظرية تنتظر فرصتها الموائمة لإثبات فاعليتها من اختبارات الواقع.
نحن أمام تجربة دخلت الاختبار وخرجت منه ناجحة، بقدر ما يرتبط الأمر بالمواجهة وإسقاط النظام وتأسيس الحكم البديل في العقد الخميني؛ وهذا ما يمنح هذه المبادئ والأصول في نظرية التغيير وفكر المواجهة أهمية مضاعفة، من دون أن يعني ذلك المبادرة لاستنساخها وإسقاط خصوصية الشروط في كل إقليم على حدة.
3ـ لا تزعم هذه المحاولة أنها قدّمت نموذجاً تنظيرياً متكاملاً، وإنما حسبها أن تكون خامات وبذوراً لعمل تأسيسي منشود يمكن أن يتحوّل إلى منظومة نظرية متكاملة في التغيير والمواجهة، إذا سنحت لها العدة المنهجية اللازمة والإحاطة الفكرية.
كما لا نزعم أنّ المبادئ والأصول التي ذكرت قد جاءت جامعة مانعة بالمعنى المنطقي، إذ ربما تداخلت فيما بينها ومن ثم لم ترعَ ضوابط القسمة المنطقية، والأهم من ذلك أنها لا تزال مفتوحة لإضافات أساسية تستوفي جوانب أخرى من التجربة.
بَيْدَ أننا نستطيع أن نسجّل باطمئنان بأن ما مرّ معنا يمثّل "محكمات" في خط الإمام ونظرية المواجهة أو منظومة النهضة الخمينية على نحو أعم، تقاس بها "المتشابهات" وترجع إليها.
أجل، هذه المبادئ والأصول هي حتى اللحظة من "المحكمات"، ويبدو أنها ستبقى كذلك في المدى المنظور ما لم يطرأ على المشهد تغيير مفاجئ.
وما دمنا نعيش أجواء النهضة في مناخات النص الخميني ونتفيّأ ظلالها، فمن المهم أن نختم بنص استنهاضي للإمام الراحل يستشرف فيه مآلات العالم الإسلامي خلال القرن الهجري الحاضر: "أيها المسلمون في كل أرجاء العالم.. أيها المستضعفون الراسفون في قيود الظالمين انهضوا، وتعاضدوا متّحدين، ودافعوا عن الإسلام وعن مقدّراتكم، ولا تهابوا ضجيج الطواغيت، فهذا القرن هو بإذن الله القادر قرن غلبة المستضعفين على المستكبرين، وغلبة الحق على الباطل"[71].
ملاحظة
عدتُ في نصوص الإمام إلى ما بين يدي من ترجمات عربية في الأغلب ولم أرجع إلى النصوص الفارسية إلا قليلاً، تيسيراً للجهد وحرصاً على إنجاز المقال في موعده المقرر. أما النصوص التي لم أرجعها إلى مصادرها مباشرة فقد أخذتها مما أصدرته وزارة الإرشاد الإسلامي ومنظمة الإعلام الإسلامي في إيران، مما سيأتي توثيقه في الهوامش.
---------------------
[1] الفكر الإسلامي: قراءة علمية، محمد أركون، مركز الإنماء القومي، ترجمة هاشم صالح، ص63.
[2] كيف نفهم الغرب؟ هشام شرابي، ضمن ندوة الثقافة العربية في المهجر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص26، نقلاً عن: مجلة المستقبل العربي، العدد160، حزيران 1992، ص16.
[3] المصدر نفسه ص16.
[4] نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، راسل جاكوبي، ترجمة فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، رقم 269، الكويت، صفر 1422هـ/أيار 2001م، ص9.
[5] المصدر نفسه.
[6] الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي: قراءة في خطاب الصراع والاستنهاض، د. سمير سليمان، طهران، 1411هـ، ص 48.
[7] مختارات من أقوال الإمام الخميني، ترجمة محمد جواد المهري، طهران 1402هـ، ج2، ص102.
[8] الأصولية الإسلامية والنظام العالمي، د. أحمد الموصللي، مركز الدراسات الاستراتيجية، بيروت 1992، ص 58.
[9] الثورة الإسلامية والاستكبار العالمي، إعداد: محمد علي حسين، وزارة الإرشاد الإسلامي، ص 51 وخطاب الإمام بتاريخ تموز 1980.
[10] المصدر نفسه، ص 50.
[11] من حديث الإمام إلى المشاركين في مؤتمر القدس بتاريخ 9/8/1980. ينظر: الإمام في مواجهة الصهيونية.
[12] المصدر نفسه.
[13] المصدر نفسه.
[14] المصدر نفسه، ص 711.
[15] أنظر: القوميّة العربية و الإسلام، ندوة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط 3، ص422.
[16] المرجع نفسه، ص522.
[17] أنظر: الشيخ فضل الله النوري والحركة الدستوريّة، مهدي أنصاري، طهران 1991، ص79، بالفارسية.
[18] المصدر نفسه.
[19] أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي، ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991م
[20] المصدر نفسه، وصفحات النصوص هي على التوالي: 20، 19، 44، 126، 135، 309، 370، 337، 338.
[21] بيان الإمام لموسم حج 1400هـ.
[22] نداء الثورة الإسلامية: عرض لطائفة من نداءات الإمام الخميني إلى أبناء العالم الإسلامي، إعداد محمد علي حسين، وزارة الإرشاد الإسلامي، ص 67.
[23] المصدر نفسه، ص 88.
[24] الإمام الخميني في مواجهة الصهيونية، بيان أصدره الإمام بتاريخ جمادي الآخرة سنة 1384هـ، ص 35
[25] خطاب ألقاه الإمام بمدينة قم في 20/جمادي الآخرة/ 1384هـ، المصدر السابق، ص 34.
[26] المصدر نفسه، ص 36.
[27] المصدر نفسه، ص36.
[28] المصدر نفسه، ص59.
[29] المصدر نفسه، ص 69، 85.
[30] أنظر: موقف الإمام الخميني تجاه إسرائيل، دار التوجيه الإسلامي، الكويت؛ قضية فلسطين والصهيونية في رؤية الإمام الخميني، محمد تقي تقي بور، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1412هـ ؛ إيران الإسلامية والقضية الفلسطينية، د. جلال الدين مدني، مؤسسة سروش، طهران 1405هـ ؛ الإمام الخميني في مواجهة الصهيونية، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران 1403هـ ؛ الإمام في مواجهة الصهيونية: مقتطفات من خطب الإمام الخميني حول الصهيونية، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1403.
[31] الإمام في مواجهة الصهيونية، ص 53. وإذا كان دعم الاستعمار الغربي للكيان الصهيوني تأسيساً وبقاءً واضحاً للجميع خاصة الاستعمارَين البريطاني ودوره في التأسيس والأمريكي ودوره في البقاء، فيمكن لمن يعتوره الشك في دور الاتحاد السوفيتي سابقاً أن يعرف أن موسكو و ليس لندن أو واشنطن هي أول من اعترف بهذا الكيان في الأمم المتحدة عند إعلانه عام 1948. للمزيد من التفاصيل عن دور موسكو، ينظر: موسكو وإسرائيل: دراسة مدعمة بالوثائق لجهود موسكو في خلق إسرائيل وإبقائها، د. عمر حليق، الدار السعودية للنشر.
[32] الإمام في مواجهة الصهيونية، ص 55.
[33] من لقاء للإمام مع مجلة "غد أفريقيا"، الإمام في مواجهة الصهيونية، ص 81.
[34] المصدر نفسه، ص 73.
[35] المصدر نفسه، ص 87 من لقاء للإمام مع صحيفة "العالم الثالث" الألمانية.
[36] المصدر نفسه، ص 105.
[37] المصدر نفسه، 102-103.
[38] المصدر نفسه، ص60.
[39] كإطلالة على بعض التيارات وموقفها من المسألة الثقافية ينظر في تعريف الثقافة ومعانيها ودورها: ثقافتنا في ضوء التاريخ، عبد العروي، ط 2، بيروت 1988؛ نحو نظرية للثقافة، د. سمير أمين، بيروت 1989؛ نظرية الثقافة، ترجمة د. علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم 322، الكويت، تموز/1997؛ نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، راسل جاكوبي، عالم المعرفة، 269، أيار/2001.
[40] نهاية اليوتوبيا، مصدر سابق، ص 50-51.
[41] الدين والثقافة الوطنية، د. حسن حنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 192-193(هذا الكتاب هو الجزء الأول من ثمانية حنفي الموسومة: الدين والتراث في مصر).
[42] الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني، منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى، ص 119.
[43] المصدر نفسه.
[44] جوانب من أفكار الإمام الخميني، تأليف محمد جواد المهري، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران 1402، ص48.
[45] تنظر الترجمة الكاملة للقاء في: مجلة الوحدة، العدد 199، شباط/ 1997، صفحة 34- 37.
[46] بين يدي وأنا أكتب هذه السطور قراءة ماركسية صرفة تقدم الإنجاز الخميني في إطار ثوري تقدمي من خلال إسلام متحرر عرف الخميني كيف يوظّفه اجتماعياً وسياسياً، ينظر: العملية الثورية في الإسلام، د. أميل توما، دار الفارابي، بيروت 1981.
[47] الإمام في مواجهة الصهيونية، ص28 والخطاب يعود إلى 10/4/1963.
[48] خطاب الإمام الخميني، مجلة سروش للعالم العربي، العدد 71.
[49] الإمام في مواجهة الصهيونية، ص 17-18.
[50] المصدر نفسه، ص 34 والكلام يعود إلى تاريخ 18/شباط/1971.
[51] المصدر نفسه، ص 19.
[52] من بيان سماحته إلى حجاج بيت الله الحرام في موسم حج سنة 1407هـ.
[53] ينظر كمدخل فقهي عام لرؤية الإمام: تحرير الوسيلة، ط 4، 1403هـ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي والمنكر، والفصل الذي كتبه في الدفاع عن بيضة الإسلام، ص 398 -419. لكن ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار أن رؤية الإمام على مستوى التكييف الفقهي شهدت تطورات هائلة بعد هذا النص الذي كتبه الإمام عام 1384هـ عقب انتفاضة خرداد ونفيه من إيران، إذ وفرت ثورته وتأسيس الدولة ومخاضات الحرب العراقية-الإيرانية موضوعات هائلة في إثراء الرؤية فقهياً.
[54] الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني، طبعة مؤسسة الحج والأوقاف و الأمور الخيرية، ص14.
[55] أنجز كاتب هذه السطور دراسة لفلسفة الشعائر الحسينية ودورها في نهضة الإمام. ينظر: الشعائر الحسينية، جواد علي كسار، مؤسسة الثقلين الثقافية، بيروت 1422هـ.
[56] من حديث للإمام بتاريخ 11/ تموز/1979.
[57] النص من خطابٍ للإمام، مجلة سروش للعالم العربي الصادرة عن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، العدد61.
[58] من بيان سماحته بتاريخ 5/ذي الحجة/1408هـ.
[59] بيان الإمام بتاريخ 5/ذي الحجة/1408هـ.
[60] كتحليل من داخل منظومة الثورة وفي إطار الدفاع عن مشروعها الفكري، يلحظ كتاب فرامرز رفيع بور "توسعة وتضاد" (التنمية و التعويق) بجزأيه، والذي يعدّ أبرز تحليل لتحولات العقد الأخير في إيران وما تركه ازدهار نمطيات اقتصاد السوق بوجهه الاستهلاكي من تأثير على الواقع الاجتماعي وقيم المشروع الخمينيّ، و الكتاب بجزأيه ينوف على مئتين وألف صفحة.
[61] مختارات من أقوال الإمام الخميني، ترجمة محمد جواد المهري، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران 1403، ج2، ص 8.
[62] الحكومة الإسلامية، ص 120.
[63] المصدر نفسه، ص 54.
[64] الانشقاق/6.
[65] تفسير سورة الحمد، ص 174 بالفارسية.
[66] القرآن كتاب الهداية، ص 29 بالفارسية.
[67] المصدر نفسه.
[68] بيان الإمام بتاريخ 5/ذي الحجة/1408هـ.
[69] الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، د. نبيل علي،سلسلة عالم المعرفة، الرقم 279، الكويت ديسمبر/2001، ص 36.
[70] الطائفية السياسية في العالم العربي، د. فرهاد إبراهيم، القاهرة 6991، ص 371.
[71] من بيان لسماحته بتاريخ 6/9/1891 عن: الإمام في مواجهة الصهيونية، ص 431
تعليقات الزوار