24

من فكر الإمام الخامنئي: هدف الإمام الحسين (عليه السلام) من الثورة

قد قيل الكثير عن نهضة هذا العظيم، لكنّ الإنسان كلّما فكّر وتدبّر في هذا الموضوع، كلّما إتّسع مجال التفكير والبحث والتحقيق والمطالعة عنده، فقد بقي الكثير ممّا لَمْ يُقال عن هذه الحادثة العظيمة والعجيبة الّتي لا نظير لها.

فعلينا أنْ نتدبّر ونتفكّر فيه ثمّ نقوله للآخرين.

لو نظرنا الحادثة منذ أنْ خرج الحسين (عليه السلام) من المدينة وتوجّه نحو مكّة إلى أنْ استُشهد في كربلاء، لأمكننا أنْ نقول إنّ الإنسان يستطيع عَدّ مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي استمرّ أشهر معدودة فقط, ولا أودّ القول آلاف الدروس وإن أمكن قول ذلك, حيث تعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساً، لكن عندما نقول مائة درس أيّ لوْ أردنا أنْ ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا إستقصاء مائة عنوان وفصل، وكلّ فصل يعتبر درساً لاُمة وتاريخ وبلد ولتربية النفس وإدارة المجتمع وللتقرّب إلى الله.

هكذا هو الحسين بن علي (أرواحنا فداه وفداء إسمه وذكره) كالشمس الساطعة بين القديسين، أي إنْ كان الأنبياء والأئمّة والشهداء والصالحين كالأقمار والأنجم، فالحسين (عليه السلام) كالشمس الطالعة بينهم، كلّ ذلك لأجل هذه الاُمور.

وإلى جانب تلك الدروس هذه، هناك درس رئيسي في هذا التحرّك، سأحاول توضيحه لكم.

وهو لماذا ثار الحسين (عليه السلام)؟ لماذا ثُرت يا حسين رغم كونك شخصيّة لها إحترامها في المدينة ومكّة، ولك شيعتك في اليمن، إذهب إلى مكان لا عليك بيزيد ولا ليزيد عليك شيء، تعيش وتعبد الله وتبلِّغ؟

هذا هو السؤال والدرس الرئيسي، ولا نقول إنّ أحداً لم يَشر إلى هذا الأمر من قبل، فقد حقّقوا وتحدّثوا كثيراً في هذه القضيّة، وما نودّ قوله اليوم ـ وفي رأيي ـ هو إستنتاج جامع ورؤية جديدة للقضيّة.

يقول البعض: إنّ هدف ثورة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة وإقامة حكومة بدلها.

هذا القول شبه صحيح وليس خطأ، لأنّه لو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين (عليه السلام) ثار لأجل إقامة حكومة وعندما يرى عدم إمكانيّة ذلك، يقول لم نتمكّن من ذلك، فلنرجع.

إنّ مَن يثور لأجل إقامة حكومة، سيستمرّ مادام يرى إمكانية ذلك، فإن احتمل عدم الإمكان أو عدم وجود إحتمال عقلائي، فوظيفته أن يرجع, فالّذي يقول إنّ هدف الإمام (عليه السلام) من هذه الثورة هو إقامة الحكومة العلويّة الحقّة، فهذا غير صحيح؛ لأنّ مجموع هذا التحرّك لا يدلّ على ذلك, وساُبين ذلك لاحقاً.

والبعض على العكس من ذلك، قالوا: ما الحكومة؟ إنّ الحسين كان يعلم بعدم تمكّنه من إقامة الحكومة، إنّه جاء لأجل أن يُقتل ويَستشهد.

لقد شاع هذا الكلام على الألسن كثيراً فترةً من الزمن، وكان البعض يصنع ذلك بتعابير جميلة، ثمّ رأيت أنّ بعض كبار العلماء قد قالوا ذلك أيضاً، فهذا لا يُعتبر كلاماً جديداً وهو أنّ الإمام (عليه السلام) ثار لأجل أن يستشهد، لأنّه رأى أنّه لا يمكنه عمل شيء بالبقاء، فقال يجب أن أعمل شيئاً بالشهادة.

هذا الرأي أيضاً لا يوجد في المصادر الشرعيّة الإسلاميّة, ما يؤّيد حجّة إلقاء الإنسان نفسه في التهلكة القتل.

إنّ الشهادة الّتي نعرفها في الشرع المقدّس من خلال الآيات والروايات هي أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدف مقدّس واجب أو راجح، هذه هي الشهادة الإسلاميّة الصحيحة.

أمّا أن يتحرّك الإنسان لأجل أن يُقتل فلا، إذاً هذا الأمر وإن كان فيه جانباً من الحقيقة لكن لم يكن هدف الحسين (عليه السلام).

إذاً ـ باختصار ـ لا يمكننا القول: إنّ الحسين (عليه السلام) ثار لأجل إقامة الحكومة، ولا أن نقول: إنّه ثار لأجل أن يستشهد, وإنّني أتصوّر أنّ القائلين بأنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة, فالهدف لم يكن ذلك، بل كان للإمام الحسين (عليه السلام) هدف آخر، كان الوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركة تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين، فقد أعدّ مقدّمات الحكم وكذا مقدّمات الشهادة، فإذا تحقّق أيّ منهما، كان صحيحاً، لكن لم يكن أيّ منهما هدفاً، بل كانا نتيجتين.

إذاً ما هو الهدف؟ أقول باختصار ثمّ أبدأ بتوضحيه قليلاً.

لو أردنا بيان هدف الإمام الحسين (عليه السلام)، فينبغي أن نقول هكذا: إنّ هدف الحسين(عليه السلام) كان أداء واجب عظيم من واجبات الدين لم يؤّده أحد قبله، لا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولا الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، واجب يحتلّ مكاناً مهمّاً في البناء العام للنظام الفكري والقيمي والعملي للإسلام.

ورغم أنّ هذا الواجب مهمّ وأساسي، لكنّه لماذا لم يُقَمْ بهذا الواجب حتّى عهد الإمام الحسين (عليه السلام)؟ كان ينبغي على الإمام الحسين (عليه السلام) القيام بهذا الواجب ليكون درساً على مرّ التاريخ، مثلما أنّ تأسيس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكومة الإسلاميّة أصبح درساً على مرّ تاريخ الإسلام، ومثلما أصبح جهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبيل الله درساً على مرّ تاريخ المسلمين وتاريخ البشريّة إلى الأبد.

فكان ينبغي أن يُؤدي الإمام الحسين (عليه السلام) هذا الواجب ليصبح درساً عمليّاً للمسلمين على مرّ التاريخ.

ولماذا قام الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا الواجب؟ للجواب نقول: إنّ أرضية هذا العمل قد مُهِّدت في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، فلو لم تمهّد هذه الأرضيّة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، كأن مُهّدت ـ وعلى سبيل المثال ـ في زمن الإمام علي الهادي (عليه السلام) لقام الإمام علي الهادي (عليه السلام) بهذا الواجب، لصار هو ذبيح الإسلام العظيم، ولو إتّفق ذلك في زمن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) لقام به، أو إتّفق في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) لقام به الإمام الصادق (عليه السلام)، لكنّ لم يتّفق ذلك في زمن الأئمّة حتّى عصر الغيبة إلاّ في عصر الإمام الحسين (عليه السلام) .

إذاً كان الهدف أداء هذا الواجب، فعندها تكون نتيجة أداء الواجب أحد الأمرين, إمّا الوصول إلى الحكم والسلطة وكان الإمام الحسين (عليه السلام) مستعدّاً لذلك؛ ليعود بالمجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، أو يصل إلى الشهادة وكان الإمام الحسين مستعدّاً لها أيضاً.

فإنّ الله قد خلق الحسين والأئمة علهيم السلام بحيث يتحمّلون مثل هذه الشهادة لمثل لهذا الأمر، وقد تحمّل الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك.

هذا خلاصة الأمر.

وأمّا توضيح هذا الأمر:

أُانظروا أيّها الاُخوة والأخوات المصلّون الأعزّاء، إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكذا أيّ نبيّ ـ عندما بُعث، أتى بمجموعة من الأحكام، بعضها فرديّة لإصلاح الفرد، وبعضها إجتماعية لبناء المجتمعات البشريّة وإدارة الحياة فيها.

هذه المجموعة من الأحكام يُقال لها النظام الإسلامي.

فعندما نزل الإسلام على القلب المقدّس للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء بالصلاة والصوم والزكاة والإنفاقات والحجّ والأحكام الاُسريّة والعلاقات الفرديّة، ثمّ جاء بالجهاد في سبيل الله وإقامة الحكومة والنظام الإقتصادي وعلاقات الحاكم بالرعيّة ووظائف الرعية تجاه الحاكم.

هذه المجموعة من الأحكام عرضها الإسلام على البشر، وبيّنها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعّدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به»[1].

ولم يُبيّن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ ما يُسعد الإنسان والمجتمع الإنساني فحسب، بل طبّقها وعمل بها، فقد أقام الحكومة الإسلاميّة والمجتمع الإسلامي، وطبّق الإقتصاد الإسلامي، واُقيم الجهاد واستُحصلت الزكاة، فشيّد نظاماً إسلاميّاً وأصبح النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته من بعده معمار وقائد هذا النظام.

كان الطريق واضحاً وبيّناً، فوجب على الفرد وعلى المجتمع الإسلامي أن يسير في هذا الطريق وعلى هذا النهج، فإنْ كان كذلك بلغ الناس الكمال، وأصبحوا صالحين كالملائكة، وذهب الظلم والشر والفساد والفرقة, والفقر والجهل بين الناس، ووصل الناس إلى السعادة الكاملة ليصبحوا عباد الله الكُمّل.

حسناً، يبقى ـ هنا ـ سؤال وهو: لو صَرفت يَد أو حادثة, القطار الّذي سيّره النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مسيره، فما هو التكليف؟؟ لو انحرف المجتمع الإسلامي وبلغ الإنحراف درجةً بحيث خيف إنحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلاميّة ـ لأنّ الإنحراف على قسمين، فتارة ينحرف الناس، وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام سليمة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء ومبلّغو الدِّين، فيحرّفوا القرآن والحقائق، وتبدّل الحسنات سيّئات والسيّئات حسنات, ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويُحَرَّف الإسلام 180 درجة ـ فلو اُبتلي النظام والمجتمع الإسلامي بمثل هذا الأمر، فما هو التكليف حينئذ؟

لقد بيّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدّد القرآن التكليف ﴿ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ﴾[2].

إضافة إلى آيات وروايات كثيرة اُخرى.

لكن هل تمكّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من العمل بهذا الحكم الإلهي؟ كلاّ، لأنّ هذا الحكم الإسلامي يُطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلامي ويبلغ حدّاً يُخاف فيه مِن ضَياع أصل الإسلام، والمجتمع الإسلامي لم ينحرف في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم ينحرف في عهد أميرالمؤمنين بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن ظهرت الكثير من علائم ذلك الإنحراف، لكنّه لم يبلغ الحدّ الّذي يُخاف فيه على أصل الإسلام.

نعم، يمكن أن يقال إنّه بلغ في برهة من الزمن الحدّ، لكن في تلك الفترة لم تتاح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً للقيام بهذا الأمر.

إنّ هذا الحكم الّذي يعتبر من الأحكام الإسلاميّة لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع، فلو انحرف المجتمع وفسد، وتعطّل الحكم الإلهي، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)، فما فائدة الحكومة في الإسلام.

فالحكم الّذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يقال إنّه أكثر أهمّية من جهاد الكفّار ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الطبيعيين في المجتمع الإسلامي، بل وحتّى من العبادات الإلهيّة العظيمة كالحج.

لماذا؟ لأنّ هذا الحكم ـ في الحقيقة ـ يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الموت أو مات وانتهى.

حسناً، مَنْ الّذي يجب عليه أداء هذا الحكم وهذا التكليف؟ إنّه خليفة النبي الذي يقع في عصره هذا الإنحراف بشرط أن يكون الوقت مناسباً للقيام بذلك، لأنّ الله لا يكلّف بشيء لا فائدة فيه, طبعاً ليس معنى (أن يكون الوقت مناسباً) هو عدم وجود الخطر، كلاّ، ليس هذا هو المقصود.

يجب أن يكون الوقت مناسباً، يعني أنّ الإنسان يعلم أنّ هذا العمل الّذي يقوم به تترتّب عليه نتيجة, يعني إبلاغ النداء إلى الناس وإفهامهم وعدم بقائهم على خطأهم, وربّما أنّ الإسـلام قد انحرف في عصر الإمام الحسين (عليه السلام) وكان الوقت مناسباً، لذا وجب على الحسين (عليه السلام) أن يثور, فالشخص الّذي تولّى السلطة بعد معاوية لم يُراع حتّى جوهر الإسلام، وكان منغمساً في الخمر والمجون والتهكّم بالقرآن, وترويج الشعر الإباحي المرفوض من قِبَل الإسلام، فكان يخالف الإسلام عَلناً، وكان بعمله هذا كنبع الماء العفن الّذي يُفسد ما حوله.

هكذا يكون الحاكم الفاسد، فبما أنّه يتربّع على قمّة المرتفع، فما يصدر منه لا يبقى في مكانه، بل ينتشر ليملأ ما حوله، خلافاً للناس العاديين حيث يبقى فسادهم لأنفسهم أو للبعض ممّن حولهم، طبعاً كلّ من شغل مقاماً ومنصباً أرفع في المجتمع الإسلامي كان ضرر فساده أكبر, لكن لو فسد مَن يقع على رأس السلطة لانتشر فساده وشمل كلّ الأرض، كما أنّه لو كان صالحاً، لامتدّ الصلاح إلى كلّ مكان.

فشخص كهذا أصبح خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل هناك إنحراف أكبر من هذا؟

إذاً الأرضيّة ممهّدة, وما معنى أنّ الأرضيّة ممهّدة؟ هل معناه عدم وجود الخطر؟ كلاّ، فالخطر موجود, فلا معنى أن يبقى من هو على رأس السلطة ساكتاً أمام معارضيه ولا يخلق لهم المخاطر، بل من البديهي أن يوجّه لهم الضربات، فعندما نقول الوقت المناسب، فمعناه أن الظروف في المجتمع الإسلامي مواتية لأن يُبلّغ الإمام الحسين (عليه السلام) نداءه إلى الناس في ذلك العصر وعلى مرّ التاريخ.

فلو أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الثورة في عصر معاوية لَما سُمع نداؤه؛ وذلك لأنّ الحكم والسياسات كانت بشكل لا يمكن للناس فيها سُماع قول الحقّ، لذلك فإن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يُقدم على شيء, ولم يَثُر أيّام خلافة معاوية، مثلما أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يَثُر على معاوية، لأنّ الظروف لم تكن مواتية، لا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن أهلاً لذلك، فلا فرق بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا بين الإمام الحسين والإمام السجّاد (عليه السلام)، ولا بين الإمام الحسين (عليه السلام) والإمام عليّ الهادي (عليه السلام) أو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، طبعاً منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) ـ الّذي أدّى هذا الجهاد ـ أرفع من الّذين لم يؤدُّوه، لكنّهم سواء في منصب الإمامة، ولو وقع في عصر أيّ منهم هذا الأمر لثار ذلك الإمام ونال تلك المنزلة.

فالإمام الحسين (عليه السلام) واجه مثل هذا الإنحراف، والظروف كانت مواتية، فلا محيص للإمام (عليه السلام) من تأدية هذا التكليف.

لهذا فعندما قال له عبدالله بن جعفر ومحمّد بن الحنفيّة وعبدالله بن عباس ـ الّذين كانوا من العلماء والعارفين بأحكام الدِّين ـ أن تحرّكك فيه خطر فلا تذهب، أرادوا أن يقولوا: إنّ التكليف قد سقط عنك لوجود الخطر.

لكنّهم لم يدركوا أنّ هذا التكليف ليس بالتكليف الّذي يسقط بوجود الخطر، لأنّ مثل هذا التكليف فيه خطر دوماً، فهل يمكن لإنسان أن يثور ضدّ سلطة مقتدرة في الظاهر ولا يواجه خطراً.

لقد كانوا يقولون للإمام [الخميني (رض)] إنّ الخطر في مواجهتكم للشاه، فهل أنّ الإمام لم يكن يعلم بالخطر؟ ألم يكن الإمام يعلم أنّ جهاز الأمن البهلوي يعتقل، يقتل، يعذّب، يقتل زملاء الإنسان وينفيهم؟ بلى, فالّذي حدث في عصر الإمام الحسين (عليه السلام) حدث في عصر الإمام [الخميني] لكن بصورة أصغر.

فقد كان هدف الإمام الحسين (عليه السلام) وهدف إمامنا العظيم مشتركاً, وهو إرجاع الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى الصراط المستقيم والخطّ الصحيح, بعد أن انحرف عن المسير وانحرف المسلمون نتيجة جهل وظلم واستبداد وخيانة البعض, وكانت الظروف مواتية في عصرنا مثلما كانت مواتية في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، فأقدم الإمام على نفس العمل، لكن مع فارق وهو أنّ الثورة ضدّ الحكم الباطل في عصرنا إنتهت بإقامة الحكومة الإسلاميّة والحمد للّه، لكن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت نتيجتها الشهادة، فهل أنّ الثورة في الصورة [الثانية] لا تصبح واجباً؟ وهل لا فائدة فيها إن كانت نتيجتها الشهادة؟ كلا، إنّ الثورة واجبة وإن انتهت بالشهادة، ولافرق في ذلك, إنتهت بالشهادة أو الحكم، لكن لكلّ منهما نوع من الفائدة.

إذاً يمكننا أن نلخّص القضيّة بهذه الصورة وهي: إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت لتأدية واجب عظيم هو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى الخطّ الصحيح, أو الثورة ضدّ الإنحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلامي.

وهذا ما يتمّ بالثورة, وعن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو مصداق عظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

طبعاً ـ وكما قلتُ ـ فقد تكون نتيجتها إقامة الحكومة، وقد تكون الشهادة، وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) مستعدّاً لكلتا النتيجتين.

ودليلي على ذلك هو ما استنتجته من أقوال الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه، إنّني انتخبت بعض أقوال أبي عبدالله (عليه السلام) وكلّها تشير إلى هذا المعنى:

1 ـ عندما استدعى والي المدينة (الوليد) الإمام الحسين (عليه السلام) ليلاً وقال له: إنّ معاوية قد مات وعليك بمبايعة سيزيد، فردّ عليه الإمام (عليه السلام): «نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة» وعند الصباح عندما لقي مروان الإمام الحسين (عليه السلام) طلب منه مبايعة يزيد وعدم تعريض نفسه للقتل، فأجابه الإمام (عليه السلام): «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الاُمّة براع مثل يزيد».

فالقضيّة ليست شخص يزيد، بل مثل يزيد، ويريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقول: لقد تحمّلنا كلّ ما مضى، أمّا الآن فإن أصل الدِّين والإسلام والنظام الإسلامي في خطر, إشارةً إلى أنّ الإنحراف خطر جدّي، فالقضيّة هي الخطر على أصل الإسلام.

2 ـ في وصيّته إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة عند خروجه من مكّة.

 فالإمام (عليه السلام) قد أوصى أخاه محمد بن الحنفية، مرّتين: الاُولى عند خروجه من المدينة، والثانية عند خروجه من مكّة.

وأتصوّر أنّ هذه الوصيّة كانت عند خروجه من مكّة في شهر ذي الحجّة, فبعد الشهادة بوحدانية الله ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و... يقول الإمام (عليه السلام): «وإنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت اُريد الإصلاح في أمّة جدّي», أي اُريد الثورة لأجل الإصلاح لا للوصول إلى الحكم حتماً أو للشهادة حتماً، والإصلاح ليس بالأمر الهيّن، فقد تكون الظروف بصورة بحيث يصل الإنسان إلى سدّة الحكم ويمسك بزمام السلطة وقد لا يمكنه ذلك ويستشهد، وفي كلتا الحالتين فالثورة تكون لأجل الإصلاح.

ثمّ يقول (عليه السلام): «اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي», والإصلاح يتمّ عن هذا الطريق، وهو ما قلنا أنّه مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 ـ عندما كان الإمام (عليه السلام) بمكّة، بعث بكتابين، الأوّل إلى رؤساء البصرة, والثاني إلى رؤساء الكوفة، جاء في كتابه إلى رؤساء البصرة: «وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإن السنة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت، فإن تسمعوا قولي أهديكم إلى سبيل الرشاد».

أي يريد الإمام الحسين (عليه السلام) تأدية ذلك التكليف العظيم وهو إحياء الإسلام وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وجاء في كتابه إلى رؤساء الكوفة: «فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائر بالحقّ والحابس نفسه عن ذات الله، والسلام» لقد بيّن الإمام (عليه السلام) هدفه من الخروج، وكان يخاطب الناس في كلّ منزل ينزل فيه بعد خروجه من مكّة.

4 ـ عندما [واجه الحسين (عليه السلام) جيش الحرّ] وسار بأصحابه في ناحية, والحرّ ومن معه في ناحية حتّى بلغ «البيضة».

خاطب الإمام (عليه السلام) أصحاب الحر، فقال: «أيّها الناس إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرم الله ناكثاً لعهد الله, مخالفاً لسنة رسول الله, يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان, فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».

فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن ما يجب عمله إذا انحرف النظام الإسلامي، وقد استند الإمام الحسين (عليه السلام) إلى قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا.

إذاً التكليف هو «يغيّر عليه بفعل أو قول»، فإن واجه الإنسانُ هذا الأمر وكان الظرف مُوآت كما قلنا، وجب عليه أن يثور ضدّ هذا الأمر ولو بلغ ما بلغ، يقتل، يبقى حيّاً، ينجح في الظاهر أو لا ينجح.

يجب على كلّ مسلم أن يثور أمام هذا الوضع، وهذا تكليف قال به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ قال (عليه السلام): «وأنا أحقّ مَنْ غيّر» لأنّي سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أوجب على المسلمين فرداً فرداً هذا الأمر، كان سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووارث علمه وحكمته الحسين بن علي (عليه السلام) أحقّ أن يثور، فإنّي خرجت لهذا الأمر.

فيعلن عن سبب وهدف ثورته وهو لأجل «التغيير» أي الثورة ضدّ هذا الوضع السائد.

5 ـ لمّا نزل بـ«الغريب» التحق به أربعة نفر، فقال لهم الإمام (عليه السلام): «أما والله إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا, قُتلنا أم ظفرنا», وهذا دليل على قولنا عندما قلنا لا فرق سواء إنتصر أو قتل، يجب أداء التكليف.

6 ـ في أوّل خطبة له (عليه السلام) عند نزوله بكربلاء، يقول (عليه السلام): «وقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون» إلى أن يقول: «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به, وإلى الباطل لا يُتناهى عنه, ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً...» إلى آخر الخطبة.

إذاً ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت تأدية لواجب, وهو عبارة عن وجوب الثورة على كلّ مسلم حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلامي بحيث يخاف من تغيير كلّي في أحكام الإسلام، وكانت الظروف مواتية، وعلم بأنّ لهذه الثورة نتيجة، وليس شرطاً البقاء حيّاً وعدم القتل وعدم التعرّض للتعذيب والأذى والمعاناة[3].

 

ــــــــ

 

[1]فوائد الأصول، محمد علي الكاظمي: ص480.

[2] سورة المائدة، الآية: 54.

[3] من خطبة القائد بتاريخ 10محرم 1416هـ تحت عنوان عاشوراء مدرسة الثورة.