عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)[1]
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأشكره، ففي هذا الجمع المبارك تتحقق إحدى الأمنيات القديمة المنسية وهي ذكر أهل البيت (عليهم السلام).
إن غربة الأئمة (عليهم السلام) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم، وإنّها استمرت ولعصور متمادية من بعدهم، والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمة، بل والأساسية من حياتهم.
من المؤكد أن هناك كتباً ومؤلفات كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة وقديرة، وذلك لما حملته بين طياتها من روايات تصف حال الأئمة (عليهم السلام)، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير والذي يمثل الخط الممتد للأئمة (عليهم السلام) طوال 250 سنة من حياتهم كان قليل الذكر في هذه الروايات التي تضمنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم.
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة (عليهم السلام) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا لا كمجرد ذكريات قيمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء (عليهم السلام).
أنا شخصياً عندي رغبة شديدة للاطلاع على هذا الجانب المهم من حياتهم، وأول مرة شعرت بأهمية هذه المسألة كان عام 1350هـ.ش (1971م) وهي مراحل المحنة التي سبقت الثورة. ومع أنني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى الأئمة (عليهم السلام) بعنوان أنهم شخصيات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلا أنّ النقطة المهمة التي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنه وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيرهم (عليهم السلام) (حتى إن البعض ليشعر بالاختلاف الشاسع والتناقض فيها)، إلا أنها عبارة عن مسيرة واحدة وحياة واحدة استمرت 250 سنة ابتداءً من سنة 11هـ إلى 260هـ؛ أي انتهت عام الغيبة الصغرى للإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف).
إذن فالأئمة عليهم السلام جميعهم عبارة عن شخصية واحدة لها هدف واحد، ولذلك فإننا وبدل أن ندرس حياة كل من الإمام الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) والسجاد (عليه السلام) بصورة منفصلة عن الأخرى، أو حتى لا نقع في خطأ ما اعتقده الآخرون بوجود عنصر التناقض بين حياتهم (عليهم السلام)، فلندرس ذلك بصورة شمولية. فمن هذا المنظار تصبح كل حركات هذا الإنسان العظيم المعصوم قابلة للفهم والإدراك.
إن أي إنسان يملك نوعاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك نوعاً من العصمة، تكون له خطط واختيارات موضوعية خاصة خلال حركته الطويلة المتتابعة. وقد يجد هذا الإنسان أنه من الضروري أن يُسرع في حركته مثلاً وأحياناً أخرى يُبطئ فيها، وحتى من الممكن أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى ـ بالنظر لهدف هذا الإنسان ـ في هذا التراجع، حركة نحو الأمام وتقدماً.
من هذا المنظار تعتبر حركة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام والمجتبى (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) والأئمة الثمانية المعصومين (عليهم السلام) من ولدهم حركة واحدة ومستمرة. فأنا ومن تلك السنة توصلت الى هذه الحقيقة التي ذكرتها، وبهذه النظرة نظرت إلى حياتهم (عليهم السلام)، وكلما تقدمت في مسيرتي هذه تأكدت عندي هذه النظرة والعقيدة.
وطبعاً لا يمكن أن نوسع الكلام في هذا الباب خلال هذا اللقاء القصير، ولكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن حياة هؤلاء المعصومين من عظماء آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي حياة ذات طابع سياسي، ويجب أن يُخصص لهذا الجانب دراسة خاصة. وأنا اليوم سأتطرق إلى هذا الجانب من خلال بحثنا هذا.
لقد تحدثت السنة الماضية عن نضال الإمام الرضا (عليه السلام)، وأود اليوم أن أبين هذا الموضوع بالتفصيل؛ أولاً ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسي للأئمة (عليهم السلام)؟ إن المقصود من هذا الكلام أن جهاد الأئمة (عليهم السلام) لم يكن جهاداً علمياً من قبيل النزاعات التي تدور بين الكلاميين والتي نشاهدها عبر التاريخ، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمة (عليهم السلام) من اجتماعاتهم العلمية وحلقات دروسهم والأحاديث نقل المعارف الإسلامية والأحكام فقط حتى يثبتوا مدرستهم الكلامية الفقهية، بل كان هدفهم يفوق هذا. وأيضاً لم تكن مواجهتهم مواجهة مسلحة كما كان في عهد زيد والذين جاؤوا من بعده أو كما كان في عهد بني الحسن وبعض آل جعفر وغيرهم من الذين عاصروا الأئمة (عليهم السلام). وأريد أن أشير إلى هذا موضوع الذي سأتطرق إليه بصورة مفصلة فيما بعد وهو أن الأئمة (عليهم السلام) لم يستنكروا مواقف هؤلاء أو يحكموا على مثل هذه الحركات بالخطأ بصورة مطلقة، وحكمهم على البعض منها بالخطأ لم يكن بداعي كونها حركات مسلحة، بل لأسباب أخرى مختلفة. فنجد مواقف الأئمة (عليهم السلام) أحياناً أخرى مؤيدة لهذه الحركات، بل وحتى قد اشتركوا في بعضها بصورة غير مباشرة عن طريق المساعدات التي كانوا يقدمونها للثورة. ومن الجدير الالتفات إلى حديث الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يقول «لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليَّ نفقة عياله».. إلا أن الأئمة (عليهم السلام) لم يخوضوا مثل هذا الثورات المسلحة ولم يشتركوا فيها بشكل مباشر.
إن مواجهة الأئمة (عليهم السلام) كانت مواجهة ذات هدف سياسي؛ فما هو هذا الهدف إذن؟ الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية، وبحسب تعبيرنا حكومة علوية. فكان سعي الأئمة (عليهم السلام) ومنذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى عام 260هـ هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهية في المجتمع. ولا نستطيع أن نقول إن كل إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن هدف كل إمام كان يتضمن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريب؛ فمثلاً كان هدف الإمام المجتبى (عليه السلام) تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب، فقوله (عليه السلام): «ما ندري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين» في جوابه للمسيب ابن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل. وأما الإمام السجاد (عليه السلام)، وحسب اعتقادي، كان يهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية في المستقبل الآتي من بعده؛ وفي هذا المجال لدينا شواهد سنذكرها فيما بعد. أما الإمام الباقر (عليه السلام) فقد سعى من أجل تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب منه، وفيما بعد الإمام الثامن (عليه السلام) كان كل إمام يهدف من تحركاته تأسيس الحكومة على المدى البعيد.
إذن هدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمة (عليهم السلام)، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام إلى آخر. إن كل الأعمال التي كان يقوم بها الأئمة (عليهم السلام)، بغض النظر عن الأمور المعنوية والروحية التي تهدف إلى تكامل ورقي النفس الإنسانية وقربها الى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية، فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضد خصومهم في العلم والسياسة ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى كلها تصب في هذا المجال، وهو تأسيس الحكومة الإسلامية.
إذن فنحن ندعي أن كل هذه الأمور كانت تأخذ منحى واحداً وتهدف إلى تأسيس الحكومة الإسلامية. وأقول ندعي لأنه، وكما قال السيد الطبسي، قد اختلف العلماء وسيختلفون في تفسيرهم لمواقف الأئمة (عليهم السلام). وأنا شخصياً لا أصر على صحة اعتقادي واستنباطي للأمور، ولكن أصر على أن هذه المواقف هي محطة يجب أن نتوقف عندها ونبدأ منها لنستطيع أن نراجع تاريخ حياة الأئمة (عليهم السلام).
خلال السنين الأخيرة سعينا للوصول إلى إدراك مدى علاقة هذا الموضوع (تأسيس الحكومة الإسلامية) بالأئمة (عليهم السلام) ومدى ارتباطه بكل إمام منهم، محاولين الاعتماد في ذلك على أدلة منسدة، إضافة إلى أن هناك أدلة تعتبر أدلة كلية وعامة. فمثلاً إن إمامة الأمة هي النبوة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إماماً للأمة… ألخ كما جاء في حديث الإمام الصادق (عليه السلام).
إذن فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نهض من أجل تأسيس حكومة حقة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن بعدها جاهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مثل هذا الموضوع المهم. إذن فهذا دليل عام. وبالطبع فإن البحث الواسع والالتفات إلى النواحي المختلفة لهذا الدليل يجعلنا نفهمه أكثر، كذلك لدينا أدلة صادرة ونابعة من كلامهم (عليهم السلام) أو مستنبطة من حياتهم العملية، إضافة إلى الظروف والأوضاع التي كانت حينها والتي تستطيع أن تبين لنا مواقف الأئمة، كأن نفهم ما تقصده هذه العبارات «السلام على المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذي الساق المرضوض بحلق القيود».
حول هذا الاتجاه سنتكلم اليوم، كما أريد أن أطرح بعض الاستنتاجات وما أفهمه في خصوص هذا الموضوع خلال اجتماعنا هذا.
إن المطلع على تاريخ الحركة العباسية في الفترة الزمنية من 100هـ إلى 132هـ ش بداية الحكم العباسي لربما يشبّه الحركة الجهادية والسياسية للأئمة (عليهم السلام) بمثل الحركة التي قام بها بنو العباس، ولكننا نقول إن هذا التشبيه غير دقيق، لأنه ربما تشابه شكل الجهاد وخطته، لكن توجد فوارق جوهرية بين الحركتين: مثلاً هدف ومنهج بني العباس يختلف جوهرياً عن هدف ومنهج الأئمة (عليهم السلام)، وكذلك الاختلاف الجوهري يُلاحظ في الشخصيات المجاهدة، فنجد بني العباس تقارب دعوتهم وإعلامهم وأعمالهم دعوة وإعلام آل علي (عليه السلام)، فنجدهم يوحون في أعمالهم في بعض المناطق كالعراق والحجاز أنهم على خط آل علي (عليه السلام) فمثلاً نسبوا سبب ارتدائهم السواد الذي اتخذوه شعاراً في بداية دعوتهم في خراسان إلى الحزن على آل علي (عليه السلام) وما جرى في كربلاء وعلى زيد ويحيى، حيث كانوا يقولون «هذا السواد حداد آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهداء كربلاء وزيد ويحيى». وحيث كان يخيل للبعض وحتى لرؤسائهم أنهم يعملون لآل علي (عليه السلام)، إلا أن الواقع لم يكن كذلك. إذن هناك ثلاثة فروق رئيسية بين الحركتين وهي: اختلاف الهدف واختلاف الوسيلة واختلاف الأشخاص.
الآن سوف أتطرق إلى الشكل العام لجهاد ونضال الأئمة (عليهم السلام)، ومن ثم أشير إلى أبرز الجوانب الجهادية في حياتهم (عليهم السلام)، إلا أن هذه الجوانب سأطوي الحديث عنها عند كل من الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام)، لأنه جرت بحوث عديدة ووافية في هذا المجال ولا أعتقد بأن هناك أية شبهة تحيط هذا المجال في حياتهم.
سوف نبدأ حديثنا من زمن الإمام السجاد (عليه السلام) إلى عصر غيبة الإمام المهدي (عج) وهي الفترة التي تمتد من (61) هـ إلى (260هـ)، يعني خلال مئتي سنة. هذه الفترة الزمنية تتضمن ثلاثة مراحل:
1 ـ المرحلة الأولى: من سنة 61هـ إلى سنة 135هـ (بداية حكم المنصور العباسي): مع بداية هذه الفترة الزمنية تبدأ الحركة الجهادية من نقطة ثم تأخذ عمقاً وشمولاً لتصل إلى أوجها في سنة 135هـ، وهي السنة التي مات فيها السفاح واستلم الخلافة المنصور العباسي، حيث تغير الوضع وظهرت بعض المشاكل التي أدت إلى الحد من التطورات التي كانت آخذة في مسيرتها آنذاك. وقد شاهدنا مثل هذه الأمور والظروف خلال قيامنا وثورتنا وجهادنا.
2 ـ المرحلة الثانية: تبدأ من سنة 135هـ إلى سنة 203هـ أو إلى 202هـ أي سنة شهادة الإمام الرضا (عليه السلام)؛ ففي هذه المرحلة وصلت المواجهة الجهادية إلى مرحلة أعمق وأوسع مما كانت عليه في سنة 61هـ. ولكنها تبدأ بمشكلات جديدة وتتوسع حتى تصل إلى أوجها متقدمة خطوات تجاه مرحلة النصر، حتى سنة شهادة الإمام الرضا (عليه السلام) حيث عادت لتتوقف عندها.
3 ـ المرحلة الثالثة: تبدأ من سنة 204هـ إلى سنة 260هـ السنة التي استشهد فيها الإمام العسكري (عليه السلام) وبدأت الغيبة الصغرى.. تبدأ المرحلة الثالثة بذهاب المأمون إلى بغداد سنة 204هـ،وفي بداية خلافته يبدأ فصل جديد في حياة الأئمة (عليهم السلام)، ويبدأ عصر المحنة للأئمة (عليهم السلام). ومع أن التشيع كان في وضع أفضل مما كان عليه في السابق، فقد أخذت مشكلات الأئمة تتفاقم وتتسع. وبرأيي أن هذه الفترة هي الفترة التي كان الجهاد والمواجهة فيها من أجل تأسيس حكومة إسلامية على المدى البعيد؛ يعني أن الأئمة (عليهم السلام) لم يكن جهادهم من أجل عصر ما قبل الغيبة وإنما إلى ما بعد الغيبة.
إن لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاثة مميزاتها الخاصة وأذكرها بصورة مختصرة:
1 ـ المرحلة الأولى وهي مرحلة الإمام السجاد (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) وقسم من عصر الإمام الصادق (عليه السلام)؛ فبداية هذه المرحلة كانت مؤلمة جداً حيث جرت حادثة كربلاء، التي لم تهز كيان الشيعة فقط وإنما هزت الأمة الإسلامية بأجمعها. ومع أن القتل والأسر والتعذيب كان شائعاً آنذاك ولكن قتل أولاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسر العائلة النبوية ووضع رؤوس آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرماح والاستهانة بمن كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل ثناياه، كل هذا قد زلزل العالم الإسلامي وأدهشه. فلم يكن أحد يتوقع أن الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحة الشعر المنسوب للسيدة زينب (عليها السلام):
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدراً مكتوباً
فهذا البيت يشير بلا شك إلى أن هذا الحدث كان غير متوقع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمة الإسلامية حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقعه وتظنه من التنكيل والتعذيب.. لذا انتشر الخوف في كافة المناطق الإسلامية إلا الكوفة (وهذا بفضل التوابين والمختار وثورتهم). أما المدينة وحتى مكة المكرمة فعاشت حالة الخوف هذه بسبب حادثة كربلاء المفجعة، وعلى الرغم من قيام ثورة عبد الله بن الزبير في مكة، فقد ظل الخوف يهدد هذه المدينة.
وأيضاً في الكوفة، وبالرغم من قيام التوابين في سنة 64و 65هـ (حيث كانت شهادة التوابين سنة 65هـ) وما أوجدته من جو «جديد» في البلاد، فإن ذلك لم يدم طويلاً حتى عاد الخوف ثانية بعدما استشهد كل التوابين حتى آخر شخص منهم.
بعد ذلك قاتل أعداء النظام الأموي بعضهم بعضاً؛ فهذا المختار حارب مصعب بن الزبير ولم يستطع عبد الله بن الزبير أن يتحمل المختار الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) في الكوفة ولذلك قُتِل المختار على يد مصعب! ومرة أخرى عم الرعب والفزع وخابت الآمال عند الناس. وعندها جاء عبد الملك بن مروان وتسلم سدة الحكم وبعد مدة قصيرة أصبح تمام العالم الإسلامي تحت سيطرة بني أمية وبقي عبد الملك بن مروان متسلطاً وفارضاً سلطته لمدة 21سنة. وهنا من الضروري الإشارة إلى واقعة (الحرة) التي جرت في سنة 64هـ وهي السنة التي هجم فيها مسلم بن عقبة على المدينة، مما أدى إلى زيادة الخوف والرعب في المدينة. واشتدت الغربة على أهل البيت (عليهم السلام) آنذاك والحادثة هي كما يلي:
في سنة 62هـ عين يزيد أحد قواد الجيش الشباب حاكماً على المدينة، وكان شاباً فاقداً للتجربة، وقد دعا بعضاً من أهل المدينة لزيارة يزيد لعله يستطيع أن يحسن علاقتهم به (يزيد). وهيأ يزيد جوائز تناهز الـ 50 ألف و 100 ألف درهم وأعطاها لهم. ولكن هؤلاء، وحيث كان من بينهم الصحابة، وأبناء الصحابة عندما شاهدوا جاه ومقام يزيد اشتد استياؤهم وغضبهم، وعندما رجعوا إلى المدينة أعلن ابن عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) فصل المدينة عن الحكومة المركزية آنذاك. فأرسل يزيد مسلم بن عقبة لمعالجة الوضع، فحصلت الكارثة العظيمة، والتي تحدثت عنها كتب التاريخ وخصصت لها فصول تحكي الحوادث الدامية والكوارث المؤلمة التي حدثت آنذاك. هذه الحادثة أدت إلى زيادة الرعب والفزع بين الناس.
والعامل الثاني الذي زاد الرعب والفزع المنتشرين هو الانحطاط الفكري الذي كان يعم الناس في العالم الإسلامي، وهذا كان نتيجة للابتعاد عن التعاليم الدينية خلال عشرين سنة. ولشدة ضعف التعالم الدينية والإيمان والابتعاد عن الحقائق وتفسير القرآن عن لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال العشرين سنة التي تلت عام 40 هـ ضعُف أساس الإيمان عند الناس وعم الخواء العقائدي في نفوسهم. فإذا وضع الإنسان حياة الناس في تلك الفترة تحت المجهر يجد ما ذكرناه واضحاً ويجده أيضاً من خلال قراءة التاريخ والروايات العديدة.
طبعاً كان للمجتمع آنذاك علماء وقرّاء ومحدثون، وسنذكر ما يتعلق بهم فيما بعد، ولكن عامة الناس كانوا يعانون من الاختلال العقائدي والضعف الإيماني، وقد وصل الوضع إلى أن بعض وجوه الخلافة قد ضعفوا من منزلة النبوة. وقد ذكر في الكتب أن خالد بن عبد الله القسري أحد علماء بني أمية كان يفضل الخلافة على النبوة حيث كان يقول: إن الخلافة أرفع من النبوة! وكان يستدل بقوله: «أيهما أفضل خليفة الرجل في أهله أو رسوله الى أصحابه؟ وهل خليفتكم بين أهلكم أقرب إليكم أو رسولكم إليهم؟ طبعاً إن خليفتكم أقرب إليكم من الرسول. إذن خليفة الله أرفع من الرسول»! حيث كان يقول خليفة الله ولم يقل خليفة رسول الله. وأيضاً إذا لاحظنا شعر شعراء الفترة الأموية وبني العباس نجد أنه ومن عهد خلافة عبد الملك استُعملت كلمة خليفة الله، حيث كُرِرَت في الأشعار آنذاك، بحيث قد ينسى الإنسان أن هناك خليفة لرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). واستمر استعمال وذكر هذا اللفظ إلى زمان بني العباس، وقد هجا الشاعر بن برد يعقوب بن داود والمنصور بهذا التعبير:
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خـلـيـفة الله بـين الـــرق والعبد
فنلاحظ أنهم عندما يريدون هجاء الخليفة يقولون خليفة الله. وقد تكرر هذا اللفظ في أشعار عدد من الشعراء المعروفين مثل الجرير والفرزدق ونصيب، والمئات من عظماء شعراء ذاك الزمان، حيث كانوا يذكرون كلمة خليفة الله في مدائحهم للخلفاء آنذاك.
هذا نموذج من بعض العقائد التي كانت لدى الناس ومستوى إيمانهم، ولم يضعف أساس الإيمان في نفوسهم وحسب، بل انهارت عندهم القيم الأخلاقية. ومن خلال مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وجدت أنه وفي حدود سنة 80 ـ 90هـ وإلى ما بعد 50 ـ 60سنة كان أعظم المطربين والعازفين والمترفين وعبيد الدنيا يتواجدون في مكة والمدينة، وكلما رغب الخليفة في الشام بسماع الغناء والعزف أو طلب مغنياً أو عازفاً يبعثون له بهم من مكة والمدينة، حيث كان مركز الغناء والطرب! فأسوأ أنواع الشعر وأكثره مجوناً كان في هاتين المدينتين اللتين كانتا مهبط الوحي ومسقط رأس الإسلام، واللتان تحولتا إلى مركز للفساد والمجون!
ومن المفيد أن نعرف هذه الحقائق المؤلمة والمرة لأن التاريخ والكتب التاريخية المتوفرة بين أيدينا فاقدة لمثل هذه الأخبار والحقائق.
لقد كان في مكة شاعر معروف بعمر بن أبي ربيعة، حيث كان يعتبر من شعراء الشعر الخلاعي الفارغ، حيث شهد التاريخ وشهدت المشاهد المقدسة كالطواف ورمي الجمرات وغيرها من المشاهد الأخرى عبثه ودناءته في الشعر حيث قال مرة:
بدا لي منها معصم حيث جمّرت وكفّ خضيب زُينت ببنان
فو الله ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان
فالمعنى يبين تلك الأوضاع. وعندما مات عمر بن أبي ربيعة يُروى أنه عم العزاء في المدينة وكان الناس يبكون في أزقة المدينة وشوارعها، وأينما ذهبت تجد مجموعة من الشباب يبكون تأسفاً عليه. ويقول الراوي رأيت جارية ماضية في طلب حاجة وفي طريقها كانت تسكب الدموع من عينيها، حتى وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها عن سبب بكائها وذرفها للدموع، أجابت أبكي لأننا فقدنا عمر بن أبي ربيعة. فقال أحد الشباب اهدأي ولا تحزني، يُقال إن هناك شاعر آخر في مكة وهو الحارث بن خالد المخزومي يقول الشعر ويرويه مثل عمر بن أبي ربيعة وقرأ لها أحد أشعاره، وعندما سمعت الجارية بهذا الخبر مسحت دموعها وقالت «الحمد لله الذي لم يخل حرمه»! فهذا كان الوضع الأخلاقي في المدينة، حيث تسمعون الكثير من هذه القصص. سهرات مكة والمدينة لم تقتصر على الطبقة الفاسدة في المجتمع، بل كانت تعم كل الناس كالجائع والفقير والمسكين مثل «أشعب» هذا الشاعر والمهرج المعروف وغيره من عامة الناس وساداتهم من قريش، وهذه الظاهرة عمت أيضاً بني هاشم ولا أحب أن أذكر أسماءهم.. إذن وجهاء قريش من الرجال والنساء غرقوا في الفحشاء الذي عم آنذاك.
يروى أن الحارث بن خالد كان يعشق عائشة بنت طلحة، ففي زمن إمارة الحارث كانت عائشة بنت طلحة في حالة طواف بيت الله الحرام وحان وقت الأذان فأمرت هذه المرأة أن لا يؤذن المؤذن إلا بعد انتهائها من الطواف، فأمر الحارث بتأخير وقت الأذان، فاعترض الناس وانتقدوا الحارث لتأخيره وقت الصلاة لأجل شخص واحد فقال مجيباً: «فو الله لو طال طوافها إلى صباح الغد لأمرت بتأخير الأذان حتى الصباح»! هكذا كان وضع الفساد الفكري والأخلاقي السائد بين الناس.
العامل الآخر هو الفساد السياسي. فما ذكرنا كان وضع كبار الشخصيات الذين تشبثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك، وأمثال هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ فهذه الشخصية كانت تعتبر من العظماء ومن تلامذة الإمام السجاد (عليه السلام) فالإمام (عليه السلام)، استطاع أن يفضح حقيقة هؤلاء من خلال رسالة كتبها لتكون حجة للتاريخ وتبين العلائق المادية التي كانوا يتمسكون بها.
وهناك الكثير من أمثال محمد بن شهاب، حيث نقل العلامة المجلسي عن بن أبي الحديد ما يثير ويهز المشاعر؛ فقد نقل في البحار عن جابر أن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: «ما تدري كيف نثق بالناس، إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضحكوا (فإنهم لا يكتفون بالرفض وإنما يضحكون استهزاءً) وإن سكتنا لا يسعنا». ومن ثم يذكر ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيات ورجال ذلك الزمان من الذين كانوا من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ثم انحرفوا فيما بعد، وبعدها ينقل رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام): «ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبوننا»! هكذا كان الوضع في زمان الإمام السجاد (عليه السلام).
وفي ظل هذه الظروف بدأ الإمام (عليه السلام) بعمله وبتحقيق هدفه العظيم، وهو ذات الوقت الذي أشار فيه الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً: «ارتد الناس بعد الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة، وهم: أبو خالد الكابلي ويحيى ابن أم طويل وجبير بن مطعم».
في ظل ذاك الوضع وعلى هذه الأرض الصحراوية بدأ الإمام السجاد (عليه السلام) بعمله. فماذا يجب على الإمام السجاد (عليه السلام) فعله ليحقق هدفه؟ كانت تقع على عاتق الإمام السجاد ثلاث مسؤوليات:
أولاً: يجب على الإمام (عليه السلام) أن يُعرف الناس على العلوم والمعارف الإسلامية التي لا يمكن بدونها أن نقيم حكومة إسلامية؛ فعندما نعمل على تعريف الناس على المعارف الدينية يصح أن نأمل بإقامة مثل تلك الحكومة.
ثانياً: إن مسألة الإمامة كانت قد ابتعدت عن أذهان الناس، لذا كان من الضروري توضيحها لهم لتقبلها أذهانهم. فماذا تعني الإمامة؟ وما هي شروط الإمامة؟ إن توضيح هذا الأمر ضروري لأن الناس آنذاك كانوا يرون في عبد الملك بن مروان إماماً، حيث كان زعيم المجتمع.
وسأذكر لاحقاً وفي بحث (الإمام) أن استنباطنا وفهمنا لمعنى الإمام خلال القرون الأخيرة يختلف تماماً عن معنى ومفهوم الإمام الذي كان سائداً في صدر الإسلام وكما هو سائد الآن في ظل الجمهورية الإسلامية في إيران؛ ففي ذلك الزمان (صدر الإسلام) كان كلا الموافقين والمخالفين للأئمة (عليهم السلام) يقولون في الإمام أنه قائد الأمة، يعني حاكم الدين والدنيا، بينما لم يُفهم موقع الإمام كذلك خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد كان حينها للمجتمع وللأمة فرد مسؤول عن جباية الأموال والحروب وتأمين الاستقرار وإدارة أمور الشعب ودوائر ومؤسسات الدولة، وهو الذي يشكل الحكومة ويدعى بالحاكم، وأيضاً لها (أي للأمة) شخص آخر يحل ويفصل في أمور الناس الدينية ويصحح عقائد الشعب ويعلمهم دينهم وصلاتهم وغيرها من قبيل هذه الأمور، وهو ما يسمى بالعالِم، وأصبح الإمام بمثابة العالم في المراحل القريبة. فالخليفة هو الذي يفصل بين الناس، والإمام هو الذي يصلح دينهم وأخلاقهم.. هكذا كان فهم الإمامة خلال القرون الأخيرة. ولكن هذا المعنى كان يختلف عن معناه خلال فترة صدر الإسلام؛ فكان الإمام يعني قائد الأمة وزعيمها الديني والدنيوي، فبنو أمية ادعوا هذا المنصب وكذلك من بعدهم بنو العباس، حيث كانوا يدعون أن الإمامة لهم.
إذن فالأمة وفي زمن الإمام السجاد (عليه السلام) كان لها إمام وهو عبد الملك بن مروان، لذلك كان على الإمام السجاد (عليه السلام) آنذاك أن يُبين للناس معنى الإمامة وشروطها وجهتها، وما هي الأمور المفروض توفرها في الإمام، وما هي الأمور التي بفقدانها لا يمكن أن يكون الشخص إماماً.
ثالثاً: الذي يجب أن يفعله الإمام (عليه السلام) هو أن يعلن نفسه إماماً للأمة؛ وقد انصب جهد الإمام وعمله على الأمر الأول، لأن الظروف لم تكن تسمح لإعلان الإمام السجاد (عليه السلام) إمامته. كان يجب أن يُصلح دين الأمة، ويجب أن تُهذب أخلاق الناس، ويجب أن يُخلص الشعب من الفساد الذي كان سائداً آنذاك، ويجب أن تُوجه الأمة معنوياً ليرجع أساس الدين إلى الأمة والمجتمع.. ولذا ترون أن أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجاد (عليه السلام) في الزهد، وحتى في بداية كلامه وخطبه التي تتضمن معنى سياسياً، نجده يبدأها بالكلام حول الزهد، حيث يقول (عليه السلام): «إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة…إلخ». وفي كلام آخر يصف الدنيا قائلاً: «أولا حر يدع هذه اللماظة لأهلها، فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها».
كلمات الإمام (عليه السلام) كلها كانت تحمل بين طياتها الزهد والمعارف الإسلامية وكان يطرح المعارف الإسلامية ويبينها من خلال الدعاء، وذلك لأن الظروف الصعبة والاختناق الذي كان مسيطراً على الشعب لم يكن يسمح للإمام السجاد (عليه السلام) أن يتكلم ويطرح آراء بصورة صريحة وواضحة، فليست السلطة وحدها كانت مانعة وإنما الناس أنفسهم كانوا يرفضون هذا؛ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً ضائعاً وكان من الواجب إصلاحه.
من عام 61هـ إلى 95هـ كانت حياة الإمام السجاد (عليه السلام) على ما ذكرنا، وكلما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسن، حتى قال الإمام الصادق (عليه السلام)، كما ذكرناه سابقاً، «ارتد بعد الحسين…» إلى أن قال «ثم أن الناس لحقوا وكثروا».
وفي زمن الإمام الباقر كان الوضع قد تحسن عما كان عليه في زمن السجاد (عليه السلام)، وهذا بفضل سعي الإمام السجاد خلال 35سنة.
كذلك نجد أن الإمام السجاد (عليه السلام) قد ذكر مسألة بناء الكوادر وتهيئتها خلال كلامه وأحاديثه؛ ففي الكتاب الشريف (تحف العقول) نُقل حديث طويل عن الإمام السجاد (عليه السلام) حول هذا الموضوع؛ أني آسف لأنني لم أستطع أن أبحث في بقية الكتب الأخرى حول الكلام الذي نقل عن الإمام (عليه السلام) وذلك لضيق الوقت، ولكني لا أعتقد أن هناك ذكر لغير هذا الحديث أو بمقدار طوله، نعم توجد كلمات قصار عنه أما أحاديث وخطب طويلة فلا أعتقد بوجودها، إلا التي نقلت في كتاب «تحف العقول».
إن مضمون الأحاديث وطريقة الخطاب (في هذا الكتاب) تبين ما كان يقصده ويفعله الإمام السجاد (عليه السلام)، وسنرى من خلال هذه الأحاديث الثلاثة التي سأذكرها أن الإمام السجاد (عليه السلام) عندما كان يخاطب عامة الناس كان يبدأ بعبارة: «يا أيها الناس» ومن خلال حديثه كان يشير إلى جُملة من العلوم والمعارف الإسلامية (فقد ذكر فيها موت الإنسان والسؤال في القبر وعن الرب والإمام) في هذا الخطاب نوع من الرفق والرقة وهو يناسب عوام الناس المراد تبليغهم آنذاك. هناك حديث آخر يبدأ بنوع آخر من الألفاظ ويُفهم من مضمونه أن الخواص هم المقصودين فيه حيث بدأه (عليه السلام) بـ «كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين، لا يفتنكم الطواغيت»، فلا يخاطب الحديث هنا عامة الناس وإنما فئة خاصة من الناس. هناك نوع ثالث يبين أن المقصودين به هم خاصة الخواص من الناس وزبدتهم، ويمكن أن يكون المخاطبون هم الأصحاب المطلعين على أسرار الإمامة وهدف مساعي الإمام (عليه السلام) آنذاك ومن زمرة المحافظين على أسرار الإمامة، حيث يبدأ الخطاب بهذه الألفاظ: «إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون».ويمكن أن نحتمل ونقدر أن الإمام السجاد (عليه السلام) وخلال هذه المدة كان له نوعان أو ثلاثة أنواع من الأحاديث التي تتضمن قيماً وتعاليم إسلامية؛ ففي بعضها أشار إلى النظام الحاكم وطواغيت ذلك الزمان، وفي بعضها الآخر اكتفى بالإشارة إلى المسائل والمفاهيم الإسلامية؛ هكذا كانت حياة الإمام السجاد (عليه السلام) حيث استطاع، وخلال 35 سنة، أن يخلص وينُجي الناس الجهلة من براثن شهواتهم من جانب، ومن تسلط النظام الحاكم المتجبر وشباك علماء السوء وعملاء البلاط الحاكم من جانب آخر. واستطاع كذلك أن يوجد ثلة مؤمنة وصالحة تصلح لأن تكون قاعدة وأساساً للعمل في المستقبل. وطبعاً الجزئيات المتعلقة بحياة الإمام السجاد (عليه السلام) تحتاج إلى حديث يطول.
الآن يأتي دور الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث نجد في عهد الإمام الباقر (عليه السلام) الاستمرار على هذا الخط والمنهج، ولكن الوضع في زمن الإمام الباقر (عليه السلام) كان قد تحسن، وهنا أيضاً كان التركيز على المعارف الإسلامية وعلومها.
الناس في هذا العصر لم يعودوا متصفين بعدم الاكتراث وعدم الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) كما كانوا عليه؛ فعندما كان يدخل الإمام الباقر (عليه السلام) إلى المسجد كان الناس يجلسون حوله ويحيطون به ليستفيدوا منه. ويروي الراوي قائلاً: «رأيت الإمام الباقر (عليه السلام) في مسجد المدينة وحوله أهل خراسان وغيرهم»؛ يعني يحيط به أناس من أقصى البلاد كخراسان ومناطق أخرى، وهذا يدل على أن أمواج التبليغ كانت قد عمت العالم بأجمعه، وأصبحت قلوب الناس ومن أقصى العالم تقترب من أهل البيت (عليهم السلام). وفي رواية أخرى ذكر «احتوشه أهل خراسان» يعني جلسوا حوله وأحاطوه. وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يعلمهم مسائل الحلال والحرام، حيث كان كبار العلماء يأتون إليه ويتلقون علومهم عنده، ومن بينهم عكرمة، الذي يعتبر شخصية معروفة ومن تلامذة ابن عباس؛ فعندما أتى إلى الإمام الباقر (عليه السلام) أصابته رجفة وسقط في حضن الإمام (عليه السلام) وقال: «يا بن رسول الله، أصابني أمامك ما لم يصبني من قبل أمام أحد من الناس». فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً: «ويحك يا عُبيد أهل الشام! إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه». وأيضاً شخص آخر مثل أبي حنيفة، والذي كان يعتبر من عظماء فقهاء ذاك الزمان، كان يأتي ويتلقى علومه على يد الإمام الباقر (عليه السلام). وغيره من بقية العلماء كانوا يتلقون علومهم على يده (عليه السلام)، حتى وصلت شهرته العلمية إلى كل أرجاء العالم وعُرف بباقر العلوم.
تلاحظون أن الوضع الاجتماعي والعاطفي واحترام الناس للأئمة (عليهم السلام) قد تغير في عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، وبهذا نجد أن الحركة السياسية للإمام الباقر (عليه السلام) أصبحت أشد وضوحاً. وإننا لا نجد في خطاب الإمام السجاد (عليه السلام) لعبد الملك بن مروان ما يُشير صراحة وبشكل واضح إلى الاعتراض عليه، فعندما كان عبد الملك بن مروان يكتب الى الإمام السجاد (عليه السلام) عن موضوع معين كان الإمام (عليه السلام) يجيبه (طبعاً جواب ابن رسول الله دائماً قوي ومحكم) بطريقة لا تحتوي على العداء الصريح.
أما الإمام الباقر (عليه السلام) فقد غير حركته لتغير الوضع آنذاك، بحيث أصبح هشام بن عبد الملك يحس بالرعب والفزع من وجوده (عليه السلام)، وكان هشام يرى أنه من الضروري أن يضع الإمام (عليه السلام) تحت المراقبة، وكان ينوي أن ينقل الإمام (عليه السلام) إلى الشام. طبعاً، الإمام السجاد (عليه السلام) وفي عهد إمامته (بعد المرحلة الأولى التي بدأت من كربلاء) قُيّدَ بالأغلال وحُمِلَ إلى الشام! لذا فالوضع في زمن الإمام الباقر (عليه السلام) قد تغير، ونجد أن أسلوب الكلام أصبح أكثر حدة.
رأيت عدة روايات تصف مباحثات الإمام الباقر مع أصحابه حول مسألة الخلافة والإمامة ويلاحظ فيها الأمل بالمستقبل؛ وإحدى هذه الروايات هي رواية في بحار الأنوار مضمونها «كان منزل أبي جعفر (عليه السلام) مزدحماً بالناس وجاء رجل مسنّ يستند بعصاه وسلم مظهراً محبته وجلس إلى جانب الإمام الباقر (عليه السلام) وقال: «فو الله إني لأحبكم وأحب من يحبكم؛ فو الله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا. وأنني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، فو الله ما أبغضه وأبرأ منه، لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلّ حلالكم وأحرم حرامكم وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟». يعني هل تأمل أن يأتي يوم وأرى نصركم. فأنا منتظر أمركم، يعني منتظر وصول عصر حكومتكم وولايتكم؟
وتعبير «أمر، وهذا الأمر أمركم» إشارة إلى الحكومة، فالحكومة آنذاك كان يعبر عنها بالأمر، سواء في تعابير الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم أو عند مخالفيهم؛ فمثلاً في كلام هارون إلى المأمون جاء «والله لو تنازعت معي في هذا الأمر» تعبير هذا الأمر يعني الخلافة والإمامة.
أنتظر أمركم يعني أنتظر خلافتكم. وهنا يسأل هل تأملون أن أدرك ذاك اليوم؟ فأجابه أبو جعفر (عليه السلام) أي أي… حتى أقعده على جنبه ثم قال: «أيها الشيخ، إن علي بن الحسين (عليه السلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه».
يعني سُئِل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) نفس هذا السؤال، ولكننا لا نجده خلال الروايات التي نقلت عنه، ونفهم من هذا أن الإمام (عليه السلام) لو كان قد قالها في جمع من الناس فهذا يعني أنه قد سمعها الآخرون، وكان لا بد أن تصلنا، لذا فالاحتمال القوي هو قولها سراً. وهنا يقول الإمام الباقر (عليه السلام) علناً: «إن تمُت ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين يثلج قلبك ويبرد فؤادك وتقر عينك وتستقبل الروح والريحان مع الكرام الكاتبين، وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك وتكون معنا في السنام الأعلى».
إذاً، الإمام (عليه السلام) لا يُدخل اليأس على قلبه بل يقول: إذا مُت فسوف تُحشر مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوليائه وإذا بقيت تكون معنا. فهذا المعنى في كلام الإمام الباقر يعطي للشيعة الأمل بالمستقبل. وفي رواية أخرى بين فيها زمان النهضة، وهذا لشيء عجيب جداً؛ فعن أبي الحمزة الثمالي وبسند قوي ـ كما جاء في الكافي ـ قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «يا ثابت، إن الله تبارك وتعالى قد وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين (عليه السلام) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، وحدثناكم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب». بعدها يقول أبو حمزة: فحدثت بذاك أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: قد كان كذلك. وواقعاً لو لم تحدث تلك التحولات بعد سنة 135هـ وقد ذكرت أهميتها، ففي ذلك الوقت أتى المنصور على رأس الحكم، فلو لم تأتِ حادثة بني العباس، كأن التقديرات الإلهية كانت تكشف على أنه ستقام الحكومة الإلهية الإسلامية في سنة 140. وهناك بحث آخر وهو هل كان الأئمة فعلاً متوقعين حدوث هذا الأمر أم أنهم كانوا قد عرفوا أن القضاء الإلهي على خلاف ذلك؟ اللافت أن من خصوصيات زمان الإمام الباقر هي هذه الآمال والوعود.
تعليقات الزوار