الإمام الخميني في اللحظات الحرجة من عمر الثورة

2007-08-21

  حاوره في طهران: حسن نعيم  

س: قلّما لقي قائد ثائر ما لقيه الإمام الخميني (قده) من محن وخطوب جسيمة، وقلّما استطاع رجل في التاريخ أن يثبت ثباته في مواجهة المواقف الصعبة واللحظات الحرجة. تلك اللحظات التي إن لم توهن الإنسان وتحبطه فإنها بلا شك تتركه نهباً للحيرة والتردد في اتخاذ القرارات المناسبة.

(الإمام الخميني في أصعب اللحظات الحرجة)، موضوع هذا الحوار الذي أجري مع ممثل طهران في مجلس الخبراء ومدير مكتب الإمام الخميني آية الله توسلي في مكتبه الكائن في جماران بالقرب من منزل الإمام الخميني (قده).

واجه الإمام الخميني (قده)، في حياته الشريفة المليئة بالأخطار، الكثير من المحن والخطوب الجسيمة، ماذا تحدثنا عن الاستراتيجية التي واجه بها الإمام المواقف واللحظات الحرجة؟

ج: في الحديث عن الإمام، أول ما يلفتنا في شخصية ذلك الإمام الإيمان العميق بالله تبارك وتعالى؛ فعندما بدأ نهضته وثورته كان اعتماده على الله تعالى اعتماداً مطلقاً، وكما كان رسول الإسلام الأعظم خلال ثورته الكبرى ذا استقامة في جميع القضايا والمشاكل، كان سماحة الإمام الخميني (قده) يعتقد بأحقية ثورته، لذا نراه قد بذل جهداً كبيراً من أجل الثورة الإسلامية، وقد استقام في ثورته التي كان يعتقد بها استقامة مشهودة، وكان يحرك الناس ويوجههم نحو حفظ هذه الثورة وصيانتها لعلمه بصعوبة ذلك، حيث كان يرغبهم بالمقاومة والاستقامة. وقد وقعت حوادث كبيرة جداً خلال أعوام الثورة، واجهها الإمام بصبر ورباطة جأش وتوكل على الله، وكان يتحلى دائماً بالهدوء والاطمئنان، لاعتقاده ان هذه الثورة هي ثورة إلهية، وانها ستبلغ النصر النهائي من خلال المقاومة والاستقامة.

 س: في فجر اليوم الخامس من حزيران دهم المئات من رجال النظام منزل الإمام الخميني، لاعتقاله في الوقت الذي كان يؤدي فيه نافلة الليل. كيف تعاطى الإمام مع عملية الاعتقال؟

ج: لقد اعتقل الإمام الخميني مرتين عند بدء النهضة وقبل انتصار الثورة، وكانت المرة الأولى عام 1963، بعد المحاضرة التي ألقاها في المدرسة الفيضية، حيث وجه كلامه إلى الشاه وقدم له الموعظة والنصيحة، وطلب منه "أن اقلع عن أعمالك، واني أرى اليوم الذي ستطرد فيه من البلاد". وكان ذلك الخطاب بمناسبة عاشوراء وفي الليلة الثانية عشرة من محرم، تلك الليلة التي كانت تصادف ليلة الرابع عشر من شهر "خرداد"، وبعد منتصف الليل هاجموا بيت سماحة الإمام، في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكان قد فرغ من صلاة الليل. وأذكر هنا أن الإمام كان في تلك الليلة التي اعتقل فيها موجوداً في بيت نجله السيد مصطفى، ولم تكن زوجته في البيت، بل كان المرحوم السيد مصطفى والإمام، هجم رجال أمن الشاه وكانوا قد أحضروا سيارة صغيرة جداً لتتمكن من عبور الأزقة الضيقة إلى بيته، وعندما وصلوا ضربوا الخادم حتى ارتفع صراخه، وبحثوا عن الإمام فلم يجدوه، ولم يدروا بوجوده في البيت المقابل، ..سمع الإمام جلَبتهم فلبس ثيابه، وفتح باب بيت السيد مصطفى فجأة وصرخ بهم: لماذا تؤذون الآخرين، أنا روح الله الخميني، وتقدم الإمام، فاقتربوا بالسيارة نحوه، فركب الإمام، وتوجهت السيارة بسرعة قصوى نحو طهران.

وقد تحدث الإمام عن تلك اللحظات بعد اطلاق سراحه فقال: عندما أخذوني إلى طهران، كنت أطمئنهم، لقد كانوا خائفين، كانوا يخشون أن يلحق بهم الناس، وعندما طلبت منهم أن أتوضأ لصلاة الصبح لم يسمحوا لي، بل اكتفوا بفتح باب السيارة لأخرج يدي وأتيمم بتراب الطريق، صليت بعد التيمم، وأسرعوا بي إلى سجن "قصر".

س: في فجر الرابع من تشرين الثاني من عام 1964 تم اعتقال الإمام مرة ثانية، ونفيه من مطار مهرآباد الدولي على متن طائرة عسكرية أقلته مخفوراً إلى أنقرة. كيف تقبل الإمام قرار نفيه من إيران وكيف واجه مسألة النفي؟

ج: كان الإمام قبل أيام ألقى كلمة حول معاهدة الحصانة القضائية المعروفة بمعاهدة "الكابيتالسيون" التي كانت تمنح المستشارين الأميركيين حصانة قضائية، وقد أقرها مجلس النواب حينها، وعندما اطلع الإمام الخميني على إقرار مجلس النواب لهذه اللائحة أصدر بياناً هاجم فيه أميركا بشدة. وأتذكر أن الشاه كان قد أرسل مندوباً عنه للقاء المرحوم السيد مصطفى قبل أن يلقي الإمام خطابه وقال له: سمعنا أنه سيلقي خطاباً فليفعل، ولكن عليه أن لا يهاجم أميركا، حتى لو أراد مهاجمة الشاه في خطابه، ولكن لا يهاجم أميركا!

فعلم الإمام من ذلك أن نقطة ضعفهم هي أميركا، لهذا كان محور خطاب الإمام مهاجمة أميركا، فانتقد بشدة قرار مجلس النواب لتلك الاتفاقية وحذر منها، وأتذكر أنه استعرض الأمر بشكل جعل الجموع الحاضرة في المجلس تبكي بشدة، وقد كنا بين الجموع نلحظ ذلك، لأن الإمام كان قد حرك أحاسيس الناس وحميتهم، وأذكر أنه قال: "أقررتم ذلك وبعتم إيران، أقررتم ذلك وبعتم الشعب الإيراني للمستشارين الأميركيين"!

وبعد عدة أيام قاموا ليلاً أيضاً بالهجوم وأخذوا الإمام، وتوجهوا به مباشرة إلى مطار طهران، أجلسوا الإمام في الطائرة، وسلموه جواز سفره، ولم يكن الإمام يعرف إلى أين سيتجهون به، وبعد أن أقلعت الطائرة أخبروه أنهم سيأخذونه إلى تركيا، وبالفعل ذهبوا به إلى تركيا، ولم يكن أحد يعلم أين ذهبوا به، دخل الإمام إلى تركيا، فنقلوه إلى "بورسا" احدى المدن التركية، وبقي الإمام في تركيا حوالي عشرة أشهر، ومنعوه من اارتداء لباسه الديني، علماً بأن الإمام لم يكن يخرج من البيت، لكن عندما يتوجه لرؤية المساجد وما شابه، كانوا يجردونه من الزي الديني، لأنه كان ممنوعاً في تركيا ارتداء الزي الديني!

وبعد عشرة أشهر قضاها في تركيا نفوه مجدداً إلى العراق.

س: في شهر تشرين الأول عام 1977 استشهد السيد مصطفى النجل الأكبر للإمام الخميني، هل أثرت هذه الحادثة على معنويات الإمام؟

ج: كانت تربط الإمام الخميني بابنه السيد مصطفى علاقة عاطفية قوية جداً بالاضافة إلى العلاقات العلمية والدينية والجهادية، فالمرحوم السيد مصطفى كان من الأشخاص الاستثنائيين في الحقيقة. وقد تحدث عنه الإمام بقوله: مصطفى هو أمل المستقبل.

وهذا الكلام يعني أن الإمام كان يعتقد بفضل وعلم وثقافة المرحوم السيد مصطفى، ويعتبره مجتهداً من دون شك، وشخصاً متديناً متعبداً وعادلاً، اضافة على العاطفة الأبوية كما ذكرنا، لكن كل ذلك لم يقف عقبة أمام الثورة والنهضة، لأن الإمام اعتبر أن وفاة ابنه ومساعده في مختلف المجالات من الألطاف الإلهية الخفية، ولم يتحدث بغير ذلك، بل وحتى لم يشاهده أحد يذرف الدمع عليه، لم نسمع منه إلا جملة واحدة "إن وفاته من الألطاف الإلهية الخفية"! وقد فهمنا معنى الألطاف الإلهية الخفية في ما بعد، حيث انه بسبب استشهاد السيد مصطفى أقيمت له مجالس فاتحة، ومن خلال هذه المجالس ارتفع عدد شهدائنا وارتفعت وتيرة التحرك، وسارت قوافل الشهداء تتوالى حتى أدى ذلك إلى انتصار الثورة الإسلامية.

س: في الأول من شباط عام 1979 عاد الإمام إلى إيران ليجد عشرات الملايين بانتظاره في أكبر مراسم اسقبال شعبي لزعيم سياسي في التاريخ. ماذا تحدثنا عن شعور الإمام في تلك اللحظة التاريخية؟

ج: قبل أن يعود الإمام الخميني إلى إيران كان مطمئناً إلى انتصار الثورة الإسلامية لدى عودته وكان مؤمناً بذلك، فالمرحوم الشهيد مطهري زار الإمام الخميني في باريس ثم عاد إلى إيران وسألناه: كيف وجدت الإمام؟ قال الشهيد مطهري: لقد عدت من زيارة إنسان آمن بأربعة أنواع من الإيمان: إيمان بربّه، وإيمان بهدف، وإيمان بالطريق الذي سار فيه، وإيمان بشعبه وبهذا المجتمع الذي لبى نداءه، وبقي إلى جانب الإمام حتى النهاية، وكان الإمام الخميني مطمئناً انه إذا عاد فسيكون النصر اقرب.

ولدى عودته بالطائرة اقترب منه أحد العاملين فيها وسأله: ما هو إحساسك الآن وأنت تعود إلى وطنك، فأجابه الإمام ليس لديَّ أي احساس خاص، فظن الرجل أن الإمام مسرور جداً، لكن الأمر ليس كذلك، فلم يكن الأمر يعني للإمام شيئاً، الأمر المهم بنظره كان انتصار الثورة الإسلامية فقط. وعندما وصل إلى المطار ورغم الأناشيد التي قدمت له والاستقبال العظيم الذي رآه لكن لم يترك أي أثر على روحيته، وكان مقرَّراً أن ينتقل مباشرة إلى أحد البيوت، لكنه قرر أن يتوجه إلى مقبرة الشهداء، فهرول المتجمعون لاستقباله خلف سيارة الإمام حتى مقبرة الشهداء، واجتمعوا في المقبرة، عندها أعلن الإمام ومن هناك تشكيل الحكومة قائلاً: "إني أشكل حكومة بالاعتماد على هذه الجماهير".

س: في الثامن والعشرين من حزيران عام 1981 وقعت فاجعة رهيبة اثر انفجار مقر حزب الجمهورية الإسلامية، فاستشهد اثنان وسبعون من خيرة القادة والوزراء والنواب، وبعدها بشهرين استشهد محمد علي رجائي الوجه الثوري المحبوب.

كيف كانت ردة فعل الإمام على هذه الفجائع الملاحقة؟

ج: كما قلت لك من قبل، كان الإمام يتوقع حصول مثل هذه الحوادث، لعلمه ان القضاء على حكومة ملكية دامت ألفين وخمسمئة عام، والقاءها في مزبلة التاريخ، لن يمر من دون حوادث عاصفة، لذا كان قد هيأ نفسه للحوادث الصعبة التي توقع أنها ستعصف بمسيرة الثورة الإسلامية، وفي الليلة التي فجر فيها مقر الحزب الجمهوري وتحديداً في الساعة التاسعة والنصف مساءً كنا في بيت الإمام، عندما أبلغ بالخبر، إنما حتى الصباح لم يطلع أحد على عدد القتلى والجرحى وكان سماحة الإمام يسمع نشرة أخبار الاذاعة في الساعة السابعة من صباح كل يوم، يومها أرسل نجله المرحوم السيد أحمد زوجته لتأخذ الراديو من فوق رأس الإمام، لئلاّ يطلع سماحته على خبر استشهاد اثنين وسبعين شخصاً دفعة واحدة من الاذاعة، على أن يتم اخباره بذلك تدريجياً. ففتح سماحة الإمام عينيه وقال لها لا داعي لذلك، أنا على علم بما يجري! ولعله اطلع على تفاصيل الأخبار من اذاعات أجنبية أو مصادر أخرى لا نعرفها. على أي حال كان يعرف كل شيء، وكل ما قاله حينها "إنا لله وإنا إليه راجعون".

وكانت حادثة شديدة جداً، وبعد أيام حضر الشهيد رجائي رئيس الجمهورية المنتخب آنذاك مع أعضاء حكومته إلى بيت سماحة الإمام وكان مضطرباً، وكانوا هم أيضاً مضطربين لما سيحصل بعد استشهاد اثنين وسبعين شخصية بينهم رئيس الديوان الأعلى للبلاد الشهيد آية الله الدكتور بهشتي والعديد من أعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعدد من القضاة وعدد من الشخصيات الثورية، كانوا كلهم من أعضاء الحزب الجمهوري. في مثل هذه الحالة حضر المرحوم الشهيد رجائي للقاء سماحة الإمام، تكلم الإمام بجملة واحدة، أتذكر جيداً أن الإمام وجه كلامه للمرحوم الشهيد رجائي قائلاً: حوادث كهذه تقع بكثرة في العالم، ولابد من الصمود أمام الحوادث، ومن جملة ذلك أن تقوموا بواجبكم، فأدّوا مهمتكم.

المرحوم الشهيد رجائي عندما خرج من غرفة الإمام قال: لقد دخلت غرفة الإمام باضطراب وخرجت منها بهدوء وسكينة، ولقد أدخلت جملة الإمام الطمأنينة إلى قلوبنا! وتوجه إلى عمله.

بعد ذلك ارسلني الإمام لعيادة الجرحى في المستشفيات، أذكر أن الجرحى أكدوا لنا أنهم كانوا يفكرون بالإمام فقط عندما كانوا تحت ركام الانفجار، وقد أكد هذا الكلام الشهيد محمد منتظري الذي كان في عداد الناجين من تلك المجزرة الرهيبة.

وبعد مدة قصيرة استشهد المرحوم الشهيد رجائي رئيس الجمهورية والمرحوم الشهيد الدكتور باهنر، أذكر أن الشهيدين رجائي وباهنر كانا قد أتيا مع أعضاء الحكومة إلى بيت الإمام للقائه، وكان ثمة شخص يدعى الكشميري (تبين في ما بعد أنه هو الذي فجر مقر رئاسة الوزراء) يتبعهم وكان حمل بيده الحقيبة التي تحوي المتفجرات، ادعى أن فيها أوراق الشهيد رجائي التي سيعرضها على سماحة الإمام، فطلب منه الحراس فتح الحقيبة ليفتشوها، فرفض وهنا تدخل المرحوم السيد أحمد الخميني قائلاً: لا تسمحوا لأي كان أن يدخل شيئاً معه إلى بيت الإمام، وأصر كشميري على ادخال الحقيبة متذرعاً بما تحويه من أوراق مهمة يجب أن تعرض على الإمام، حتى اني أذكر أن المرحوم الشهيد رجائي، انزعج قائلاً: "إننا نثق بهذا الرجل، لكن المرحوم السيد أحمد الخميني أصر على توقفه رافضاً ادخال الحقيبة قبل تفتيشها، وعندما يئس الكشميري من امكانية ادخال الحقيبة أبدى انزعاجاً وانصرف حاملاً حقيبته بيده ليعود ويفجر بها مقر رئاسة الوزراء ويقتل بالتالي الشهيد رجائي بها..! وعندما هرب صرح أن حقيبته تلك هي نفسها التي كان ينوي ادخالها ليضعها تحت كرسي الإمام الخميني ويفجرها بعد ساعة!

س: ما هي وكيف كانت ردة فعل الإمام على استشهاد رجائي؟

ج: بعد استشهاد رجائي لم يخرج سماحة الإمام عن طمأنينته أيضاً، الطمأنينة التي وردت في الآية الكريمة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} كانت ترافقه إبان كل تلك الحوادث.

س: سؤالنا الأخير حول القرار 598، ماذا تخبرونا عن أجواء الإمام عشية إصداره البيان المعروف باسم بيان الموافقة على القرار 598؟

ج: خلال جميع الحوادث التي طرأت على سماحة الإمام الخميني، لم أرَ حادثة أشد تأثيراً على الإمام أكثر من هذه الحادثة.. في الحقيقة لم تكن أي حادثة تخرج الإمام عن طوره، وحتى هذه الحادثة لم تخرجه عن طوره، لكنها كانت كما عبر هو عنها بأنه "تجرع كأس السم"، وهذا اشد تعبير استعمله عن حادثة ما اضطر لقبولها، ولهذه الحادثة قصص مفصلة سيكشف عنها في المستقبل إن شاء الله!